الباحث القرآني

قرأ أهل الكوفة «وَصُدَّ» على البناء للمفعول، حملا على «زُيِّنَ» وقرأه الباقون «وَصَدَّ» بفتح الصاد، ويحتمل معنيين. أحدهما: أعرض، فيكون لازما. والثاني: يكون صد ومنع غيره، فيكون متعديا، والقراءتان كالآيتين لا يتناقضان. وأما الشد على القلب ففي قوله تعالى: {وَقالَ مُوسى رَبَّنا إنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ ومَلَأهُ زِينَةً وأمْوالًا في الحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنا اطْمِسْ عَلى أمْوالِهِمْ واشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتّى يَرَوُا العَذابَ الألِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فاسْتَقِيما ... (٨٩). فهذا الشد على القلب: هو الصد والمنع. ولهذا قال ابن عباس: يريد منعها، والمعنى قسّها واطبع عليها، حتى لا تلين، ولا تنشرح للإيمان. وهذا مطابق لما في التوراة: إن الله سبحانه قال لموسى: اذهب إلى فرعون، فإني سأقسي قلبه، فلا يؤمن حتى أظهر آياتي وعجائبي بمصر. وهذا الشد والتقسية، من كمال عدل الرب سبحانه في أعدائه، فإنه جعله عقوبة لهم على كفرهم وإعراضهم، كعقوبته لهم بالمصائب، ولهذا كان محمودا، فهو حسن منه، وأقبح شيء منهم، فإنه عدل منه وحكمة، وهو ظلم منهم وسفه. فالقضاء والقدر فعل عادل حكيم غني عليم، يضع الخير والشر في أليق المواضع لهما والمقضي المقدر يكون من العبد ظلما وجورا وسفها، وهو فعل جاهل ظالم سفيه. * (فصل) قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَقالَ فِرْعَوْنُ ياهامانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أبْلُغُ الأسْبابَ أسْبابَ السَّماواتِ فَأطَّلِعَ إلى إلَهِ مُوسى﴾ دَلَّ عَلى أنَّ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَ يَقُولُ: إلَهِي في السَّماءِ وفِرْعَوْنُ يَظُنُّهُ كاذِبًا، فَإنِ احْتَجَّ أحَدٌ عَلَيْنا فِيما قَدَّمْناهُ. وَقالَ: لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَأشْبَهَ المَخْلُوقاتِ لَأنَّ ما أحاطَتْ بِهِ الأمْكِنَةُ واحْتَوَتْهُ فَهو مَخْلُوقٌ، فَشَيْءٌ لا يَلْزَمُ ولا مَعْنى لَهُ لِأنَّهُ تَعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ مِن خَلْقِهِ ولا يُقاسُ بِشَيْءٍ مِن بَرِّيَّتِهِ، ولا يُدْرَكُ بِقِياسٍ ولا يُقاسُ بِالنّاسِ كانَ قَبْلَ الأمْكِنَةِ ويَكُونُ بَعْدَها لا إلَهَ إلّا هو خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا شَرِيكَ لَهُ، وقَدِ اتَّفَقَ المُسْلِمُونَ وكُلُّ ذِي لُبٍّ أنَّهُ لا يَعْقِلُ كائِنٌ إلّا في مَكانٍ ما وما لَيْسَ في مَكانٍ فَهو عَدَمٌ وقَدْ صَحَّ في العُقُولِ وثَبَتَ بِالدَّلائِلِ أنَّهُ كانَ في الأزَلِ لا في مَكانٍ ولَيْسَ بِمَعْدُومٍ فَكَيْفَ يُقاسُ عَلى شَيْءٍ مِن خَلْقِهِ؟ أوْ يَجْرِي بَيْنَهُ وبَيْنَهم تَمْثِيلٌ أوْ تَشْبِيهٌ؟ تَعالى اللَّهُ عَمّا يَقُولُ الظّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإنْ قالَ قائِلٌ: إذا وصَفْنا رَبَّنا تَعالى أنَّهُ كانَ في الأزَلِ لا في مَكانٍ ثُمَّ خَلَقَ الأماكِنَ فَصارَ في مَكانٍ وفي ذَلِكَ إقْرارٌ مِنّا بِالتَّغْيِيرِ والِانْتِقالِ إذْ زالَ عَنْ صِفَتِهِ في الأزَلِ وصارَ في مَكانٍ دُونَ مَكانٍ. قِيلَ لَهُ: وكَذَلِكَ " زَعَمْتَ " أنْتَ أنَّهُ كانَ لا في مَكانٍ ثُمَّ صارَ في كُلِّ مَكانٍ فَنَقَلَ صِفَتَهُ مِنَ الكَوْنِ لا في مَكانٍ إلى صِفَةٍ هي الكَوْنُ في كُلِّ مَكانٍ فَقَدْ تَغَيَّرَ عِنْدَكَ مَعْبُودٌ وانْتَقَلَ مِن لا مَكانَ إلى كُلِّ مَكانٍ فَإنْ قالَ: إنَّهُ كانَ في الأزَلِ في كُلِّ مَكانٍ كَما هو الآنَ فَقَدْ أوْجَبَ الأماكِنَ والأشْياءَ مَوْجُودَةً مَعَهُ في أزَلِيَّتِهِ وهَذا فاسِدٌ. فَإنْ قالَ: فَهَلْ يَجُوزُ عِنْدَكَ أنْ يَنْتَقِلَ مَن لا مَكانَ في الأزَلِ إلى مَكانٍ. قِيلَ لَهُ: أمّا الِانْتِقالُ وتَغَيُّرُ الحالِ فَلا سَبِيلَ إلى إطْلاقِ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِأنَّ كَوْنَهُ في الأزَلِ لا يُوجِبُ مَكانًا وكَذَلِكَ نَقْلَتُهُ لا تُوجِبُ مَكانًا ولَيْسَ في ذَلِكَ كالخَلْقِ لِأنَّ كَوْنَ ما كَوْنُهُ يُوجِبُ " مَكانًا " مِنَ الخَلْقِ ونَقْلَتُهُ تُوجِبُ مَكانًا ويَصِيرُ مُنْتَقِلًا مِن مَكانٍ إلى مَكانٍ واللَّهُ تَعالى لَيْسَ كَذَلِكَ. . . ولَكِنّا نَقُولُ: اسْتَوى مِن لا مَكانَ إلى مَكانٍ ولا نَقُولُ: انْتَقَلَ وإنْ كانَ المَعْنى في ذَلِكَ واحِدًا. كَما نَقُولُ: لَهُ عَرْشٌ ولا نَقُولُ: لَهُ سَرِيرٌ، ونَقُولُ: هو الحَكِيمُ ولا نَقُولُ: هو العاقِلُ، ونَقُولُ: خَلِيلُ إبْراهِيمَ ولا نَقُولُ: صَدِيقُ إبْراهِيمَ، وإنْ كانَ المَعْنى في ذَلِكَ واحِدًا لِأنّا لا نُسَمِّيهِ ولا نَصِفُهُ ولا نُطْلِقُ عَلَيْهِ إلّا ما سَمّى بِهِ نَفْسَهُ عَلى ما تَقَدَّمَ، ولا نَدْفَعُ ما وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ لِأنَّهُ دَفْعٌ لِلْقُرْآنِ وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَجاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر: ٢٢] وَلَيْسَ مَجِيئُهُ حَرَكَةً ولا زَوالًا ولا انْتِقالًا لِأنَّ ذَلِكَ إنَّما يَكُونُ إذا كانَ الجائِيُ جِسْمًا أوْ جَوْهَرًا فَلَمّا ثَبَتَ أنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ ولا جَوْهَرٍ ولا عَرَضٍ لَمْ يَجِبْ أنْ يَكُونَ مَجِيئُهُ حَرَكَةً ولا نَقْلَةً، ولَوِ اعْتَبَرْتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ جاءَتْ فُلانًا قِيامَتُهُ، وجاءَهُ المَوْتُ، وجاءَهُ المَرَضُ، وشِبْهُ ذَلِكَ مِمّا هو مَوْجُودٌ نازِلٌ بِهِ ولا مَجِيءَ، لَبانَ لَكَ وبِاللَّهِ العِصْمَةُ والتَّوْفِيقُ. فَإنْ قالَ: إنَّهُ لا يَكُونُ مُسْتَوِيًا عَلى مَكانٍ إلّا مَقْرُونًا بِالكَيْفِ قِيلَ لَهُ: قَدْ يَكُونُ الِاسْتِواءُ واجِبًا والتَّكْيِيفُ مُرْتَفِعٌ ولَيْسَ رَفْعُ التَّكْيِيفِ يُوجِبُ رَفْعَ الِاسْتِواءِ ولَوْ لَزِمَ هَذا لَزِمَ التَّكْيِيفُ في الأزَلِ، لِأنَّهُ لا يَكُونُ كائِنًا في مَكانٍ ولا مَقْرُونًا بِالتَّكْيِيفِ. فَإنْ قالَ إنَّهُ كانَ ولا مَكانَ وهو غَيْرُ مَقْرُونٍ بِالتَّكْيِيفِ وقَدْ عَقَلْنا وأدْرَكْنا بِحَواسِّنا أنَّ لَنا أرْواحًا في أبْدانِنا ولا نَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ ولَيْسَ جَهْلُنا بِكَيْفِيَّةِ الأرْواحِ يُوجِبُ أنْ لَيْسَ لَنا أرْواحٌ وكَذَلِكَ لَيْسَ جَهْلُنا بِكَيْفِيَّتِهِ عَلى عَرْشِهِ يُوجِبُ أنَّهُ لَيْسَ عَلى عَرْشِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أبِي رَزِينٍ العُقَيْلِيِّ قالَ: «قُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ أيْنَ كانَ رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالى قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السَّماواتِ والأرْضَ؟ قالَ كانَ في عَماءٍ ما فَوْقَهُ هَواءٌ». قالَ أبُو القاسِمِ العَماءُ: مَمْدُودٌ وهو السَّحابُ، والعَمى مَقْصُورٌ: الظُّلْمَةُ، وقَدْ رُوِيَ الحَدِيثُ بِالمَدِّ والقَصْرِ فَمَن رَواهُ بِالمَدِّ فَمَعْناهُ عِنْدَهُ كانَ في عَماءِ سَحابٍ ما تَحْتَهُ وما فَوْقَهُ هَواءٌ والهاءُ راجِعَةٌ عَلى العَماءِ ومَن رَواهُ بِالقَصْرِ فَمَعْناهُ عِنْدَهُ كانَ في عَمى عَنْ خَلْقِهِ لِأنَّهُ مِن عَمِيَ عَنْ شَيْءٍ فَقَدْ أظْلَمَ عَنْهُ. قالَ سُنَيْدٌ بِسَنَدِهِ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: إنَّ بَيْنَ العَرْشِ وبَيْنَ المَلائِكَةِ لَسَبْعِينَ حِجابًا مِن نُورٍ وحِجابًا مِن ظُلْمَةٍ، ورَوى أيْضًا سُنَيْدٌ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: ما بَيْنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، وما بَيْنَ كُلِّ سَماءٍ إلى الأُخْرى مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، وما بَيْنَ السَّماءِ السّابِعَةِ إلى الكُرْسِيِّ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، " وما بَيْنَ الكُرْسِيِّ إلى الماءِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عامٍ "، والعَرْشُ عَلى الماءِ واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلى العَرْشِ ويَعْلَمُ أعْمالَكم. وَقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أيْضًا: إنَّهُ فَوْقَ العَرْشِ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِن أعْمالِكم. قالَ أبُو القاسِمِ: يُرِيدُ فَوْقَ العَرْشِ، لِأنَّ العَرْشَ آخِرُ المَخْلُوقاتِ لَيْسَ فَوْقَهُ مَخْلُوقٌ واللَّهُ تَعالى عَلى المَخْلُوقاتِ دُونَ تَكْيِيفٍ ولا مُماسَّةٍ ولا أعْلَمُ في هَذا البابِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا إلّا حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمِيرَةَ عَنِ الأحْنَفِ عَنِ العَبّاسِ بْنِ عَبَدِ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَظَرَ إلى سَحابَةٍ فَقالَ ما تُسَمُّونَ هَذِهِ؟ قالُوا: السَّحابُ، قالَ: والمُزْنُ. قالُوا: والمُزْنُ. قالَ: والعَنانُ. قالُوا: والعَنانُ قالَ: كَمْ تَرَوْنَ بَيْنَكم وبَيْنَ السَّماءِ؟ قالُوا لا نَدْرِي، قالَ بَيْنَكم وبَيْنَهُ إمّا واحِدٌ أوِ اثْنانِ أوْ ثَلاثٌ وسَبْعُونَ سَنَةً والسَّماءُ فَوْقَها كَذَلِكَ بَيْنَهُما مِثْلُ ذَلِكَ حَتّى عَدَّ سَبْعَ سَماواتٍ ثُمَّ فَوْقَ السَّماءِ السّابِعَةِ بَحْرٌ أعْلاهُ وأسْفَلُهُ كَما بَيْنَ سَماءٍ إلى سَماءٍ ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ ثَمانِيَةُ أوْعالٍ بَيْنَ أظْلافِهِمْ ورُكَبِهِمْ مِثْلُ ما بَيْنَ سَماءٍ إلى سَماءٍ عَلى ظُهُورِهِمُ العَرْشُ بَيْنَ أسْفَلِهِ وأعْلاهُ مِثْلُ ما بَيْنَ سَماءٍ إلى سَماءٍ ثُمَّ اللَّهُ تَعالى فَوْقَ ذَلِكَ» هَذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ أخْرَجَهُ أبُو داوُدَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب