الباحث القرآني

* (فصل) وَأما الِاسْتِدْلال بقوله تَعالى: ﴿لخلق السَّماوات والأرْض أكبر من خلق النّاس﴾ وَأن المُراد بِهِ كبر القدر والشرف لا كبر الجثة، فَفي غايَة الفساد، فَإن المُراد من الخلق هاهُنا الفِعْل لأنفس المَفْعُول وهَذا من أبلغ الأدِلَّة على المعاد أي أن الذي خلق السَّماوات والأرْض وخلقها أكبر من خَلقكُم كَيفَ يعجزه خَلقكُم بَعْدَما تموتون خلقا جَدِيدا ونَظِير هَذا في قَوْله في سُورَة يس ﴿أوليس الَّذِي خلق السَّماوات والأرْض بِقادِر على أن يخلق مثلهم﴾ أي مثل هَؤُلاءِ المنكرين فَهَذا اسْتِدْلال بشمول القدر للنوعين وأنَّها صالِحَة لَهما فَلا يجوز أن يثبت تعلقها بِأحد المقدورين دون الآخر فَكَذَلِك قَوْله لخلق السَّماوات والأرْض أكبر من خلق النّاس أي من لم تعجز قدرته عَن خلق العالم العلوِي والسفلي كَيفَ يعجز عَن خلق النّاس خلقا جَدِيدا بعد ما أماتهم ولا تعرض في هَذا لأحكام النُّجُوم بِوَجْه قطّ ولا لتأثير الكَواكِب وأما قوله تَعالى: {ويتفكرون في خلق السَّماوات والأرْض رَبنا ما خلقت هَذا باطِلا فَلا ريب أن خلق السَّماوات والأرْض من أعظم الأدِلَّة على وجود فاطرهما وكَمال قدرته وعلمه وحكمته وانفراده بالربوبية والوحدانية ومن سوى بَين ذَلِك وبَين البقة وجعل العبْرَة والدّلالَة والعلم بِوُجُود الرب الخالِق البارئ المصور مِنهُما سَواء فقد كابر والله سُبْحانَهُ إنَّما يَدْعُو عباده على النّظر والفكر في مخلوقاته العِظام لظُهُور أثر الدّلالَة فِيها وبديع عجائب الصَّنْعَة والحكمَة فِيها واتساع مجال الفِكر والنَّظَر في أرجائها وألا ؎فَفِي كل شَيْء لَهُ آيَة ∗∗∗ تدل على أنه واحِد ... وَلَكِن أيْن الآيَة والدّلالَة في خلق العالم العلوِي والسفلي إلى خلق القملة والبرغوث والبقة؟ فَكيف يسمح لعاقل عقله أن يُسَوِّي بَينهما، ويجْعَل الدّلالَة من هَذا كالدلالة من الآخر؟ والله سُبْحانَهُ إنَّما يذكر من مخلوقاته للدلالة عَلَيْهِ أشرفها وأظهرها للحس والعقل وأبينها دلالَة وأعجبها صَنْعَة كالسماء والأرْض والشَّمْس والقَمَر واللَّيْل والنَّهار والنجوم والجِبال والسحاب والمطر وغير ذَلِك من آياته، ولا يَدْعُو عباده إلى التفكر في القمل والبراغيث والبعوض والبق والكلاب والحشرات ونَحْوها إنَّما يذكر ما يذكر من ذَلِك في سِياق ضرب الأمْثال مُبالغَة في الاحتقار والضعف كَقوله تَعالى: ﴿إن الَّذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولَو اجْتَمعُوا لَهُ وإن يسلبهم الذُّباب شَيْئا لا يستنفذوه مِنهُ﴾ فَهُنا لم يذكر الذُّباب في سِياق الدّلالَة على إثْبات الصّانِع تَعالى وكَذَلِكَ قَوْله ﴿إن الله لا يستحيي أن يضْرب مثلا ما بعوضة فَما فَوْقها﴾ وكَذَلِكَ قَوْله ﴿مثل الَّذين اتَّخذُوا من دون الله أوْلِياء كَمثل العنكبوت اتَّخذت بَيْتا وإن أوهن البيُوت لبيت العنكبوت﴾ فَتَأمل ذكر هَذِه المَخْلُوقات الحقيرة في أي سِياق وذكر المَخْلُوقات العَظِيمَة في أي سِياق. وَأما قَول من قالَ من المُتَكَلِّمين المتكلفين إن دلالَة حُصُول الحَياة في الأبدان الحيوانية أقوى من دلالَة السَّماوات والأرْض على وجود الصّانِع تَعالى فبناء هَذا القائِل على الأصْل الفاسِد وهو إثْبات الجَوْهَر الفَرد وأن تَأْثِير الصّانِع تَعالى في خلق العالم العلوِي والسفلي هو تركيب تِلْكَ الجَواهِر وتأليفها، هَذا التَّأْلِيف الخاص والتركيب جنسه مَقْدُور للبشر وغَيرهم. وَأما الإحْداث والاختراع فَلا يقدر عَلَيْهِ إلّا الله والقَوْل بالجوهر الفَرد وبِناء المبدأ والمعاد عَلَيْهِ مِمّا هو من أصول المُتَكَلِّمين الفاسِدَة الَّتِي نازعهم فِيها جُمْهُور العُقَلاء. قالُوا وخلق الله تَعالى وإحداثه لما يحدثه من أجسام العالم هو إحْداث لأجزائها وذواتها لا مُجَرّد تركيب الجَواهِر مُنْفَرِدَة، ثمَّ قد فرغ من خلقها وصنعه وإبداعه الآن إنَّما هو في تأليفها وتركيبها. وَهَذا من أقوال أهل البدع الَّتِي ابتدعوها في الإسْلام وبنوا عَلَيْها المعاد وحدوث العالم فسلطوا عَلَيْهِم أعداء الإسْلام ولم يُمكنهُم كسرهم لما بنوا المبدأ والمعاد على أمر وهمي خيالي، وظنوا أنه لا يتم لَهُم القَوْل بحدوث العالم وإعادة الأجْسام إلّا بِهِ، وأقام منازعوهم حجَجًا كَثِيرَة جدا على بطلان القَوْل بالجوهر واعترافهم بِقُوَّة كثير مِنها وصِحَّته، فأوقع ذَلِك شكا لكثير مِنهُم في أمر المبدأ والمعاد لبنائه على شفا جرف هار. وَأما أئمة الإسْلام وفحول النظار فَلم يعتمدوا على هَذِه الطَّرِيقَة وهِي عِنْدهم أضْعَف وأوهى من أن يبنوا عَلَيْها شَيْئا من الدّين فضلا عَن حُدُوث العالم وإعادة الأجْسام، وإنَّما اعتمدوا على الطّرق الَّتِي أرشد الله سُبْحانَهُ إلَيْها في كِتابه وهِي حُدُوث ذات الحَيَوان والنبات وخلق نفس العالم العلوِي والسفلي، وحدوث السَّحاب والمطر والرياح وغَيرها من الأجْسام الَّتِي يُشاهد حدوثها بذواتها لامجرد حُدُوث تأليفها وتركيبها فَعِنْدَ القائِلين بالجوهر لا يشْهد أن الله أحدث في هَذا العالم شَيْئا من الجَواهِر وإنَّما أحدث تأليفها وتركيبها فَقَط وإن كانَ إحداثه بجواهره سابِقًا مُتَقَدما قبل ذَلِك. وَأما الآن فَإنَّما تحدث الأعْراض من الِاجْتِماع والافتراق والحَرَكَة والسكون فَقَط وهِي الأكوان عِنْدهم، وكَذَلِكَ المعاد فَإنَّهُ سُبْحانَهُ يفرق أجزاء العالم وهو إعدامه ثمَّ يؤلفها ويجمعها، وهو المعاد وهَؤُلاء احتاجوا إلى أن يستدلوا على كَون عين الإنْسان وجواهره مخلوقة إذْ المشاهد عِنْدهم بالحس دائِما هو حُدُوث أعْراض في تِلْكَ الجَواهِر من التَّأْلِيف الخالِص وزَعَمُوا أن كل ما يحدثه الله من السَّحاب والمطر والزروع والثِّمار والحَيَوان فَإنَّما يحدث فِيهِ أعراضا، وهِي جمع الجَواهِر الَّتِي كانَت مَوْجُودَة وتفريقها، وزَعَمُوا أن أحدا لا يعلم حُدُوث عين من الأعْيان بِالمُشاهَدَةِ ولا بضرورة العقل وإنَّما يعلم ذَلِك بالاستدلال. وَجُمْهُور العُقَلاء من الطوائف يخالفون هَؤُلاءِ ويَقُولُونَ الرب لا يزال يحدث الأعْيان كَما دلّ على ذَلِك الحس والعقل والقُرْآن فَإن الأجْسام الحادِثَة بِالمُشاهَدَةِ ذواتها وأجزاؤها حادِثَة بعد أن لم تكن جَواهِر مفرقة فاجتمعت. وَمن قالَ غير ذَلِك فقد كابر الحس والعقل، فَإن كَون الإنْسان والحَيَوان مخلوقا مُحدثا كائِنا بعد إن لم يكن أمر مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ لجَمِيع النّاس، وكل أحد يعلم أنه حدث في بطن أمه بعد أن لم يكن وإن عينه حدثت كَما قالَ الله تَعالى ﴿وَقد خلقتك من قبل ولم تَكُ شَيْئا﴾ ولَيْسَ هَذا عِنْدهم مِمّا يسْتَدلّ عَلَيْهِ بل يسْتَدلّ بِهِ كَما هي طَريقَة القُرْآن فَإنَّهُ جعل حُدُوث الإنْسان وخلقه دَلِيلا لا مدلولا عَلَيْهِ وَقَوْلهمْ إن الحادِث أعْراض فَقَط وأنه مركب من الجَواهِر المفردة قَولانِ باطلان بل يعلم حُدُوث عين الإنْسان وذاته وبطلان الجَوْهَر الفَرد ولَو كانَ القَوْل بالجوهر صَحِيحا لم يكن مَعْلُوما إلّا بأدلة خُفْيَة دقيقة فَلا يكون من أصُول الدّين بل ولا مُقَدّمَة فِيها فطريقتهم تَتَضَمَّن جحد المَعْلُوم وهو حُدُوث الأعْيان الحادِثَة وذواتها وإثْبات ما لَيْسَ بِمَعْلُوم بل هو باطِل وهو إثْبات الجَوْهَر الفَرد ولَيْسَ هَذا مَوضِع استقصاء هَذِه المسئلة والمَقْصُود الكَلام على قَوْله إن الِاسْتِدْلال بِحُصُول الحَياة في بنية الحَيَوان على وجود الصّانِع أقوى من دلالَة تركيب الأجرام الفلكية وهو مبْني على هَذا الأصْل الفاسِد.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب