الباحث القرآني
* (فصل)
قال أبو محمد بن حزم في كتاب (الملل والنحل) له: وأما من ظن أن الميت يحيا في قبره قبل يوم القيامة فخطأ، إن الآيات التي ذكرناها تمنع من ذلك، يعني قوله تعالى ﴿قالُوا رَبَّنا أمَتَّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ﴾
وقوله تعالى ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وكُنْتُمْ أمْواتًا فَأحْياكم ثُمَّ يُمِيتُكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾
قال: ولو كان الميت يحيا في قبره لكان تعالى قد أماتنا ثلاثا ثم أحيانا ثلاثا، وهذا باطل وخلاف القرآن إلا من أحياه اللّه تعالى آية لنبي من الأنبياء كالذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم اللّه موتوا، ثم أحياهم، والذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، ومن خصه نص، وكذلك قوله تعالى ﴿اللَّهُ يَتَوَفّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِها والَّتِي لَمْ تَمُتْ في مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْها المَوْتَ ويُرْسِلُ الأُخْرى إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾
فصح بنص القرآن أن أرواح سائر من ذكرنا لا ترجع إلى جسده إلا إلى الأجل المسمى وهو يوم القيامة، وكذلك أخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم أنه رأى الأرواح ليلة أسري به عند سماء الدنيا من عن يمين آدم أرواح أهل السعادة، وعن شماله أرواح أهل الشقاوة، وأخبر يوم بدر إذ خاطب الموتى أنهم قد سمعوا قوله قبل أن تكون لهم قبور، ولم ينكر على الصحابة قولهم قد جيفوا، واعلم أنهم سامعون قوله مع ذلك، فصح أن الخطاب والسماع لأرواحهم فقط بلا شك، وأما الجسد فلا حس له وقد قال تعالى ﴿وما أنْتَ بِمُسْمِعٍ مَن في القُبُورِ﴾
فنفي السمع عمن في القبور وهي الأجساد بلا شك، ولا يشك مسلم أن الذي نفى اللّه عز وجل عنه السمع هو غير الذي أثبت له رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم السمع.
قال: ولم يأت قط عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في خبر صحيح أن أرواح الموتى ترد إلى أجسادهم عند المسألة، ولو صح ذلك عنه لقلنا به قال وإنما تفرد بهذه الزيادة من رد الأرواح في القبور إلى الأجساد منهال بن عمرو وحده، وليس بالقوي، تركه شعبة وغيره، وقال فيه المغيرة بن مقسم الضبي وهو أحد الأئمة: ما جازت للمنهال بن عمرو قط شهادة في الإسلام، على ما قد نقل وسائر الأخبار الثابتة على خلاف ذلك.
قال: وهذا الذي قلنا هو الذي صح أيضا عن الصحابة.
ثم ذكر من طريق ابن عيينة عن منصور بن صفية عن أمه صفية بنت شيبة قالت: دخل ابن عمر المسجد، فأبصر ابن الزبير مطروحا قبل أن يقبر، فقيل له:
هذه أسماء بنت أبي بكر الصديق، فمال ابن عمر إليها فعزاها، وقال: إن هذه الجثث ليست بشيء، وإن الأرواح عند اللّه، فقالت أمه: وما يمنعني وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
(قلت) ما ذكره أبو محمد فيه حق وباطل، وأما قوله: من ظن أن الميت يحيا في قبره فخطأ، فهذا فيه إجمال إن أراد به الحياة المعهودة في الدنيا التي تقوم فيها الروح بالبدن وتدبره وتصرفه ويحتاج معها إلى الطعام والشراب واللباس فهذا خطأ كما قال والحس والعقل يكذبه كما يكذبه النص.
وإن أراد به حياة أخرى غير هذه الحياة، بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا ليسأل ويمتحن في قبره فهذا حق ونفيه خطأ، وقد دل عليه النص الصحيح الصريح وهو قوله صلى اللّه عليه وآله وسلم: «فتعاد في جسده»، وسنذكر الجواب عن تضعيفه للحديث إن شاء اللّه تعالى.
وأما استدلاله بقوله تعالى: ﴿قالُوا رَبَّنا أمَتَّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ﴾
فلا ينفي هذه الإعادة العارضة للروح في الجسد، كما أن قتيل بني إسرائيل الذي أحياه اللّه بعد قتله ثم أماته لم تكن تلك الحياة العارضة له للمسألة معتدا بها، فإنه حي لحظة بحيث قال: فلان قتلني ثم خرّ ميتا}
على أن قوله: ثم تعاد روحه في جسده لا يدل على حياة مستقرة، وإنما يدل على إعادة لها إلى البدر وتعلق به الروح لم تزل متعلقة ببدنها وإن بلي وتمزق.
وسر ذلك أن الروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق مغايرة الأحكام:
(أحدها) تعلقها به في بطن الأم جنينا.
(الثاني) تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض.
(الثالث) تعلقها به في حال النوم فلها به تعلق من وجه ومفارقة من وجه.
(الرابع) تعلقها به في البرزخ فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقا كليا بحيث لا يبقى لها التفات إليه البتة، وقد ذكرنا في أول الجواب من الأحاديث والآثار ما يدل على ردها إليه وقت سلام المسلم، وهذا الرد إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة.
(الخامس) تعلقها به يوم بعث الأجساد وهو أكمل أنواع تعلقها بالبدن ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا فسادا.
وأما قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِها والَّتِي لَمْ تَمُتْ في مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْها المَوْتَ ويُرْسِلُ الأُخْرى إلى أجَلٍ مُسَمًّى﴾
فإمساكه سبحانه التي قضى عليها الموت لا ينافي ردها إلى جسدها الميت في وقت ما ردا عارضا لا يوجب له الحياة المعهودة في الدنيا.
وإذا كان النائم روحه في جسده وهو حي وحياته غير حياة المستيقظ، فإن النوم شقيق الموت، فهكذا الميت إذا أعيدت روحه إلى جسده كانت حاله متوسطة بين الحي والميت الذي لم ترد روحه إلى بدنه، كحال النائم المتوسطة بين الحي والميت، فتأمل هذا يزيح عنك إشكالات كثيرة.
وأما إخبار النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم عن رؤية الأنبياء ليلة أسري به، فقد زعم بعض أهل الحديث أن الذي رآه أشباحهم وأرواحهم قال: فإنهم أحياء عند ربهم، وقد رأى إبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور ورأى موسى قائما في قبره يصلي، وقد نعت الأنبياء لما رآهم نعت الأشباح فرأى موسى آدما ضربا طوالا كأنه من رجال شنوءة، ورأى عيسى يقطر رأسه كأنما أخرج من ديماس.
ورأى إبراهيم فشبهه بنفسه.
ونازعهم في ذلك آخرون وقالوا: هذه الرؤية إنما هي لأرواحهم دون أجسادهم، والأجساد في الأرض قطعا، إنما تبعث يوم بعث الأجساد، ولم تبعث قبل ذلك، إذ لو بعثت قبل ذلك لكانت قد انشقت عنها الأرض قبل يوم القيامة، وكانت تذوق الموت عند نفخة الصور، وهذه موتة ثالثة، وهذا باطل قطعا، ولو كانت قد بعثت الأجساد من القبور لم يعدهم اللّه إليها بل كانت في الجنة، وقد صح عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم: «إن اللّه حرم الجنة على الأنبياء حتى يدخلها هو، وهو أول من يستفتح باب الجنة، وهو أول من تنشق عنه الأرض على الإطلاق لم تنشق عن أحد قبله».
ومعلوم بالضرورة أن جسده صلى اللّه عليه وآله وسلم في الأرض طري مطرا، وقد سأله الصحابة: كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال: «إن اللّه قد حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء».
ولو لم يكن جسده في ضريحه لما أجاب بهذا الجواب.
وقد صح عنه أن اللّه وكّل بقبره ملائكة يبلغونه عن أمته السلام.
وصح عنه أنه خرج بين أبي بكر وعمر وقال: «هكذا نبعث».
هذا مع القطع بأن روحه الكريمة في الرفيق الأعلى في أعلى عليين مع أرواح الأنبياء.
وقد صح عنه أنه رأى موسى قائما يصلي في قبره ليلة الإسراء، ورآه في السماء السادسة أو السابعة، فالروح كانت هناك ولها اتصال بالبدن في القبر وإشراف عليه وتعلق به بحيث يصلي في قبره ويرد سلام من سلّم عليه، وهي في الرفيق الأعلى.
ولا تنافي بين الأمرين، فإن شأن الأرواح غير شأن الأبدان، وأنت تجد الروحين المتماثلتين المناسبتين في غاية التجاور والقرب، ولو كان بينهما بعد المشرقين، وتجد الروحين المتنافرتين المتباغضتين بينهما غاية البعد، وإن كان جسداهما متجاورين متلاصقين.
وليس نزول الروح وصعودها وقربها وبعدها من جنس ما للبدن، فإنها تصعد إلى ما فوق السماوات ثم تهبط على الأرض ما بين قبضها ووضع الميت في قبره وهو زمن يسير لا يصعد البدن وينزل في مثله، وكذلك صعودها وعودها إلى البدن في النوم واليقظة، وقد مثلها بعضهم بالشمس وشعاعها، فإنها في السماء وشعاعها في الأرض، وقال شيخنا: وليس هذا مثلا مطابقا، فإن نفس الشمس لا تنزل من السماء، والشعاع الذي على الأرض ليس هو الشمس ولا صفتها، بل هو عرض حصل بسبب الشمس والجرم المقابل لها، والروح نفسها تصعد وتنزل، وأما قول الصحابة للنبي صلى اللّه عليه وآله وسلم في قتلى بدر: كيف تخاطب أقواما قد جيفوا؟ مع إخباره بسماعهم كلامه، فلا ينفي ذلك رد أرواحهم إلى أجسادهم ذلك الوقت ردا يسمعون به خطابه والأجساد قد جيفت، فالخطاب للأرواح المتعلقة بتلك الأجساد التي قد فسدت.
وأما قوله تعالى: ﴿وما أنْتَ بِمُسْمِعٍ مَن في القُبُورِ﴾
فسياق الآية يدل على أن المراد منها أن الكافر الميت القلب لا تقدر على إسماعه إسماعا ينتفع به، كما أن من في القبور لا تقدر على إسماعهم إسماعا ينتفعون به، ولم يرد سبحانه أن أصحاب القبور لا يسمعون شيئا البتة، كيف وقد أخبر النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنهم يسمعون خفق نعال المشيعين.
وأخبر أن قتلى بدر سمعوا كلامه وخطابه وشرع السلام عليهم بصيغة الخطاب للحاضر الذي يسمع، وأخبر أن من سلم على أخيه المؤمن رد عليه السلام.
هذه الآية نظير قوله: ﴿إنَّكَ لا تُسْمِعُ المَوْتى ولا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إذا ولَّوْا مُدْبِرِينَ﴾
وقد يقال: نفي إسماع الصم مع نفي إسماع الموتى يدل على أن المراد عدم أهلية كل منهما للسماع، وأن قلوب هؤلاء لما كانت ميتة صماء كان إسماعها ممتنعا بمنزلة خطاب الميت والأصم، وهذا حق. ولكن لا ينفي إسماع الأرواح بعد الموت إسماع توبيخ وتقريع بواسطة تعلقها بالأبدان في وقت ما، فهذا غير الإسماع المنفي واللّه أعلم. وحقيقة المعنى أنك لا تستطيع أن تسمع من لم يشأ اللّه أن يسمعه إن أنت إلا نذير أي إنما جعل اللّه لك الاستطاعة على الإنذار الذي كلفك إياه لا على إسماع من لم يشأ اللّه إسماعه.
وأما قوله: إن الحديث لا يصح لتفرد المنهال بن عمرو وحده به وليس بالقوي، فهذا من مجازفته رحمه اللّه، فالحديث صحيح لا شك فيه، وقد رواه عن البراء بن عازب جماعة غير زاذان، منهم عدي بن ثابت، ومحمد بن عقبة، ومجاهد.
(قال) الحافظ أبو عبد اللّه بن منده في كتاب (الروح والنفس) أخبرنا محمد بن يعقوب بن يوسف، حدثنا محمد بن إسحاق الصفار، أنبأنا أبو النضر هاشم بن القاسم، حدثنا عيسى بن المسيب عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب، قال: خرجنا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلسنا وجلس كأن على أكتافنا فلق الصخر، وعلى رءوسنا الطير فأرم قليلا، والإرمام السكوت، فلما رفع رأسه قال:
} «إن المؤمن إذا كان في قبل من الآخرة ودبر من الدنيا وحضره ملك الموت نزلت عليه ملائكة معهم كفن من الجنة وحنوط من الجنة فجلسوا مد البصر، وجاء ملك الموت فجلس عند رأسه ثم قال: أخرجي أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى رحمة اللّه ورضوانه، فتنسل نفسه كما تقطر القطرة من السقاء، فإذا خرجت نفسه صلى عليه كل من بين السماء والأرض إلا الثقلين، ثم يصعد به إلى السماء فتفتح له السماء ويشيعه مقربوها إلى السماء الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة إلى العرش مقربو كل سماء، فإذا انتهى إلى العرش كتب كتابه في عليين ويقول الرب عز وجل: ردوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدته أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فيرد إلى مضجعه فيأتيه منكر ونكير يثيران الأرض بأنيابهما، ويفحصان الأرض بأشعارهما فيجلسانه ثم يقال له: يا هذا من ربك؟ فيقول: ربي اللّه، فيقولان: صدقت، ثم يقال له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان: صدقت، ثم يقال له: من نبيك؟ فيقول: محمد رسول اللّه، فيقولان: صدقت، ثم يفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه طيب الريح حسن الثياب فيقول: جزاك اللّه خيرا، فو اللّه ما علمت إن كنت لسريعا في طاعة اللّه بطيئا عن معصية اللّه، فيقول: وأنت فجزاك اللّه خيرا فمن أنت؟ فيقول:
أنا عملك الصالح، ثم يفتح له باب إلى الجنة فينظر إلى مقعده ومنزله منها حتى تقوم الساعة، وإن الكافر إذا كان في دبر من الدنيا وقبل من الآخرة وحضره الموت، نزلت عليه من السماء ملائكة معهم كفن النار وحنوط من نار قال:
فيجلسون منه مد بصره، وجاء ملك فيجلس عند رأسه ثم يقول: أخرجي أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى غضب اللّه وسخطه، فتفرق روحه في جسده كراهية أن تخرج لما ترى وتعاين، فيستخرجها كما يستخرج السفود من الصوف المبلول، فإذا خرجت نفسه لعنه كل شيء بين السماء والأرض إلا الثقلين.
ثم يصعد به إلى السماء فتعلق دونه، فيقول الرب عز وجل: ردوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى فترد روحه إلى مضجعه، فيأتيه منكر ونكير يثيران الأرض بأنيابهما ويفحصان الأرض بأشعارهما أصواتهما كالرعد القاصف، وأبصارهما كالبرق الخاطف، فيجلسانه ثم يقولان: يا هذا من ربك؟ فيقول: لا أدري، فينادي من جانب القبر لا دريت، فيضربانه بمرزبة من حديد، لو اجتمع عليها من بين الخافقين.
لم تقل، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول:
جزاك اللّه شرا، فو اللّه ما علمت إن كنت لبطيئا عن طاعة اللّه سريعا في معصية اللّه، فيقول: ومن أنت؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، ثم يفتح له باب إلى النار فينظر في مقعده فيها حتى تقوم الساعة»
رواه الإمام أحمد ومحمود بن أبي غيلان وغيرهما عن أبي النضر.
ففيه أن الأرواح تعاد إلى القبر، وأن الملكين يجلسان الميت ويستنطقانه (ثم ساقه) ابن منده من طريق محمد بن سلمة عن خصيف الجزري عن مجاهد عن البراء بن عازب قال: كنا في جنازة رجل من الأنصار، ومعنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فانتهينا إلى القبر ولم يلحد، ووضعت الجنازة، وجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فقال:
«إن المؤمن إذا احتضر أتاه ملك الموت في أحسن صورة وأطيبه ريحا فجلس عنده لقبض روحه، وأتاه ملكان بحنوط من الجنة، وكفن من الجنة، وكانا منه على بعيد، فاستخرج ملك الموت روحه من جسده رشحا، فإذا صارت إلى ملك الموت ابتدرها الملكان، فأخذاها منه فحنطاها بحنوط من الجنة، وكفناها بكفن من الجنة، ثم عرجا به إلى الجنة، فتفتح له أبواب السماء، وتستبشر الملائكة بها، ويقولون: لمن هذه الروح الطيبة التي فتحت لها أبواب السماء؟ ويسمى بأحسن الأسماء التي كان يسمى بها في الدنيا، فيقال: هذه روح فلان، فإذا صعد بها إلى السماء شيعها مقربو كل سماء، حتى توضع بين يدي اللّه عند العرش، فيخرج عملها من عليين، فيقول اللّه عز وجل للمقربين: اشهدوا أني قد غفرت لصاحب هذا العمل ويختم كتابه فيرد في عليين، فيقول اللّه عز وجل: ردوا روح عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني أردهم فيها، ثم قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ﴿مِنها خَلَقْناكم وفِيها نُعِيدُكم ومِنها نُخْرِجُكم تارَةً أُخْرى﴾
فإذا وضع المؤمن في قبره فتح له باب عند رجليه إلى الجنة، فيقال له: أنظر إلى ما أعد اللّه لك من الثواب، ويفتح له باب عند رأسه إلى النار، فيقال له: انظر ما صرف اللّه عنك من العذاب، ثم يقال له: نم قرير العين فليس شيء أحب إليه من قيام الساعة»
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
«إذا وضع المؤمن في لحده تقول له الأرض: إن كنت لحبيبا إلي وأنت على ظهري فكيف إذا صرت اليوم في بطني، سأريك ما أصنع بك، فيفسح له في قبره مد بصره»
وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم:
«إذا وضع الكافر في قبر أتاه منكر ونكير فيجلسانه فيقولان له من ربك؟ فيقول: لا أدري، فيقولان له:
لا دريت، فيضربانه ضربة فيصير رمادا، ثم يعاد فيجلس، فيقال له: ما قوله في هذا الرجل؟
فيقول: أي رجل، فيقولان محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم فيقول: قال الناس إنه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم فيضربانه ضربة فيصير رمادا».
هذا حديث ثابت مشهور مستفيض، صححه جماعة من الحفّاظ، ولا نعلم أحد من ائمة الحديث طعن فيه، بل رووه في كتبهم، وتلقوه بالقبول، وجعلوه أصلا من أصول الدين في عذاب القبر ونعيمه، ومساءلة منكر ونكير، وقبض الأرواح وصعودها إلى بين يدي اللّه، ثم رجوعها إلى القبر، وقول أبي محمد لم يروه غير زاذان فوهم منه، بل رواه عن البراء غير زاذان، ورواه عنه عدي بن ثابت، ومجاهد بن جبير، ومحمد بن عقبة وغيرهم. وقد جمع الدار قطني طرقه في مصنف مفرد، وزاذان من الثقات، روي عن أكابر الصحابة كعمر وغيره، وروى له مسلم في صحيحه، قال يحيى بن معين: ثقة حميد بن هلال.
وقد سئل عنه هو ثقة لا تسأل عن مثل هؤلاء، وقال ابن عدي: أحاديثه لا بأس بها إذا روى عن ثقة.
وقوله أن المنهال بن عمرو تفرد بهذه الزيادة وهي قوله فتعاد روحه في جسده وضعفه. فالمنهال أحد الثقات العدول، قال ابن معين: المنهال ثقة، وقال العجلي: كوفي ثقة.
وأعظم ما قيل فيه أنه سمع من بيته صوت غناء، وهذا لا يوجب القدح في روايته، واطراح حديثه وتضعيف ابن حزم له لا شيء فإنه لم يذكر موجبا لتضعيفه غير تفرده بقوله: فتعاد روحه في جسده، وقد بينا أنه لم يتفرد بها بل قد رواها غيره.
وقد روى ما هو أبلغ منها أو نظيرها كقوله: فترد إليه روحه، وقوله: فتصير إلى قبر فيستوي جالسا، وقوله فيجلسانه، وقوله: فيجلس في قبره، وكلها أحاديث صحاح لا مغمز فيها، وقد أعله غيره بأن زاذان لم يسمعه من البراء، وهذه العلة باطلة، فإن أبا عوانة الأسفرائيني رواه في صحيحه بإسناد، وقال عن أبي عمرو زاذان الكندي قال: سمعت البراء بن عازب، وقال الحافظ أبو عبد اللّه بن منده هذا إسناد مشهور رواه جماعة عن البراء.
ولو نزلنا عن حديث البراء فسائر الأحاديث الصحيحة صريحة في ذلك مثل حديث ابن أبي ذئب عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم قال:
«إن الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قال: أخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب، أخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان، قال:
فيقول ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها فيقال: من هذا؟
فيقولون: فلان، فيقولون مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد، ادخلي حميدة وابشري بروح وريحان ورب غير غضبان، فيقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها اللّه عز وجل، وإذا كان الرجل السوء قال: أخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق، وآخر من شكله أزواج، فيقولون ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان، فيقولون: لا مرحبا بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنها لن تفتح لك أبواب السماء، فترسل بين السماء والأرض، فتصير إلى القبر، فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ولا معوق، ثم يقال: فما كنت تقول في الإسلام؟ ما هذا الرجل؟ فيقول محمد رسول اللّه جاءنا بالبينات من قبل اللّه فآمنا وصدقنا وذكر تمام الحديث.
قال الحافظ أبو نعيم: هذا حديث متفق على عدالة ناقليه، اتفق الإمامان محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج على أن أبي ذئب ومحمد بن عمرو ابن عطاء وسعيد بن يسار وهم من شرطها، ورواه المتقدمون الكبار عن ابن أبي ذئب مثل ابن أبي فديك وعبد الرحيم بن إبراهيم، انتهى. ورواه عن ابن أبي ذئب غير واحد.
وقد احتج أبو عبد اللّه بن منده على إعادة الروح إلى البدن بأن قال: حدثنا محمد بن الحسين بن الحسن، حدثنا محمد بن يزيد النيسابوري، حدثنا حماد بن قيراط، حدثنا محمد بن الفضل، عن يزيد بن عبد الرحمن الصائغ البلخي. عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس أنه قال: بينما رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم ذات يوم قاعد تلا هذه الآية: ﴿ولَوْ تَرى إذِ الظّالِمُونَ في غَمَراتِ المَوْتِ والمَلائِكَةُ باسِطُوا أيْدِيهِمْ﴾ الآية.
قال: «والذي نفس محمد بيده، ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة والنار»، ثم قال: «فإذا كان عند ذلك صف له صفان من الملائكة، ينتظمان ما بين الخافقين، كأن وجوههم الشمس فينظر إليهم ما نرى غيرهم، وإن كنتم ترون أنهم ينظرون إليكم، مع كل منهم أكفان وحنوط، فإن كان مؤمنا بشروه بالجنة، وقالوا: أخرجي أيتها النفس الطيبة إلى رضوان اللّه وجنته، فقد أعد اللّه لك من الكرامة ما هو خير من الدنيا وما فيها، فلا يزالون يبشرونه ويحفون به، فهم ألطف وأرأف من الوالدة بولدها، ثم يسلمون روحه من تحت كل ظفر ومفصل، ويموت الأول فالأول، ويهون عليهم، وكم كنتم ترونه شديدا حتى تبلغ ذقنه، قال: فلهي أشد كراهية للخروج من الجسد من الولد حتى يخرج من الرحم، فيبتدرها كل ملك منهم: أيهم يقبضها، فيتولى قبضها ملك الموت، ثم تلا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ﴿قُلْ يَتَوَفّاكم مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكم ثُمَّ إلى رَبِّكم تُرْجَعُونَ﴾ فيتلقاها بأكفان بيض، ثم يحتضنها إليه، فهو أشد لزوما لها من المرأة إذا ولدتها، ثم يفوح منها ريح أطيب من المسك، فيستنشقون ريحها ويتباشرون بها، ويقولون: مرحبا بالروح الطيبة والروح الطيب، اللهم صل عليه روحا وعلى جسد خرجت منه، قال: فيصعدون بها، وللّه عز وجل خلق في الهواء لا يعلم عدتهم إلا هو، فيفوح لهم منها ريح أطيب من المسك، فيصلون عليها ويتباشرون، ويفتح لهم أبواب السماء، فيصلي عليها كل ملك في كل سماء تمر بهم، حتى ينتهي بها بين يدي الملك الجبار جل جلاله، مرحبا بالنفس الطيبة وبجسد خرجت منه، وإذا قال الرب عز وجل للشيء مرحبا رحب له كل شيء، ويذهب عنه كل ضيق، ثم يقول لهذه النفس الطيبة: أدخلوها الجنة وأروها مقعدها من الجنة وأعرضوا عليها ما أعددت لها من الكرامة والنعيم، ثم اذهبوا بها إلى الأرض، فإني قضيت أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى، فوالذي نفس محمد بيده لهي أشد كراهية للخروج منها حين كانت تخرج من الجسد، وتقول: أين تذهبون بي إلى ذلك الجسد الذي كنت فيه؟ قال: فيقولون: إنا مأمورون بهذا، فلا بد لك منه، فيهبطون به على قدر فراغهم من غسله وأكفانه، فيدخلون ذلك الروح بين جسده وأكفانه.
فدل هذا الحديث أن الروح تعاد بين الجسد والأكفان، وهذا عود غير التعلق الذي كان لها في الدنيا بالبدن، وهو نوع آخر، وغير تعلقها به حال النوم، وغير تعلقها به وهي في مقرها، بل هو عود خاص للمسألة.
وقال شيخ الإسلام: الأحاديث الصحيحة المتواترة تدل على عودة الروح إلى البدن وقت السؤال، وسؤال البدن بلا روح قول قاله طائفة من الناس وأنكره الجمهور، وقابلهم آخرون فقالوا: السؤال للروح بلا بدن، وهذا قاله ابن مرة وابن حزم، وكلاهما غلط، والأحاديث الصحيحة ترده، ولو كان ذلك على الروح فقط لم يكن للقبر بالروح اختصاص.
{"ayah":"قَالُوا۟ رَبَّنَاۤ أَمَتَّنَا ٱثۡنَتَیۡنِ وَأَحۡیَیۡتَنَا ٱثۡنَتَیۡنِ فَٱعۡتَرَفۡنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلۡ إِلَىٰ خُرُوجࣲ مِّن سَبِیلࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق