الباحث القرآني

* [فَصْلٌ: هَلْ مِنَ الذُّنُوبِ ذَنْبٌ لا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ أمْ لا؟] اخْتَلَفَ النّاسُ هَلْ مِنَ الذُّنُوبِ ذَنْبٌ لا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ أمْ لا؟ فَقالَ الجُمْهُورُ: التَّوْبَةُ تَأْتِي عَلى كُلِّ ذَنْبٍ، فَكُلُّ ذَنْبٍ يُمْكِنُ التَّوْبَةُ مِنهُ وتُقْبَلُ. وَقالَتْ طائِفَةٌ: لا تَوْبَةَ لِلْقاتِلِ، وهَذا مَذْهَبُ ابْنِ عَبّاسٍ المَعْرُوفُ عَنْهُ وإحْدى الرِّوايَتَيْنِ عَنْ أحْمَدَ، وقَدْ ناظَرَ ابْنَ عَبّاسٍ في ذَلِكَ أصْحابُهُ فَقالُوا: ألَيْسَ قَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى في سُورَةِ الفُرْقانِ ﴿وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلّا بِالحَقِّ﴾ [الفرقان: ٦٨] إلى أنْ قالَ ﴿إلّا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: ٧٠] فَقالَ: كانَتْ هَذِهِ الآيَةُ في الجاهِلِيَّةِ، وذَلِكَ أنَّ ناسًا مِن أهْلِ الشِّرْكِ كانُوا قَدْ قَتَلُوا وزَنَوْا فَأتَوْا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالُوا: إنَّ الَّذِي تَدْعُو إلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنا أنَّ لِما عَمِلْناهُ كَفّارَةً، فَنَزَلَ ﴿والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ﴾ [الفرقان: ٦٨] الآيَةَ، فَهَذِهِ في أُولَئِكَ، وأمّا الَّتِي في سُورَةِ النِّساءِ وهي قَوْلُهُ تَعالى ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِدًا فِيها وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ وأعَدَّ لَهُ عَذابًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٩٣] فالرَّجُلُ إذا عَرَفَ الإسْلامَ وشَرائِعَهُ ثُمَّ قَتَلَ فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ. وَقالَ زَيْدُ بْنُ ثابِتٍ: لَمّا نَزَلَتِ الَّتِي في الفُرْقانِ ﴿والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ﴾ [الفرقان: ٦٨] عَجِبْنا مِن لِينِها فَلَبِثْنا سَبْعَةَ أشْهُرٍ ثُمَّ نَزَلَتِ الغَلِيظَةُ بَعْدَ اللَّيِّنَةِ فَنَسَخَتِ اللَّيِّنَةَ، وأرادَ بِالغَلِيظَةِ هَذِهِ الآيَةَ الَّتِي في سُورَةِ النِّساءِ، وبِاللَّيِّنَةِ آيَةَ الفُرْقانِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: آيَةُ الفُرْقانِ مَكِّيَّةٌ، وآيَةُ النِّساءِ مَدَنِيَّةٌ، نَزَلَتْ ولَمْ يَنْسَخْها شَيْءٌ. قالَ هَؤُلاءِ: ولِأنَّ التَّوْبَةَ مِن قَتْلِ المُؤْمِنِ عَمْدًا مُتَعَذَّرَةٌ إذْ لا سَبِيلَ إلَيْها إلّا بِاسْتِحْلالِهِ أوْ إعادَةِ نَفْسِهِ الَّتِي فَوَّتَها عَلَيْهِ إلى جَسَدِهِ إذِ التَّوْبَةُ مِن حَقِّ الآدَمِيِّ لا تَصِحُّ إلّا بِأحَدِهِما، وكِلاهُما مُتَعَذَّرٌ عَلى القاتِلِ، فَكَيْفَ تَصِحُّ تَوْبَتُهُ مِن حَقِّ آدَمِيٍّ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ ولَمْ يَسْتَحِلَّهُ مِنهُ؟ وَلا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ هَذا في المالِ إذا ماتَ رَبُّهُ ولَمْ يُوَفِّهِ إيّاهُ لِأنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِن إيصالِ نَظِيرِهِ إلَيْهِ بِالصَّدَقَةِ. قالُوا: ولا يُرَدُّ عَلَيْنا أنَّ الشِّرْكِ أعْظَمُ مِنَ القَتْلِ وتَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنهُ فَإنَّ ذَلِكَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ فالتَّوْبَةُ مِنهُ مُمْكِنَةٌ، وأمّا حَقُّ الآدَمِيِّ فالتَّوْبَةُ مَوْقُوفَةٌ عَلى أدائِهِ إلَيْهِ واسْتِحْلالِهِ، وقَدْ تَعَذَّرَ. واحْتَجَّ الجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿قُلْ ياعِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هو الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: ٥٣] فَهَذِهِ في حَقِّ التّائِبِ وبِقَوْلِهِ ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ﴾ [النساء: ٤٨] فَهَذِهِ في حَقِّ غَيْرِ التّائِبِ؛ لِأنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الشِّرْكِ وما دُونَهُ، وعَلَّقَ المَغْفِرَةَ بِالمَشِيئَةِ فَخَصَّصَ وعَلَّقَ وَفِي الَّتِي قَبْلَها عَمَّمَ وأطْلَقَ. واحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿وَإنِّي لَغَفّارٌ لِمَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا ثُمَّ اهْتَدى﴾ [طه: ٨٢] فَإذا تابَ هَذا القاتِلُ وآمَنَ وعَمِلَ صالِحًا فَإنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ غَفّارٌ لَهُ. قالُوا: وقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ حَدِيثُ الَّذِي قَتَلَ المِائَةَ ثُمَّ تابَ فَنَفَعَتْهُ تَوْبَتُهُ وأُلْحِقَ بِالقَرْيَةِ الصّالِحَةِ الَّتِي خَرَجَ إلَيْها، وصَحَّ عَنْهُ ﷺ مِن حَدِيثِ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ وحَوْلَهُ عِصابَةٌ مِن أصْحابِهِ بايِعُونِي عَلى أنْ لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، ولا تَسْرِقُوا، ولا تَزْنُوا، ولا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ، ولا تَأْتُوا بِبُهْتانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أيْدِيكم وأرْجُلِكُمْ، ولا تَعْصُونِي في مَعْرُوفٍ، فَمَن وفّى مِنكم فَأجْرُهُ عَلى اللَّهِ، ومَن أصابَ مِن ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ في الدُّنْيا فَهو كَفّارَةٌ لَهُ، ومَن أصابَ مِن ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَهو إلى اللَّهِ، إنْ شاءَ عَفا عَنْهُ وإنْ شاءَ عاقَبَهُ، فَبايَعْناهُ عَلى ذَلِكَ». قالُوا: وقَدْ قالَ ﷺ فِيما يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ تَبارَكَ وتَعالى «ابْنَ آدَمَ لَوْ لَقِيتَنِي بِقُرابِ الأرْضِ خَطايا ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا لَقِيتُكَ بِقُرابِها مَغْفِرَةً» وَقالَ ﷺ «مَن ماتَ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ» وَقالَ «مَن كانَ آخِرُ كَلامِهِ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ دَخَلَ الجَنَّةَ» وَقالَ «إنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلى النّارِ مَن قالَ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وجْهَ اللَّهِ» وَفِي حَدِيثِ الشَّفاعَةِ «أخْرِجُوا مِنَ النّارِ مَن في قَلْبِهِ مِثْقالُ حَبَّةٍ مِن خَرْدَلٍ مِن إيمانٍ» وَفِيهِ يَقُولُ اللَّهُ تَعالى «وَعِزَّتِي وجَلالِي لَأُخْرِجَنَّ مِنَ النّارِ مَن قالَ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ» وَأضْعافُ هَذِهِ النُّصُوصِ كَثِيرٌ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا يَخْلُدُ في النّارِ أحَدٌ مِن أهْلِ التَّوْحِيدِ. قالُوا: وأمّا هَذِهِ الآيَةُ الَّتِي في النِّساءِ فَهي نَظائِرُ أمْثالِها مِن نُصُوصِ الوَعِيدِ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نارًا خالِدًا فِيها ولَهُ عَذابٌ مُهِينٌ﴾ [النساء: ١٤] وَقَوْلِهِ ﴿وَمَن يَعْصِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَإنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أبَدًا﴾ [الجن: ٢٣] وَقَوْلِهِ ﴿إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى ظُلْمًا إنَّما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نارًا وسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء: ١٠] وَقَوْلِهِ ﷺ «مَن قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ يَتَوَجَّأُ بِها خالِدًا مُخَلَّدًا في نارِ جَهَنَّمَ» ونَظائِرُهُ كَثِيرَةٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ النّاسُ في هَذِهِ النُّصُوصِ عَلى طُرُقٍ: أحَدِها: القَوْلُ بِظاهِرِها، وتَخْلِيدِ أرْبابِ هَذِهِ الجَرائِمِ في النّارِ، وهو قَوْلُ الخَوارِجِ والمُعْتَزِلَةِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا. فَقالَتِ الخَوارِجُ: هم كُفّارٌ؛ لِأنَّهُ لا يَخْلُدُ في النّارِ إلّا كافِرٌ، وقالَتِ المُعْتَزِلَةُ: لَيْسُوا بِكُفّارٍ بَلْ فُسّاقٍ مُخَلَّدُونَ في النّارِ، هَذا كُلُّهُ إذا لَمْ يَتُوبُوا. وَقالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ هَذا الوَعِيدُ في حَقِّ المُسْتَحِلِّ لَها؛ لِأنَّهُ كافِرٌ، وأمّا مَن فَعَلَها مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَها فَلا يَلْحَقُهُ هَذا الوَعِيدُ وعِيدُ الخُلُودِ وإنْ لَحِقَهُ وعِيدُ الدُّخُولِ. وَقَدْ أنْكَرَ الإمامُ أحْمَدُ هَذا القَوْلَ وقالَ: لَوِ اسْتَحَلَّ ذَلِكَ ولَمْ يَفْعَلْهُ كانَ كافِرًا، والنَّبِيُّ ﷺ إنَّما قالَ: مَن فَعَلَ كَذا وكَذا. وَقالَتْ فِرْقَةٌ ثالِثَةٌ: الِاسْتِدْلالُ بِهَذِهِ النُّصُوصِ مَبْنِيٌّ عَلى ثُبُوتِ العُمُومِ، ولَيْسَ في اللُّغَةِ ألْفاظٌ عامَّةٌ، ومِن هاهُنا أنْكَرَ العُمُومَ مَن أنْكَرَهُ، وقَصْدُهم تَعْطِيلُ هَذِهِ الأدِلَّةِ عَنِ اسْتِدْلالِ المُعْتَزِلَةِ والخَوارِجِ بِها، لَكِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ تَعْطِيلَ الشَّرْعِ جُمْلَةً، بَلْ تَعْطِيلَ عامَّةِ الأخْبارِ، فَهَؤُلاءِ رَدُّوا باطِلًا بَأبْطَلَ مِنهُ، وبِدْعَةً بِأقْبَحَ مِنها، وكانُوا كَمَن رامَ أنْ يَبْنِيَ قَصْرًا فَهَدَمَ مِصْرًا. وَقالَتْ فِرْقَةٌ رابِعَةٌ: في الكَلامِ إضْمارٌ. قالُوا: والإضْمارُ في كَلامِهِمْ كَثِيرٌ مَعْرُوفٌ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا في هَذا المُضْمَرِ، فَقالَتْ طائِفَةٌ بِإضْمارِ الشَّرْطِ، والتَّقْدِيرُ: فَجَزاؤُهُ كَذا إنْ جازاهُ أوْ إنْ شاءَ. وَقالَتْ فِرْقَةٌ خامِسَةٌ بِإضْمارِ الِاسْتِثْناءِ، والتَّقْدِيرُ: فَجَزاؤُهُ كَذا إلّا أنْ يَعْفُوَ، وهَذِهِ دَعْوى لا دَلِيلَ في الكَلامِ عَلَيْها ألْبَتَّةَ ولَكِنَّ إثْباتَها بِأمْرِ خارِجٍ عَنِ اللَّفْظِ. وَقالَتْ فِرْقَةٌ سادِسَةٌ: هَذا وعِيدٌ، وإخْلافُ الوَعِيدِ لا يُذَمُّ بَلْ يُمْدَحُ، واللَّهُ تَعالى يَجُوزُ عَلَيْهِ إخْلافُ الوَعِيدِ، ولا يَجُوزُ عَلَيْهِ خُلْفُ الوَعْدِ، والفَرْقُ بَيْنَهُما أنَّ الوَعِيدَ حَقُّهُ فَإخْلافُهُ عَفْوٌ وهِبَةٌ وإسْقاطٌ، وذَلِكَ مُوجَبُ كَرَمِهِ وجُودِهِ وإحْسانِهِ، والوَعْدُ حَقٌّ عَلَيْهِ أوْجَبَهُ عَلى نَفْسِهِ واللَّهُ لا يُخْلِفُ المِيعادَ. قالُوا: ولِهَذا مَدَحَ بِهِ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ حَيْثُ يَقُولُ: ؎نُبِّئْتُ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ أوْعَدَنِي ∗∗∗ والعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ وَتَناظَرَ في هَذِهِ المَسْألَةِ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، فَقالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: يا أبا عَمْرٍو لا يُخْلِفُ اللَّهُ وعْدَهُ وقَدْ قالَ ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا﴾ [النساء: ٩٣] الآيَةَ، فَقالَ لَهُ أبُو عَمْرٍو: ويْحَكَ يا عَمْرُو، مِنَ العُجْمَةِ أتَيْتَ، إنَّ العَرَبَ لا تَعُدُّ إخْلافَ الوَعِيدِ ذَمًّا بَلْ جُودًا وكَرَمًا، أما سَمِعْتَ قَوْلَ الشّاعِرِ: ؎وَلا يُرْهِبُ ابْنَ العَمِّ ما عِشْتُ صَوْلَتِي ∗∗∗ ولا يَخْتَشِي مِن سَطْوَةِ المُتَهَدِّدِ ؎وَإنِّي إنْ أوْعَدْتُهُ أوْ وعَدْتُهُ ∗∗∗ لَمُخْلِفُ إيعادِي ومُنْجِزُ مَوْعِدِي وَقالَتْ فِرْقَةٌ سابِعَةٌ: هَذِهِ النُّصُوصُ وأمْثالُها مِمّا ذُكِرَ فِيهِ المُقْتَضِي لِلْعُقُوبَةِ، ولا يَلْزَمُ مِن وُجُودِ مُقْتَضِي الحُكْمِ وجُودُهُ، فَإنَّ الحُكْمَ إنَّما يَتِمُّ بِوُجُودِ مُقْتَضِيهِ وانْتِفاءِ مانِعِهِ، وغايَةُ هَذِهِ النُّصُوصِ الإعْلامُ بِأنَّ كَذا سَبَبٌ لِلْعُقُوبَةِ ومُقْتَضٍ لَها، وقَدْ قامَ الدَّلِيلُ عَلى ذِكْرِ المَوانِعِ، فَبَعْضُها بِالإجْماعِ، وبَعْضُها بِالنَّصِّ، فالتَّوْبَةُ مانِعٌ بِالإجْماعِ، والتَّوْحِيدُ مانِعٌ بِالنُّصُوصِ المُتَواتِرَةِ الَّتِي لا مَدْفَعَ لَها، والحَسَناتُ العَظِيمَةُ الماحِيَةُ مانِعَةٌ، والمَصائِبُ الكِبارُ المُكَفِّرَةُ مانِعَةٌ، وإقامَةُ الحُدُودِ في الدُّنْيا مانِعٌ بِالنَّصِّ، ولا سَبِيلَ إلى تَعْطِيلِ هَذِهِ النُّصُوصِ فَلا بُدَّ مِن إعْمالِ النُّصُوصِ مِنَ الجانِبَيْنِ. وَمِن هاهُنا قامَتِ المُوازَنَةُ بَيْنَ الحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ اعْتِبارًا بِمُقْتَضِي العِقابِ ومانِعِهِ وإعْمالًا لِأرْجَحِها. قالُوا: وعَلى هَذا بِناءُ مَصالِحِ الدّارَيْنِ ومَفاسِدِهِما، وعَلى هَذا بِناءُ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ والأحْكامِ القَدَرِيَّةِ، وهو مُقْتَضى الحِكْمَةِ السّارِيَةِ في الوُجُودِ، وبِهِ ارْتِباطُ الأسْبابِ ومُسَبِّباتِها خَلْقًا وأمْرًا، وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ لِكُلِّ ضِدٍّ ضِدًّا يُدافِعُهُ ويُقاوِمُهُ، ويَكُونُ الحُكْمُ لِلْأغْلَبِ مِنهُما، فالقُوَّةٌ مُقْتَضِيَةٌ لِلصِّحَّةِ والعافِيَةِ، وفَسادُ الأخْلاقِ وبَغْيُها مانِعٌ مِن عَمَلِ الطَّبِيعَةِ وفِعْلِ القُوَّةِ، والحُكْمُ لِلْغالِبِ مِنهُما، وكَذَلِكَ قُوى الأدْوِيَةِ والأمْراضِ، والعَبْدُ يَكُونُ فِيهِ مُقْتَضٍّ لِلصِّحَّةِ ومُقْتَضٍ لِلْعَطَبِ، وأحَدُهُما يَمْنَعُ كَمالَ تَأْثِيرِ الآخَرِ ويُقاوِمُهُ، فَإذا تَرَجَّحَ عَلَيْهِ وقَهَرَهُ كانَ التَّأْثِيرُ لَهُ. وَمِن هاهُنا يُعْلَمُ انْقِسامُ الخَلْقِ إلى مَن يَدْخُلُ الجَنَّةَ ولا يَدْخُلُ النّارَ وعَكْسُهُ، ومَن يَدْخُلُ النّارَ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنها، ويَكُونُ مُكْثُهُ فِيها بِحَسَبِ ما فِيهِ مِن مُقْتَضى المُكْثِ في سُرْعَةِ الخُرُوجِ وبُطْئِهِ. وَمَن لَهُ بَصِيرَةٌ مُنَوَّرَةٌ يَرى بِها كُلَّ ما أخْبَرَ اللَّهُ بِهِ في كِتابِهِ مِن أمْرِ المَعادِ وتَفاصِيلِهِ حَتّى كَأنَّهُ يُشاهِدُهُ رَأْيَ عَيْنٍ، ويَعْلَمُ أنَّ هَذا هو مُقْتَضى إلَهِيَّتِهِ سُبْحانَهُ ورُبُوبِيَّتِهِ وعِزَّتِهِ وحِكْمَتِهِ، وأنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ خِلافُ ذَلِكَ، ونِسْبَةُ خِلافِ ذَلِكَ إلَيْهِ نِسْبَةُ ما لا يَلِيقُ بِهِ إلَيْهِ، فَيَكُونُ نِسْبَةُ ذَلِكَ إلى بَصِيرَتِهِ كَنِسْبَةِ الشَّمْسِ والنُّجُومِ إلى بَصَرِهِ، وهَذا يَقِينُ الإيمانِ، وهو الَّذِي يَحْرِقُ السَّيِّئاتِ كَما تَحْرِقُ النّارُ الحَطَبَ. وَصاحِبُ هَذا المَقامِ مِنَ الإيمانِ يَسْتَحِيلُ إصْرارُهُ عَلى السَّيِّئاتِ وإنْ وقَعَتْ مِنهُ وكَثُرَتْ، فَإنَّ ما مَعَهُ مِن نُورِ الإيمانِ يَأْمُرُهُ بِتَجْدِيدِ التَّوْبَةِ كُلَّ وقْتٍ بِالرُّجُوعِ إلى اللَّهِ بِعَدَدِ أنْفاسِهِ وهَذا مِن أحَبِّ الخَلْقِ إلى اللَّهِ. فَهَذِهِ مَجامِعُ طُرُقِ النّاسِ في نُصُوصِ الوَعِيدِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب