الباحث القرآني
* (فائدة)
(الآل) إن أفرد دخل فِيهِ المُضاف إلَيْهِ كَقَوْلِه تَعالى ﴿أدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أشَدَّ العَذابِ﴾ [غافر: ٤٦]
وَلا ريب في دُخُوله في آله هُنا.
وَقَوله تَعالى ﴿وَلَقَدْ أخَذْنا آلَ فِرْعَوْن بِالسِّنِينَ﴾ [الأعراف: ١٣٠] ونظائره.
وَقَول النَّبِي ﷺ
"اللَّهُمَّ صل على آل أبي أوفى"
وَلا ريب في دُخُول أبي أوفى نَفسه في ذَلِك.
وَقَوله "اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد كَما صليت على آل إبْراهِيم"
هَذِه أكثر رِوايات البُخارِيّ وإبْراهِيم هُنا داخل في آله ولَعَلَّ هَذا مُراد من قالَ آل الرجل نَفسه
وَأما إن ذكر الرجل ثمَّ ذكر آله لم يدْخل فيهم.
فَفرق بَين المُجَرّد والمقرون.
فَإذا قلت أعْط لزيد وآل زيد. لم يكن زيد هُنا داخِلا في آله.
وَإذا قلت أعْطه لآل زيد. تناول زيدا وآله.
وَهَذا لَهُ نَظائِر كَثِيرَة قد ذَكرناها في غير هَذا الموضع، وهِي أن اللَّفْظ تخْتَلف دلالَته بالتجريد والاقتران، كالفقير والمسكين هما صنفان إذا قرن بَينهما، وصنف واحِد إذا أفرد كل مِنهُما.
وَلِهَذا كانا في الزَّكاة صنفين، وفي الكَفّارات صنف واحِد.
وكالإيمان والإسْلام، والبر والتَّقوى، والفحشاء والمُنكر، والفسوق والعصيان.
ونظائر ذَلِك كَثِيرَة ولا سِيما في القُرْآن.
* (فصل)
وَفِي المُسْنَدِ مِن حَدِيثِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ قالَ:
«خَرَجْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في جَنازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأنْصارِ، فانْتَهَيْنا إلى القَبْرِ ولَمّا يُلْحَدْ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وجَلَسْنا حَوْلَهُ كَأنَّ عَلى رُءُوسِنا الطَّيْرَ، وفي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ في الأرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقالَ: اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِن عَذابِ القَبْرِ - مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاثًا -
ثُمَّ قالَ: إنَّ العَبْدَ المُؤْمِنَ إذا كانَ في انْقِطاعٍ مِنَ الدُّنْيا، وإقْبالٍ مِنَ الآخِرَةِ، نَزَلَ إلَيْهِ مَلائِكَةٌ مِنَ السَّماءِ بِيضُ الوُجُوهِ كَأنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ، مَعَهم كَفَنٌ مِن أكْفانِ أهْلِ الجَنَّةِ، وحَنُوطٌ مِن حَنُوطِ الجَنَّةِ، حَتّى يَجْلِسُوا مِنهُ مَدَّ البَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ المَوْتِ حَتّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: اخْرُجِي أيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ، اخْرُجِي إلى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ ورِضْوانٍ، فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَما تَسِيلُ القَطْرَةُ مِن في السِّقاءِ، فَيَأْخُذُها، فَإذا أخَذَها لَمْ يَدَعُوها في يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتّى يَأْخُذُوها، فَيَجْعَلُوها في ذَلِكَ الكَفَنِ، وفي ذَلِكَ الحَنُوطِ، ويَخْرُجُ مِنها كَأطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلى وجْهِ الأرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِها، فَلا يَمُرُّونَ بِها عَلى مَلَأٍ مِنَ المَلائِكَةِ إلّا قالُوا: ما هَذِهِ الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ؟
فَيَقُولُونَ: رُوحُ فُلانِ بْنِ فُلانٍ، بِأحْسَنِ أسْمائِهِ الَّتِي كانُوا يُسَمُّونَهُ بِها في الدُّنْيا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُ، فَيُشُيِّعُهُ مِن كُلِّ سَماءٍ مُقَرَّبُوها إلى السَّماءِ الَّتِي تَلِيها حَتّى يُنْتَهى بِهِ إلى السَّماءِ السّابِعَةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: اكْتُبُوا كِتابَ عَبْدِي في عِلِّيِّينَ، وأعِيدُوهُ إلى الأرْضِ، فَإنِّي مِنها خَلَقْتُهُمْ، وفِيها أُعِيدُهم ومِنها أُخْرِجُهم تارَةً أُخْرى، فَقالَ: فَتُعادُ رُوحُهُ إلى الأرْضِ، فَيَأْتِيهِ مَلَكانِ، فَيُجْلِسانِهِ، فَيَقُولانِ لَهُ: مَن رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ، فَيَقُولانِ لَهُ: ما دِينُكَ؟
فَيَقُولُ: دِينَيَ الإسْلامُ، فَيَقُولانِ لَهُ: ما هَذا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هو مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَيَقُولانِ لَهُ: وما عِلْمُكَ؟
فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتابَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ فَآمَنتُ بِهِ وصَدَّقْتُ، فَيُنادِي مُنادٍ مِنَ السَّماءِ: أنْ صَدَقَ عَبْدِي، فافْرِشُوا لَهُ مِنَ الجَنَّةِ، وألْبِسُوهُ مِنَ الجَنَّةِ، وافْتَحُوا لَهُ بابًا إلى الجَنَّةِ قالَ: فَيَأْتِيهِ مِن رُوحِها وطِيبِها، ويُفْسَحُ لَهُ في قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، قالَ: ويَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ أبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَن أنْتَ فَوَجْهُكَ الوَجْهُ الَّذِي يَجِيءُ بِالخَيْرِ، فَيَقُولُ: أنا عَمَلُكَ الصّالِحُ، فَيَقُولُ: رَبِّ أقِمِ السّاعَةَ رَبِّ أقِمِ السّاعَةَ، حَتّى أرْجِعَ إلى أهْلِي ومالِي، قالَ: وإنَّ العَبْدَ الكافِرَ إذا كانَ في انْقِطاعٍ مِنَ الدُّنْيا، وإقْبالٍ مِنَ الآخِرَةِ، نَزَلَ إلَيْهِ مَلائِكَةٌ مِنَ السَّماءِ، سُودُ الوُجُوهِ، مَعَهُمُ المُسُوحُ، فَيَجْلِسُونَ مِنهُ مَدَّ البَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ المَوْتِ حَتّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أيَّتُها النَّفْسُ الخَبِيثَةُ، اخْرُجِي إلى سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وغَضَبٍ، قالَ: فَتَغْرَقُ في جَسَدِهِ فَيَنْتَزِعُها، كَما يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ المُبْتَلِّ، فَيَأْخُذُها، فَإذا أخَذَها لَمْ يَدَعُوها في يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، حَتّى يَجْعَلُونَها في تِلْكَ المُسُوحِ، ويَخْرُجُ مِنها كَأنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلى وجْهِ الأرْضِ فَيَصْعَدُونَ بِها، فَلا يَمُرُّونَ بِها عَلى مَلَأٍ مِنَ المَلائِكَةِ إلّا قالُوا: ما هَذِهِ الرُّوحُ الخَبِيثَةُ. فَيَقُولُونَ: رُوحُ فُلانِ بْنِ فُلانٍ، بِأقْبَحِ أسْمائِهِ الَّتِي كانَ يُسَمّى بِها في الدُّنْيا، فَيُسْتَفْتَحُ فَلا يُفْتَحُ لَهُ، ثُمَّ قَرَأ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ﴿لا تُفَتَّحُ لَهم أبْوابُ السَّماءِ ولا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتّى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياطِ﴾ [الأعراف: ٤٠]
فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: اكْتُبُوا كِتابَهُ في سِجِّينٍ في الأرْضِ السُّفْلى، فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا، ثُمَّ قَرَأ: ﴿وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ في مَكانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج: ٣١]
فَتُعادُ رُوحُهُ في جَسَدِهِ، ويَأْتِيهِ مَلَكانِ فَيُجْلِسانِهِ، فَيَقُولانِ لَهُ: مَن رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هاهْ هاهْ لا أدْرِي، فَيَقُولانِ لَهُ: ما دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هاهْ هاهْ لا أدْرِي، فَيَقُولانِ لَهُ: ما هَذا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟
فَيَقُولُ: هاهْ هاهْ لا أدْرِي، فَيُنادِي مُنادٍ مِنَ السَّماءِ: أنْ كَذَبَ عَبْدِي، فافْرِشُوا لَهُ مِنَ النّارِ، وافْتَحُوا لَهُ بابًا إلى النّارِ، فَيَأْتِيهِ مِن حَرِّها وسَمُومِها، ويُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ، حَتّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أضْلاعُهُ، ويَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوؤُكَ، هَذا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ: ومَن أنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الوَجْهُ الَّذِي يَجِيءُ بِالشَّرِّ، فَيَقُولُ: أنا عَمَلُكَ الخَبِيثُ، فَيَقُولُ: رَبِّ لا تُقِمِ السّاعَةَ».
وَفِي لَفْظٍ لِأحْمَدَ أيْضًا «ثُمَّ يُقَيَّضُ لَهُ أعْمى أصَمُّ أبْكَمُ، في يَدِهِ مِرْزَبَّةٌ، لَوْ ضَرَبَ بِها جَبَلًا كانَ تُرابًا، ثُمَّ يُعِيدُهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ كَما كانَ، فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أُخْرى، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُها كُلُّ شَيْءٍ إلّا الثَّقَلَيْنِ، قالَ البَراءُ: ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بابٌ إلى النّارِ ويُمَدُّ لَهُ مِن فِراشِ النّارِ».
وَفِي المُسْنَدِ أيْضًا عَنْهُ، قالَ:
بَيْنَما نَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إذْ بَصُرَ بِجَماعَةٍ، فَقالَ: «عَلامَ اجْتَمَعَ هَؤُلاءِ؟ قِيلَ: عَلى قَبْرٍ يَحْفِرُونَهُ، فَفَزِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَبَدَرَ بَيْنَ يَدَيْ أصْحابِهِ مُسْرِعًا، حَتّى انْتَهى إلى القَبْرِ، فَجَثا عَلى رُكْبَتَيْهِ، فاسْتَقْبَلْتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ لِأنْظُرَ ما يَصْنَعُ، فَبَكى حَتّى بَلَّ الثَّرى مِن دُمُوعِهِ، ثُمَّ أقْبَلَ عَلَيْنا، فَقالَ: أيْ إخْوانِي، لِمِثْلِ هَذا اليَوْمِ فَأعِدُّوا».
وَفِي المُسْنَدِ مِن حَدِيثِ بُرَيْدَةَ قالَ:
«خَرَجَ إلَيْنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمًا فَنادى ثَلاثَ مَرّاتٍ: يا أيُّها النّاسُ، أتَدْرُونَ ما مَثَلِي ومَثَلُكُمْ؟ قالُوا: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ، فَقالَ إنَّما مَثَلِي ومَثَلُكم مَثَلُ قَوْمٍ خافُوا عَدُوًّا يَأْتِيهِمْ فَبَعَثُوا رَجُلًا يَتَراءى لَهُمْ، فَأبْصَرَ العَدُوَّ، فَأقْبَلَ لِيُنْذِرَهُمْ، وخَشِيَ أنْ يُدْرِكَهُ العَدُوُّ قَبْلَ أنْ يُنْذِرَ قَوْمَهُ، فَأهْوى بِثَوْبِهِ: أيُّها النّاسُ أُتِيتُمْ، أيُّها النّاسُ أُتِيتُمْ، ثَلاثَ مَرّاتٍ».
وَفِي المُسْنَدِ أيْضًا مِن حَدِيثِ أبِي ذَرٍّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«أرى ما لا تَرَوْنَ وأسْمَعُ ما لا تَسْمَعُونَ، أطَّتِ السَّماءُ وحُقَّ لَها أنْ تَئِطَّ، ما فِيها مَوْضِعُ أرْبَعِ أصابِعَ إلّا وعَلَيْهِ مَلَكٌ ساجِدٌ، لَوْ تَعْلَمُونَ ما أعْلَمُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، ولَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وما تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّساءِ عَلى الفُرُشِ، ولَخَرَجْتُمْ إلى الصُّعُداتِ تَجْأرُونَ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ»
قالَ أبُو ذَرٍّ: واللَّهِ لَوَدِدْتُ أنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ.
وَفِي المُسْنَدِ أيْضًا مِن حَدِيثِ حُذَيْفَةَ قالَ:
«كُنّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في جَنازَةٍ فَلَمّا انْتَهَيْنا إلى القَبْرِ قَعَدَ عَلى ساقَيْهِ، فَجَعَلَ يُرَدِّدُ بَصَرَهُ فِيهِ، ثُمَّ قالَ: يُضْغَطُ المُؤْمِنُ فِيهِ ضَغْطَةً تَزُولُ مِنها حَمائِلُهُ ويُمْلَأُ عَلى الكافِرِ نارًا، والحَمائِلُ عُرُوقُ الأُنْثَيَيْنِ».
وَفِي المُسْنَدِ أيْضًا مِن حَدِيثِ جابِرٍ قالَ:
«خَرَجْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إلى سَعْدِ بْنِ مُعاذٍ حِينَ تُوُفِّيَ، فَلَمّا صَلّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ووُضِعَ في قَبْرِهِ، وسُوِّيَ عَلَيْهِ، سَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَسَبَّحْنا طَوِيلًا، ثُمَّ كَبَّرَ، فَكَبَّرْنا، فَقِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ سَبَّحْتَ، ثُمَّ كَبَّرْتَ؟ فَقالَ: لَقَدْ تَضايَقَ عَلى هَذا العَبْدِ الصّالِحِ قَبْرُهُ حَتّى فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ».
وَفِي صَحِيحِ البُخارِيِّ مِن حَدِيثِ أبِي سَعِيدٍ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«إذا وُضِعَتِ الجَنازَةُ، واحْتَمَلَها الرِّجالُ عَلى أعْناقِهِمْ، فَإنْ كانَتْ صالِحَةً قالَتْ: قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي، وإنْ كانَتْ غَيْرَ صالِحَةٍ، قالَتْ: يا ويْلَها، أيْنَ تَذْهَبُونَ بِها؟
يَسْمَعُ صَوْتَها كُلُّ شَيْءٍ إلّا الإنْسانَ، ولَوْ سَمِعَها الإنْسانُ لَصُعِقَ».
وَفِي مُسْنَدِ أحْمَدَ مِن حَدِيثِ أبِي أُمامَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«تَدْنُو الشَّمْسُ يَوْمَ القِيامَةِ عَلى قَدْرِ مِيلٍ، ويُزادُ في حَرِّها كَذا وكَذا، تَغْلِي مِنها الرُّءُوسُ كَما تَغْلِي القُدُورُ، يَعْرَقُونَ فِيها عَلى قَدْرِ خَطاياهُمْ، مِنهم مَن يَبْلُغُ إلى كَعْبِهِ، ومِنهم مَن يَبْلُغُ إلى ساقَيْهِ، ومِنهم مَن يَبْلُغُ إلى وسَطِهِ، ومِنهم مَن يُلْجِمُهُ العَرَقُ».
وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ:
«كَيْفَ أنْعَمُ وصاحِبُ القَرْنِ قَدِ التَقَمَ القَرْنَ؟ وحَنى جَبْهَتَهُ يَسْمَعُ مَتى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخُ.
فَقالَ أصْحابُهُ: كَيْفَ نَقُولُ؟ قالَ: قُولُوا: حَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ، عَلى اللَّهِ تَوَكَّلْنا».
وَفِي المُسْنَدِ أيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ يَرْفَعُهُ:
«مَن تَعَظَّمَ في نَفْسِهِ، أوِ اخْتالَ في مِشْيَتِهِ، لَقِيَ اللَّهَ وهو عَلَيْهِ غَضْبانٌ».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«إنَّ المُصَوِّرِينَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ القِيامَةِ، ويُقالُ لَهم أحْيُوا ما خَلَقْتُمْ».
وَفِيهِما أيْضًا عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ:
«إنَّ أحَدَكم إذا ماتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالغَداةِ والعَشِيِّ، إنْ كانَ مِن أهْلِ الجَنَّةِ فَمِن أهْلِ الجَنَّةِ، وإنْ كانَ مِن أهْلِ النّارِ فَمِن أهْلِ النّارِ، فَيُقالُ: هَذا مَقْعَدُكَ حَتّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ يَوْمَ القِيامَةِ».
وَفِيهِما أيْضًا عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ
«إذا صارَ أهْلُ الجَنَّةِ في الجَنَّةِ، وأهْلُ النّارِ في النّارِ، جِيءَ بِالمَوْتِ حَتّى يُوقَفَ بَيْنَ الجَنَّةِ والنّارِ، ثُمَّ يُذْبَحَ، ثُمَّ يُنادِي مُنادٍ: يا أهْلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ فَلا مَوْتٌ، ويا أهْلَ النّارِ خُلُودٌ فَلا مَوْتٌ، فَيَزْدادُ أهْلُ الجَنَّةِ فَرَحًا إلى فَرَحِهِمْ، ويَزْدادُ أهْلُ النّارِ حُزْنًا إلى حُزْنِهِمْ».
* [فصل: عذاب القبر وعلاقة البدن والروح به]
وهذا يتضح بجواب المسألة وهي قول السائل: هل عذاب القبر على النفس والبدن أو على النفس دون البدن أو على البدن دون النفس. وهل يشارك البدن النفس في النعيم والعذاب أم لا؟
وقد سئل شيخ الإسلام عن هذه المسألة، ونحن نذكر لفظ جوابه فقال: بل العذاب والنعيم على النفس والبدن جميعا باتفاق أهل السنّة والجماعة، تنعم النفس وتعذب منفردة عن البدن، وتنعم وتعذب متصلة بالبدن، والبدن متصل بها، فيكون النعيم والعذاب عليهما في هذه الحال مجتمعين، كما تكون على الروح منفردة عن البدن، وهل يكون العذاب والنعيم للبدن بدون الروح؟ هذا فيه قولان مشهوران لأهل الحديث والسنّة وأهل الكلام، وفي المسألة أقوال شاذّة ليست من أقوال أهل السنّة والحديث، قول من يقول: إن النعيم والعذاب لا يكون إلا على أرواح، وأن البدن لا ينعم ولا يعذب، وهذا تقوله الفلاسفة المنكرون لمعاد الأبدان، وهؤلاء كفار بإجماع المسلمين، ويقوله كثير من أهل الكلام من المعتزلة وغيرهم الذين يقرون بمعاد الأبدان لكي يقولون لا يكون ذلك في البرزخ، وإنما يكون عند القيام من القبور، لكن هؤلاء ينكرون عذاب البدن في البرزخ فقط، ويقولون: إن الأرواح هي المنعمة أو المعذبة في البرزخ، فإذا كان يوم القيامة عذبت الروح والبدن معا.
وهذا القول قاله طوائف من المسلمين من أهل الكلام والحديث وغيرهم، وهو اختيار ابن حزم وابن مرة، فهذا القول ليس من الأقوال الثلاثة الشاذة، بل هو مضاف إلى قول من يقول بعذاب القبر، ويقر بالقيامة، ويثبت معاد الأبدان والأرواح، ولكن هؤلاء لهم في عذاب القبر ثلاثة أقوال:
إحداها: أنه على الروح فقط.
والثاني: أنه عليها وعلى البدن بواسطتها.
والثالث: أنه على البدن فقط، وقد يضم إلى ذلك القول الثاني وهو قول من يثبت عذاب القبر ويجعل الروح هي الحياة، ويجعل الشاذ قول منكر عذاب الأبدان مطلقا، وقول من ينكر عذاب الروح مطلقا، فإذا جعلت الأقوال الشاذة ثلاثة فالقول الثاني الشاذ قول من يقول إن الروح بمفردها لا تنعم ولا تعذب، وإنما الروح هي الحياة، وهذا يقوله طوائف من أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية كالقاضي أبي بكر وغيره، وينكرون أن الروح تبقى بعد فراق البدن، وهذا قول باطل قد خالف أصحابه أبو المعالي الجويني وغيره بل قد ثبت بالكتاب والسنّة واتفاق الأمة أن الروح تبقى بعد فراق البدن وأنها منعمة أو معذبة، والفلاسفة الإلهيون يقرون بذلك.
ولكن ينكرون معاد الأبدان، وهؤلاء يقرون بمعاد الأبدان، لكن ينكرون معاد الأرواح ونعيمها وعذابها بدون الأبدان، وكلا القولين خطأ وضلال، لكن قول الفلاسفة أبعد عن أقوال أهل الإسلام، وإن كان يوافقهم عليه من يعتقد أنه متمسك بدين الإسلام، بل من يظن أنه من أهل المعرفة والتصوف والتحقيق والكلام.
والقول الثالث الشاذ قول من يقول: إن البرزخ ليس فيه نعيم ولا عذاب، بل لا يكون ذلك حتى تقوم الساعة الكبرى كما يقول ذلك من يقوله من المعتزلة ونحوهم ممن ينكر عذاب القبر ونعيمه، بناء على أن الروح لا تبقى بعد فراق البدن، وأن البدن لا ينعم ولا يعذب، فجميع هؤلاء الطوائف ضلال في أمر البرزخ لكنهم خير من الفلاسفة فإنهم مقرون بالقيامة الكبرى.
* [فصل: مذهب السلف في عذاب الميت]
فإذا عرفت هذه الأقوال الباطلة، فلتعلم أن مذهب سلف الأمة وأئمتها أن الميت إذا مات يكون في نعيم أو عذاب، وأن ذلك يحصل لروحه وبدنه وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة أو معذبة، وأنها تتصل بالبدن أحيانا ويحصل له معها النعيم أو العذاب، ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى الأجساد قاموا من قبورهم لرب العالمين، ومعاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين واليهود والنصارى. ونحن نثبت ما ذكرناه.
فأما أحاديث عذاب القبر ومسألة منكر ونكير فكثيرة متواترة عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، كما في الصحيحين عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم مر بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» ثم دعا بجريدة رطبة فشقها نصفين فقال: «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا» «١».
(وفي صحيح مسلم) عن زيد بن ثابت قال: بينا النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في حائط لبني النجار على بغلته ونحن معه، إذ حادت} «١» به فكادت تلقيه، فإذا أقبر ستة أو خمسة أو أربعة فقال: «من يعرف أصحاب هذه الأقبر»؟ فقال رجل: أنا، قال: «فمتى مات هؤلاء»؟ قال: ماتوا في الإشراك، فقال: «إن هذه الأمة تبتلي} «٢» في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا} «٣» لدعوت اللّه أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه» «٤» ثم أقبل علينا بوجهه فقال: «تعوذوا باللّه من عذاب النار»، قالوا: نعوذ باللّه من عذاب النار، فقال: «تعوذوا باللّه من عذاب القبر»، قالوا: نعوذ باللّه من عذاب القبر. قال: «تعوذوا باللّه من الفتن ما ظهر منها وما بطن»، قالوا: نعوذ باللّه من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قال: «تعوذوا باللّه من فتنة الدجال»، قالوا نعوذ باللّه من فتنة الدجال} «٥».
(وفي صحيح مسلم) وجميع السنن عن أبي هريرة أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ باللّه من أربع: من عذاب جهم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا «٦» والممات، ومن فتنة المسيح الدجال» «٧».
(وفي صحيح مسلم) أيضا وغيره عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن، «اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال» «٨».
(وفي الصحيحين) عن أبي أيوب قال: خرج النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وقد غربت الشمس، فسمع صوتا فقال: «يهود تعذب في قبورها» «١».
(وفي الصحيحين) عن عائشة رضي اللّه عنها قالت: دخلت عليّ عجوز من عجائز يهود المدينة فقالت: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم، قالت: فكذبتها ولم أصدقها، قالت: فخرجت ودخل عليّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فقلت: يا رسول اللّه إن عجوزا من عجائز يهود أهل المدينة دخلت فزعمت أن أهل القبور يعذبون في قبورهم! قال: «صدقت إنهم يعذبون عذابا تسمعه البهائم كلها» قالت: فما رأيته بعد في صلاة إلا يتعوذ من عذاب القبر «٢».
(وفي صحيح ابن حبان) عن أم مبشر قالت: دخل عليّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم وأنا في حائط من حوائط بني النجار فيه قبور منهم «٣» وهو يقول:
«تعوذوا باللّه من عذاب القبر» «٤»، فقلت: يا رسول اللّه وللقبر عذاب؟ قال: «إنهم ليعذبون في قبورهم عذابا تسمعه البهائم».
(قال) بعض أهل العلم، ولهذا السبب يذهب الناس بدوابهم إذا مغلت «٥» إلى قبور اليهود والنصارى والمنافقين كالإسماعيلية «٦» والنصيرية والقرامطة من بني عبيد وغيرهم الذين بأرض مصر والشام، فإن أصحاب الخيل يقصدون قبورهم لذلك كما يقصدون قبور اليهود والنصارى، قال: فإذا سمعت الخيل عذاب القبر أحدث لها ذلك فزعا وحرارة تذهب بالمغل.
(وقد قال) عبد الحق الإشبيلي «١»، حدثني الفقيه أبو الحكم بن برجان وكان من أهل العلم والعمل أنهم دفنوا ميتا بقريتهم في شرف أشبيلية «٢»، فلما فرغوا من دفنه قعدوا ناحية يتحدثون، ودابة ترعى قريبا منهم، فإذا بالدابة قد أقبلت مسرعة إلى القبر، فجعلت أذنها عليه كأنها تسمع ثم ولت فارة، ثم عادت إلى القبر فجعلت أذنها عليها كأنها تسمع ثم ولت فارة، فعلت ذلك مرة بعد أخرى.
قال أبو الحكم: فذكرت عذاب القبر وقول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم «أنهم ليعذبون عذابا تسمعه البهائم».
ذكر لنا هذه الحكاية ونحن نسمع عليه كتاب مسلم لما انتهى القارئ إلى قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم} «إنهم يعذبون عذابا تسمعه البهائم».
وهذا السماع واقع على أصوات المعذبين، قال هناد بن السري «٣» في كتاب (الزهد) حدثنا وكيع عن الأعمش عن شقيق عن عائشة رضي اللّه عنها قالت:
دخلت عليّ يهودية، فذكرت عذاب القبر، فكذبتها، فدخل النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم علي، فذكرت ذلك له، فقال: «و الذي نفسي بيده أنهم ليعذبون في قبورهم حتى تسمع البهائم أصواتهم».
(قلت) وأحاديث المسألة في القبر كثيرة كما في الصحيحين والسنن، عن البراء بن عازب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «المسلم إذا سئل في قبره فشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه فذلك قول اللّه يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثّابِتِ في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ «٢»
وفي لفظ: نزلت في عذاب القبر يقال له: من ربك؟ فيقول: اللّه ربي ومحمد نبي، فذلك قول اللّه ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثّابِتِ في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ﴾ «٣».
والحديث قد رواه أهل السنن والمسانيد مطولا كما تقدم.
وقد صرح في هذا الحديث بإعادة الروح إلى البدن وباختلاف أضلاعه، وهذا بين في أن العذاب على الروح والبدن مجتمعين.
وقد روى مثل حديث البراء قبض الروح والمسألة والنعيم والعذاب أبو هريرة (وحديثه) في المسند، وصحيح أبي حاتم، أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إن الميت إذا وضع في قبره أنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، فإن كان مؤمنا كانت الصلاة عند رأسه، والصيام عن يمينه، والزكاة عن شماله، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان عند رجليه، فيؤتى من قبل رأسه فتقول الصلاة: ما قبلي ما دخل، ثم يؤتى عن يمينه فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من يساره فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل، ثم يؤتى من قبل رجليه فيقول: فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان ما قبلي مدخل، فيقال: اجلس، فيجلس قد مثلت له الشمس وقد أخذت الغروب، فيقال له: هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه وما ذا تشهد به عليه؟ فيقول: دعوني أصلي، فيقولون إنك ستصلي، أخبرنا عما نسألك عنه، أرأيتك هذا الرجل الذي كان فيكم ما تقول فيه وما تشهد عليه؟ فيقول محمد؟ أشهد أنه رسول اللّه، جاء بالحق من عند اللّه، فيقال له: على ذلك حييت وعلى ذلك مت وعلى ذلك تبعث إن شاء اللّه، ثم يفتح له باب إلى الجنة، فيقال له: هذا مقعدك وما أعد اللّه لك فيها، فيزداد غبطة وسرورا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا، وينور له فيه، ويعاد الجسد لما بدي ء منه، وتجعل نسمته من النسم الطيب وهي طير معلق في شجرة الجنة، قال: فذلك قول اللّه تعالى ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثّابِتِ في الحَياةِ الدُّنْيا وفي الآخِرَةِ﴾ «١» وذكر في الكافر ضد ذلك إلى أن قال: ثم يضيق عليه في قبره إلى أن تختلف فيه أضلاعه فتلك المعيشة الضنك التي قال اللّه تعالى ﴿فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ونَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمى﴾ «٢».
(وفي الصحيحين) من حديث قتادة: عن أنس أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إن الميت إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه أنه ليسمع خفق نعالهم، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في الرجل محمد؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد اللّه ورسوله، قال: فيقول أنظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك اللّه به مقعدا من الجنة»، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
«فيراهما جميعا». قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعا ويملأ عليه خضرا إلى يوم يبعثون «٣».
ثم رجع إلى حديث أنس قال: فأما الكافر والمنافق فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري كنت أقول ما يقول الناس، فيقولان: لا دريت ولا تليت، ثم يضرب بمطراق من حديد بين أذنيه فيصيح صيحة فيسمعها من عليها غير الثقلين.
(وفي صحيح أبي حاتم) عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إذا قبر أحدكم أو الإنسان أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، وللآخر النكير، فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟ صلى اللّه عليه وآله وسلم، فهو قائل ما كان يقول، فإن كان مؤمنا قال: هو عبد اللّه ورسوله، أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا عبده ورسوله، فيقولان له: إنا كنا لنعلم أنك تقول ذلك، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ذراع، وينور له فيه، ويقال له: نم. فيقول: أرجع إلى أهلي ومالي فأخبرهم، فيقولان نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه اللّه من مضجعه ذلك، وإن كان منافقا قال: لا أدري كنت أسمع الناس يقولون شيئا فكنت أقوله، فيقولان له:
كنا نعلم أنك تقول ذلك، ثم يقال للأرض: التئمي عليه، فتلتئم عليه حتى تختلف فيها أضلاعه، فلا يزال معذبا حتى يبعثه اللّه من مضجعه ذلك». وهذا صريح في أن البدن يعذب.
(وعن أبي هريرة) أن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إذا احتضر المؤمن أتته الملائكة بحريرة بيضاء فيقولون: أخرجي أيتها الروح الطيبة راضية مرضيا عنك إلى روح «١» وريحان «٢» ورب غير غضبان، فتخرج كأطيب من ريح المسك حتى أنه ليناوله بعضهم بعضا حتى يأتوا به باب السماء، فيقولون:
ما أطيب هذه الريح التي جاءتكم من الأرض، فيأتون به أرواح المؤمنين، فلهم أشد فرحا به من أحدكم بغائبة يقدم عليه، فيسألونه ما ذا فعل فلان؟ قال: فيقول دعوه يستريح فإنه كان في غم الدنيا، فإذا قال أتاكم فيقولون إنه ذهب به إلى أمه الهاوية، وإن الكافر إذا احتضر أتته ملائكة العذاب بمسح، فيقولون: أخرجي مسخوطا عليك إلى عذاب اللّه فتخرج كأنتن روح جيفة حتى يأتوا به باب الأرض، فيقولون: فما أنتن هذه الروح حتى يأتوا به أرواح الكفار» رواه النسائي والبزار ومسلم مختصرا.
(وأخرجه أبو حاتم في صحيحه) وقال: «إن المؤمن إذا حضره الموت حضرته ملائكة الرحمة، فإذا قبض جعلت روحه في حريرة بيضاء، فينطلق بها إلى باب السماء، فيقولون: ما وجدنا ريحا أطيب من هذه، فيقال: ما فعل فلان؟ ما فعلت فلانة؟ فيقال: دعوه يستريح، فإنه كان في غم الدنيا، وأما الكافر إذا قبضت نفسه ذهب بها إلى الأرض فتقول خزنة الأرض: ما وجدنا ريحا أنتن من هذه، فيبلغ بها إلى الأرض السفلى».
(وروى) النسائي في سننه من حديث عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «هذا الذي تحرك له العرش وفتحت له أبواب السماء وشهد له سبعون ألفا من الملائكة، لقد ضم ضمة ثم فرج عنه»، قال النسائي «١» يعني سعد بن معاذ «٢».
(وروى) من حديث عائشة رضي اللّه عنها قالت: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «للقبر ضغطة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ»، رواه من حديث شعبة.
وقال هناد بن السري: حدثنا محمد بن الفضيل عن أبيه عن ابن أبي مليكة قال: «ما أجير من ضغطة القبر أحد ولا سعد بن معاذ الذي منديل من مناديله خير من الدنيا وما فيها» «٣».
وقال: وحدثنا عبدة من عبيد اللّه بن عمر عن نافع قال: لقد بلغني أنه شهد جنازة سعد بن معاذ سبعون ألف ملك لم ينزلوا إلى الأرض قط، لقد بلغني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «ضم صاحبكم في القبر ضمة».
وقال: علي بن معبد، حدثنا عبيد اللّه عن زيد بن أبي أنيسة، عن جابر، عن نافع قال: أتينا صفية بنت أبي عبيد امرأة عبد اللّه بن عمر وهي فزعة، فقلنا:
ما شأنك؟ فقالت: جئت من عند بعض نساء النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، قالت: فحدثني أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال: «إن كنت لأرى لو أن أحدا أعفي من عذاب القبر لأعفي منه سعد بن معاذ لقد ضم فيه ضمة».
(وحدثنا) مروان بن معاوية عن علاء بن المسيب عن معاوية العبسي عن زاذان بن عمرو قال: لما دفن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ابنته فجلس عند القبر فتربد} «١» وجهه، ثم سرى عنه «٢»، فقال له أصحابه: رأينا وجهك آنفا ثم سرى، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ذكرت ابنتي وضعفها وعذاب القبر، فدعوت اللّه ففرج عنها، وأيم اللّه لقد ضمت ضمة سمعها من بين الخافقين».
وحدثنا شعيب عن ابن دينار عن إبراهيم الغنوي عن رجل قال: كنت عند عائشة رضي اللّه عنها فمرت جنازة صبي صغير فبكت، فقلت لها: ما يبكيك يا أم المؤمنين، فقالت: هذا الصبي بكيت له شفقة عليه من ضمة القبر.
ومعلوم أن هذا كله بواسطة الروح.
* [فصل: الإيمان بعذاب القبر]
وهذا كما أنه مقتضى السنّة الصحيحة فهو متفق عليه بين أهل السنّة. قال المروزي: قال أبو عبد اللّه: عذاب القبر حق لا ينكره إلا ضال مضل، قال حنبل:
قلت لأبي عبد اللّه في عذاب القبر فقال: هذه أحاديث صحاح نؤمن بها ونقر بها، كلما جاء عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم إسناد جيد أقررنا به. إذا لم نقر بما جاء به رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ودفعناه ورددناه رددنا على اللّه أمره، قال اللّه تعالى ﴿وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾
قلت له: وعذاب القبر حق؟ قال: حق يعذبون في القبر.
قال: وسمعت أبا عبد اللّه يقول: نؤمن بعذاب القبر وبمنكر ونكير وأن العبد يسأل في قبره فيثبت اللّه الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة في القبر.
(وقال) أحمد بن القاسم: قلت: يا أبا عبد اللّه، تقر بمنكر ونكير، وما يروى في عذاب القبر؟ فقال: سبحان اللّه نعم، نقر بذلك ونقوله، قلت: هذه اللفظة تقول: منكر ونكير هكذا أو تقول ملكين؟ قال: منكر ونكير؟ قلت: يقولون ليس في حديث منكر ونكير، قال: هو هكذا، يعني أنهما منكر ونكير.
وأما أقوال أهل البدع والضلال، فقال أبو الهذيل والمريسي: من خرج عن صفة الإيمان فإنه يعذب بين النفحتين، والمسألة في القبر إنما تقع في ذلك الوقت.
وأثبت الجبائي وابنه البلجي عذاب القبر ولكنهم نفوه عن المؤمنين، وأثبتوه لأصحاب التخليد من الكفار والفسّاق على أصولهم.
(وقال) كثير من المعتزلة: لا يجوز تسمية ملائكة اللّه بمنكر ونكير، وإنما المنكر ما يبدو من تلجلجه إذا سئل، والنكير تقريع الملكين له.
وقال الصالحي: وصالح فيه عذاب القبر يجري على المؤمن من غير رد الأرواح إلى الأجساد، والميت يجوز أن يتألم ويحس ويعلم بلا روح، وهذا قول جماعة من الكرامية.
(وقال) بعض المعتزلة: إن اللّه سبحانه يعذب الموتى في قبورهم ويحدث فيهم الآلام وهم لا يشعرون، فإذا حشروا أوجدوا تلك الآلام وأحسوا بها، قالوا:
وسبيل المعذبين من الموتى كسبيل السكران والمغشى عليه لو ضربوا لم يجدوا الآلام، فإذا عاد عليهم العقل أحسوا بألم الضرب.
وأنكر جماعة منهم عذاب القبر رأسا مثل ضرار بن عمرو «١» ويحيى بن كامل وهو قول المريبي، فهذه أقوال أهل الخزي والضلالة.
* [فصل: الرد على منكري عذاب القبر]
وهي قول السائل: ما جوابنا للملاحدة والزنادقة المنكرين لعذاب القبر وسعته وضيقه وكونه حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة، وكون الميت لا يجلس ولا يقعد فيه.
قالوا: فإنا نكشف القبر فلا نجد فيه ملائكة عميا صما يضربون الموتى بمطارق من حديد، ولا نجد هناك حيات ولا ثعابين ولا نيرانا تأجج، ولو كشفنا حاله في حالة من الأحوال لوجدناه لم يتغير، ولو وضعنا على عينيه الزئبق وعلى صدره الخردل لوجدناه على حاله، وكيف يفسح مد بصره أو يضيق عليه، ونحن نجده بحاله، ونجد مساحته على حد ما حفرناها، لم يزد ولم ينقص، وكيف يسع ذلك اللحد الضيق له وللملائكة وللصورة التي تؤنسه أو توحشه؟ قال إخوانهم من أهل البدع والضلال، وكل حديث يخالف مقتضى القول والحس يقطع بتخطئة قائلة، قالوا: ونحن نرى المصلوب على خشبة مدة طويلة لا يسأل ولا يجيب ولا يتحرك ولا يتوقد جسمه نارا، ومن افترسته السباع ونهشته الطيور وتفرقت أجزاؤه في أجواف السباع وحواصل الطيور وبطون الحيتان ومدارج الرياح كيف تسأل أجزاؤه مع تفرقها، وكيف يتصور مسألة الملكين لمن هذا وصفه، وكيف يصير القبر على هذا روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، وكيف يضيق عليه حتى تلتئمه أضلاعه، ونحن نذكر أمورا يعلم بها الجواب.
الأمر الأول: أن يعلم أن الرسل صلوات اللّه وسلامه عليهم لم يخبروا بما تحيله العقول وتقطع باستحالته، بل أخبارهم قسمان:
أحدهما: ما تشهد به العقول والفطر.
والثاني: ما لا تدركه العقول بمجردها كالغيوب التي أخبروا بها عن تفاصيل البرزخ واليوم الآخر وتفاصيل الثواب والعقاب، ولا يكون خبرهم محالا في العقول أصلا، وكل خبر يظن أن العقل يحيله فلا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون الخبر كذبا عليهم، أو يكون ذلك العقل فاسدا، وهو شبهة خيالية يظن صاحبها أنها معقولة صريحة قال تعالى: ﴿ويَرى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ هو الحَقَّ ويَهْدِي إلى صِراطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ﴾ وقال تعالى: ﴿فَمَن يَعْلَمُ أنَّما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحَقُّ كَمَن هو أعْمى﴾
وقال تعالى: ﴿والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ ومِنَ الأحْزابِ مَن يُنْكِرُ بَعْضَهُ﴾
والنفوس لا تفرح بالمحال، وقال تعالى: ﴿يا أيُّها النّاسُ قَدْ جاءَتْكم مَوْعِظَةٌ مِن رَبِّكم وشِفاءٌ لِما في الصُّدُورِ وهُدىً ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾
والمحال لا يشفى ولا يحصل به هدى ولا رحمة ولا يفرح به.
فهذا أمر من لم يستقر في قلبه خير ولم يثبت له على الإسلام قدم وكان أحسن أحواله الحيرة والشك.
الأمر الثاني: أن يفهم عن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم مراده غير علو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله، ولا يقصر به عن مراده، وما قصده من الهدى والبيان.
وقد حصل بإهمال ذلك، والعدل عنه من الضلال، والعدول عن الصواب ما لا يعلمه، إلا اللّه، بل سوء الفهم عن اللّه ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام، بل هو أصل كل خطأ في الأصول والفروع، ولا سيما أن أضيف إليه سوء القصد، فيتفق سوء الفهم في بعض الأشياء من المتبوع مع حسن قصده، وسوء القصد من التابع في محنة الدين وأهله واللّه المستعان.
وهل أوقع القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة والجهمية وسائر طوائف أهل البدع إلا سوء الفهم عن اللّه ورسوله حتى صار الدين بأيدي أكثر الناس هو موجب هذه الأفهام، والذي فهمه الصحابة ومن تتبعهم عن اللّه ورسوله فمهجور لا يلتفت إليه ولا يرفع هؤلاء به رأسا، ولكثرة أمثلة هذه القاعدة تركناها، فإننا لو ذكرناها لزادت على عشرة ألوف، حتى أنك لتمر على الكتاب من أوله إلى آخره فلا تجد صاحبه فهم عن اللّه ورسوله ومراده كما ينبغي في موضع واحد.
وهذا إنما يعرفه من عرف ما عند الناس وعرضه على ما جاء به الرسول، وأما من عكس الأمر بعرض ما جاء به الرسول على ما اعتقده وانتحله وقلد فيه من أحسن به الظن فليس يجدي الكلام معه شيئا فدعه، وما اختاره لنفسه وعليه ما تولى وأحمد الذي عافاك مما ابتلاه به.
الأمر الثالث: أن اللّه سبحانه جعل الدور ثلاثا: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وجعل لكل دار أحكاما تختص بها، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان والأرواح تبعا لها، ولهذا جعل أحكامه الشرعية مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح وإن أضمرت النفوس خلافه، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبعا لها، فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا فتألمت بألمها والتذت براحتها وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب تبعت الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها، والأرواح حينئذ هي التي تباشر العذاب والنعيم، فالأبدان هنا ظاهرة، والأرواح خفية.
والأبدان كالقبور لها، والأرواح هناك ظاهرة، والأبدان خفية في قبورها، تجري أحكام البرزخ على الأرواح فتسري إلى أبدانها نعيما أو عذابا، كما تجري أحكام الدنيا على الأبدان فتسري إلى أرواحها نعيما أو عذابا، فأحط بهذا الموضع علما وأعرفه كما ينبغي يزيل عنك كل إشكال يورد عليك من داخل وخارج.
وقد أرانا اللّه سبحانه بلطفه ورحمته وهدايته من ذلك أنموذجا في الدنيا من حال النائم، فإن ما ينعم به أو يعذب في نومه يجري على روحه أصلا والبدن تبع له، وقد يقوى حتى يؤثر في البدن تأثيرا مشاهدا، فيرى النائم في نومه أنه ضرب فيصبح وأثر الضرب في جسمه، ويرى أنه قد أكل أو شرب فيستيقظ وهو يجد أثر الطعام والشراب في فيه، ويذهب عنه الجوع والظمأ.
وأعجب من ذلك أنك ترى النائم يقوم في نومه ويضرب ويبطش ويدافع كأنه يقظان وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك، وذلك أن الحكم لما جرى على الروح استعانت بالبدن من خارجه، ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحس، فإذا كانت الروح تتألم وتنعم ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع فهكذا في البرزخ بل أعظم، فإن تجرد الروح هنالك أكمل وأقوى، وهي متعلقة ببدنها لم تنقطع عنه كل الانقطاع، فإذا كان يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم والعذاب في الأرواح والأجساد ظاهرا باديا أصلا.
ومتى أعطيت هذا الموضع حقه تبين لك أن ما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه وضيقه وسعته وضمه، وكونه حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة، مطابق للعقل، وأنه حق لا مرية فيه، وأن من أشكل عليه ذلك فمن سوء فهمه وقلة علمه أتى كما قيل:
؎وكم من عائب قولا صحيحا ∗∗∗ وآفته من الفهم السقيم
وأعجب من ذلك أنك تجد النائم في فراش واحد، وهذا روحه في النعيم ويستيقظ وأثر النعيم على بدنه، وهذا روحه في العذاب ويستيقظ وأثر العذاب على بدنه، وليس عند أحدهما خبر بما عند الآخر، فأمر البرزخ أعجب من ذلك.
الأمر الرابع: أن اللّه سبحانه جعل أمر الآخرة وما كان متصلا بها غيبا وحجبها عن إدراك المكلفين في هذه الدار، وذلك من كمال حكمته، وليتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم، فأول ذلك أن الملائكة تنزل على المحتضر وتجلس قريبا منه ويشاهدهم عيانا ويتحدثون عنده، ومعهم الأكفان والحنوط، إما من الجنة، وإما من النار، ويؤمنون على دعاء الحاضرين بالخير والشر، وقد يسلمون على المحتضر، ويرد عليهم تارة بلفظة، وتارة بإشارته، وتارة بقلبه، حيث لا يتمكن من نطق ولا إشارة.
وقد سمع بعض المحتضرين يقول: أهلا وسهلا ومرحبا بهذه الوجوه.
(وأخبرني) شيخنا عن بعض المحتضرين، فلا أدري أشاهده وأخبره عنه أنه سمع وهو يقول: عليك السلام هاهنا فأجلس، وعليك السلام هاهنا فاجلس».
(وقصة) خبر النساج رحمه اللّه مشهورة حيث قال عند الموت: اصبر عافاك اللّه، فإن ما أمرت به لا يفوت، وما أمرت به يفوت، ثم استدعى بماء فتوضأ وصلى ثم قال: امض لما أمرت به، ومات.
* [فصل: ماهية النار والخضرة في القبر]
الأمر الخامس والسادس: أن النار التي في القبر والخضرة ليست من نار الدنيا ولا من زروع الدنيا، فيشاهده من شاهد نار الدنيا وخضرها، وإنما هي من نار الآخرة وخضرها، وهي أشد من نار الدنيا، فلا يحس به أهل الدنيا، فإن اللّه سبحانه يحمي عليه ذلك التراب والحجارة التي عليه وتحته حتى يكون أعظم حرا من جمر الدنيا، ولو مسها أهل الدنيا لم يحسوا بذلك، بل أعجب من هذا أن الرجلين يدفنان، أحدهما إلى جنب الآخر، وهذا في حفرة من حفر النار لا يصل حرها إلى جاره، وذلك في روضة من رياض الجنة لا يصل روحها ونعيمها إلى جاره.
وقدرة الرب تعالى أوسع وأعجب من ذلك، وقد أرانا اللّه من آيات قدرته في هذه الدار ما هو أعجب من ذلك بكثير، ولكن النفوس مولعة التكذيب بما لم تحط به علما إلا من وفقه اللّه وعصمه.
فيفرش للكافر لوحان من نار، فيشتعل عليه قبره بهما كما يشتعل التنور، فإذا شاء اللّه سبحانه أن يطلع على ذلك بعض عبيده أطلعه وغيبه عن غيره، إذ لو اطلع العباد كلهم لزالت كلمة التكليف والإيمان بالغيب، ولما تدافن الناس كما في الصحيحين عنه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «لو لا أن لا تدافنوا لدعوت اللّه أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع».
و لما كانت هذه الحكمة منفية في حق البهائم سمعت ذلك وأدركته كما حادث برسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم بلغته وكادت تلقيه لما مر بمن يعذب في قبره.
(وحدثني) صاحبنا أبو عبد اللّه محمد بن الرزيز الحراني أنه خرج من داره بعد العصر بآمد إلى بستان، قال: فلما كان قبل غروب الشمس توسطت القبور، فإذا بقبر منها وهو جمرة نار مثل كوز الزجاج، والميت في وسطه، فجعلت أمسح عيني وأقول: أنائم أنا أم يقظان؟ ثم التفت إلى سور المدينة وقلت: واللّه ما أنا بنائم، ثم ذهبت إلى أهلي وأنا مدهوش «١»، فأتوني بطعام فلم أستطع أن آكل، ثم دخلت البلد، فسألت عن صاحب القبر، فإذا به مكاس «٢» قد توفي ذلك اليوم.
فرؤية هذه النار في القبر كرؤية الملائكة، والجن تقع أحيانا لمن شاء اللّه أن يريه ذلك.
(وقد ذكر) ابن أبي الدنيا في كتاب (القبور) عن الشعبي أنه ذكر رجلا، قال للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: مررت ببدر فرأيت رجلا يخرج من الأرض فيضربه رجل بمقمعة حتى يغيب في الأرض، ثم يخرج فيفعل ذلك، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: «ذلك أبو جهل بن هشام يعذب إلى يوم القيامة».
(وذكر) من حديث حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن سالم بن عبد اللّه عن أبيه قال: بينا أنا أسير بين مكة والمدينة على راحلة وأنا محقب إدارة، إذ مررت بمقبرة، فإذا رجل خارج من قبره يلتهب نارا وفي عنقه سلسلة يجرها، فقال: يا عبد اللّه انضح، يا عبد اللّه انضح، فو اللّه ما أدري أعرفني باسمي أم كما تدعو الناس، قال: فخرج آخر، فقال: يا عبد اللّه لا تنضح ثم اجتذب السلسلة فأعاده في قبره.
(وقال) ابن أبي الدنيا، وحدثني أبي، وحدثنا موسى بن داود، وحدثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة عن أبيه، قال: بينما راكب يسير بين مكة والمدينة إذ مر بمقبرة، فإذا برجل قد خرج من قبره يلتهب نارا مصفدا في الحديد، فقال: يا عبد اللّه انضح، يا عبد اللّه انضح، يا عبد اللّه انضح، قال: وخرج آخر يتلوه فقال: يا عبد اللّه لا تنضح يا عبد اللّه لا تنضح قال: وغشي على الراكب وعدلت به راحلته إلى العرج، قال: وأصبح قد ابيض شعره، فأخبر عثمان بذلك، فنهى أن يسافر الرجل وحده.
(وذكر) من حديث سفيان، حدثنا داود بن شابور عن أبي قزعة قال: مررنا في بعض المياه التي بيننا وبين البصرة، فسمعنا نهيق حمار، فقلنا لهم: ما هذا النهيق؟ قالوا: هذا رجل كان عندنا كانت أمه تكلمه بالشيء فيقول لها: انهقي نهيقك، فلما مات سمع هذا النهيق من قبره كل ليلة.
(وذكر) أيضا عن عمرو بن دينار قال: كان رجل من أهل المدينة وكانت له أخت في ناحية المدينة، فاشتكت، وكان يأتيها يعودها، ثم ماتت فدفنها، فلما رجع ذكر أنه نسي شيئا في القبر كان معه، فاستعان برجل من أصحابه، قال:
فنبشنا القبر ووجدت ذلك المتاع، فقال للرجل: تنح حتى أنظر على أي حال أختي، فرفع بعض ما على اللحد فإذا القبر مشتعل نارا فرده وسوى القبر، فرجع إلى أمه فقال: ما كان حال أختي؟ فقال: ما تسأل عنها وقد هلكت، فقال:
لتخبريني، قالت: كانت تؤخر الصلاة ولا تصلي فيما أظن بوضوء، وتأتي أبواب الجيران فتلقم أذنها أبوابهم وتخرج حديثهم.
(وذكر) عن حصين الأسدي قال: سمعت مرثد بن حوشب قال: كنت جالسا عند يوسف بن عمر، وإلى جنبه رجل كأن شقة وجهه صفحة من حديد، فقال له يوسف: حدث مرثدا بما رأيت؟، فقال: كنت شابا قد أتيت هذه الفواحش، فلما وقع الطاعون قلت: أخرج إلى ثغر من هذه الثغور، ثم رأيت أن أحفر القبور، فإذا بي ليلة بين المغرب والعشاء قد حفرت وأنا متكئ على تراب قبر آخر، إذ جي ء بجنازة رجل حتى دفن في ذلك وسووا عليه، فأقبل طائران أبيضان من المغرب مثل البعيرين، حتى سقط أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، ثم أثاراه، ثم تدلى أحدهما في القبر والآخر على شفيره، فجئت حتى جلست على شفير القبر، وكنت رجلا لا يملأ جوفي شيء، قال: فسمعته يقول: ألست الزائر أصهارك في ثوبين ممصرين «١» تسحبهما كبرا تمشيا لخيلاء فقال: أنا أضعف من ذلك، قال: فضربه ضربة امتلأ القبر حتى فاض ماء ودهنا، ثم عاد فأعاد إليه القول حتى ضربه ثلاث ضربات كل ذلك يقول ذلك ويذكر أن القبر يفيض ماء ودهنا، قال: ثم رفع رأسه فنظر إلي فقال: انظر أين هو جالس بلسه} «١» اللّه، قال: ثم ضرب جانب وجهي فسقطت، فمكثت ليلتي حتى أصبحت، قال: ثم أخذت أنظر إلى القبر فإذا هو على حاله.
فهذا الماء والدهن في رأي العين لهذا الرائي وهو نار تأجج للميت كما أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن الدجال أنه يأتي معه بماء ونار، فالنار ماء بارد والماء نار تأجج} «٢».
(وذكر) ابن أبي الدنيا أن رجلا سأل أبا إسحاق الفزاري عن النباش} «٣» هل له توبة؟ فقال: نعم إن صحت نيته وعلم اللّه منه الصدق، فقال له الرجل: كنت أنبش القبور وكنت أجد قوما وجوههم لغير القبلة، فلم يكن عند الفزاري في ذلك شيء، فكتب إلى الأوزاعي يخبره بذلك، فكتب إليه الأوزاعي: تقبل توبته إذا صحت نيته وعلم اللّه الصدق من قلبه، وأما قوله أنه كان يجد قوما وجوههم لغير القبلة: فأولئك قوم ماتوا على غير السنّة.
(وقال) ابن أبي الدنيا حدثني عبد المؤمن بن عبد اللّه بن عيسى القيسي أنه قيل لنباش تاب: ما أعجب ما رأيت؟ قال: نبشت رجلا فإذا هو مسمر بالمسامير في سائر جسده ومسمار كبير في رأسه وآخر في رجليه.
(وقيل) وقيل لنباش آخر: ما أعجب ما رأيت؟ قال: رأيت جمجمة إنسان مصبوب فيها رصاصا.
(قال) وقيل لنباش آخر: ما كان سبب توبتك؟ قال: عامة من كنت أنبش كنت أراه محول الوجه عن القبلة.
(قلت) وحدثني صاحبنا أبو عبد اللّه محمد بن مساب السلامي وكان من خيار عباد اللّه وكان يتحرى الصدق قال: جاء رجل إلى سوق الحدادين ببغداد فباع مسامير صغار المسمار برأسين، فأخذها الحداد وجعل يحمي عليها فلا تلين معه حتى عجز عن ضربها، فطلب البائع فوجده، فقال: من أين لك هذه المسامير؟
فقال: لقيتها، فلم يزل به حتى أخبره أنه وجد قبرا مفتوحا وفيه عظام ميت منظومة بهذه المسامير، قال: فعالجتها على أن أخرجها فلم أقدر، فأخذت حجرا فكسرت عظامه وجمعتها، وقال: وأنا رأيت تلك المسامير، قلت له: فكيف صفتها؟ قال المسمار صغير برأسين.
(قال) ابن أبي الدنيا، وحدثني عن أبي بن جريش عن أمه، قالت: لما حفر أبو جعفر خندق الكوفة حوّل الناس موتاهم، فرأينا شابا ممن حولنا عاضا على يده.
(وذكر) عن سماك بن حرب قال: مر أبو الدرداء بين القبور فقال: ما أسكن ظواهرك وفي داخلك الدواهي.
(وقال) ثابت البناني «١»: بينما أنا أمشي في المقابر وإذا صوت خلفي وهو يقول: يا ثابت لا يغرنك سكوتها فكم من مغموم فيها، فالتفت فلم أر أحدا.
(ومر) الحسن على مقبرة فقال: يا لهم من عسكر ما أسكنهم، وكم فيهم من مكروب.
(وذكر) ابن أبي الدنيا أن عمر بن عبد العزيز قال لمسلمة بن عبد الملك:
يا مسلمة من دفن أباك؟ قال: مولاي فلان، قال: فمن دفن الوليد؟ قال: مولاي فلان، قال: فأنا أحدثك ما حدثني به، إنه لما دفن أباك الوليد فوضعهما في قبورهما وذهب ليحل العقد عنهما وجد وجوههما قد حولت في أقفيتهما، فانظر يا مسلمة إذا أنا مت، فالتمس وجهي فانظر: هل نزل بي ما نزل بالقوم، أو هل عوفيت من ذلك، قال مسلمة: فلما مات عمر وضعته في قبره فلمست وجهه فإذا هو مكانه.
(وذكر) ابن أبي الدنيا عن بعض السلف قال: ماتت ابنة لي فأنزلتها القبر، فذهبت أصلح اللبنة فإذا هي قد حولت عن القبلة، فاغتممت لذلك غما شديدا، فأريتها في النوم فقالت: يا أبت اغتممت لما رأيت، فإن عامة من حولي محولين عن القبلة، قال: كأنها تريد الذين ماتوا مصرين على الكبائر.
(وقال) عمرو بن ميمون: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: كنت في من دلى الوليد بن عبد الملك في قبره، فنظرت إلى ركبتيه قد جمعتا في عنقه، فقال ابنه: عاش أبي ورب الكعبة، فقالت: عوجل أبوك ورب الكعبة فاتعظ بها عمر بعده.
(وقال) عمر بن عبد العزيز ليزيد بن المهلب لما استعمله على العراق:
يا يزيد اتق اللّه، فإني حين وضعت الوليد في لحده فإذا هو يركض في أكفانه.
(وقال) يزيد بن هارون: أخبر هشام بن حسان عن واصل مولى أبي عيينة عن عمر بن زهدم عن عبد الحميد بن محمود قال: كنت جالسا عند ابن عباس، فأقبل قوم، فقالوا: إنا خرجنا حجاجا ومعنا صاحب لنا، إذ أتينا فإذا الصفاح مات، فهيأناه، ثم انطلقنا فحفرنا له ولحدنا له، فلما فرغنا من لحده إذا نحن بأسْود قد ملأ اللحد، فحفرنا له آخر فإذا به قد ملأ لحده، فحفرنا له آخر فإذا به، فقال: ابن عباس: ذاك الغل الذي يغل به، انطلقوا فادفنوه في بعضها، فوالذي نفسي بيده لو حفرتم الأرض كلها لوجدتموه فيه، فانطلقنا فوضعناه في بعضها، فلما رجعنا أتينا أهله بمتاع له معنا، فقلنا لامرأته: ما كان يعمل زوجك؟
قالت: كان يبيع الطعام فيأخذ منه كل يوم قوت أهله، ثم يقرض الفضل مثله فيلقيه فيه.
(وقال) ابن أبي الدنيا: حدثني محمد بن الحسين قال: حدثني أبو إسحاق صاحب الشاط قال: دعيت إلى ميت لأغسله، فلما كشفت الثوب عن وجهه إذا بحية قد تطوقت على حلقة فذكر من غلظها، قال: فخرجت فلم أغسله، فذكروا أنه كان يسب الصحابة رضي اللّه عنهم «١».
(وذكر) ابن أبي الدنيا عن سعيد بن خالد بن يزيد الأنصاري عن رجل من أهل البصرة كان يحفر القبور قال: حفرت قبرا ذات يوم ووضعت رأسي قريبا منه، فأتتني امرأتان في منامي، فقالت إحداهما: يا عبد اللّه ناشدتك باللّه إلا صرفت عنا هذه المرأة ولم تجاورنا بها، فاستيقظت فزعا، فإذا بجنازة امرأة قد جي ء بها، فقلت: القبر وراءكم فصرفتهم عن ذلك القبر، فلما كان بالليل إذا أنا بالمرأتين في منامي، تقول إحداهما: جزاك ٢ اللّه عنا خيرا فلقد صرفت عنا شرا طويلا، قلت:
ما لصاحبتك لا تكلمني كما تكلميني أنت؟ قالت: إن هذه ماتت عن غير وصية، وحق لمن مات عن غير وصية أن لا يتكلم إلى يوم القيامة.
وهذه الأخبار وأضعافها وأضاف أضعافها مما لا يتسع لها الكتاب مما أراه اللّه سبحانه لبعض عباده من عذاب القبر ونعيمه عيانا.
وأما رؤية المنام فلو ذكرناها لجاءت عدة أسفار، ومن أراد الوقوف عليها فعليه بكتاب (المنامات) لابن أبي الدنيا وكتاب (البستان) للقيرواني وغيرهما من الكتب المتضمنة لذلك، وليس عند الملاحدة والزنادقة إلا التكذيب بما لم يحيطوا بعلمه.
الأمر السابع: أن اللّه سبحانه وتعالى يحدث في هذه الدار ما هو أعجب من ذلك، فهذا جبريل كان ينزل على النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم، ويتمثل له رجلا فيكلمه بكلام يسمعه، ومن إلى جانب النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم لا يراه ولا يسمعه، وكذلك غيره من الأنبياء وأحيانا يأتيه الوحي في مثل صلصلة الجرس، ولا يسمعه غيره من الحاضرين، وهؤلاء الجن يتحدثون ويتكلمون بالأصوات المرتفعة، بيننا ونحن لا نسمعهم، وقد كانت الملائكة تضرب الكفار بالسياط، وتضرب رقابهم وتصيح بهم، والمسلمون معهم لا يرونهم ولا يسمعون كلامهم، واللّه سبحانه قد حجب بني آدم عن كثير مما يحدثه في الأرض وهو بينهم، وقد كان جبريل يقرئ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ويدارسه القرآن والحاضرون لا يسمعونه.
وكيف يستنكر من يعرف اللّه سبحانه ويقر بقدرته أن يحدث حوادث يصرف عنها أبصار بعض خلقه حكمة منه ورحمة بهم، لأنهم لا يطيقون رؤيتها وسماعها، والبعد أضعف بصرا وسمعا من أن يثبت لمشاهدة عذاب القبر، وكثيرا ممن أشهده اللّه ذلك صعق وغشي عليه ولم ينتفع بالعيش زمنا، وبعضهم كشف قناع قلبه فمات، فكيف ينكر في الحكمة الإلهية أسبال غطاء يحول بين المكلفين وبين مشاهدة ذلك، حتى إذا كشف الغطاء رأوه وشاهدوه عيانا.
ثم إن العبد قادر على أن يزيل الزئبق والخردل عن عين الميت وصدره ثم يرده بسرعة، فكيف يعجز عنه الملك، وكيف لا يقدر عليه من هو على كل شيء قدير، وكيف تعجز قدرته على إبقائه في عينيه وعلى صدره لا يسقط عنه، وهل قياس أمر البرزخ على ما يشاهده الناس في الدنيا إلا محض الجهل والضلال، وتكذيب أصدق الصادقين، وتعجيز رب العالمين وذلك غاية الجهل والظلم.
وإذا كان أحدنا يمكنه توسعة القبر عشرة أذرع ومائة ذراع وأكثر طولا وعرضا وعمقا، ويستر توسيعه عن الناس، ويطلع عليه من يشاء، فكيف يعجز رب العالمين أن يوسعه ما يشاء على من يشاء، ويستر ذلك على أعين بني آدم، فيراه بنو آدم عميقا، وهو أوسع شيء وأطيبه ريحا وأعظمه إضاءة ونورا، وهم لا يرون ذلك.
وسر المسألة: أن هذه السعة والضيق والإضاءة والخضرة والنار ليس من جنس المعهود في هذا العالم، واللّه سبحانه إنما أشهد بني آدم في هذه الدار ما كان فيها ومنها، فأما ما كان من أمر الآخرة فقد أسبل عليه الغطاء ليكون الإقرار والإيمان به سببا لسعادتهم، فإذا كان كشف عنهم الغطاء صار عيانا مشاهدا، فلو كان الميت بين الناس موضوعا لم يمتنع أن يأتيه الملكان ويسألانه من غير أن يشعر الحاضرون بذلك، ويجيبهما من غير أن يسمعوا كلامه، ويضربانه من غير أن يشاهد الحاضرون ضربه، وهذا الواحد منا ينام إلى جنب صاحبه فيعذب في النوم ويضرب ويألم، وليس عند المستيقظ خبر من ذلك البتة، وقد سرى أثر الضرب والألم إلى جسده.
ومن أعظم الجهل استبعاد شق الملك الأرض والحجر وقد جعلهما اللّه سبحانه له كالهواء للطير، ولا يلزم من حجبها للأجسام الكثيفة أن تتولج حجبها للأرواح اللطيفة، وهل هَذا إلَّا من أفسد القياس، وبِهَذا وأمْثاله كذبت الرُّسُل صلوات اللّه وسلامه عليهم.
الأمر الثامن: أنه غير ممتنع أن ترد الروح إلى المصلوب والغريق والمحرق ونحن لا نشعر بها، لأن ذلك الرد نوع آخر غير المعهود، فهذا المغمي عليه والمسكوت والمبهوت أحياء، وأرواحهم معهم ولا تشعر بحياتهم، ومن تفرقت أجزاؤه لا يمتنع على من هو على كل شيء قدير أن يجعل للروح اتصالا بتلك الأجزاء على تباعد ما بينها وقربه، ويكون في تلك الأجزاء شعور بنوع من الألم واللذة، وإذا كان اللّه سبحانه وتعالى قد جعل للجمادات شعورا وإدراكا تسبح ربها به، وتسقط الحجارة من خشيته، وتسجد له الجبال والشجر وتسبحه الحصى والمياه والنبات قال تعالى: ﴿وإنْ مِن شَيْ ءٍ إلّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾
ولو كان التسبيح هو مجرد دلالتها على صانعها لم يقل: ﴿ولكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾
فإن كان عاقل يفقه دلالتها على صانعها، وقال تعالى: ﴿إنّا سَخَّرْنا الجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالعَشِيِّ والإشْراقِ﴾
والدلالة على الصانع لا تختص بهذين الوقتين، وكذلك قوله تعالى: ﴿يا جِبالُ أوِّبِي مَعَهُ﴾ والدلالة لا تختص
معيته وحده وكذب على اللّه من قال: التأويب رجع الصدى، فإن هذا يكون لكل مصوت، وقال تعالى: ﴿أ لَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن في السَّماواتِ ومَن في الأرْضِ والشَّمْسُ والقَمَرُ والنُّجُومُ والجِبالُ والشَّجَرُ والدَّوابُّ وكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ﴾
والدلالة على الصانع لا تختص بكثير من الناس، وقد قال تعالى: ﴿ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ والطَّيْرُ صافّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وتَسْبِيحَهُ﴾ فهذه صلاة وتسبيح حقيقة يعلمها اللّه، وإن جحدها الجاهلون المكذبون، وقد أخبر تعالى عن الحجارة أن بعضها يزول عن مكانه ويسقط من خشيته، وقد أخبر عن الأرض والسماء أنهما يأذنان له وقولهما ذلك أي يستمعان كلامه، وأنه خاطبهما فسمعا خطابه وأحسنا جوابه، فقال لهما: ﴿ائْتِيا طَوْعًا أوْ كَرْهًا قالَتا أتَيْنا طائِعِينَ﴾
وقد كان الصحابة يسمعون تسبيح الطعام وهو يؤكل، وسمعوا حنين الجذع اليابس في المسجد، فإذا كانت هذه الأجسام فيها الإحساس والشعور، فالأجسام التي كانت فيها الروح والحياة أولى بذلك، وقد أشهد اللّه سبحانه عباده في هذه الدار إعادة حياة كاملة إلى بدن قد فارقته الروح، فتكلم ومشى وأكل وشرب وتزوج وولد له الَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيارِهِمْ وهم أُلُوفٌ حَذَرَ المَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أحْياهم أوْ كالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وهي خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أنّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ}
وكقتيل بني إسرائيل أو كالذين قالوا لموسى: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرى اللَّهَ جَهْرَةً﴾
فأماتهم اللّه ثم بعثهم من بعد موتهم، وكأصحاب الكهف وقصة إبراهيم في الطيور الأربعة، فإذا أعاد الحياة التامة إلى هذه الأجساد بعد ما بردت بالموت فكيف تمتنع على قدرته الباهرة أن يعيد إليها بعد موتها حياة غير مستقرة يقضي بها ما أمره فيها ويستنطقها بها ويعذبها أو ينعمها بأعمالها، وهل إنكار ذلك إلا مجرد تكذيب وعناد وجحود وباللّه التوفيق.
* [فصل: عدم ذكر القرآن لعذاب القبر]
وهي قول السائل: ما الحكمة في كون عذاب القبر لم يذكر في القرآن مع شدة الحاجة إلى معرفته والإيمان به ليحذر ويتقي؟ فالجواب من وجهين:
مجمل، ومفصل.
أما المجمل: فهو أن اللّه سبحانه وتعالى أنزل على رسوله وحيين، وأوجب على عباده الإيمان بهما، والعمل بما فيهما، وهما الكتاب والحكمة، وقال تعالى وأنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ}
وقال تعالى ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنهم يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ﴾
وقال تعالى ﴿واذْكُرْنَ ما يُتْلى في بُيُوتِكُنَّ مِن آياتِ اللَّهِ والحِكْمَةِ﴾.
والكتاب: هو القرآن، والحكمة: هي السنّة باتفاق السلف، وما أخبر به الرسول عن اللّه فهو في وجوب تصديقه والإيمان به كما أخبر به الرب تعالى على لسان رسوله، هذا أصل متفق عليه بين أهل الإسلام لا ينكر، إلا من ليس منهم.
وقد قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إني أوتيت الكتاب ومثله معه».
وأما الجواب المفصل: فهو أن نعيم البرزخ وعذابه مذكور في القرآن في غير موضع. فمنها قوله تعالى ﴿ولَوْ تَرى إذِ الظّالِمُونَ في غَمَراتِ المَوْتِ والمَلائِكَةُ باسِطُوا أيْدِيهِمْ أخْرِجُوا أنْفُسَكُمُ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلى اللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ وكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ﴾ وهذا خطاب لهم عند الموت، وقد أخبرت الملائكة وهم الصادقون أنهم حينئذ يجزون عذاب الهون، ولو تأخر عنهم ذلك إلى انقضاء الدنيا لما صح أن يقال لهم اليوم تجزون.
ومنها: قوله تعالى ﴿فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ العَذابِ. النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وعَشِيًّا ويَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ أدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أشَدَّ العَذابِ﴾
فذكر عذاب الدارين ذكرا صريحا لا يحتمل غيره.
(ومنها) قوله تعالى فَذَرْهم حَتّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ. يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهم كَيْدُهم شَيْئًا ولا هم يُنْصَرُونَ. وإنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذابًا دُونَ ذلِكَ ولكِنَّ أكْثَرَهم لا يَعْلَمُونَ} «٣» وهذا يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا، وأن يراد به عذابهم في البرزخ، وهو أظهر، لأن كثيرا منهم مات ولم يعذب في الدنيا، وقد يقال وهو أظهر: إن من مات منهم عذاب في البرزخ، ومن بقي منها عذب في الدنيا بالقتل وغيره، فهو وعيد بعذابهم في الدنيا وفي البرزخ.
(ومنها) قوله تعالى ﴿ولَنُذِيقَنَّهم مِنَ العَذابِ الأدْنى دُونَ العَذابِ الأكْبَرِ لَعَلَّهم يَرْجِعُونَ﴾
وقد احتج بهذه الآية جماعة منهم عبد اللّه بن عباس على عذاب القبر وفي الاحتجاج بها شيء، لأن هذا عذاب في الدنيا يستدعي به رجوعهم عن الكفر، ولم يكن هذا مما يخفى على حبر الأمة وترجمان القرآن، ولكن فقهه في القرآن ودقة فهمه فيه فهم منها عذاب القبر، فإنه سبحانه أخبر أن له فيهم عذابين أدنى وأكبر، فأخبر أنه يذيقهم بعض الأدنى ليرجعوا، فدل على أنه بقي لهم من الأدنى بقية يعذبون بها بعد عذاب الدنيا، ولهذا قال: من العذاب الأدنى، ولم يقل ولنذيقنهم العذاب الأدنى فتأمله.
وهذا نظير قول النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «فيفتح له طاقة إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها»، ولم يقل: فيأتيه حرها وسمومها، فإن الذي وصل إليه بعض ذلك وبقي له أكثره، والذي ذاقه أعداء اللّه في الدنيا بعض العذاب وبقي لهم ما هو أعظم منه.
(ومنها) قوله تعالى: ﴿فَلَوْلا إذا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ (٨٣) وأنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) ونَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ مِنكم ولَكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْلا إنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) فَأمّا إنْ كانَ مِنَ المُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ ورَيْحانٌ وجَنَّتُ نَعِيمٍ (٨٩) وأمّا إنْ كانَ مِن أصْحابِ اليَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِن أصْحابِ اليَمِينِ (٩١) وأمّا إنْ كانَ مِنَ المُكَذِّبِينَ الضّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِن حَمِيمٍ (٩٣) وتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إنَّ هَذا لَهو حَقُّ اليَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ العَظِيمِ (٩٦)﴾.
فذكر هاهنا أحكام الأرواح عند الموت، وذكر في أول السورة أحكامها يوم المعاد الأكبر، وقدم ذلك على هذا تقديم الغاية للعناية، إذ هي أهم وأولى بالذكر، وجعلهم عند الموت ثلاثة أقسام، كما جعلهم في الآخرة ثلاثة أقسام.
(ومنها) قوله تعالى: ﴿يا أيَّتُها النَّفْسُ المُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فادْخُلِي في عِبادِي وادْخُلِي جَنَّتِي﴾
وقد اختلف السلف: متى يقال لها ذلك؟ فقالت طائفة: يقال لها عند الموت، وظاهر اللفظ مع هؤلاء، فإنه خطاب للنفس التي تجردت عن البدن وخرجت منه، وقد فسر ذلك النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بقوله في حديث البراء وغيره: فيقال لها اخرجي راضية مرضيا عنك، وسيأتي تمام تقرير في هذا في المسألة التي يذكر فيها مستقر الأرواح في البرزخ إن شاء اللّه تعالى وقوله تعالى فادْخُلِي في عِبادِي مطابق لقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «اللهم الرفيق الأعلى».
وأنت إذا تأملت أحاديث عذاب القبر ونعيمه وجدتها تفصيلا وتفسيرا لما دل عليه القرآن وباللّه التوفيق.
{"ayahs_start":45,"ayahs":["فَوَقَىٰهُ ٱللَّهُ سَیِّـَٔاتِ مَا مَكَرُوا۟ۖ وَحَاقَ بِـَٔالِ فِرۡعَوۡنَ سُوۤءُ ٱلۡعَذَابِ","ٱلنَّارُ یُعۡرَضُونَ عَلَیۡهَا غُدُوࣰّا وَعَشِیࣰّاۚ وَیَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدۡخِلُوۤا۟ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ أَشَدَّ ٱلۡعَذَابِ"],"ayah":"ٱلنَّارُ یُعۡرَضُونَ عَلَیۡهَا غُدُوࣰّا وَعَشِیࣰّاۚ وَیَوۡمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدۡخِلُوۤا۟ ءَالَ فِرۡعَوۡنَ أَشَدَّ ٱلۡعَذَابِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق