الباحث القرآني
فَأمَرَ تَعالى بِطاعَتِهِ وطاعَةِ رَسُولِهِ، وأعادَ الفِعْلَ إعْلامًا بِأنَّ طاعَةَ الرَّسُولِ تَجِبُ اسْتِقْلالًا مِن غَيْرِ عَرْضِ ما أمَرَ بِهِ عَلى الكِتابِ، بَلْ إذا أمَرَ وجَبَتْ طاعَتُهُ مُطْلَقًا، سَواءٌ كانَ ما أمَرَ بِهِ في الكِتابِ أوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ، فَإنَّهُ أُوتِيَ الكِتابَ ومِثْلَهُ مَعَهُ، ولَمْ يَأْمُرْ بِطاعَةِ أُولِي الأمْرِ اسْتِقْلالًا، بَلْ حَذَفَ الفِعْلَ وجَعَلَ طاعَتَهم في ضِمْنِ طاعَةِ الرَّسُولِ؛ إيذانًا بِأنَّهم إنّما يُطاعُونَ تَبَعًا لِطاعَةِ الرَّسُولِ، فَمَن أمَرَ مِنهم بِطاعَةِ الرَّسُولِ وجَبَتْ طاعَتُهُ، ومَن أمَرَ بِخِلافِ ما جاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَلا سَمْعَ لَهُ ولا طاعَةَ كَما صَحَّ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ: «لا طاعَةَ لِمَخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ الخالِقِ»
وَقالَ: «إنّما الطّاعَةُ في المَعْرُوفِ» وقالَ في وُلاةِ الأُمُورِ: «مَن أمَرَكم مِنهم بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَلا سَمْعَ لَهُ ولا طاعَةَ».
وَقَدْ «أخْبَرَ ﷺ عَنْ الَّذِينَ أرادُوا دُخُولَ النّارِ لَمّا أمَرَهم أمِيرُهم بِدُخُولِها: إنّهم لَوْ دَخَلُوا لَما خَرَجُوا مِنها» مَعَ أنَّهم إنّما كانُوا يَدْخُلُونَها طاعَةً لِأمِيرِهِمْ، وظَنًّا أنَّ ذَلِكَ واجِبٌ عَلَيْهِمْ، ولَكِنْ لَمّا قَصَّرُوا في الِاجْتِهادِ وبادَرُوا إلى طاعَةِ مَن أمَرَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ وحَمَلُوا عُمُومَ الأمْرِ بِالطّاعَةِ بِما لَمْ يُرِدْهُ الآمِرُ ﷺ وما قَدْ عُلِمَ مِن دِينِهِ إرادَةُ خِلافِهِ، فَقَصَّرُوا في الِاجْتِهادِ وأقْدَمُوا عَلى تَعْذِيبِ أنْفُسِهِمْ وإهْلاكِها مِن غَيْرِ تَثَبُّتٍ وتَبَيُّنٍ هَلْ ذَلِكَ طاعَةٌ لِلَّهِ ورَسُولِهِ أمْ لا، فَما الظَّنُّ بِمَن أطاعَ غَيْرَهُ في صَرِيحِ مُخالَفَةِ ما بَعَثَ اللَّهُ بِهِ ورَسُولُهُ؟ ثُمَّ أمَرَ تَعالى بِرَدِّ ما تَنازَعَ فِيهِ المُؤْمِنُونَ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ إنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ، وأخْبَرَهم أنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَهم في العاجِلِ وأحْسَنُ تَأْوِيلًا في العاقِبَةِ.
* [فصل: النداء بالإيمان]
فأمر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله، وافتتح الآية بالنداء باسم الإيمان المشعر بأن المطلوب منهم من موجبات الاسم الذي نودوا به وخوطبوا به، كما يقال: يا من أنعم الله عليه وأغناه من فضله، أحسن كما أحسن الله إليك: ويا أيها العالم علم الناس ما ينفعهم، ويا أيها الحاكم احكم بالحق، ونظائره.
ولهذا كثيرا ما يقع الخطاب في القرآن بالشرائع كقوله تعالى ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾، ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ﴾، ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بِالعُقُودِ﴾. ففي هذا إشارة إلى أنكم إن كنتم مؤمنين فالإيمان يقتضي منكم كذا وكذا فإنه من موجبات الإيمان وتمامه.
ثم قال تعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللَّهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأمْرِ مِنكُمْ﴾ فقرن بين طاعة الله والرسول وطاعة أولي الأمر، وسلط عليهما عاملًا واحدًا. وقد كان ربما يسبق إلى الوهم أن الأمر يقتضي عكس هذا فإنه من يطع الرسول فقد أطاع الله ولكن الواقع هنا في الآية المناسب.
وتحته سر لطيف وهو دلالته على أن ما يأمر به رسوله يجب طاعته فيه وإن لم يكن مأمورًا به بعينه في القرآن طاعة الرسول مفردة ومقرونة. فلا يتوهم متوهم أن ما يأمر به الرسول إن لم يكن في القرآن وإلا فلا تجب طاعته فيه، كما قال النبي ﷺ: " يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله تعالى، ما وجدنا فيه من شئ اتبعناه. ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه".
(طاعة أولي الأمر)
أما أولو الأمر فلا تجب طاعة أحدهم إلا إذا اندرجت تحت طاعة الرسول، لا طاعة مفردة مستقلة، كما صح عن النبي ﷺ أنه قال: " على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية الله تعالى فإذا أمر بمعصية الله تعالى فلا سمع ولا طاعة ".
فتأمل كيف اقتضت إعادة هذا المعنى قوله تعالى: ﴿فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ والرَّسُولِ﴾ ولم يقل: وإلى الرسول. فإن الرد إلى القرآن رد إلى الله والرسول، فما حكم به الله تعالى هو بعينه حكم رسوله وما يحكم به الرسول ﷺ هو بعينه حكم الله. فإذا رددتم إلى الله ما تنازعتم فيه يعني كتابة فقد رددتموه إلى رسوله. وكذلك إذا رددتموه إلى رسوله فقد رددتموه إلى الله، وهذا من أسرار القرآن.
(من هم أولي الأمر)
وقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى في أولي الأمر وعنه فيهم رحمه الله تعالى روايتان:
إحداهما: أنهم العلماء، والثانية: أنهم الأمراء.
والقولان ثابتان عن الصحابة في تفسير الآية والصحيح أنها متناولة للصنفين جميعًا فإن العلماء والأمراء ولاة الأمر الذي بعث الله به رسوله، فان العلماء ولاته حفظا وبيانًا وذبًا عنه وردًا على من الحد فيه وزاغ عنه، وقد وكلهم الله بذلك فقال تعالى: ﴿فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين﴾
فيا لها من وكالة أوجبت طاعتهم والانتهاء إلى أمرهم وكون الناس تبعًا لهم، والأمراء ولاته قيامًا وعناية وجهادًا وإلزامًا للناس به، وأخذهم على يد من خرج عنه. وهذان الصنفان هما الناس وسائر النوع الإنساني تبع لها ورعية.
ثم قال تعالى: ﴿فَإنْ تَنازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ والرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ وهذا دليل قاطع على أنه يجب رد موارد النزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كله إلى الله ورسوله لا إلى أحد غير الله ورسوله، فمن أحال الرد على غيرهما فقد ضادَّ أمر الله ومن دعا عند النزاع إلى حكم غير الله ورسوله فقد دعا بدعوى الجاهلية، فلا يدخل العبد في الإيمان حتى يرد كل ما تنازع فيه المتنازعون إلى الله ورسوله، ولهذا قال الله تعالى ﴿إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ وهذا مما ذكرنا آنفًا أنه شرط ينتفي المشروط بانتفائه، فدل على أن من حَكّمَ غير الله ورسوله في موارد مقتضى النزاع كان خارجًا من مقتضى الإيمان بالله واليوم الآخر، وحسبك بهذه الآية العاصمة القاصمة بيانًا وشفاء فإنها قاصمة لظهور المخالفين لها عاصمة للمتمسكين بها الممتثلين ما أمرت به.
قال الله تعالى ﴿لِيَهْلِكَ مَن هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ ويَحْيى مَن حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وإنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنفال: ٤٢].
وقد اتفق السلف والخلف على أن الرد إلى الله هو الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته والرد إلى سنته بعد وفاته.
(سعادة الدارين)
ثم قال تعالى: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ وأحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ أي هذا الذي أمرتكم به من طاعتي وطاعة رسولي وأولياء الأمر ورد ما تنازعتم فيه إلىَّ وإلى رسولي خير لكم في معاشكم ومعادَكم، وهو سعادتكم في الدارين فهو خير لكم وأحسن عاقبة.
فدل هذا على أن طاعة الله ورسوله وتحكيم الله ورسوله هو سبب السعادة عاجلا وآجلًا. ومن تدبر العالم والشرور الواقعة فيه علم أن كل شر في العالم سببه مخالفة الرسول والخروج عن طاعته، وكل خير في العالم فإنه بسبب طاعة الرسول. وكذلك شرور الآخرة وآلامها وعذابها إنما هو من موجبات مخالفة الرسول ومقتضياتها، فعاد شر الدنيا والآخرة إلى مخالفة الرسول وما يترتب عليه فلو أن الناس أطاعوا الرسول حق طاعته لم يكن في الأرض شر قط، وهذا كما أنه معلوم في الشرور العامة والمصائب الواقعة في الأرض فكذلك هو في الشر والألم والغم الذي يصيب العبد في نفسه فإنما هو بسبب مخالفة الرسول، ولأن طاعته هي الحصن الذي من دخله كان من الآمنين والكهف الذي من لجأ إليه كان من الناجين.
فعلم أن شرور الدنيا والآخرة إنما هو الجهل بما جاء به الرسول ﷺ والخروج عنه، وهذا برهان قاطع على أنه لا نجاة للعبد ولا سعادة إلا بالاجتهاد في معرفة ما جاء به الرسول ﷺ علمًا والقيام به عملا.
(كمال السعادة)
وكمال هذه السعادة بأمرين آخرين:
أحدهما: دعوة الخلق إليه.
والثاني: صبره واجتهاده على تلك الدعوة.
(الكمال الإنساني)
فانحصر الكمال الإنساني على هذه المراتب الأربعة.
أحدهما: العلم بما جاء به الرسول ﷺ.
والثانية: العمل به.
والثالثة: نشره في الناس ودعوتهم إليه.
والرابعة: صبره وجهاده في أدائه وتنفيذه.
ومن تطلعت همته إلى معرفة ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم وأراد اتباعهم فهذه طريقهم حقا:
؎فإن شئت وصل القوم فاسلك سبيلهم ∗∗∗ فقد وضحت للسالكين عيانًا
* [فصل: الرَّدُّ إلى اللَّهِ والرَّسُولِ مِن مُوجِباتِ الإيمانِ]
وَمِنها: أنَّهُ جَعَلَ هَذا الرَّدَّ مِن مُوجِباتِ الإيمانِ ولَوازِمِهِ، فَإذا انْتَفى هَذا الرَّدُّ انْتَفى الإيمانُ؛ ضَرُورَةُ انْتِفاءِ المَلْزُومِ لِانْتِفاءِ لازِمِهِ، ولا سِيَّما التَّلازُمُ بَيْنَ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ فَإنَّهُ مِن الطَّرَفَيْنِ، وكُلٌّ مِنهُما يَنْتَفِي بِانْتِفاءِ الآخَرِ، ثُمَّ أخْبَرَهم أنَّ هَذا الرَّدَّ خَيْرٌ لَهُمْ، وأنَّ عاقِبَتَهُ أحْسَنُ عاقِبَةً، ثُمَّ أخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّ مَن تَحاكَمَ أوْ حاكَمَ إلى غَيْرِ ما جاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَقَدْ حَكَّمَ الطّاغُوتَ وتَحاكَمَ إلَيْهِ، والطّاغُوتُ: كُلُّ ما تَجاوَزَ بِهِ العَبْدُ حَدَّهُ مِن مَعْبُودٍ أوْ مَتْبُوعٍ أوْ مُطاعٍ؛ فَطاغُوتُ كُلِّ قَوْمٍ مِن يَتَحاكَمُونَ إلَيْهِ غَيْرَ اللَّهِ ورَسُولِهِ، أوْ يَعْبُدُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ، أوْ يَتْبَعُونَهُ عَلى غَيْرِ بَصِيرَةٍ مِن اللَّهِ، أوْ يُطِيعُونَهُ فِيما لا يَعْلَمُونَ أنَّهُ طاعَةٌ لِلَّهِ؛ فَهَذِهِ طَواغِيتُ العالَمِ إذا تَأمَّلْتَها وتَأمَّلْتَ أحْوالَ النّاسِ مَعَها رَأيْت أكْثَرَهم عَدَلُوا مِن عِبادَةِ اللَّهِ إلى عِبادَةِ الطّاغُوتِ، وعَنْ التَّحاكُمِ إلى اللَّهِ وإلى الرَّسُولِ إلى التَّحاكُمِ إلى الطّاغُوتِ، وعَنْ طاعَتِهِ ومُتابَعَةِ رَسُولِهِ إلى طاعَةِ الطّاغُوتِ ومُتابَعَتِهِ، وهَؤُلاءِ لَمْ يَسْلُكُوا طَرِيقَ النّاجِينَ الفائِزِينَ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ - وهم الصَّحابَةُ ومَن تَبِعَهم - ولا قَصَدُوا قَصْدَهُمْ، بَلْ خالَفُوهم في الطَّرِيقِ والقَصْدِ مَعًا، ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى عَنْ هَؤُلاءِ بِأنَّهم إذا قِيلَ لَهم تَعالَوْا إلى ما أنْزَلَ اللَّهُ وإلى الرَّسُولِ أعْرَضُوا عَنْ ذَلِكَ، ولَمْ يَسْتَجِيبُوا لِلدّاعِي، ورَضُوا بِحُكْمِ غَيْرِهِ، ثُمَّ تَوَعَّدَهم بِأنَّهم إذا أصابَتْهم مُصِيبَةٌ في عُقُولِهِمْ وأدْيانِهِمْ وبَصائِرهمْ وأبْدانِهِمْ وأمْوالِهِمْ بِسَبَبِ إعْراضِهِمْ عَمّا جاءَ بِهِ الرَّسُولُ وتَحْكِيمِ غَيْرِهِ والتَّحاكُمِ إلَيْهِ كَما قالَ تَعالى: ﴿فَإنْ تَوَلَّوْا فاعْلَمْ أنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أنْ يُصِيبَهم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ﴾ [المائدة: ٤٩] اعْتَذَرُوا بِأنَّهم إنّما قَصَدُوا الإحْسانَ والتَّوْفِيقَ، أيْ بِفِعْلِ ما يُرْضِي الفَرِيقَيْنِ ويُوَفِّقُ بَيْنَهُما كَما يَفْعَلُهُ مَن يَرُومُ التَّوْفِيقَ بَيْنَ ما جاءَ بِهِ الرَّسُولُ وبَيْنَ ما خالَفَهُ، ويَزْعُمُ أنَّهُ بِذَلِكَ مُحْسِنٌ قاصِدٌ الإصْلاحَ والتَّوْفِيقَ، والإيمانُ إنّما يَقْتَضِي إلْقاءَ الحَرْبِ بَيْنَ ما جاءَ بِهِ الرَّسُولُ وبَيْنَ كُلِّ ما خالَفَهُ مِن طَرِيقَةٍ وحَقِيقَةٍ وعَقِيدَةٍ وسِياسَةٍ ورَأْيٍ؛ فَرَخَّصَ الإيمانُ في هَذا الحَرْبِ لا في التَّوْفِيقِ، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
ثُمَّ أقْسَمَ سُبْحانَهُ بِنَفْسِهِ عَلى نَفْيِ الإيمانِ عَنْ العِبادِ حَتّى يُحَكِّمُوا رَسُولَهُ في كُلِّ ما شَجَرَ بَيْنَهم مِن الدَّقِيقِ والجَلِيلِ، ولَمْ يَكْتَفِ في إيمانِهِمْ بِهَذا التَّحْكِيمِ بِمُجَرَّدِهِ حَتّى يَنْتَفِيَ عَنْ صُدُورِهِمْ الحَرَجُ والضِّيقُ عَنْ قَضائِهِ وحُكْمِهِ، ولَمْ يَكْتَفِ مِنهم أيْضًا بِذَلِكَ حَتّى يُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، ويَنْقادُوا انْقِيادًا.
وَقالَ تَعالى: ﴿وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضى اللَّهُ ورَسُولُهُ أمْرًا أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: ٣٦] فَأخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّهُ لَيْسَ لِمُؤْمِنٍ أنْ يَخْتارَ بَعْدَ قَضائِهِ وقَضاءِ رَسُولِهِ، ومَن تَخَيَّرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا.
* فَصْلٌ [فُقَهاءُ الإسْلامِ ومَنزِلَتُهُمْ]
القِسْمُ الثّانِي: فُقَهاءُ الإسْلامِ، ومَن دارَتْ الفُتْيا عَلى أقْوالِهِمْ بَيْنَ الأنامِ، الَّذِينَ خُصُّوا بِاسْتِنْباطِ الأحْكامِ، وعَنَوْا بِضَبْطِ قَواعِدِ الحَلالِ والحَرامِ؛ فَهم في الأرْضِ بِمَنزِلَةِ النُّجُومِ في السَّماءِ، بِهِمْ يَهْتَدِي الحَيْرانُ في الظَّلْماءِ، وحاجَةُ النّاسِ إلَيْهِمْ أعْظَمُ مِن حاجَتِهِمْ إلى الطَّعامِ والشَّرابِ، وطاعَتُهم أفْرَضَ عَلَيْهِمْ مِن طاعَةِ الأُمَّهاتِ والآباءِ بِنَصِّ الكِتابِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللَّهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأمْرِ مِنكم فَإنْ تَنازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ والرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأحْسَنُ تَأْوِيلا﴾ [النساء: ٥٩] قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبّاسٍ في إحْدى الرِّوايَتَيْنِ عَنْهُ وجابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ والحَسَنُ البَصْرِيُّ وأبُو العالِيَةِ وعَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ والضَّحّاكُ ومُجاهِدٌ في إحْدى الرِّوايَتَيْنِ عَنْهُ: أُولُو الأمْرِ هم العُلَماءُ، وهو إحْدى الرِّوايَتَيْنِ عَنْ الإمامِ أحْمَدَ.
وَقالَ أبُو هُرَيْرَةَ وابْنُ عَبّاسٍ في الرِّوايَةِ الأُخْرى وزَيْدُ بْنُ أسْلَمَ والسُّدِّيُّ ومُقاتِلٌ: هم الأُمَراءُ، وهو الرِّوايَةُ الثّانِيَةُ عَنْ أحْمَدَ.
[طاعَةُ الأُمَراءِ تابِعَةٌ لِطاعَةِ العُلَماءِ]
والتَّحْقِيقُ أنَّ الأُمَراءَ إنّما يُطاعُونَ إذا أمَرُوا بِمُقْتَضى العِلْمِ؛ فَطاعَتُهم تَبَعٌ لِطاعَةِ العُلَماءِ؛ فَإنَّ الطّاعَةَ إنّما تَكُونُ في المَعْرُوفِ وما أوْجَبَهُ العِلْمُ، فَكَما أنَّ طاعَةَ العُلَماءِ تَبَعٌ لِطاعَةِ الرَّسُولِ فَطاعَةُ الأُمَراءِ تَبَعٌ لِطاعَةِ العُلَماءِ، ولَمّا كانَ قِيامُ الإسْلامِ بِطائِفَتَيْ العُلَماءِ والأُمَراءِ، وكانَ النّاسُ كُلُّهم لَهم تَبَعًا، كانَ صَلاحُ العالَمِ بِصَلاحِ هاتَيْنِ الطّائِفَتَيْنِ، وفَسادُهُ بِفَسادِهِما، كَما قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ وغَيْرُهُ مِن السَّلَفِ: صِنْفانِ مِن النّاسِ إذا صَلَحا صَلَحَ النّاسُ، وإذا فَسَدا فَسَدَ النّاسُ، قِيلَ: مَن هُمْ؟ قالَ: المُلُوكُ، والعُلَماءُ كَما قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ:
؎رَأيْت الذُّنُوبَ تُمِيتُ القُلُوبَ ∗∗∗ وقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إدْمانُها
؎وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَياةُ القُلُوبِ ∗∗∗ وخَيْرٌ لِنَفْسِك عِصْيانُها
؎وَهَلْ أفْسَدَ الدِّينَ إلّا المُلُوكُ ∗∗∗ وأحْبارُ سُوءٍ ورُهْبانُها
[النَّهْيُ عَنْ أنْ يُقالَ هَذا حُكْمُ اللَّهِ]
«وَقَدْ نَهى النَّبِيُّ ﷺ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ أمِيرَهُ بُرَيْدَةَ أنْ يُنَزِّلَ عَدُوَّهُ إذا حاصَرَهم عَلى حُكْمِ اللَّهِ، وقالَ: فَإنَّك لا تَدْرِي أتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أمْ لا، ولَكِنْ أنْزِلْهم عَلى حُكْمِك وحُكْمِ أصْحابِك»
فَتَأمَّلْ كَيْف فَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِ اللَّهِ وحُكْمِ الأمِيرِ المُجْتَهِدِ، ونَهى أنْ يُسَمّى حُكْمُ المُجْتَهِدِينَ حُكْمَ اللَّهِ.
وَمِن هَذا لَمّا كَتَبَ الكاتِبُ بَيْنَ يَدَيْ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
حُكْمًا حَكَمَ بِهِ فَقالَ: هَذا ما أرى اللَّهُ أمِيرَ المُؤْمِنِينَ عُمَرَ، فَقالَ: لا تَقُلْ هَكَذا ولَكِنْ قُلْ: هَذا ما رَأى أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ.
وَقالَ ابْنُ وهْبٍ: سَمِعْت مالِكًا يَقُولُ: لَمْ يَكُنْ مِن أمْرِ النّاسِ ولا مَن مَضى مِن سَلَفِنا، ولا أدْرَكْت أحَدًا أقْتَدِي بِهِ يَقُولُ في شَيْءٍ: هَذا حَلالٌ، وهَذا حَرامٌ، وما كانُوا يَجْتَرِئُونَ عَلى ذَلِكَ، وإنَّما كانُوا يَقُولُونَ: نَكْرَهُ كَذا، ونَرى هَذا حَسَنًا؛ فَيَنْبَغِي هَذا، ولا نَرى هَذا، ورَواهُ عَنْهُ عَتِيقُ بْنُ يَعْقُوبَ، وزادَ: ولا يَقُولُونَ حَلالٌ ولا حَرامٌ، أما سَمِعْت قَوْلَ اللَّهِ تَعالى: ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ ما أنْزَلَ اللَّهُ لَكم مِن رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنهُ حَرامًا وحَلالا قُلْ آللَّهُ أذِنَ لَكم أمْ عَلى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ [يونس: ٥٩]
الحَلالُ: ما أحَلَّهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ، والحَرامُ ما حَرَّمَهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ.
[لَفْظُ الكَراهَةِ يُطْلَقُ عَلى المُحَرَّمِ]
قُلْت: وقَدْ غَلِطَ كَثِيرٌ مِن المُتَأخِّرِينَ مِن أتْباعِ الأئِمَّةِ عَلى أئِمَّتِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ، حَيْثُ تَوَرَّعَ الأئِمَّةُ عَنْ إطْلاقِ لَفْظِ التَّحْرِيمِ، وأطْلَقُوا لَفْظَ الكَراهَةِ، فَنَفى المُتَأخِّرُونَ التَّحْرِيمَ عَمّا أطْلَقَ عَلَيْهِ الأئِمَّةُ الكَراهَةَ، ثُمَّ سَهُلَ عَلَيْهِمْ لَفْظُ الكَراهَةِ وخَفَّتْ مُؤْنَتُهُ عَلَيْهِمْ فَحَمَلَهُ بَعْضُهم عَلى التَّنْزِيهِ، وتَجاوَزَ بِهِ آخَرُونَ إلى كَراهَةِ تَرْكِ الأوْلى، وهَذا كَثِيرٌ جِدًّا في تَصَرُّفاتِهِمْ؛ فَحَصَلَ بِسَبَبِهِ غَلَطٌ عَظِيمٌ عَلى الشَّرِيعَةِ وعَلى الأئِمَّةِ، وقَدْ قالَ الإمامُ أحْمَدُ في الجَمْعِ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ اليَمِينِ: أكْرَهُهُ، ولا أقُولُ هو حَرامٌ، ومَذْهَبُهُ تَحْرِيمُهُ، وإنَّما تَوَرَّعَ عَنْ إطْلاقِ لَفْظِ التَّحْرِيمِ لِأجْلِ قَوْلِ عُثْمانَ.
وَقالَ أبُو القاسِمِ الخِرَقِيِّ فِيما نَقَلَهُ عَنْ أبِي عَبْدِ اللَّهِ: ويُكْرَهُ أنْ يُتَوَضَّأ في آنِيَةِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، ومَذْهَبُهُ أنَّهُ لا يَجُوزُ، وقالَ في رِوايَةِ أبِي داوُد: ويُسْتَحَبُّ أنْ لا يَدْخُلَ الحَمّامَ إلّا بِمِئْزَرٍ لَهُ، وهَذا اسْتِحْبابُ وُجُوبٍ، وقالَ في رِوايَةِ إسْحاقَ بْنِ مَنصُورٍ: إذا كانَ أكْثَرُ مالِ الرَّجُلِ حَرامًا فَلا يُعْجِبُنِي أنْ يُؤْكَلَ مالُهُ، وهَذا عَلى سَبِيلِ التَّحْرِيمِ.
وَقالَ في رِوايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: لا يُعْجِبُنِي أكْلُ ما ذُبِحَ لِلزَّهْرَةِ ولا الكَواكِبِ ولا الكَنِيسَةِ، وكُلُّ شَيْءٍ ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ ولَحْمُ الخِنْزِيرِ وما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ [المائدة: ٣].
فَتَأمَّلْ كَيْف قالَ: " لا يُعْجِبُنِي " فِيما نَصَّ اللَّهُ سُبْحانَهُ عَلى تَحْرِيمِهِ، واحْتَجَّ هو أيْضًا بِتَحْرِيمِ اللَّهِ لَهُ في كِتابِهِ، وقالَ في رِوايَةِ الأثْرَمِ: أكْرَهُ لُحُومَ الجَلّالَةِ وألْبانَها، وقَدْ صَرَّحَ بِالتَّحْرِيمِ في رِوايَةِ حَنْبَلٍ وغَيْرِهِ، وقالَ في رِوايَةِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ: أكْرَهُ أكْلَ لَحْمِ الحَيَّةِ والعَقْرَبِ؛ لِأنَّ الحَيَّةَ لَها نابٌ والعَقْرَبُ لَها حُمَةٌ ولا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُهُ في تَحْرِيمِهِ، وقالَ في رِوايَةِ حَرْبٍ: إذا صادَ الكَلْبُ مِن غَيْرِ أنْ يُرْسَلَ فَلا يُعْجِبُنِي؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إذا أرْسَلْت كَلْبَك وسَمَّيْت» فَقَدْ أطْلَقَ لَفْظَهُ " لا يُعْجِبُنِي " عَلى ما هو حَرامٌ عِنْدَهُ.
ثم قال ابن القيم:
فالسَّلَفُ كانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الكَراهَةَ في مَعْناها الَّذِي اسْتُعْمِلَتْ فِيهِ في كَلامِ اللَّهِ ورَسُولِهِ، ولَكِنْ المُتَأخِّرُونَ اصْطَلَحُوا عَلى تَخْصِيصِ الكَراهَةِ بِما لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ، وتَرْكُهُ أرْجَحُ مِن فِعْلِهِ، ثُمَّ حَمَلَ مَن حَمَلَ مِنهم كَلامَ الأئِمَّةِ عَلى الِاصْطِلاحِ الحادِثِ، فَغَلِطَ في ذَلِكَ، وأقْبَحُ غَلَطًا مِنهُ مَن حَمَلَ لَفْظَ الكَراهَةِ أوْ لَفْظَ " لا يَنْبَغِي " في كَلامِ اللَّهِ ورَسُولِهِ عَلى المَعْنى الِاصْطِلاحِيِّ الحادِثِ، وقَدْ اطَّرَدَ في كَلامِ اللَّهِ ورَسُولِهِ اسْتِعْمالُ " لا يَنْبَغِي " في المَحْظُورِ شَرْعًا وقَدَرًا وفي المُسْتَحِيلِ المُمْتَنِعِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أنْ يَتَّخِذَ ولَدًا﴾ [مريم: ٩٢] وقَوْلِهِ: ﴿وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وما يَنْبَغِي لَهُ﴾ [يس: ٦٩]
وَقَوْلِهِ: ﴿وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ - وما يَنْبَغِي لَهُمْ﴾ [الشعراء: ٢١٠-٢١١]
«وَقَوْلِهِ عَلى لِسانِ نَبِيِّهِ: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وما يَنْبَغِي لَهُ، وشَتَمَنِي ابْنُ آدَمَ وما يَنْبَغِي لَهُ» وقَوْلِهِ ﷺ: «إنّ اللَّهَ لا يَنامُ ولا يَنْبَغِي لَهُ أنْ يَنامَ» وقَوْلِهِ ﷺ في لِباسِ الحَرِيرِ: «لا يَنْبَغِي هَذا لِلْمُتَّقِينَ» وأمْثالِ ذَلِكَ.
* [فَصْلٌ قَوْلُ نُفاةِ القِياسِ]
قَدْ أتَيْنا عَلى ذِكْرِ فُصُولٍ نافِعَةٍ وأُصُولٍ جامِعَةٍ في تَقْرِيرِ القِياسِ والِاحْتِجاجِ بِهِ لَعَلَّكَ لا تَظْفَرُ بِها في غَيْرِ هَذا الكِتابِ، ولا بِقَرِيبٍ مِنها، فَلْنَذْكُرْ مَعَ ذَلِكَ ما قابَلَها مِن النُّصُوصِ والأدِلَّةِ الدّالَّةِ عَلى ذَمِّ القِياسِ، وأنَّهُ لَيْسَ مِن الدِّينِ، وحُصُولِ الِاسْتِغْناءِ عَنْهُ والِاكْتِفاءِ بِالوَحْيَيْنِ، وها نَحْنُ نَسُوقُها مُفَصَّلَةً مُبَيَّنَةً بِحَمْدِ اللَّهِ.
قالَ اللَّهُ - تَعالى -: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أطِيعُوا اللَّهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الأمْرِ مِنكم فَإنْ تَنازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ والرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ [النساء: ٥٩]، وأجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّ الرَّدَّ إلى اللَّهِ - سُبْحانَهُ - هو الرَّدُّ إلى كِتابِهِ، والرَّدَّ إلى الرَّسُولِ ﷺ هو الرَّدُّ إلَيْهِ في حُضُورِهِ وحَياتِهِ وإلى سُنَّتِهِ في غَيْبَتِهِ وبَعْدَ مَماتِهِ، والقِياسُ لَيْسَ بِهَذا ولا هَذا.
وَلا يُقالُ: الرَّدُّ إلى القِياسِ هو مِن الرَّدِّ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ، لِدَلالَةِ كِتابِ اللَّهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كَما تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ؛ لِأنَّ اللَّهَ - سُبْحانَهُ - إنّما رَدَّنا إلى كِتابِهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ ولَمْ يَرُدَّنا إلى قِياسِ عُقُولِنا وآرائِنا قَطُّ، بَلْ قالَ - تَعالى - لِنَبِيِّهِ ﷺ: ﴿وَأنِ احْكم بَيْنَهم بِما أنْزَلَ اللَّهُ﴾ [المائدة: ٤٩]، وقالَ: ﴿إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أراكَ اللَّهُ﴾ [النساء: ١٠٥]، ولَمْ يَقُلْ بِما رَأيْتَ أنْتَ، وقالَ: ﴿وَمَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافِرُونَ﴾ [المائدة: ٤٤]، ﴿وَمَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ [المائدة: ٤٥]، ﴿وَمَن لَمْ يَحْكم بِما أنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ﴾ [المائدة: ٤٧]، وقالَ - تَعالى -: ﴿اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إلَيْكم مِن رَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: ٣]، وقالَ - تَعالى -: ﴿وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ تِبْيانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩] وقالَ: ﴿أوَلَمْ يَكْفِهِمْ أنّا أنْزَلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إنَّ في ذَلِكَ لَرَحْمَةً وذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [العنكبوت: ٥١]، وقالَ: ﴿قُلْ إنْ ضَلَلْتُ فَإنَّما أضِلُّ عَلى نَفْسِي وإنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إلَيَّ رَبِّي﴾ [سبأ: ٥٠]، فَلَوْ كانَ القِياسُ هُدًى لَمْ يَنْحَصِرْ الهُدى في الوَحْيِ، وقالَ: ﴿فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء: ٦٥]، فَنَفى الإيمانَ حَتّى يُوجَدَ تَحْكِيمُهُ وحْدَهُ، وهو تَحْكِيمُهُ في حالِ حَياتِهِ وتَحْكِيمُ سُنَّتِهِ فَقَطْ بَعْدَ وفاتِهِ، وقالَ - تَعالى -: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ [الحجرات: ١]، أيْ لا تَقُولُوا حَتّى يَقُولَ.
قالَ نُفاةُ القِياسِ: والإخْبارُ عَنْهُ بِأنَّهُ حَرَّمَ ما سَكَتَ عَنْهُ أوْ أوْجَبَهُ قِياسًا عَلى ما تَكَلَّمَ بِتَحْرِيمِهِ أوْ إيجابِهِ تَقَدُّمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ فَإنَّهُ إذا قالَ: " حَرَّمْتُ عَلَيْكم الرِّبا في البُرِّ " فَقُلْنا: ونَحْنُ نَقِيسُ عَلى قَوْلِكَ البَلُّوطَ، فَهَذا مَحْضُ التَّقَدُّمِ.
قالُوا: وقَدْ حَرَّمَ - سُبْحانَهُ - أنْ نَقُولَ عَلَيْهِ ما لا نَعْلَمُ، فَإذا فَعَلْنا ذَلِكَ فَقَدْ واقَعْنا هَذا المُحَرَّمَ يَقِينًا، فَإنّا غَيْرُ عالَمِينَ بِأنَّهُ أرادَ مِن تَحْرِيمِ الرِّبا في الذَّهَبِ والفِضَّةِ تَحْرِيمَهُ في القَدِيدِ مِن اللُّحُومِ، وهَذا قَفْوٌ مِنّا ما لَيْسَ لَنا بِهِ عِلْمٌ، وتَعَدٍّ لِما حُدَّ لَنا، " ومَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ "، والواجِبُ أنْ نَقِفَ عِنْدَ حُدُودِهِ، ولا نَتَجاوَزَها ولا نُقَصِّرَ بِها.
وَلا يُقالُ: فَإبْطالُ القِياسِ وتَحْرِيمُهُ والنَّهْيُ عَنْهُ تَقَدُّمٌ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ ورَسُولِهِ، وتَحْرِيمٌ لِما لَمْ يَنُصَّ عَلى تَحْرِيمِهِ، وقَفْوٌ مِنكم ما لَيْسَ لَكم بِهِ [عِلْمٌ]؛ لِأنّا نَقُولُ: اللَّهُ - سُبْحانَهُ وتَعالى - أخْرَجْنا مِن بُطُونِ أُمَّهاتِنا لا نَعْلَمُ شَيْئًا، وأنْزَلَ عَلَيْنا كِتابَهُ، وأرْسَلَ إلَيْنا رَسُولَهُ يُعَلِّمُنا الكِتابَ والحِكْمَةَ، فَما عَلِمْناهُ وبَيَّنَهُ لَنا فَهو مِن الدِّينِ، وما لَمْ يُعَلِّمْناهُ ولا بَيَّنَ لَنا أنَّهُ مِن الدِّينِ فَلَيْسَ مِن الدِّينِ ضَرُورَةً، وكُلُّ ما لَيْسَ مِن الدِّينِ فَهو باطِلٌ؛ فَلَيْسَ بَعْدَ الحَقِّ إلّا الضَّلالُ؛ وقَدْ قالَ - تَعالى -: ﴿اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكم دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣]، فاَلَّذِي أكْمَلَهُ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - وبَيَّنَهُ وهو دِينُنا، لا دَيْنَ لَنا سِواهُ، فَأيْنَ فِيما أكْمَلَهُ لَنا " قِيسُوا ما سَكَتُّ عَنْهُ عَلى ما تَكَلَّمْتُ بِإيجابِهِ أوْ تَحْرِيمِهِ أوْ إباحَتِهِ، سَواءٌ كانَ الجامِعُ بَيْنَهُما عِلَّةً أوْ دَلِيلَ عِلَّةٍ أوْ وصْفًا شَبَهِيًّا، فاسْتَعْمِلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ وانْسِبُوهُ إلَيَّ وإلى رَسُولِي وإلى دِينِي واحْكُمُوا بِهِ عَلَيَّ ".
قالُوا: وقَدْ أخْبَرَ - سُبْحانَهُ -: ﴿إنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا﴾ [يونس: ٣٦]، وأخْبَرَ رَسُولُهُ: " إنّ الظَّنَّ أكْذَبُ الحَدِيثِ " ونَهى عَنْهُ، ومِن أعْظَمِ الظَّنِّ ظَنُّ القِياسِيِّينَ، فَإنَّهم لَيْسُوا عَلى يَقِينٍ أنَّ اللَّهَ - سُبْحانَهُ وتَعالى - حَرَّمَ بَيْعَ السِّمْسِمِ بِالشَّيْرَجِ والحَلْوى بِالعِنَبِ والنَّشا بِالبُرِّ، وإنَّما هي ظُنُونٌ مُجَرَّدَةٌ لا تُغْنِي مِن الحَقِّ شَيْئًا.
قالُوا: وإنْ لَمْ يَكُنْ قِياسُ الضُّراطِ عَلى " السَّلامُ عَلَيْكم " مِن الظَّنِّ الَّذِي نُهِينا عَنْ اتِّباعِهِ وتَحْكِيمِهِ وأخْبَرَنا أنَّهُ لا يُغْنِي مِن الحَقِّ شَيْئًا فَلَيْسَ في الدُّنْيا ظَنٌّ باطِلٌ، فَأيْنَ الضُّراطُ مِن " السَّلامُ عَلَيْكم "؟ وإنْ لَمْ يَكُنْ قِياسُ الماءِ الَّذِي لاقى الأعْضاءَ الطّاهِرَةَ الطَّيِّبَةَ عِنْدَ اللَّهِ في إزالَةِ الحَدَثِ عَلى الماءِ الَّذِي لاقى أخْبَثَ العَذِراتِ والمَيْتاتِ والنَّجاساتِ ظَنًّا فَلا نَدْرِي ما الظَّنُّ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - القَوْلَ بِهِ وذَمَّهُ في كِتابِهِ وسَلَخَهُ مِن الحَقِّ، وإنْ لَمْ يَكُنْ قِياسُ أعْداءِ اللَّهِ ورَسُولِهِ مِن عُبّادِ الصُّلْبانِ واليَهُودِ الَّذِي هم أشَدُّ النّاسِ عَداوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ عَلى أوْلِيائِهِ وخِيارِ خَلْقِهِ وِساداتِ الأُمَّةِ وعُلَمائِها وصُلَحائِها في تَكافُؤِ دِمائِهِمْ وجَرَيانِ القِصاصِ بَيْنَهم فَلَيْسَ في الدُّنْيا ظَنٌّ يُذَمُّ اتِّباعُهُ.
قالُوا: ومِن العَجَبِ أنَّكم قِسْتُمْ أعْداءَ اللَّهِ عَلى أوْلِيائِهِ في جَرَيانِ القِصاصِ بَيْنَهم فَقَتَلْتُمْ ألْفَ ولِيٍّ لِلَّهِ قَتَلُوا نَصْرانِيًّا واحِدًا يُجاهِرُهم بِسَبِّ اللَّهِ ورَسُولِهِ وكِتابِهِ عَلانِيَةً، ولَمْ تَقِيسُوا مَن ضَرَبَ رَأْسَ رَجُلٍ بِدَبُّوسِ فَنَثَرَ دِماغَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلى مَن طَعَنَهُ بِمِسَلَّةٍ فَقَتَلَهُ.
قالُوا: وسَنُبَيِّنُ لَكم مِن تَناقُضِ أقْيِسَتِكم واخْتِلافِها وشِدَّةِ اضْطِرابِها ما يُبَيِّنُ أنَّها مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ.
قالُوا: واللَّهُ - تَعالى - لَمْ يَكِلْ بَيانَ شَرِيعَتِهِ إلى آرائِنا وأقْيِسَتِنا واسْتِنْباطِنا، وإنَّما وكَلَها إلى رَسُولِهِ المُبَيِّنِ عَنْهُ، فَما بَيَّنَهُ عَنْهُ وجَبَ اتِّباعُهُ، وما لَمْ يُبَيِّنْهُ فَلَيْسَ مِن الدِّينِ، ونَحْنُ نُناشِدُكم اللَّهَ: هَلْ اعْتِمادُكم في هَذِهِ الأقْيِسَةِ الشَّبَهِيَّةِ والأوْصافِ الحَدْسِيَّةِ التَّخْمِينِيَّةِ عَلى بَيانِ الرَّسُولِ أمْ عَلى آراءِ الرِّجالِ وظُنُونِهِمْ وحَدْسِهِمْ؟ قالَ اللَّهُ - تَعالى -: ﴿وَأنْزَلْنا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤]، فَأيْنَ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أنِّي إذا حَرَّمْتُ شَيْئًا أوْ أوْجَبْتُهُ أوْ أبَحْتُهُ فاسْتَخْرَجُوا وصْفًا ما شَبَهِيًّا جامِعًا بَيْنَ ذَلِكَ وبَيْنَ جَمِيعِ ما سَكَتُّ عَنْهُ فَألْحِقُوهُ بِهِ وقِيسُوا عَلَيْهِ.
قالُوا: واللَّهُ - تَعالى - قَدْ نَهى عَنْ ضَرْبِ الأمْثالِ لَهُ، فَكَما لا تُضْرَبُ لَهُ الأمْثالُ لا تُضْرَبُ لِدِينِهِ، وتَمْثِيلُ ما لَمْ يَنُصَّ عَلى حُكْمِهِ بِما نَصَّ عَلَيْهِ لِشَبَهِ ما ضَرَبَ الأمْثالَ لِدِينِهِ، وهَذا بِخِلافِ ما ضَرَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِن الأمْثالِ في كَثِيرٍ مِن الأحْكامِ الَّتِي سَألَ عَنْها، كَما أمَرَهم بِقَضاءِ الصَّلاةِ الَّتِي نامُوا عَنْها فَقالُوا: «ألا نُصَلِّيها لِوَقْتِها مِن الغَدِ؟ فَقالَ: أيَنْهاكم عَنْ الرِّبا ويَقْبَلُهُ مِنكُمْ»، وكَما «قالَ لِعُمَرَ وقَدْ سَألَهُ عَنْ القُبْلَةِ لِلصّائِمِ أرَأيْتَ لَوْ تَمَضْمَضْتَ بِماءٍ ثُمَّ مَجَجْتَهُ»، وكَما «قالَ لِمَن سَألَتْهُ عَنْ الحَجِّ عَنْ أبِيها أرَأيْتِ لَوْ كانَ عَلى أبِيكِ دَيْنٌ»، وكَما «قالَ لِمَن سَألَهُ: هَلْ يُثابُ عَلى وطْءِ زَوْجَتِهِ أرَأيْتُمْ لَوْ وضَعَها في الحَرامِ».
[مِن الأمْثالِ الَّتِي ضَرَبَها اللَّهُ ورَسُولُهُ]
وَمِن أحْسَنِ هَذِهِ الأمْثالِ وأبْلَغِها وأعْظَمِها تَقْرِيبًا إلى الأفْهامِ ما رَواهُ الإمامُ أحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ مِن حَدِيثِ الحارِثِ الأشْعَرِيِّ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إنّ اللَّهَ - سُبْحانَهُ - أمَرَ يَحْيى بْنَ زَكَرِيّا بِخَمْسِ كَلِماتٍ لِيَعْمَلَ بِها ويَأْمُرَ بَنْيِ إسْرائِيلَ أنْ يَعْمَلُوا بِها، وإنَّهُ كادَ أنْ يُبْطِئَ بِها، فَقالَ عِيسى: إنّ اللَّهَ أمَرَكَ بِخَمْسِ كَلِماتٍ لِتَعْمَلَ بِها وتَأْمُرَ بَنْيِ إسْرائِيلَ أنْ يَعْمَلُوا بِها، فَإمّا أنْ تَأْمُرَهم وإمّا أنْ آمُرَهُمْ، فَقالَ يَحْيى: أخْشى إنْ سَبَقْتَنِي أنْ يُخْسَفَ بِي أوْ أُعَذَّبَ، فَجَمَعَ النّاسَ في بَيْتِ المَقْدِسِ، فامْتَلَأ المَسْجِدُ وقَعَدُوا عَلى الشُّرَفِ، فَقالَ: إنّ اللَّهَ أمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِماتٍ أنْ أعْمَلَ بِهِنَّ وآمُرَكم أنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ: أُولاهُنَّ: أنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ ولا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وإنَّ مَثَلَ مَن أشْرَكَ بِاللَّهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرى عَبْدًا مِن خالِصِ مالِهِ بِذَهَبٍ أوْ ورِقٍ. فَقالَ: هَذِهِ دارِي وهَذا عَمَلِي، فاعْمَلْ وأدِّ إلَيَّ، فَكانَ يَعْمَلُ ويُؤَدِّي إلى غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأيُّكم يَرْضى أنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ؟ وإنَّ اللَّهَ أمَرَكم بِالصَّلاةِ، فَإذا صَلَّيْتُمْ فَلا تَلْتَفِتُوا، فَإنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ في صَلاتِهِ ما لَمْ يَلْتَفِتْ، وأمَرَكم بِالصِّيامِ، فَإنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ في عِصابَةٍ مَعَهُ صُرَّةٌ فِيها مِسْكٌ، وكُلُّهم يُعْجِبُهُ رِيحُها، وإنَّ رِيحَ الصّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِن رِيحِ المِسْكِ، وأمَرَكم بِالصَّدَقَةِ، فَإنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أسَرَهُ العَدُوُّ فَأوْثَقُوا يَدَيْهِ إلى عُنُقِهِ وقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَقالَ: أنا أفْتَدِي مِنكم بِكُلِّ قَلِيلٍ وكَثِيرٍ، فَفَدى نَفْسَهُ مِنهُمْ، وأمَرَكم أنْ تَذْكُرُوا اللَّهَ، فَإنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ خَرَجَ العَدُوُّ في أثَرِهِ سِراعًا حَتّى إذا أتى عَلى حِصْنٍ حَصِينٍ فَأحْرَزَ نَفْسَهُ مِنهُمْ، كَذَلِكَ العَبْدُ لا يُحْرِزُ نَفْسَهُ مِن الشَّيْطانِ إلّا بِذِكْرِ اللَّهِ، قالَ النَّبِيُّ ﷺ: وأنا آمُرُكم بِخَمْسٍ اللَّهُ أمَرَنِي بِهِنَّ: السَّمْعِ، والطّاعَةِ، والجِهادِ، والهِجْرَةِ، والجَماعَةِ؛ فَإنَّهُ مَن فارَقَ الجَماعَةَ قَيْدَ شِبْرٍ فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإسْلامِ عَنْ عُنُقِهِ إلّا أنْ يُراجِعَ. ومَن ادَّعى دَعْوى الجاهِلِيَّةِ فَإنَّهُ مِن جُثاءِ جَهَنَّمَ، قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ وإنْ صَلّى وإنْ صامَ؟ فَقالَ: وإنْ صَلّى وإنْ صامَ، فادْعُوا بِدَعْوى اللَّهِ الَّذِي سَمّاكم المُسْلِمِينَ المُؤْمِنِينَ عِبادَ اللَّهِ»، حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «أرَأيْتُمْ لَوْ أنَّ نَهْرًا بِبابِ أحَدِكم يَغْتَسِلُ مِنهُ خَمْسَ مَرّاتٍ، هَلْ يَبْقى مِن دَرَنِهِ شَيْءٌ؟ قالُوا: لا، قالَ: فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَواتِ الخَمْسِ يَمْحُوا اللَّهُ بِهِنَّ الخَطايا ومَثَّلَ ﷺ المُؤْمِنَ القارِئَ لِلْقُرْآنِ بِالأُتْرُجَّةِ في طِيبِ الطَّعْمِ والرِّيحِ، وضِدَّهُ بِالحَنْظَلَةِ، والمُؤْمِنَ الَّذِي لا يَقْرَأُ بِالتَّمْرَةِ في طِيبِ الطَّعْمِ وعَدَمِ الرِّيحِ، والفاجِرَ القارِئَ بِالرَّيْحانَةِ رِيحُها طَيِّبٌ وطَعْمُها مُرٌّ، ومَثَّلَ المُؤْمِنَ بِالخامَةِ مِن الزَّرْعِ لا تَزالُ الرِّياحُ تُمِيلُها ولا يَزالُ المُؤْمِنُ يُصِيبُهُ البَلاءُ، ومَثَّلَ المُنافِقَ بِشَجَرَةِ الأرْزِ - وهي الصَّنَوْبَرَةُ - لا تَهْتَزُّ ولا تَمِيلُ حَتّى تُقْطَعَ مَرَّةً واحِدَةً، ومَثَّلَ المُؤْمِنَ بِالنَّخْلَةِ في كَثْرَةِ خَيْرِها ومَنافِعِها وحاجَةِ النّاسِ إلَيْها وانْتِيابِهِمْ لَها لِمَنافِعِهِمْ بِها، وشَبَّهَ أُمَّتَهُ بِالمَطَرِ في نَفْعِ أوَّلِهِ وآخِرِهِ وحَياةِ الوُجُودِ بِهِ، ومَثَّلَ أُمَّتَهُ والأُمَّتَيْنِ الكِتابِيَّتَيْنِ قَبْلَها فِيما خَصَّ اللَّهُ بِهِ أُمَّتَهُ وأكْرَمَها بِهِ بِأُجَراءَ عَمِلُوا بِأجْرٍ مُسَمًّى لِرَجُلٍ يَوْمًا عَلى أنْ يُوَفِّيَهم أُجُورَهُمْ، فَلَمْ يُكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ وتَرَكُوا العَمَلَ مِن أثْناءِ النَّهارِ، فَعَمِلَتْ أُمَّتُهُ بَقِيَّةَ النَّهارِ فاسْتَكْمَلُوا أجْرَ الفَرِيقَيْنِ، وضَرَبَ لَهُ ولِأُمَّتِهِ جِبْرِيلُ ومِيكائِيلُ مَثَلَ مَلِكٍ اتَّخَذَ دارًا، ثُمَّ ابْتَنى فِيها بَيْتًا، ثُمَّ جَعَلَ مائِدَةً، ثُمَّ بَعَثَ رَسُولًا يَدْعُو النّاسَ إلى طَعامِهِ، فَمِنهم مَن أجابَ الرَّسُولَ ومِنهم مَن تَرَكَهُ، فاللَّهُ هو المَلِكُ، والرَّسُولُ مُحَمَّدٌ الدّاعِي، والدّارُ الإسْلامُ، والبَيْتُ الجَنَّةُ، فَمَن أجابَهُ دَخَلَ الإسْلامَ، ومَن دَخَلَ الإسْلامَ دَخَلَ دارَ المَلِكِ وأكَلَ مِنها، ومَن لَمْ يُجِبْهُ لَمْ يَدْخُلْ دارِهِ ولَمْ يَأْكُلْ مِنها».
، وفي المُسْنَدِ والتِّرْمِذِيِّ مِن حَدِيثِ النَّوّاسِ بْنِ سَمْعانَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنّ اللَّهَ ضَرَبَ مَثَلًا صِراطًا مُسْتَقِيمًا، عَلى كَنَفَيْ الصِّراطِ سُورانِ لَهُما أبْوابٌ مُفَتَّحَةٌ، وعَلى الأبْوابِ سُتُورٌ مُرْخاةٌ، وعَلى بابِ الصِّراطِ داعٍ يَقُولُ: يا أيُّها النّاسُ ادْخُلُوا الصِّراطَ جَمِيعًا ولا تَعْرُجُوا، وداعٍ يَدْعُو مِن فَوْقِ الصِّراطِ فَإذا أرادَ أنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِن تِلْكَ الأبْوابِ قالَ: ويْحَكَ، لا تَفْتَحْهُ، فَإنَّكَ إنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ، فالصِّراطُ الإسْلامُ، والسُّورانِ حُدُودُ اللَّهِ، والأبْوابُ المُفَتَّحَةُ مَحارِمُ اللَّهِ، فَلا يَقَعُ أحَدٌ في حَدٍّ مِن حُدُودِ اللَّهِ حَتّى يَكْشِفَ السِّتْرَ، والدّاعِي عَلى رَأْسِ الصِّراطِ كِتابُ اللَّهِ، والدّاعِي مِن فَوْقِ الصِّراطِ واعِظُ اللَّهِ في قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ» فَلْيَتَأمَّلْ العارِفُ قَدْرَ هَذا المَثَلِ، ولْيَتَدَبَّرْهُ حَقَّ تَدَبُّرِهِ، ويَزِنْ بِهِ نَفْسَهُ، ويَنْظُرْ أيْنَ هو مِنهُ؟، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَقالَ: «مَثَلِي ومَثَلُ الأنْبِياءِ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنِي دارًا فَأكْمَلَها وأحْسَنَها إلّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَجَعَلَ النّاسُ يَدْخُلُونَها ويَتَعَجَّبُونَ مِنها، ويَقُولُونَ لَوْلا مَوْضِعُ تِلْكَ اللَّبِنَةِ، فَكُنْتُ أنا مَوْضِعَ تِلْكَ اللَّبِنَةِ»، رَواهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ وأبِي سَعِيدٍ عَنْهُ ﷺ: «إنّما مَثَلِي ومَثَلُ أُمَّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نارًا، فَجَعَلَ الدَّوابُّ والفَراشُ يَقَعْنَ فِيها، فَأنا آخُذُ بِحُجَزِكم مِن النّارِ وأنْتُمْ تَقْتَحِمُونَ فِيها. ومَثَّلَ مَن وقَعَ في الشُّبُهاتِ بِالرّاعِي يَرْعى حَوْلَ الحِمى يُوشِكُ أنْ يَقَعَ فِيهِ».
وَقالَ الحافِظُ أبُو مُحَمَّدِ بْنِ خَلّادٍ الرّامَهُرْمُزِيّ: حَدَّثَنا أبُو سَعِيدٍ الحَرّانِيُّ ثنا يَحْيى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ البابْلُتِّيُّ ثنا صَفْوانُ بْنُ عَمْرٍو قالَ: ثني سُلَيْمُ بْنُ عامِرٍ قالَ: قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وأُوتِيتُ جَوامِعَ الكَلِمِ، وأُوتِيتُ الحِكْمَةَ، وضُرِبَ لِي مِن الأمْثالِ مَثَلُ القُرْآنِ، وإنِّي بَيْنا أنا نائِمٌ إذْ أتانِي مَلَكانِ فَقامَ أحَدُهُما عِنْدَ رَأْسِي وقامَ الآخَرُ عِنْدَ رِجْلِي، فَقالَ لِلَّذِي عِنْدَ رَأْسِي: اضْرِبْ مَثَلًا وأنا أُفَسِّرُهُ، فَقالَ الَّذِي عِنْدَ رَأْسِي وأهْوى إلَيَّ: لِتَنَمْ عَيْنُكَ ولِتَسْمَعْ أُذُنُكَ ولِيَعِ قَلْبُكَ، قالَ: فَكُنْتُ كَذَلِكَ، أمّا الأُذُنُ فَتَسْمَعُ، وأمّا القَلْبُ فَيَعِي، وأمّا العَيْنُ فَتَنامُ، قالَ: فَضَرَبَ مَثَلًا فَقالَ: بِرْكَةٌ فِيها شَجَرَةٌ ثابِتَةٌ، وفي الشَّجَرَةِ غُصْنٌ خارِجٌ، فَجاءَ ضارِبٌ فَضَرَبَ الشَّجَرَةَ، فَوَقَعَ الغُصْنُ ووَقَعَ مَعَهُ ورَقٌ كَثِيرٌ، كُلُّ ذَلِكَ في البِرْكَةِ لَمْ يَعْدُها، ثُمَّ ضَرَبَ الثّانِيَةَ، فَوَقَعَ ورَقٌ كَثِيرٌ، كُلُّ ذَلِكَ في البِرْكَةِ لَمْ يَعُدْها، ثُمَّ ضَرَبَ الثّالِثَةَ فَوَقَعَ ورِقٌ كَثِيرٌ، لا أدْرِي ما وقَعَ فِيها أكْثَرُ أوْ ما خَرَجَ مِنها، قالَ: فَفَسَّرَ الَّذِي عِنْدَ رِجْلِي، فَقالَ: أمّا البِرْكَةُ فَهي الجَنَّةُ، وأمّا الشَّجَرَةُ فَهي الأُمَّةُ، وأمّا الغُصْنُ فَهو النَّبِيُّ ﷺ، وأمّا الضّارِبُ فَمَلَكُ المَوْتِ: ضَرَبَ الضَّرْبَةَ الأُولى في القَرْنِ الأوَّلِ فَوَقَعَ النَّبِيُّ ﷺ وأهْلُ طَبَقَتِهِ، وضَرَبَ الثّانِيَةَ في القَرْنِ الثّانِي، فَوَقَعَ كُلُّ ذَلِكَ في الجَنَّةِ، ثُمَّ ضَرَبَ الثّالِثَةَ في القَرْنِ الثّالِثِ فَلا أدْرِي ما وقَعَ فِيها أكْثَرُ أمْ ما خَرَجَ مِنها».
وَفِي المُسْنَدِ مِن حَدِيثِ جابِرٍ: «كانَ النَّبِيُّ ﷺ إذا خَطَبَ احْمَرَّتْ عَيْناهُ وعَلا صَوْتُهُ واشْتَدَّ غَضَبُهُ حَتّى كَأنَّهُ نَذِيرُ جَيْشٍ يَقُولُ صَبَّحَكم ومَسّاكُمْ، ثُمَّ يَقُولُ: بُعِثْتُ أنا والسّاعَةُ كَهاتَيْنِ، ويَقْرِنُ بَيْنَ أُصْبُعِهِ السَّبّابَةِ والوُسْطى».
وَفِي حَدِيثِ المُسْتَوْرِدِ «بُعِثْتُ في نَفَسِ السّاعَةِ سَبَقْتُها كَما سَبَقَتْ هَذِهِ هَذِهِ، وأشارَ بِأُصْبُعَيْهِ»، وفي المُسْنَدِ عَنْهُ «، إنّ مَثَلِي ومَثَلَ ما بَعَثَنِي اللَّهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ أتى قَوْمَهُ فَقالَ: يا قَوْمِ إنِّي رَأيْتُ الجَيْشَ بِعَيْنِي، وأنا النَّذِيرُ العُرْيانُ فالنَّجاءَ، فَأطاعَهُ طائِفَةٌ مِنهم فَأدْلَجُوا عَلى مَهْلِهِمْ فَنَجَوا، وكَذَّبَتْهُ طائِفَةٌ فَأصْبَحُوا مَكانَهم فَصَبَّحَهم الجَيْشُ فَأهْلَكَهم واجْتاحَهُمْ، وكَذَلِكَ مَثَلُ مَن أطاعَنِي واتَّبَعَ ما جِئْتُ بِهِ ومَثَلُ مَن عَصانِي وكَذَّبَ بِما جِئْتُ بِهِ مِن الحَقِّ» وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ: «مَثَلِي ومَثَلُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِن الهُدى والعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أصابَ أرْضًا، فَكانَ مِنها طائِفَةٌ قَبِلَتْ الماءَ فَأنْبَتَتْ الكَلَأ والعُشْبَ الكَثِيرَ، وكانَ مِنها أجادِبُ أمْسَكَتْ الماءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِها النّاسَ فَشَرِبُوا وزَرَعُوا وسَقَوْا، وأصابَ طائِفَةً أُخْرى مِنها إنّما هي قِيعانٌ لا تُمْسِكُ ماءً ولا تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَن فَقِهَ في دَيْنِ اللَّهِ ونَفَعَهُ ما بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وعَلَّمَ، ومَثَلُ مَن لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا ولَمْ يَقْبَلْ هُدى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ خَطَبَ النّاسَ فَقالَ: «واللَّهِ ما الفَقْرُ أخْشى عَلَيْكُمْ، وإنَّما أخْشى عَلَيْكم ما يُخْرِجُ اللَّهُ لَكم مِن زَهْرَةِ الدُّنْيا، فَقالَ رَجُلٌ: يا رَسُولَ اللَّهِ أوَ يَأْتِي الخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَصَمَتَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ قالَ: كَيْفَ قُلْتَ؟ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أوَ يَأْتِي الخَيْرُ بِالشَّرِّ؟ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إنّ الخَيْرَ لا يَأْتِي إلّا بِالخَيْرِ، وإنَّ مِمّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ ما يَقْتُلُ حَبَطًا أوْ يَلُمْ، إلّا آكِلَةُ الخَضِرِ أكَلَتْ حَتّى إذا امْتَدَّتْ خاصِرَتاها اسْتَقْبَلَتْ فَثَلَطَتْ وبالَتْ ثُمَّ اجْتَرَّتْ وعادَتْ فَأكَلَتْ، فَمَن أخَذَ مالًا بِحَقِّهِ يُبارَكُ لَهُ فِيهِ، ومَن أخَذَ مالًا بِغَيْرِ حَقِّهِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي يَأْكُلُ ولا يَشْبَعُ».
وَقالَتْ مَيْمُونَةُ: «قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِعَمْرِو بْنِ العاصِ: الدُّنْيا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَن اتَّقى اللَّهَ فِيها وأصْلَحَ، وإلّا فَهو كاَلَّذِي يَأْكُلُ ولا يَشْبَعُ، وبَيْنَ النّاسِ في ذَلِكَ كَبُعْدِ الكَوْكَبَيْنِ أحَدُهُما يَطْلُعُ في المَشْرِقِ والآخَرُ يَغِيبُ في المَغْرِبِ، ومَثَّلَ نَفْسَهُ ﷺ في الدُّنْيا بِراكِبٍ مَرَّ بِأرْضٍ فَلاةٍ، فَرَأى شَجَرَةً، فاسْتَظَلَّ تَحْتَها، ثُمَّ راحَ وتَرَكَها». وفي المُسْنَدِ والتِّرْمِذِيِّ عَنْهُ «ما الدُّنْيا في الآخِرَةِ إلّا كَما يَضَعُ أحَدُكم أُصْبُعَهُ في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ؟»، «وَمَرَّ مَعَ الصَّحابَةِ بِسَخْلَةٍ مَنبُوذَةٍ فَقالَ: أتَرَوْنَ هَذِهِ هانَتْ عَلى أهْلِها، فَواَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَلدُّنْيا أهْوَنُ عَلى اللَّهِ مِن هَذِهِ عَلى أهْلِها».
وَقالَ: «إنّما مَثَلِي ومَثَلُكم ومَثَلُ الدُّنْيا كَمَثَلِ قَوْمٍ سَلَكُوا مَفازَةً غَبْراءَ لا يَدْرُونَ ما قَطَعُوا مِنها أكْثَرُ أوْ ما بَقِيَ مِنها، فَحَسِرَتْ ظُهُورُهُمْ، ونَفَدَ زادُهُمْ، وسَقَطُوا بَيْنَ ظَهْرَيْ المَفازَةِ، فَأيْقَنُوا بِالهَلَكَةِ، فَبَيْنَما هم كَذَلِكَ إذْ خَرَجَ عَلَيْهِمْ رَجُلٌ في حُلَّةٍ يَقْطُرُ رَأْسُهُ، فَقالُوا: إنّ هَذا لَحَدِيثُ عَهْدٍ بِرِيفٍ، فانْتَهى إلَيْهِمْ، فَقالَ: يا هَؤُلاءِ، ما شَأْنُكُمْ؟ فَقالُوا: ما تَرى كَيْفَ حَسِرَتْ ظُهُورُنا ونَفَذَتْ أزْوادُنا بَيْنَ ظَهْرَيْ هَذِهِ المَفازَةِ لا نَدْرِي ما قَطَعْنا مِنها أكْثَرُ أمْ ما بَقِيَ؟ فَقالَ: ما تَجْعَلُونَ لِي إنْ أوْرَدْتُكم ماءً رَواءً ورِياضًا خُضْرًا؟ قالُوا: حُكْمُكَ، قالَ: تُعْطُونِي عُهُودَكم ومَواثِيقَكم ألّا تَعْصُونِي، فَفَعَلُوا، فَمالَ بِهِمْ فَأوْرَدَهم ماءً رُواءٍ ورِياضًا خُضْرًا، فَمَكَثَ يَسِيرًا ثُمَّ قالَ: هَلُمُّوا إلى رِياضٍ أعْشَبَ مِن رِياضِكم هَذِهِ وماءٍ أرْوى مِن مائِكم هَذا، فَقالَ جُلُّ القَوْمِ: ما قَدَرْنا عَلى هَذا حَتّى كِدْنا أنْ لا نَقْدِرَ عَلَيْهِ، وقالَتْ طائِفَةٌ مِنهُمْ: ألَسْتُمْ قَدْ جَعَلْتُمْ هَذا الرَّجُلَ عُهُودَكم ومَواثِيقَكم أنْ لا تَعْصُوهُ؟ فَقَدْ صَدَقَكم في أوَّلِ حَدِيثِهِ، فَآخِرُ حَدِيثِهِ مِثْلُ أوَّلِهِ، فَراحَ وراحُوا مَعَهُ فَأوْرَدَهم رِياضًا خُضْرًا، وماءً رَواءً، وأتى الآخَرِينَ العَدُوَّ مِن لَيْلَتِهِمْ فَأصْبَحُوا ما بَيْنَ قَتِيلٍ وأسِيرٍ»، وقالَ: «مَثَلُ المُؤْمِنِ كَمَثَلِ النَّخْلَةِ أكَلَتْ طَيِّبًا ووَضَعَتْ طَيِّبًا، وإنَّ مَثَلَ المُؤْمِنِ كَمَثَلِ القِطْعَةِ الجَيِّدَةِ مِن الذَّهَبِ أُدْخِلَتْ في النّارِ فَنُفِخَ عَلَيْها فَخَرَجَتْ جَيِّدَةً».
وَرَوى لَيْثٌ عَنْ مُجاهِدٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ يَرْفَعُهُ: «مَثَلُ المُؤْمِنِ مَثَلُ النَّخْلَةِ - أوْ النَّحْلَةِ - إنْ شاوَرْتَهُ نَفَعَكَ، وإنْ ماشِيَتَهُ نَفَعَكَ، وإنْ شارَكْتَهُ نَفَعَكَ»، وقالَ: «مَثَلُ المُؤْمِنِ والإيمانِ كَمَثَلِ الفَرَسِ في آخِيَّتِهِ يَجُولُ ما يَجُولُ ثُمَّ يَرْجِعُ إلى أخِيَّتِهِ؛ وكَذَلِكَ المُؤْمِنُ يَفْتَرِقُ ما يَفْتَرِقُ ثُمَّ يَرْجِعُ إلى الإيمانِ»، وقالَ: «مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ وتَراحُمِهِمْ كَمَثَلِ الجَسَدِ، إذا اشْتَكى شَيْءٌ مِنهُ تَداعى سائِرُهُ بِالسَّهَرِ والحُمّى»، وقالَ: «مَثَلُ المُنافِقِ كَمَثَلِ الشّاةِ العائِرَةِ بَيْنَ الغَنَمَيْنِ، تَكُرُّ إلى هَذِهِ مَرَّةً، وإلى هَذِهِ مَرَّةً»، وقالَ: «مَثَلُ القُرْآنِ كَمَثَلِ الإبِلِ المُعَقَّلَةِ، إنْ تَعَهَّدَ صاحِبُها عَقْلَها أمْسَكَها، وإنْ أغْفَلَها ذَهَبَتْ، وإذا قامَ صاحِبُ القُرْآنِ بِهِ ذَكَرَهُ، وإذا لَمْ يَقُمْ بِهِ نَسِيَهُ»، وقالَ مُوسى بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ ماعِزِ بْنِ سُوَيْد العَرْجِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ - أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «مَثَلُ المُؤْمِنِ الَّذِي لا يُتِمُّ صَلاتَهُ مَثَلُ المَرْأةِ الَّتِي حَمَلَتْ حَتّى إذا دَنا نِفاسُها أسْقَطَتْ، فَلا حامِلُ ولا ذاتُ رَضاعٍ؛ ومَثَلُ المُصَلِّي كَمَثَلِ التّاجِرِ لا يَخْلُصُ لَهُ الرِّبْحُ حَتّى يَخْلُصَ لَهُ رَأْسُ المالِ وكَذَلِكَ المُصَلِّي لا يَقْبَلُ اللَّهُ لَهُ نافِلَةً حَتّى يُؤَدِّيَ الفَرِيضَةَ».
وَقالَ حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أوْسِ بْنِ خالِدٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ «مَثَلُ الَّذِي يَسْمَعُ الحِكْمَةَ ولا يَحْمِلُ إلّا شَرَّها كَمَثَلِ رَجُلٍ أتى راعِيًا فَقالَ: آجِرْنِي شاةً مِن غَنَمِكَ، فَقالَ: انْطَلِقْ فَخُذْ بِأُذُنِ شاةٍ مِنها، فَذَهَبَ فَأخَذَ بِأُذُنِ كَلْبِ الغَنَمِ»، وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ: ثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جابِرٍ حَدَّثَنِي أبُو هُرَيْرَةَ قالَ: سَمِعْتُ مُعاوِيَةَ يَقُولُ عَلى هَذا المِنبَرِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إنّما بَقِيَ مِن الدُّنْيا بَلاءٌ وفِتْنَةٌ، وإنَّما مَثَلُ عَمَلِ أحَدِكم كَمَثَلِ الوِعاءِ إذا طابَ أعْلاهُ طابَ أسْفَلُهُ، وإذا خَبُثَ أعْلاهُ خَبُثَ أسْفَلُهُ». وفي المُسْنَدِ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ: «أنَّ رَجُلًا كانَ فِيمَن كانَ قَبْلَكم اسْتَضافَ قَوْمًا فَأضافُوهُ، ولَهم كَلْبَةٌ تَنْبَحُ، قالَ: فَقالَتْ الكَلْبَةُ: واللَّهِ لا أنْبَحُ ضَيْفَ أهْلِي اللَّيْلَةَ، قالَ: فَعَوى جِراؤُها في بَطْنِها فَبَلَغَ ذَلِكَ نَبِيًّا لَهم أوْ قَيْلًا لَهُمْ، فَقالَ: مَثَلُ هَذِهِ مَثَلُ أُمَّةٍ تَكُونُ بَعْدَكم يَقْهَرُ سُفَهاؤُها حُكَماءَها ويَغْلِبُ سُفَهاؤُها عُلَماءَها».
وَفِي صَحِيحِ البُخارِيِّ مِن حَدِيثِ النُّعْمانِ بْنِ بَشِيرٍ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «مَثَلُ القائِمِ في حُدُودِ اللَّهِ والواقِعِ فِيها كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُّوا عَلى سَفِينَةٍ، فَأصابَ بَعْضُهم أعْلاها وبَعْضُهم أسْفَلَها، فَكانَ الَّذِينَ في أسْفَلِها إذا اسْتَقَوْا مِن الماءِ مَرُّوا عَلى مَن فَوْقَهُمْ، فَقالُوا: لَوْ أنّا خَرَقْنا في نَصِيبِنا خَرْقًا ولَمْ نُؤْذِ مَن فَوْقَنا، فَإنْ هم تَرَكُوهم وما أرادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وإنْ أخَذُوا عَلى أيْدِيهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَمِيعًا».
وَفِي المُعْجَمِ الكَبِيرِ عَنْهُ مِن حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قالَ: «إيّاكم ومُحَقَّراتِ الذُّنُوبَ، فَإنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بَطْنَ وادٍ، فَجاءَ هَذا بِعُودٍ وهَذا بِعُودٍ، حَتّى حَمَلُوا ما أنْضَجُوا بِهِ خُبْزَهُمْ، وإنَّ مُحَقَّراتِ الذُّنُوبِ مَتى يُؤْخَذُ بِها صاحِبُها تُهْلِكُهُ»
، وفي المُسْنَدِ مِن حَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ يَرْفَعُهُ «إنّ مَطْعَمَ بْنَ آدَمَ ضَرَبَ مَثَلًا لِلدُّنْيا، فانْظُرْ ما يَخْرُجُ مِن ابْنِ آدَمَ وإنَّ فَرْخَهُ ومِلْحَهُ قَدْ عَلِمَ إلى ما يَصِيرُ».
وَقالَ أبُو مُحَمَّدِ بْنُ خَلّادٍ: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ بْنِ مَعْدانَ ثنا يُوسُفُ بْنُ مُسْلِمٍ المِصِّيصِيُّ ثنا حَجّاجٌ الأعْوَرُ عَنْ أبِي بَكْرٍ الهُذَلِيِّ عَنْ الحَسَنِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قالَ: «إنِّي ضَرَبْتُ لِلدُّنْيا مَثَلًا، ولِابْنِ آدَمَ عِنْدَ المَوْتِ، مَثَلُهُ مَثَلُ رَجُلٍ لَهُ ثَلاثَةُ أخِلّاءَ، فَلَمّا حَضَرَهُ المَوْتُ قالَ لِأحَدِهِمْ: إنّكَ كُنْتَ لِي خَلِيلًا، وكُنْتَ أبَرَّ الثَّلاثَةَ عِنْدِي، وقَدْ نَزَلَ بِي مِن أمْرِ اللَّهِ ما تَرى، فَماذا عِنْدَكَ؟ قالَ: يَقُولُ: وماذا عِنْدِي؟ وهَذا أمْرُ اللَّهِ قَدْ غَلَبَنِي، ولا أسْتَطِيعُ أنْ أُنَفِّسَ كُرْبَتَكَ، ولا أُفَرِّجَ غَمَّكَ، ولا أُؤَخِّرَ ساعَتَكَ، ولَكِنْ ها أنا ذا بَيْنَ يَدَيْكَ، فَخُذْنِي زادًا تَذْهَبُ بِهِ مَعَكَ، فَإنَّهُ يَنْفَعُكَ، قالَ: ثُمَّ دَعا الثّانِيَ فَقالَ: إنّكَ كُنْتَ لِي خَلِيلًا، وكُنْتَ أبَرَّ الثَّلاثَةِ عِنْدِي، وقَدْ نَزَلَ بِي مِن أمْرِ اللَّهِ ما تَرى، فَماذا عِنْدَكَ؟ قالَ: يَقُولُ: وماذا عِنْدِي؟ وهَذا أمْرُ اللَّهِ غَلَبَنِي، ولا أسْتَطِيعُ أنْ أُنَفِّسَ كُرْبَتَكَ، ولا أُفَرِّجَ غَمَّكَ، ولا أُؤَخِّرَ ساعَتَكَ، ولَكِنْ سَأقُومُ عَلَيْكَ في مَرَضِكَ، فَإذا مِتَّ أنْقَيْتُ غُسْلَكَ وجَدَّدْتُ كِسْوَتَكَ وسَتَرْتُ جَسَدَكَ وعَوْرَتَكَ قالَ: ثُمَّ دَعا الثّالِثَ فَقالَ: قَدْ نَزَلَ بِي مِن أمْرِ اللَّهِ ما تَرى، وكُنْتَ أهْوَنَ الثَّلاثَةِ عَلَيَّ، وكُنْتُ لَكَ مُضَيِّعًا، وفِيكَ زاهِدًا، فَما عِنْدَكَ؟ قالَ: عِنْدِي أبِي قَرِينُكَ وحَلِيفُكَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، أدْخُلُ مَعَكَ قَبْرَكَ حِين تَدْخُلُهُ، وأخْرُجُ مِنهُ حِينَ تَخْرُجُ مِنهُ، ولا أُفارِقُكَ أبَدًا، فَقالَ النَّبِيُّ ﷺ: هَذا مالُهُ وأهْلُهُ وعَمَلُهُ، أمّا الأوَّلُ الَّذِي قالَ خُذْنِي زادًا فَمالُهُ، والثّانِي أهْلُهُ، والثّالِثُ عَمَلُهُ».
وَقَدْ رَواهُ أيْضًا بِسِياقِ آخَرَ مِن حَدِيثِ أُبَيٍّ أيْضًا، ولَفْظُهُ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ يَوْمًا لِأصْحابِهِ أتَدْرُونَ ما مَثَلُ أحَدِكم ومَثَلُ مالِهِ وأهْلِهِ وعَمَلِهِ؟ قالُوا: اللَّهُ ورَسُولُهُ أعْلَمُ، فَقالَ: إنّما مَثَلُ أحَدِكم ومَثَلُ أهْلِهِ ومالِهِ وعَمَلِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ لَهُ ثَلاثَةُ إخْوَةٍ، فَلَمّا حَضَرَتْهُ الوَفاةُ دَعا بَعْضَ إخْوَتِهِ فَقالَ: إنّهُ قَدْ نَزَلَ بِي مِن الأمْرِ ما تَرى، فَمالِي عِنْدَكَ؟ وما لَدَيْكَ؟ فَقالَ: لَكَ عِنْدِي أنْ أُمْرِضَكَ ولا أُزايِلَكَ، وأنْ أقُومَ بِشَأْنِكَ، فَإذا مِتَّ غَسَّلْتُكَ وكَفَّنْتُكَ وحَمَلْتُكَ مَعَ الحامِلِينَ، أحْمِلُكَ طَوْرًا وأُمِيطُ عَنْكَ طَوْرًا، فَإذا رَجَعْتُ أثْنَيْتُ عَلَيْكَ بِخَيْرٍ هُنا عِنْدَ مَن يَسْألُنِي عَنْكَ، هَذا أخُوهُ الَّذِي هو أهْلُهُ، فَما تَرَوْنَهُ؟ قالُوا: لا نَسْمَعُ طائِلًا يا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ يَقُولُ لِلْأخِ الآخَرِ: أتَرى ما قَدْ نَزَلَ بِي؟ فَمالِي لَدَيْكَ؟ ومالِي عِنْدَكَ؟ فَيَقُولُ: لَيْسَ عِنْدِي غَناءٌ إلّا وأنْتَ في الأحْياءِ، فَإذا مِتَّ ذَهَبَ بِكَ مَذْهَبٌ وذَهَبَ بِي مَذْهَبٌ، هَذا أخُوهُ الَّذِي هو مالُهُ، كَيْف تَرَوْنَهُ؟ قالُوا: لا نَسْمَعُ طائِلًا يا رَسُولَ اللَّهِ، ثُمَّ يَقُولُ لِأخِيهِ الآخَرِ: أتَرى ما قَدْ نَزَلَ بِي وما رَدَّ عَلَيَّ أهْلِي ومالِي؟ فَمالِي عِنْدَكَ؟ وما لِي لَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: أنا صاحِبُكَ في لَحْدِكَ، وأنِيسُكَ في وحْشَتِكَ، وأقْعُدُ يَوْمَ الوَزْنِ في مِيزانِكَ فَأُثَقِّلُ مِيزانَكَ. هَذا أخُوهُ الَّذِي هو عَمَلُهُ، كَيْفَ تَرَوْنَهُ؟ قالُوا: خَيْرُ أخٍ وخَيْرُ صاحِبٍ يا رَسُولَ اللَّهِ قالَ: فَإنَّ الأمْرَ هَكَذا».
وَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَثَلُ الجَلِيسِ الصّالِحِ مَثَلُ صاحِبِ المِسْكِ، إمّا أنْ يُحْذِيَكَ وإمّا أنْ يَبِيعَكَ وإمّا أنْ تَجِدَ مِنهُ رِيحًا طَيِّبَةً، ومَثَلُ جَلِيسِ السُّوءِ كَمَثَلِ صاحِبِ الكِيرِ، إنْ لَمْ يُصِبْكَ مِن شَرَرِهِ أصابَكَ مِن رِيحِهِ»، وفي الصَّحِيحِ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: «مَثَلُ المُنْفِقِ والبَخِيلِ مَثَلُ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِما جُبَّتانِ - أوْ جُنَّتانِ - مِن حَدِيدٍ مِن لَدُنْ ثَدْيِهِما إلى تَراقِيِهِما، فَإذا أرادَ المُنْفِقُ أنْ يُنْفِقَ سَبَغَتْ عَلَيْهِ حَتّى يَجُرَّ بَنانَهُ ويَعْفُوَ أثَرَهُ، وإذا أرادَ البَخِيلُ أنْ يُنْفِقَ قُلِّصَتْ ولَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَوْضِعَها فَهو يُوَسِّعُها ولا تَتَّسِعُ»، وقالَ: «مَثَلُ الَّذِينَ يَغْزُونَ مِن أُمَّتِي ويَتَعَجَّلُونَ أُجُورَهم كَمَثَلِ أُمِّ مُوسى تُرْضِعُ ولَدَها وتَأْخُذُ أجْرَها».
* [فَصْلٌ فائِدَةُ ضَرْبِ الأمْثالِ]
قالُوا: فَهَذِهِ وأمْثالُها مِن الأمْثالِ الَّتِي ضَرَبَها رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِتَقْرِيبِ المُرادِ، وتَفْهِيمِ المَعْنى، وإيصالِهِ إلى ذِهْنِ السّامِعِ، وإحْضارِهِ في نَفْسِهِ بِصُورَةِ المِثالِ الَّذِي مَثَّلَ بِهِ، فَإنَّهُ قَدْ يَكُونُ أقْرَبَ إلى تَعَقُّلِهِ وفَهْمِهِ وضَبْطِهِ واسْتِحْضارِهِ لَهُ بِاسْتِحْضارِ نَظِيرِهِ؛ فَإنَّ النَّفْسَ تَأْنَسُ بِالنَّظائِرِ والأشْباهِ الأُنْسَ التّامَّ، وتَنْفِرُ مِن الغُرْبَةِ والوَحْدَةِ وعَدَمِ النَّظِيرِ؛ فَفي الأمْثالِ مِن تَأْنِيسِ النَّفْسِ وسُرْعَةِ قَبُولِها وانْقِيادِها لِما ضُرِبَ لَها مَثَلُهُ مِن الحَقِّ أمْرٌ لا يَجْحَدُهُ أحَدٌ، ولا يُنْكِرُهُ، وكُلَّما ظَهَرَتْ لَها الأمْثالُ ازْدادَ المَعْنى ظُهُورًا ووُضُوحًا، فالأمْثالُ شَواهِدُ المَعْنى المُرادِ، ومُزَكِّيَةٌ لَهُ، فَهي ﴿كَزَرْعٍ أخْرَجَ شَطْأهُ فَآزَرَهُ فاسْتَغْلَظَ فاسْتَوى عَلى سُوقِهِ﴾ [الفتح: ٢٩]، وهي خاصَّةُ العَقْلِ ولُبُّهُ وثَمَرَتُهُ.
[فَرْقٌ بَيْنَ الأمْثالِ المَضْرُوبَةِ مِن اللَّهِ ورَسُولِهِ وبَيْنَ القِياسِ]
وَلَكِنْ أيْنَ في الأمْثالِ الَّتِي ضَرَبَها اللَّهُ ورَسُولُهُ عَلى هَذا الوَجْهِ فَهِمْنا أنَّ الصَّداقَ لا يَكُونُ أقَلَّ مِن ثَلاثَةِ دَراهِمَ أوْ عَشَرَةٍ قِياسًا وتَمْثِيلًا عَلى أقَلِّ ما يُقْطَعُ فِيهِ السّارِقُ؟ هَذا بِالألْغازِ والأحاجِي أشْبَهُ مِنهُ بِالأمْثالِ المَضْرُوبَةِ لِلْفَهْمِ، كَما قالَ إمامُ الحَدِيثِ مُحَمَّدُ بْنُ إسْماعِيلَ البُخارِيُّ في جامِعِهِ الصَّحِيحِ: بابُ مَن شَبَّهَ أصْلًا مَعْلُومًا بِأصْلٍ مُبَيَّنٍ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهُما لِيُفْهِمَ السّامِعَ، فَنَحْنُ لا نُنْكِرُ هَذِهِ الأمْثالَ الَّتِي ضَرَبَها اللَّهُ ورَسُولُهُ، ولا نَجْهَلُ ما أُرِيدَ بِها، وإنَّما نُنْكِرُ أنْ يُسْتَفادَ وُجُوبُ الدَّمِ عَلى مَن قَطَعَ مِن جَسَدِهِ أوْ رَأْسِهِ ثَلاثَ شَعَراتٍ أوْ أرْبَعَ مِن قَوْله تَعالى: ﴿وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكم حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أوْ بِهِ أذًى مِن رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِن صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: ١٩٦]، وأنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى ذَلِكَ، وأنَّ قَوْلَهُ ﷺ في صَدَقَةِ الفِطْرِ: «صاعٌ مِن تَمْرٍ أوْ صاعٌ مِن شَعِيرٍ، أوْ صاعٌ مِن أقِطٍ، أوْ صاعٌ مِن بُرٍّ، أوْ صاعٌ مِن زَبِيبٍ»، يُفْهَمُ مِنهُ أنَّهُ لَوْ أعْطى صاعًا مِن إهْلِيلِجٍ جازَ، وأنَّهُ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّمْثِيلِ والِاعْتِبارِ، وأنَّ قَوْلَهُ ﷺ: «الوَلَدُ لِلْفِراشِ»، يُسْتَفادُ مِنهُ ومِن دَلالَتِهِ أنَّهُ لَوْ قالَ لَهُ الوَلِيُّ بِحَضْرَةِ الحاكِمِ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي - وهو بِأقْصى الشَّرْقِ وهي بِأقْصى الغَرْبِ - فَقالَ: قَبِلْتُ هَذا التَّزْوِيجَ وهي طالِقٌ ثَلاثًا، ثُمَّ جاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَلَدٍ لِأكْثَرَ مِن سِتَّةِ أشْهُرٍ أنَّهُ ابْنُهُ، وقَدْ صارَتْ فِراشًا بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ: " قَبِلْتُ هَذا التَّزْوِيجَ " ومَعَ هَذا لَوْ كانَتْ لَهُ سُرِّيَّةٌ يَطَؤُها لَيْلًا ونَهارًا لَمْ تَكُنْ فِراشًا لَهُ، ولَوْ أتَتْ بِوَلَدٍ لَمْ يَلْحَقْهُ نَسَبُهُ إلّا أنْ يَدَّعِيَهُ ويَسْتَلْحِقَهُ، فَإنْ لَمْ يَسْتَلْحِقْهُ فَلَيْسَ بِوَلَدِهِ.
وَأيْنَ يُفْهَمُ مِن قَوْلِهِ ﷺ: «إنّ في قَتْلِ الخَطَأِ شِبْهِ العَمْدِ ما كانَ بِالسَّوْطِ والعَصا مِائَةً مِن الإبِلِ»، أنَّهُ لَوْ ضَرَبَهُ بِحَجَرِ المَنجَنِيقِ أوْ بُكُورِ الحَدّادِ أوْ بِمَرازِبِ الحَدِيدِ العِظامِ حَتّى خَلَطَ دِماغَهُ بِلَحْمِهِ وعَظْمِهِ أنَّ هَذا خَطَأٌ شِبْهُ عَمْدٍ لا يُوجِبُ قَوَدًا، وأيْنَ يُفْهَمُ مِن قَوْلِهِ ﷺ: «ادْرَءُوا الحُدُودَ عَنْ المُسْلِمِينَ ما اسْتَطَعْتُمْ، فَإنْ يَكُنْ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإنَّ الإمامَ أنْ يُخْطِئَ في العَفْوِ خَيْرٌ لَهُ مِن أنْ يُخْطِئَ في العُقُوبَةِ»، أنَّ مِن عَقَدَ عَلى أُمِّهِ أوْ ابْنَتِهِ أوْ أُخْتِهِ ووَطِئَها فَلا حَدَّ عَلَيْهِ، وأنَّ هَذا مَفْهُومٌ مِن قَوْلِهِ: «ادْرَءُوا الحُدُودَ بِالشُّبُهاتِ» فَهَذا في مَعْنى الشُّبْهَةِ الَّتِي تُدْرَأُ بِها الحُدُودُ، وهي الشُّبْهَةُ في المَحَلِّ، أوْ في الفاعِلِ، أوْ في الِاعْتِقادِ، ولَوْ عَرَضَ هَذا عَلى فَهْمٍ مِن فَرْضٍ مِن العالَمِينَ لَمْ يَفْهَمْهُ مِن هَذا اللَّفْظِ بِوَجْهٍ مِن الوُجُوهِ، وأنَّ مَن يَطَأُ خالَتَهُ أوْ عَمَّتَهُ بِمِلْكِ اليَمِينِ فَلا حَدَّ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأنَّها خالَتُهُ أوْ عَمَّتُهُ، وتَحْرِيمِ اللَّهِ لِذَلِكَ، ويُفْهَمُ هَذا مِن «، ادْرَءُوا الحُدُودَ بِالشُّبُهاتِ»، وأضْعافُ أضْعافِ هَذا مِمّا لا يَكادُ يَنْحَصِرُ.
فَهَذا التَّمْثِيلُ والتَّشْبِيهُ هو الَّذِي نُنْكِرُهُ، ونُنْكِرُ أنْ يَكُونَ في كَلامِ اللَّهِ ورَسُولِهِ دَلالَةٌ عَلى فَهْمِهِ بِوَجْهٍ ما.
قالُوا: ومِن أيْنَ يُفْهَمُ مِن قَوْله تَعالى: ﴿وَإنَّ لَكم في الأنْعامِ لَعِبْرَةً﴾ [النحل: ٦٦]، ومِن قَوْلِهِ: ﴿فاعْتَبِرُوا﴾ [الحشر: ٢]، تَحْرِيمُ بَيْعِ الكِشْكِ بِاللَّبَنِ، وبَيْعِ الخَلِّ بِالعِنَبِ، ونَحْوِ ذَلِكَ؟
قالُوا: وقَدْ قالَ - تَعالى -: ﴿وَما اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلى اللَّهِ﴾ [الشورى: ١٠]، ولَمْ يَقُلْ " إلى قِياساتِكم وآرائِكم " ولَمْ يَجْعَلْ اللَّهُ أراءَ الرِّجالِ وأقْيِسَتَها حاكِمَةً بَيْنَ الأُمَّةِ أبَدًا.
وَقالُوا: وقَدْ قالَ - تَعالى -: ﴿وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ ولا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضى اللَّهُ ورَسُولُهُ أمْرًا أنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: ٣٦]، فَإنَّما مَنَعَهم مِن الخِيَرَةِ عِنْدَ حُكْمِهِ وحُكْمِ رَسُولِهِ، لا عِنْدَ آراءِ الرِّجالِ وأقْيِسَتِهِمْ وظُنُونِهِمْ، وقَدْ أمَرَ - سُبْحانَهُ - رَسُولَهُ بِاتِّباعِ ما أوْحاهُ إلَيْهِ خاصَّةً وقالَ: ﴿إنْ أتَّبِعُ إلا ما يُوحى إلَيَّ﴾ [الأنعام: ٥٠]، وقالَ: ﴿وَأنِ احْكم بَيْنَهم بِما أنْزَلَ اللَّهُ﴾ [المائدة: ٤٩]، وقالَ - تَعالى -: ﴿أمْ لَهم شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهم مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: ٢١]، قالُوا: فَدَلَّ هَذا النَّصُّ عَلى أنَّ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ مِن الدِّينِ فَهو شَرْعُ غَيْرِهِ الباطِلِ.
قالُوا: وقَدْ أخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ رَبِّهِ - تَبارَكَ وتَعالى - أنَّ كُلَّ ما سَكَتَ عَنْ إيجابِهِ أوْ تَحْرِيمِهِ فَهو عَفْوٌ عَفا عَنْهُ لِعِبادِهِ، يُباحُ إباحَةُ العَفْوِ؛ فَلا يَجُوزُ تَحْرِيمُهُ ولا إيجابُهُ قِياسًا عَلى ما أوْجَبَهُ أوْ حَرَّمَهُ بِجامِعٍ بَيْنَهُما؛ فَإنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ رَفْعَ هَذا القِسْمِ بِالكُلِّيَّةِ وإلْغاءَهُ؛ إذْ المَسْكُوتُ عَنْهُ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وبَيْنَ المُحَرَّمِ شَبَهٌ ووَصْفٌ جامِعٌ، أوْ بَيْنَهُ وبَيْنَ الواجِبِ، فَلَوْ جازَ إلْحاقُهُ بِهِ لَمْ يَكُنْ هُناكَ قِسْمٌ قَدْ عُفِيَ عَنْهُ، ولَمْ يَكُنْ ما سَكَتَ عَنْهُ قَدْ عَفا عَنْهُ، بَلْ يَكُونُ ما سَكَتَ عَنْهُ قَدْ حَرَّمَهُ قِياسًا عَلى ما حَرَّمَهُ، وهَذا لا سَبِيلَ إلى دَفْعِهِ، وحِينَئِذٍ فَيَكُونُ تَحْرِيمُ ما سَكَتَ عَنْهُ تَبْدِيلًا لِحُكْمِهِ، وقَدْ ذَمَّ - تَعالى - مَن بَدَّلَ غَيْرَ القَوْلِ الَّذِي أمَرَ بِهِ؛ فَمَن بَدَّلَ غَيْرَ الحُكْمِ الَّذِي شَرَعَ لَهُ فَهو أوْلى بِالذَّمِّ، وقَدْ قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إنّ مِن أعْظَمِ المُسْلِمِينَ في المُسْلِمِينَ جُرْمًا مَن سَألَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ عَلى النّاسِ مِن أجْلِ مَسْألَتِهِ» فَإذا كانَ هَذا فِيمَن تَسَبَّبَ إلى تَحْرِيمِ الشّارِعِ صَرِيحًا بِمَسْألَتِهِ عَنْ حُكْمِ ما سَكَتَ عَنْهُ، فَكَيْفَ بِمَن حَرَّمَ السُّكُوتَ عَنْهُ بِقِياسِهِ وبِرَأْيِهِ؟
يُوَضِّحُهُ أنَّ المَسْكُوتَ عَنْهُ لَمّا كانَ عَفْوًا عَفا اللَّهُ لِعِبادِهِ عَنْهُ، وكانَ البَحْثُ عَنْهُ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ اللَّهِ إيّاهُ لِما فِيهِ مِن مُقْتَضى التَّحْرِيمِ، لا لِمُجَرَّدِ السُّؤالِ عَنْ حُكْمِهِ، وكانَ اللَّهُ قَدْ عَفا عَنْ ذَلِكَ وسامَحَ بِهِ عِبادَهُ كَما يَعْفُو عَمّا فِيهِ مَفْسَدَةٌ مِن أعْمالِهِمْ وأقْوالِهِمْ؛ فَمِن المَعْلُومِ أنَّ سُكُوتَهُ عَنْ ذِكْرِ لَفْظٍ عامٍّ يُحَرِّمُهُ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ عَفْوٌ عَنْهُ، فَمَن حَرَّمَهُ بِسُؤالِهِ عَنْ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ وقِياسِهِ عَلى المُحَرَّمِ بِالنَّصِّ كانَ أدْخَلَ في الذَّمِّ مِمَّنْ سَألَهُ عَنْ حُكْمِهِ لِحاجَتِهِ إلَيْهِ فَحَرُمَ مِن أجْلِ مَسْألَتِهِ، بَلْ كانَ الواجِبُ عَلَيْهِ أنْ لا يَبْحَثَ عَنْهُ، ولا يَسْألَ عَنْ حُكْمِهِ، اكْتِفاءً بِسُكُوتِ اللَّهِ عَنْ عَفْوِهِ عَنْهُ؛ فَهَكَذا الواجِبُ عَلَيْهِ أنْ لا يُحَرِّمَ المَسْكُوتَ عَنْهُ بِغَيْرِ النَّصِّ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ أصْلَهُ الَّذِي يُلْحَقُ بِهِ.
قالُوا: وقَدْ دَلَّ عَلى هَذا كِتابُ اللَّهِ حَيْثُ يَقُولُ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْألُوا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَكم تَسُؤْكم وإنْ تَسْألُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ القُرْآنُ تُبْدَ لَكم عَفا اللَّهُ عَنْها واللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ [المائدة: ١٠١] ﴿قَدْ سَألَها قَوْمٌ مِن قَبْلِكم ثُمَّ أصْبَحُوا بِها كافِرِينَ﴾ [المائدة: ١٠٢]، وقَدْ قالَ النَّبِيُّ ﷺ في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ «، ذَرُونِي ما تَرَكْتُكُمْ، فَإنَّما هَلَكَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكم بِكَثْرَةِ مَسائِلِهِمْ، واخْتِلافِهِمْ عَلى أنْبِيائِهِمْ، فَإذا نَهَيْتُكم عَنْ شَيْءٍ فاجْتَنِبُوهُ، وإذا أمَرْتُكم بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنهُ ما اسْتَطَعْتُمْ»، فَأمَرَهم أنْ يَتْرُكُوهُ مِن السُّؤالِ ما تَرَكَهُمْ، ولا فَرْقَ في هَذا بَيْنَ حَياتِهِ وبَعْدَ مَماتِهِ، فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ أنْ نَتْرُكَهُ ﷺ وما نَصَّ عَلَيْهِ، فَلا نَقُولَ لَهُ: لِمَ حَرَّمَتْ كَذا؟ لِنُلْحِقَ بِهِ ما سَكَتَ عَنْهُ، بَلْ هَذا أبْلَغُ في المَعْصِيَةِ مِن أنْ نَسْألَهُ عَنْ حُكْمِ شَيْءٍ لَمْ يَحْكم فِيهِ، فَتَأمَّلْهُ فَإنَّهُ واضِحٌ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ في نَفْسِ الحَدِيثِ «وَإذا نَهَيْتُكم عَنْ شَيْءٍ فاجْتَنِبُوهُ، وإذا أمَرْتُكم بِأمْرٍ فَأْتُوا مِنهُ ما اسْتَطَعْتُمْ»، فَجَعَلَ الأُمُورَ ثَلاثَةً، لا رابِعَ لَها: مَأْمُورٌ بِهِ، فالفَرْضُ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ بِحَسَبِ الِاسْتِطاعَةِ، ومَنهِيٌّ عَنْهُ، فالفَرْضُ عَلَيْهِمْ اجْتِنابُهُ بِالكُلِّيَّةِ، ومَسْكُوتٌ عَنْهُ؛ فَلا يُتَعَرَّضُ لِلسُّؤالِ والتَّفْتِيشِ عَنْهُ. وهَذا حُكْمٌ لا يَخْتَصُّ بِحَياتِهِ فَقَطْ، ولا يَخُصُّ الصَّحابَةَ دُونَ مَن بَعْدَهُمْ، بَلْ فُرِضَ عَلَيْنا نَحْنُ امْتِثالُ أمْرِهِ بِحَسَبِ الِاسْتِطاعَةِ، واجْتِنابُ نَهْيِهِ، وتَرْكُ البَحْثِ والتَّفْتِيشِ عَمّا سَكَتَ عَنْهُ، ولَيْسَ ذَلِكَ التَّرْكُ جَهْلًا وتَجْهِيلًا لِحُكْمِهِ، بَلْ إثْباتٌ لِحُكْمِ العَفْوِ وهو الإباحَةُ العامَّةُ ورَفْعُ الحَرَجِ عَنْ فاعِلِهِ، فَقَدْ اسْتَوْعَبَ الحَدِيثُ أقْسامَ الدِّينِ كُلَّها، فَإنَّها إمّا واجِبٌ وإمّا حَرامٌ وإمّا مُباحٌ؛ والمَكْرُوهُ والمُسْتَحَبُّ فَرْعانِ عَلى هَذِهِ الثَّلاثَةِ غَيْرُ خارِجَيْنِ عَنْ المُباحِ؛ وقَدْ قالَ - تَعالى -: ﴿فَإذا قَرَأْناهُ فاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة: ١٨] ﴿ثُمَّ إنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ﴾ [القيامة: ١٩]، فَوَكَلَ بَيانَهُ إلَيْهِ - سُبْحانَهُ - لا إلى القَيّاسِينَ والأرائيين، وقالَ - تَعالى -: ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ ما أنْزَلَ اللَّهُ لَكم مِن رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنهُ حَرامًا وحَلالا قُلْ آللَّهُ أذِنَ لَكم أمْ عَلى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ [يونس: ٥٩]، فَقَسَّمَ الحُكْمَ إلى قِسْمَيْنِ: قِسْمٍ أذِنَ فِيهِ وهو الحَقُّ وقِسْمٍ افْتُرِيَ عَلَيْهِ وهو ما لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، فَأيْنَ أذِنَ لَنا أنْ نَقِيسَ البَلُّوطَ عَلى التَّمْرِ في جَرَيانِ الرِّبا فِيهِ؟ وأنْ نَقِيسَ القَصْدِيرَ عَلى الذَّهَبِ والفِضَّةِ، والخَرْدَلَ عَلى البُرِّ؟ فَإنْ كانَ اللَّهُ ورَسُولُهُ وصّانا بِهَذا فَسَمْعًا وطاعَةً لِلَّهِ ورَسُولِهِ، وإلّا فَإنّا قائِلُونَ لِمُنازِعِينا: ﴿أمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إذْ وصّاكُمُ اللَّهُ بِهَذا﴾ [الأنعام: ١٤٤] فَما لَمْ تَأْتِنا بِهِ وصِيَّةٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ عَلى لِسانِ رَسُولِهِ ﷺ فَهو عَيْنُ الباطِلِ، وقَدْ أمَرَنا اللَّهُ بِرَدِّ ما تَنازَعْنا فِيهِ إلَيْهِ وإلى رَسُولِهِ ﷺ؛ فَلَمْ يُبِحْ لَنا قَطُّ أنْ نَرُدَّ ذَلِكَ إلى رَأْيٍ ولا قِياسٍ ولا تَقْلِيدِ إمامٍ ولا مَنامٍ ولا كُشُوفٍ ولا إلْهامٍ ولا حَدِيثِ قَلْبٍ ولا اسْتِحْسانٍ ولا مَعْقُولٍ ولا شَرِيعَةِ الدِّيوانِ ولا سِياسَةِ المُلُوكِ، ولا عَوائِدِ النّاسِ الَّتِي لَيْسَ عَلى شَرائِعِ المُسْلِمِينَ أضَرُّ مِنها، فَكُلُّ هَذِهِ طَواغِيتُ، مَن تَحاكَمَ إلَيْها أوْ دَعا مُنازِعَهُ إلى التَّحاكُمِ إلَيْها فَقَدْ حاكَمَ إلى الطّاغُوتِ.
وَقالَ - تَعالى -: ﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثالَ إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٧٤]، قالُوا: ومَن تَأمَّلَ هَذِهِ الآيَةَ حَقَّ التَّأمُّلِ تَبَيَّنَ لَهُ أنَّها نَصٌّ عَلى إبْطالِ القِياسِ وتَحْرِيمِهِ؛ لِأنَّ القِياسَ كُلَّهُ ضَرْبُ الأمْثالِ لِلدَّيْنِ، وتَمْثِيلُ ما لا نَصَّ فِيهِ بِما فِيهِ نَصٌّ، ومَن مَثَّلَ ما لَمْ يَنُصَّ اللَّهُ عَلى تَحْرِيمِهِ أوْ إيجابِهِ بِما حَرَّمَهُ أوْ أوْجَبَهُ فَقَدْ ضَرَبَ لِلَّهِ الأمْثالَ، ولَوْ عَلِمَ - سُبْحانَهُ - أنَّ الَّذِي سَكَتَ عَنْهُ مِثْلُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ لَأعْلَمَنا بِهِ، ولَما أغْفَلَهُ - سُبْحانَهُ - ﴿وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾ [مريم: ٦٤]، ولْيُبَيِّنْ لَنا ما نَتَّقِي كَما أخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ إذْ يَقُولُ - سُبْحانَهُ -: ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إذْ هَداهم حَتّى يُبَيِّنَ لَهم ما يَتَّقُونَ﴾ [التوبة: ١١٥] ولَمّا وكَلَهُ إلى آرائِنا ومَقايِيسِنا الَّتِي يَنْقُضُ بَعْضُها بَعْضًا، فَهَذا يَقِيسُ ما يَذْهَبُ إلَيْهِ عَلى ما يَزْعُمُ أنَّهُ نَظِيرُهُ فَيَجِيءُ مُنازِعُهُ فَيَقِيسُ ضِدَّ قِياسِهِ مِن كُلِّ وجْهٍ، ويُبْدِي مِن الوَصْفِ الجامِعِ مِثْلَ ما أبْداهُ مُنازِعُوهُ أوْ أظْهَرَ مِنهُ، ومُحالٌ أنْ يَكُونَ القِياسانِ مَعًا مِن عِنْدِ اللَّهِ، ولَيْسَ أحَدُهُما أوْلى مِن الآخَرِ، فَلَيْسا مِن عِنْدِهِ، وهَذا وحْدَهُ كافٍ في إبْطالِ القِياسِ.
وَقَدْ قالَ - تَعالى -: ﴿وَما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ إلا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: ٤]، وقالَ: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤]، فَكُلُّ ما بَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَعَنْ رَبِّهِ - سُبْحانَهُ - بَيَّنَهُ بِأمْرِهِ وإذْنِهِ، وقَدْ عَلِمْنا يَقِينًا وُقُوعَ كُلِّ اسْمٍ في اللُّغَةِ عَلى مُسَمّاهُ فِيها، وأنَّ اسْمَ البُرِّ لا يَتَناوَلُ الخَرْدَلَ، واسْمَ التَّمْرِ لا يَتَناوَلُ البَلُّوطَ، واسْمَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ لا يَتَناوَلُ القَصْدِيرَ، وأنَّ تَقْدِيرَ نِصابِ السَّرِقَةِ لا يَدْخُلُ فِيهِ تَقْدِيرُ المَهْرِ، وأنَّ تَحْرِيمَ أكْلِ المَيْتَةِ لا يَدُلُّ عَلى أنَّ المُؤْمِنَ الطَّيِّبَ عِنْدَ اللَّهِ حَيًّا ومَيِّتًا إذا ماتَ صارَ نَجَسًا خَبِيثًا، وأنَّ هَذا عَنْ البَيانِ الَّذِي ولّاهُ اللَّهُ رَسُولَهُ وبَعَثَهُ بِهِ أبْعَدَ شَيْءٍ وأشَدَّهُ مُنافاةً لَهُ، فَلَيْسَ هو مِمّا بُعِثَ بِهِ الرَّسُولُ قَطْعًا، فَلَيْسَ إذًا مِن الدِّينِ.
وَقَدْ قالَ النَّبِيُّ ﷺ «، ما بَعَثَ اللَّهُ مِن نَبِيٍّ إلّا كانَ حَقًّا عَلَيْهِ أنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلى خَيْرِ ما يَعْلَمُهُ لَهُمْ، ويَنْهاهم عَنْ شَرِّ ما يَعْلَمُهُ لَهُمْ»، ولَوْ كانَ الرَّأْيُ والقِياسُ خَيْرًا لَهم لَدَلَّهم عَلَيْهِ، وأرْشَدَهم إلَيْهِ، ولَقالَ لَهُمْ: إذا أوْجَبْتُ عَلَيْكم شَيْئًا أوْ حَرَّمْتُهُ فَقِيسُوا عَلَيْهِ ما كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ وصْفٌ جامِعٌ أوْ ما أشْبَهَهُ، أوْ قالَ ما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أوْ يَسْتَلْزِمُهُ، ولَما حَذَّرَهم مِن ذَلِكَ أشَدَّ الحَذَرِ كَما سَتَقِفُ عَلَيْهِ - إنْ شاءَ اللَّهُ -، وقَدْ أحْكَمَ اللِّسانُ كُلَّ اسْمٍ عَلى مُسَمّاهُ لا عَلى غَيْرِهِ، وإنَّما بَعَثَ اللَّهُ سُبْحانَهُ مُحَمَّدًا ﷺ بِالعَرَبِيَّةِ الَّتِي يَفْهَمُها العَرَبُ مِن لِسانِها، فَإذا نَصَّ سُبْحانَهُ في كِتابِهِ أوْ نَصَّ رَسُولُهُ عَلى اسْمٍ مِن الأسْماءِ وعَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمًا مِن الأحْكامِ وجَبَ ألّا يُوقَعَ ذَلِكَ الحُكْمُ إلّا عَلى ما اقْتَضاهُ ذَلِكَ الِاسْمُ، ولا يَتَعَدّى بِهِ الوَضْعَ الَّذِي وضَعَهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ فِيهِ، ولا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ الحُكْمِ شَيْءٌ مِمّا يَقْتَضِيهِ الِاسْمُ؛ فالزِّيادَةُ عَلى ذَلِكَ زِيادَةٌ في الدِّينِ، والنَّقْصُ مِنهُ نَقْصٌ في الدِّينِ؛ فالأوَّلُ القِياسُ، والثّانِي التَّخْصِيصُ الباطِلُ، وكِلاهُما لَيْسَ مِن الدِّينِ، ومَن لَمْ يَقِفْ مَعَ النُّصُوصِ فَإنَّهُ تارَةً يَزِيدُ في النَّصِّ ما لَيْسَ مِنهُ ويَقُولُ: هَذا قِياسٌ، ومَرَّةً يَنْقُصُ مِنهُ بَعْضَ ما يَقْتَضِيهِ ويُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِهِ ويَقُولُ: هَذا تَخْصِيصٌ، ومَرَّةً يَتْرُكُ النَّصَّ جُمْلَةً ويَقُولُ: لَيْسَ العَمَلُ عَلَيْهِ، أوْ يَقُولُ: هَذا خِلافُ القِياسِ، أوْ خِلافُ الأُصُولِ.
قالُوا: ولَوْ كانَ القِياسُ مِن الدِّينِ لَكانَ أهْلُهُ أتْبَعَ النّاسِ لِلْأحادِيثِ، وكانَ كُلَّما تَوَغَّلَ فِيهِ الرَّجُلُ [فِيهِ] كانَ أشَدَّ اتِّباعًا لِلْأحادِيثِ والآثارِ.
قالُوا: ونَحْنُ نَرى أنَّ كُلَّما اشْتَدَّ تَوَغُّلُ الرَّجُلِ فِيهِ اشْتَدَّتْ مُخالَفَتُهُ لِلسُّنَنِ، ولا نَرى خِلافَ السُّنَنِ والأُثّارِ إلّا عِنْدَ أصْحابِ الرَّأْيِ والقِياسِ، فَلِلَّهِ كَمْ مِن سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ صَرِيحَةٍ قَدْ عُطِّلَتْ بِهِ؟، وكَمْ مِن أثَرٍ دُرِسَ حُكْمُهُ بِسَبَبِهِ؟
فالسُّنَنُ والآثارُ عِنْدَ والأرائيين والقِياسِيِّينَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها، مُعَطَّلَةٌ أحْكامُها، مَعْزُولَةٌ عَنْ سُلْطانِها ووِلايَتِها، لَها الِاسْمُ ولِغَيْرِها الحُكْمُ، مِنها السِّكَّةُ والخُطْبَةُ ولِغَيْرِها الأمْرُ والنَّهْيُ، وإلّا فَلِماذا تُرِكَ حَدِيثُ العَرايا، وحَدِيثُ قَسْمِ الِابْتِداءِ وأنَّ لِلزَّوْجَةِ حَقَّ العَقْدِ سَبْعَ لَيالٍ إنْ كانَتْ بِكْرًا وثَلاثًا إنْ كانَتْ ثَيِّبًا ثُمَّ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وحَدِيثُ تَغْرِيبِ الزّانِي غَيْرِ المُحْصَنِ.
وَحَدِيثُ الِاشْتِراطِ في الحَجِّ وجَوازِ التَّحَلُّلِ بِالشَّرْطِ، وحَدِيثُ المَسْحِ عَلى الجَوْرَبَيْنِ، وحَدِيثُ عِمْرانَ بْنِ حُصَيْنٍ وأبِي هُرَيْرَةَ في أنَّ كَلامَ النّاسِي والجاهِلِ لا يُبْطِلُ الصَّلاةَ، وحَدِيثُ دَفْعِ اللُّقَطَةِ إلى مَن جاءَ فَوَصَفَ وِعاءَها ووِكاءَها وعِفاصَها، وحَدِيثُ المُصَرّاةِ، وحَدِيثُ القُرْعَةِ بَيْنَ العَبِيدِ إذا أُعْتِقُوا في المَرَضِ ولَمْ يَحْمِلْهم الثُّلُثُ، وحَدِيثُ خِيارِ المَجْلِسِ، وحَدِيثُ إتْمامِ الصَّوْمِ لِمَن أكَلَ ناسِيًا، وحَدِيثُ إتْمامِ صَلاةِ الصُّبْحِ لِمَن طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وقَدْ صَلّى مِنها رَكْعَةً، وحَدِيثُ الصَّوْمِ عَنْ المَيِّتِ، وحَدِيثُ الحَجِّ عَنْ المَرِيضِ المَأْيُوسِ مِن بُرْئِهِ، وحَدِيثُ الحُكْمِ بِالقافَةِ.
وَحَدِيثُ مَن وجَدَ مَتاعَهُ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أفْلَسَ وحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، وحَدِيثُ بَيْعِ المُدَبَّرِ، وحَدِيثُ القَضاءِ بِالشّاهِدِ مَعَ اليَمِينِ، وحَدِيثُ الوَلَدِ لِلْفِراشِ إذا كانَ مِن أمَةٍ وهو سَبَبُ الحَدِيثِ، وحَدِيثُ تَخْيِيرِ الغُلامِ بَيْنَ أبَوَيْهِ إذا افْتَرَقا، وحَدِيثُ قَطْعِ السّارِقِ في رُبْعِ دِينارٍ وحَدِيثُ رَجْمِ الكِتابِيَّيْنِ في الزِّنا، وحَدِيثُ مَن تَزَوَّجَ امْرَأةَ أبِيهِ أُمِرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ وأخْذِ مالِهِ، وحَدِيثُ " لا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكافِرٍ "، وحَدِيثُ " لَعَنَ اللَّهُ المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ لَهُ "، وحَدِيثُ " لا نِكاحَ إلّا بِوَلِيٍّ ".
وَحَدِيثُ المُطَلَّقَةُ ثَلاثًا لا سُكْنى لَها ولا نَفَقَةَ، وحَدِيثُ " أعْتَقَ صَفِيَّةَ وجَعَلَ عِتْقَها صَداقَها " وحَدِيثُ أصْدِقْها ولَوْ خاتَمًا مِن حَدِيدٍ "، وحَدِيثُ إباحَةِ لُحُومِ الخَيْلِ، وحَدِيثُ " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرامٌ "، وحَدِيثُ " لَيْسَ فِيما دُونَ خَمْسَةِ أوْسُقٍ صَدَقَةٌ "، وحَدِيثُ المُزارَعَةِ والمُساقاةِ، وحَدِيثُ " ذَكاةُ الجَنِينِ ذَكاةُ أُمِّهِ "، وحَدِيثُ الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ ومَحْلُوبٌ، وحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ تَخْلِيلِ الخَمْرِ، وحَدِيثُ قِسْمَةُ الغَنِيمَةِ لِلرّاجِلِ سَهْمٌ ولِلْفارِسِ ثَلاثَةٌ، وحَدِيثُ " لا تُحَرِّمُ المَصَّةُ والمَصَّتانِ "، وأحادِيثُ حُرْمَةِ المَدِينَةِ، وحَدِيثُ إشْعارِ الهَدْيِ، وحَدِيثُ " إذا لَمْ يَجِدْ المُحْرِمُ الإزارَ فَلْيَلْبَسْ السَّراوِيلَ "، وحَدِيثُ مَنعِ الرَّجُلِ مِن تَفْضِيلِ بَعْضِ ولَدِهِ عَلى بَعْضٍ وأنَّهُ جَوْرٌ لا تَجُوزُ الشَّهادَةُ عَلَيْهِ، وحَدِيثُ " أنْتَ ومالُكَ لِأبِيكَ "، وحَدِيثُ القَسامَةِ، وحَدِيثُ الوُضُوءِ مِن لُحُومِ الإبِلِ، وأحادِيثُ المَسْحِ عَلى العِمامَةِ.
وَحَدِيثُ الأمْرِ بِإعادَةِ الصَّلاةِ لِمَن صَلّى خَلْفَ الصَّفِّ وحْدَهُ، وحَدِيثُ " مَن دَخَلَ والإمامُ يَخْطُبُ يُصَلِّي تَحِيَّةَ المَسْجِدِ "، وحَدِيثُ الصَّلاةِ عَلى الغائِبِ، وحَدِيثُ الجَهْرِ بِآمِينَ في الصَّلاةِ، وحَدِيثُ جَوازِ رُجُوعِ الأبِ فِيما وهَبَهُ لِوَلَدِهِ ولا يَرْجِعُ غَيْرُهُ، وحَدِيثُ الكَلْبِ الأسْوَدِ يَقْطَعُ الصَّلاةَ، وحَدِيثُ الخُرُوجِ إلى العِيدِ مِن الغَدِ إذا عَلِمَ بِالعِيدِ بَعْدَ الزَّوالِ، وحَدِيثُ نَضْحِ بَوْلِ الغُلامِ الَّذِي لَمْ يَأْكُلْ الطَّعامَ، وحَدِيثُ الصَّلاةِ عَلى القَبْرِ، وحَدِيثُ مَن زَرَعَ في أرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِن الزَّرْعِ شَيْءٌ ولَهُ نَفَقَتُهُ.
وَحَدِيثُ بَيْعِ جابِرٍ بَعِيرَهُ واشْتِراطِ ظَهْرِهِ، وحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ جُلُودِ السِّباعِ، وحَدِيثُ لا يَمْنَعُ أحَدُكم جارَهُ أنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً في جِدارِهِ، وحَدِيثُ أنَّ أحَقَّ الشُّرُوطِ أنْ تُوُفُّوا بِهِ ما اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الفُرُوجُ، وحَدِيثُ مَن باعَ عَبْدًا ولَهُ مالٌ فَمالُهُ لِلْبائِعِ، وحَدِيثُ إذا أسْلَمَ وتَحْتَهُ أُخْتانِ اخْتارَ أيَّتَهما شاءَ، وحَدِيثُ الوِتْرِ عَلى الرّاحِلَةِ، وحَدِيثُ كُلُّ ذِي نابٍ مِن السِّباعِ حَرامٌ، وحَدِيثُ مِن السُّنَّةِ وضْعُ اليُمْنى عَلى اليُسْرى في الصَّلاةِ، وحَدِيثُ لا تُجْزِئُ صَلاةٌ لا يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيها صُلْبَهُ مِن رُكُوعِهِ وسُجُودِهِ، وأحادِيثُ رَفْعِ اليَدَيْنِ في الصَّلاةِ عِنْدَ الرُّكُوعِ والرَّفْعِ مِنهُ، وأحادِيثُ الِاسْتِفْتاحِ.
وَحَدِيثُ كانَ لِلنَّبِيِّ ﷺ سَكْتَتانِ في الصَّلاةِ وحَدِيثُ تَحْرِيمُها التَّكْبِيرُ وتَحْلِيلُها التَّسْلِيمُ، وحَدِيثُ حَمْلِ الصِّبْيَةِ في الصَّلاةِ، وأحادِيثُ القُرْعَةِ، وأحادِيثُ العَقِيقَةِ، وحَدِيثُ لَوْ أنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إذْنِكَ، وحَدِيثُ أيَدَعُ يَدَهُ في فِيكَ تَقْضِمُها كَما يَقْضِمُ الفَحْلُ، وحَدِيثُ إنّ بِلالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ، وحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الجُمُعَةِ، وحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ الذَّبْحِ بِالسِّنِّ والظُّفْرِ، وحَدِيثُ صَلاةِ الكُسُوفِ والِاسْتِسْقاءِ، وحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ عَسْبِ الفَحْلِ، وحَدِيثُ المُحْرِمُ إذا ماتَ لَمْ يُخَمَّرْ رَأْسُهُ ولَمْ يُقَرَّبْ طِيبًا، إلى أضْعافِ ذَلِكَ مِن الأحادِيثِ الَّتِي كانَ تَرْكُها مِن أجْلِ القَوْلِ بِالقِياسِ والرَّأْيِ؟
فَلَوْ كانَ القِياسُ حَقًّا لَكانَ أهْلُهُ أتْبَعَ الأُمَّةِ لِلْأحادِيثِ ولا حُفِظَ لَهم تَرْكُ حَدِيثٍ واحِدٍ إلّا لِنَصٍّ ناسِخٍ لَهُ، فَحَيْثُ رَأيْنا كُلَّ مَن كانَ أشَدَّ تَوَغُّلًا في القِياسِ والرَّأْيِ كانَ أشَدَّ مُخالَفَةً لِلْأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ عَلِمْنا أنَّ القِياسَ لَيْسَ مِن الدِّينِ، وأنَّ شَيْئًا تُتْرَكُ لَهُ السُّنَنُ لَأبْيَنُ شَيْءٍ مُنافاةً لِلدِّينِ، فَلَوْ كانَ القِياسُ مِن عِنْدِ اللَّهِ لَطابَقَ السُّنَّةَ أعْظَمَ مُطابَقَةٍ، ولَمْ يُخالِفْ أصْحابُهُ حَدِيثًا واحِدًا مِنها، ولَكانُوا أسْعَدَ بِها مِن أهْلِ الحَدِيثِ، فَلْيُرُوا أهْلَ الحَدِيثِ والأثَرِ حَدِيثًا واحِدًا صَحِيحًا قَدْ خالَفُوهُ كَما أرَيْناهم آنِفًا ما خالَفُوهُ مِن السُّنَّةِ بِجَرِيرَةِ القِياسِ.
قالُوا: وقَدْ أخَذَ اللَّهُ المِيثاقَ عَلى أهْلِ الكِتابِ وعَلَيْنا بَعْدَهم أنْ لا نَقُولَ عَلى اللَّهِ إلّا الحَقَّ، فَلَوْ كانَتْ هَذِهِ الأقْيِسَةُ المُتَعارِضَةُ المُتَناقِضَةُ الَّتِي يَنْقُضُ بَعْضُها بَعْضًا بِحَيْثُ لا يَدْرِي النّاظِرُ فِيها أيُّها الصَّوابُ حَقًّا لَكانَتْ مُتَّفِقَةً يُصَدِّقُ بَعْضُها بَعْضًا كالسُّنَّةِ الَّتِي يُصَدِّقُ بَعْضُها بَعْضًا، وقالَ - تَعالى -: ﴿وَيُحِقُّ اللَّهُ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ﴾ [يونس: ٨٢]، لا بِآرائِنا ولا مَقايِيسِنا، وقالَ: ﴿واللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وهو يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ [الأحزاب: ٤]، فَما لَمْ يَقُلْهُ - سُبْحانَهُ - ولا هَدى إلَيْهِ فَلَيْسَ مِن الحَقِّ، وقالَ - تَعالى -: ﴿فَإنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فاعْلَمْ أنَّما يَتَّبِعُونَ أهْواءَهُمْ﴾ [القصص: ٥٠]، فَقَسَّمَ الأُمُورَ إلى قِسْمَيْنِ لا ثالِثَ لَهُما: إتْباعٌ لِما دَعا إلَيْهِ الرَّسُولُ، واتِّباعُ الهَوى.
* [فَصْلٌ لَمْ يَأْمُرْ النَّبِيُّ بِالقِياسِ بَلْ نَهى عَنْهُ]
والرَّسُولُ ﷺ لَمْ يَدَعْ أُمَّتَهُ إلى القِياسِ قَطُّ، بَلْ قَدْ صَحَّ عَنْهُ أنَّهُ أنْكَرَ عَلى عُمَرَ وأُسامَةَ مَحْضَ القِياسِ في شَأْنِ الحُلَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ أرْسَلَ بِهِما إلَيْهِما فَلَبِسَها أُسامَةُ قِياسًا لِلُّبْسِ عَلى التَّمَلُّكِ والِانْتِفاعِ والبَيْعِ وكِسْوَتِها لِغَيْرِهِ، ورَدَّها عُمَرُ قِياسًا لِتَمَلُّكِها عَلى لُبْسِها، فَأُسامَةُ أباحَ، وعُمَرُ حَرَّمَ قِياسًا، فَأبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كُلَّ واحِدٍ مِن القِياسَيْنِ، «وَقالَ لِعُمَرَ: إنّما بَعَثْتُ بِها إلَيْكَ لِتَسْتَمْتِعَ بِها»، «وَقالَ لِأُسامَةَ إنِّي لَمْ أبْعَثْها إلَيْكَ لِتَلْبِسَها، ولَكِنْ بَعَثْتُها إلَيْكَ لِتُشَقِّقَها خُمُرًا لِنِسائِكَ»، والنَّبِيُّ ﷺ إنّما تَقَدَّمَ إلَيْهِمْ في الحَرِيرِ بِالنَّصِّ عَلى تَحْرِيمِ لُبْسِهِ فَقَطْ، فَقاسا قِياسًا أخْطَأ فِيهِ، فَأحَدُهُما قاسَ اللُّبْسَ عَلى المِلْكِ، وعُمَرُ قاسَ التَّمَلُّكَ عَلى اللُّبْسِ، والنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ أنَّ ما حَرَّمَهُ مِن اللُّبْسِ لا يَتَعَدّى إلى غَيْرِهِ، وما أباحَهُ مِن التَّمَلُّكِ لا يَتَعَدّى إلى اللُّبْسِ، وهَذا عَيْنُ إبْطالِ القِياسِ.
وَصَحَّ عَنْهُ ما رَواهُ أبُو ثَعْلَبَةَ الخُشَنِيُّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «، إنّ اللَّهَ فَرَضَ فَرائِضَ فَلا تُضَيِّعُوها، وحَدَّ حُدُودًا فَلا تَعْتَدُوها، ونَهى عَنْ أشْياءَ فَلا تَنْتَهِكُوها، وسَكَتَ عَنْ أشْياءَ رَحْمَةً لَكم غَيْرَ نِسْيانٍ فَلا تَبْحَثُوا عَنْها»، وهَذا الخِطابُ كَما يَعُمُّ أوَّلُهُ لِلصَّحابَةِ ولِمَن بَعْدَهم فَهَكَذا آخِرُهُ؛ فَلا يَجُوزُ أنْ نَبْحَثَ عَمّا سَكَتَ عَنْهُ لِيُحَرِّمَهُ أوْ يُوجِبَهُ.
وَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ: ثنا عِيسى بْنُ يُونُسَ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عُثْمانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مالِكٍ الأشْجَعِيِّ قالَ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلى بِضْعٍ وسَبْعِينَ فِرْقَةً، أعْظَمُها فِتْنَةً عَلى أُمَّتِي قَوْمٌ يَقِيسُونَ الأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُحِلُّونَ الحَرامَ، ويُحَرِّمُونَ الحَلالَ». قالَ قاسِمُ بْنُ أصْبَغَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إسْماعِيلَ التِّرْمِذِيُّ ثنا نُعَيْمُ بْنُ حَمّادٍ ثنا عَبْدُ اللَّهِ، فَذَكَرَهُ، وهَؤُلاءِ كُلُّهم أئِمَّةٌ ثِقاتٌ حُفّاظٌ إلّا جَرِيرَ بْنَ عُثْمانَ فَإنَّهُ كانَ مُنْحَرِفًا عَنْ عَلِيٍّ، ومَعَ هَذا فاحْتَجَّ بِهِ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ، وقَدْ رَوى عَنْهُ أنَّهُ تَبَرَّأ مِمّا نُسِبَ إلَيْهِ مِن الِانْحِرافِ عَنْ عَلِيٍّ، ونُعَيْمُ بْنُ حَمّادٍ إمامٌ جَلِيلٌ، وكانَ سَيْفًا عَلى الجَهْمِيَّةِ، رَوى عَنْهُ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ.
وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ صِحَّةٌ تَقْرُبُ مِن التَّواتُرِ أنَّهُ قالَ «، ذَرُونِي ما تَرَكْتُكُمْ، فَإنَّما هَلَكَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكم بِكَثْرَةِ مَسائِلِهِمْ واخْتِلافِهِمْ عَلى أنْبِيائِهِمْ، ما نَهَيْتُكم عَنْهُ فاجْتَنِبُوهُ، وما أمَرْتُكم بِهِ فَأتَوْا مِنهُ ما اسْتَطَعْتُمْ»، فَتَضَمَّنَ هَذا الحَدِيثُ أنَّ ما أمَرَ بِهِ أمْرَ إيجابٍ فَهو واجِبٌ، وما نَهى عَنْهُ فَهو حَرامٌ، وما سَكَتَ عَنْهُ فَهو عَفْوٌ مُباحٌ فَبَطَلَ ما سِوى ذَلِكَ، والقِياسُ خارِجٌ عَنْ هَذِهِ الوُجُوهِ الثَّلاثَةِ؛ فَيَكُونُ باطِلًا، والمَقِيسُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ بِلا رَيْبٍ؛ فَيَكُونُ عَفْوًا بِلا رَيْبٍ، فَإلْحاقُهُ بِالمُحَرَّمِ تَحْرِيمٌ لِما عَفا اللَّهُ عَنْهُ.
، وفي قَوْلِهِ «، ذَرُونِي ما تَرَكْتُكُمْ» بَيانٌ جَلِيٌّ أنَّ ما لا نَصَّ فِيهِ فَلَيْسَ بِحَرامٍ ولا واجِبٍ، ودَلَّ الحَدِيثُ عَلى أنَّ أوامِرَهُ عَلى الوُجُوبِ حَتّى يَجِيءَ ما يَرْفَعُ ذَلِكَ، أوْ يُبَيِّنُ أنَّ مُرادَهُ النَّدْبُ، وأنَّ ما لا نَسْتَطِيعُهُ فَساقِطٌ عَنّا.
وَقَدْ رَوى ابْنُ المُغَلِّسِ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ثنا أبُو قِلابَةَ الرَّقاشِيُّ ثنا أبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرانِيُّ ثنا سَيْفُ بْنُ هارُونَ البُرْجُمِيُّ عَنْ سُلَيْمانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أبِي عُثْمانَ النَّهْدِيِّ عَنْ سَلْمانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قالَ: «سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ أشْياءَ، فَقالَ: الحَلالُ ما أحَلَّ اللَّهُ، والحَرامُ ما حَرَّمَ اللَّهُ وما سَكَتَ عَنْهُ فَهو مِمّا عَفا عَنْهُ»، وهَذا إسْنادٌ جَيِّدٌ مَرْفُوعٌ، واللَّهُ المُسْتَعانُ، وعَلَيْهِ التُّكْلانُ.
* [فصلٌ: مِن فَضْلِ الأئِمَّةِ]
والثّانِي: مَعْرِفَةُ فَضْلِ أئِمَّةِ الإسْلامِ ومَقادِيرِهِمْ وحُقُوقِهِمْ ومَراتِبِهِمْ، وأنَّ فَضْلَهم وعِلْمَهم ونُصْحَهم لِلَّهِ ورَسُولِهِ لا يُوجِبُ قَبُولَ كُلِّ ما قالُوهُ، وما وقَعَ في فَتاوِيهِمْ مِن المَسائِلِ الَّتِي خَفِيَ عَلَيْهِمْ فِيها ما جاءَ بِهِ الرَّسُولُ فَقالُوا بِمَبْلَغِ عِلْمِهِمْ والحَقُّ في خِلافِها لا يُوجِبُ إطْراحَ أقْوالِهِمْ جُمْلَةً وتَنَقُّصَهم والوَقِيعَةَ فِيهِمْ؛ فَهَذانِ طَرَفانِ جائِرانِ عَنْ القَصْدِ، وقَصْدُ السَّبِيلِ بَيْنَهُما، فَلا نُؤَثِّمُ ولا نَعْصِمُ، ولا نَسْلُكُ بِهِمْ مَسْلَكَ الرّافِضَةِ في عَلِيٍّ ولا مَسْلَكَهم في الشَّيْخَيْنِ، بَلْ نَسْلُكُ مَسْلَكَهم أنْفُسَهم فِيمَن قَبْلَهم مِن الصَّحابَةِ، فَإنَّهم لا يُؤَثِّمُونَهم ولا يَعْصِمُونَهُمْ، ولا يَقْبَلُونَ كُلَّ أقْوالِهِمْ ولا يُهْدِرُونَها.
فَكَيْفَ يُنْكِرُونَ عَلَيْنا في الأئِمَّةِ الأرْبَعَةِ مَسْلَكًا يَسْلُكُونَهُ هم في الخُلَفاءِ الأرْبَعَةِ وسائِرِ الصَّحابَةِ؟ ولا مُنافاةَ بَيْنَ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ لِمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإسْلامِ، وإنَّما يَتَنافَيانِ عِنْدَ أحَدِ رَجُلَيْنِ: جاهِلٍ بِمِقْدارِ الأئِمَّةِ وفَضْلِهِمْ، أوْ جاهِلٍ بِحَقِيقَةِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي بَعَثَ اللَّهُ بِها رَسُولَهُ، ومَن لَهُ عِلْمٌ بِالشَّرْعِ والواقِعِ يَعْلَمُ قَطْعًا أنَّ الرَّجُلَ الجَلِيلَ الَّذِي لَهُ في الإسْلامِ قَدَمٌ صالِحٌ وآثارٌ حَسَنَةٌ وهو مِن الإسْلامِ وأهْلِهِ بِمَكانٍ قَدْ تَكُونُ مِنهُ الهَفْوَةُ والزَّلَّةُ هو فِيها مَعْذُورٌ بَلْ ومَأْجُورٌ لِاجْتِهادِهِ؛ فَلا يَجُوزُ أنْ يُتْبَعَ فِيها، ولا يَجُوزُ أنْ تُهْدَرَ مَكانَتُهُ وإمامَتُهُ ومَنزِلَتُهُ مِن قُلُوبِ المُسْلِمِينَ.
قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ: كُنْتُ بِالكُوفَةِ فَناظَرُونِي في النَّبِيذِ المُخْتَلِفِ فِيهِ، فَقُلْتُ لَهُمْ: تَعالَوْا فَلْيَحْتَجَّ المُحْتَجُّ مِنكم عَمَّنْ شاءَ مِن أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ بِالرُّخْصَةِ، فَإنْ لَمْ يُبَيِّنْ الرَّدَّ عَلَيْهِ عَنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِسَنَدٍ صَحَّتْ عَنْهُ، فاحْتَجُّوا فَما جاءُوا عَنْ أحَدٍ بِرُخْصَةٍ إلّا جِئْناهم بِسَنَدٍ، فَلَمّا لَمْ يَبْقَ في يَدِ أحَدٍ مِنهم إلّا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، ولَيْسَ احْتِجاجُهم عَنْهُ في شِدَّةِ النَّبِيذِ بِشَيْءٍ يَصِحُّ عَنْهُ، إنّما يَصِحُّ عَنْهُ أنَّهُ لَمْ يَنْتَبِذْ لَهُ في الجَرِّ الأخْضَرِ.
قالَ ابْنُ المُبارَكِ: فَقُلْتُ لِلْمُحْتَجِّ عَنْهُ في الرُّخْصَةِ: يا أحْمَقُ، عُدْ إنّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَوْ كانَ هاهُنا جالِسًا فَقالَ: هو لَكَ حَلالٌ، وما وصَفْنا عَنْ النَّبِيِّ ﷺ وأصْحابِهِ في الشِّدَّةِ كانَ يَنْبَغِي لَكَ أنْ تَحْذَرَ وتَخْشى. فَقالَ قائِلٌ: يا أبا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فالنَّخَعِيُّ والشَّعْبِيُّ - وسَمّى عِدَّةً مَعَهُما - كانُوا يَشْرَبُونَ الحَرامَ؟ فَقُلْتُ لَهُمْ: دَعُوا عِنْدَ المُناظَرَةِ تَسْمِيَةَ الرِّجالِ، فَرُبَّ رَجُلٍ في الإسْلامِ مَناقِبُهُ كَذا وكَذا، وعَسى أنْ تَكُونَ مِنهُ زَلَّةٌ، أفَيَجُوزُ لِأحَدٍ أنْ يَحْتَجَّ بِها؟ فَإنْ أبَيْتُمْ فَما قَوْلُكم في عَطاءٍ وطاوُسٍ وجابِرِ بْنِ زَيْدٍ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وعِكْرِمَةَ؟ قالُوا: كانُوا خِيارًا، قُلْتُ: فَما قَوْلُكم في الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ يَدًا بِيَدٍ؟ قالُوا: حَرامٌ، فَقُلْتُ: إنّ هَؤُلاءِ رَأوْهُ حَلالًا، أفَماتُوا وهم يَأْكُلُونَ الحَرامَ؟ فَبُهِتُوا وانْقَطَعَتْ حُجَّتُهم.
قالَ ابْنُ المُبارَكِ: ولَقَدْ أخْبَرَنِي المُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمانَ قالَ: رَآنِي أبِي وأنا أنْشُدُ الشِّعْرَ، فَقالَ: يا بُنَيَّ لا تَنْشُدُ الشِّعْرَ، فَقُلْتُ: يا أبَتِ كانَ الحَسَنُ يُنْشِدُ الشِّعْرَ، وكانَ ابْنُ سِيرِينَ يُنْشِدُ، فَقالَ: أيْ بُنَيَّ إنْ أخَذْتُ بِشَرِّ ما في الحَسَنِ وبِشَرِّ ما في ابْنِ سِيرِينَ اجْتَمَعَ فِيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ، قالَ شَيْخُ الإسْلامِ: وهَذا الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ المُبارَكِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ العُلَماءِ، فَإنَّهُ ما مِن أحَدٍ مِن أعْيانِ الأئِمَّةِ مِن السّابِقِينَ الأوَّلِينَ ومَن بَعْدَهم إلّا ولَهُ أقْوالٌ وأفْعالٌ خَفِيَ عَلَيْهِمْ فِيها السُّنَّةُ.
قُلْتُ: وقَدْ قالَ أبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ في أوَّلِ اسْتِذْكارِهِ.
قالَ شَيْخُ الإسْلامِ: وهَذا بابٌ واسِعٌ لا يُحْصى، مَعَ أنَّ ذَلِكَ لا يَغُضُّ مِن أقْدارِهِمْ، ولا يُسَوِّغُ اتِّباعَهم فِيها، قالَ تَعالى: ﴿فَإنْ تَنازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللَّهِ والرَّسُولِ﴾ [النساء: ٥٩] قالَ مُجاهِدٌ والحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ ومالِكٌ وغَيْرُهُمْ: لَيْسَ أحَدٌ مِن خَلْقِ اللَّهِ إلّا يُؤْخَذُ مِن قَوْلِهِ ويُتْرَكُ إلّا النَّبِيَّ ﷺ، وقالَ سُلَيْمانُ التَّيْمِيُّ: إنْ أخَذْتَ بِرُخْصَةِ كُلِّ عالِمٍ اجْتَمَعَ فِيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ، قالَ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: هَذا إجْماعٌ لا أعْلَمُ فِيهِ خِلافًا، وقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ وأصْحابِهِ في هَذا المَعْنى ما يَنْبَغِي تَأمُّلُهُ.
فَرَوى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ المُزَنِيّ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «إنِّي لَأخافُ عَلى أُمَّتِي مِن بَعْدِي مِن أعْمالٍ ثَلاثَةٍ، قالُوا: وما هي يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: إنِّي أخافُ عَلَيْهِمْ مِن زَلَّةِ العالِمِ، ومِن حُكْمِ الجائِرِ، ومِن هَوًى مُتَّبَعٍ».
وَقالَ زِيادُ بْنُ حُدَيْرٍ: قالَ عُمَرُ: ثَلاثٌ يَهْدِمْنَ الدِّينَ: زَلَّةُ عالِمٍ، وجِدالُ مُنافِقٍ بِالقُرْآنِ، وأئِمَّةٌ مُضِلُّونَ.
وَقالَ الحَسَنُ: قالَ أبُو الدَّرْداءِ: إنّ مِمّا أخْشى عَلَيْكم زَلَّةَ العالِمِ وجِدالَ المُنافِقِ بِالقُرْآنِ، والقُرْآنُ حَقٌّ، وعَلى القُرْآنِ مَنارٌ كَأعْلامِ الطَّرِيقِ.
وَكانَ مُعاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ في خُطْبَتِهِ كُلَّ يَوْمٍ، قَلَّما يُخْطِئُهُ أنْ يَقُولَ ذَلِكَ، اللَّهُ حَكَمٌ قِسْطٌ، هَلَكَ المُرْتابُونَ، إنّ وراءَكم فِتَنًا يَكْثُرُ فِيها المالُ، ويُفْتَحُ فِيها القُرْآنُ، حَتّى يَقْرَأهُ المُؤْمِنُ والمُنافِقُ والمَرْأةُ والصَّبِيُّ والأسْوَدُ والأحْمَرُ، فَيُوشِكُ أحَدُهم أنْ يَقُولَ: قَدْ قَرَأْتُ القُرْآنَ فَما أظُنُّ أنْ يَتْبَعُونِي حَتّى أبْتَدِعَ لَهم غَيْرَهُ، فَإيّاكم وما ابْتَدَعَ، فَإنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ وإيّاكم وزَيْغَةَ الحَكِيمِ فَإنَّ الشَّيْطانَ قَدْ يَتَكَلَّمُ عَلى لِسانِ الحَكِيمِ بِكَلِمَةِ الضَّلالَةِ، وإنَّ المُنافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الحَقِّ، فَتَلَقَّوْا الحَقَّ عَمَّنْ جاءَ بِهِ، فَإنَّ عَلى الحَقِّ نُورًا، قالُوا: كَيْفَ زَيْغَةُ الحَكِيمِ؟ قالَ: هي كَلِمَةٌ تَرُوعُكم وتُنْكِرُونَها وتَقُولُونَ ما هَذِهِ، فاحْذَرُوا زَيْغَتَهُ، ولا تَصُدَّنَّكم عَنْهُ، فَإنَّهُ يُوشِكُ أنْ يَفِيءَ ويُراجِعَ الحَقَّ، وإنَّ العِلْمَ والإيمانَ مَكانُهُما إلى يَوْمِ القِيامَةِ، فَمَن ابْتَغاهُما وجَدَهُما.
وَقالَ سَلْمانُ الفارِسِيُّ: كَيْفَ أنْتُمْ عِنْدَ ثَلاثٍ: زَلَّةِ عالِمٍ، وجِدالِ مُنافِقٍ بِالقُرْآنِ، ودُنْيا تَقْطَعُ أعْناقَكُمْ؟ فَأمّا زَلَّةُ العالِمِ فَإنْ اهْتَدى فَلا تُقَلِّدُوهُ دِينَكم وتَقُولُونَ نَصْنَعُ مِثْلَ ما يَصْنَعُ فُلانٌ، وإنْ أخْطَأ فَلا تَقْطَعُوا إياسَكم مِنهُ فَتُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطانَ وأمّا مُجادَلَةُ مُنافِقٍ بِالقُرْآنِ فَإنَّ لِلْقُرْآنِ مَنارًا كَمَنارِ الطَّرِيقِ، فَما عَرَفْتُمْ مِنهُ فَخُذُوا وما لَمْ تَعْرِفُوا فَكِلُوهُ إلى اللَّهِ تَعالى. وأمّا دُنْيا تَقْطَعُ أعْناقَكم فانْظُرُوا إلى مَن هو دُونَكُمْ، ولا تَنْظُرُوا إلى مَن هو فَوْقَكم.
وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ: ويْلٌ لِلْأتْباعِ مِن عَثَراتِ العالِمِ، قِيلَ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قالَ: يَقُولُ العالِمُ شَيْئًا بِرَأْيِهِ ثُمَّ يَجِدُ مَن هو أعْلَمُ مِنهُ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَيَتْرُكُ قَوْلَهُ ثُمَّ يَمْضِي الأتْباعُ، ذَكَرَ أبُو عُمَرَ هَذِهِ الآثارَ كُلَّها وغَيْرَهُ.
فَإنْ كُنّا قَدْ حَذَّرْنا زَلَّةَ العالِمِ وقِيلَ لَنا: إنّها مِن أخْوَفِ ما يُخافُ عَلَيْنا، وأُمِرْنا مَعَ ذَلِكَ أنْ لا نَرْجِعَ عَنْهُ، فالواجِبُ عَلى مَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإسْلامِ إذا بَلَغَتْهُ مَقالَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ بَعْضِ الأئِمَّةِ أنْ لا يَحْكِيَها لِمَن يَتَقَلَّدُها، بَلْ يَسْكُتُ عَنْ ذِكْرِها إنْ تَيَقَّنَ صِحَّتَها، وإلّا تَوَقَّفَ في قَبُولِها؛ فَكَثِيرًا ما يُحْكى عَنْ الأئِمَّةِ ما لا حَقِيقَةَ لَهُ، وكَثِيرٌ مِن المَسائِلِ يُخَرِّجُها بَعْضُ الأتْباعِ عَلى قاعِدَةٍ مَتْبُوعِهِ مَعَ أنَّ ذَلِكَ الإمامَ لَوْ رَأى أنَّها تُفْضِي إلى ذَلِكَ لَما التَزَمَها، وأيْضًا فَلازِمُ المَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ، وإنْ كانَ لازِمُ النَّصِّ حَقًّا؛ لِأنَّ الشّارِعَ لا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّناقُضُ، فَلازِمُ قَوْلِهِ حَقٌّ، وأمّا مَن عَداهُ فَلا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أنْ يَقُولَ الشَّيْءَ ويَخْفى عَلَيْهِ لازِمُهُ، ولَوْ عَلِمَ أنَّ هَذا لازِمُهُ لَما قالَهُ؛ فَلا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: هَذا مَذْهَبُهُ، ويَقُولُ ما لَمْ يَقُلْهُ، وكُلُّ مَن لَهُ عِلْمٌ بِالشَّرِيعَةِ وقَدْرِها وبِفَضْلِ الأئِمَّةِ ومَقادِيرِهِمْ وعِلْمِهِمْ ووَرَعِهِمْ ونَصِيحَتِهِمْ لِلدِّينِ تَيَقَّنَ أنَّهم لَوْ شاهَدُوا أمْرَ هَذِهِ الحِيَلِ وما - أفَضْتَ إلَيْهِ مِن التَّلاعُبِ بِالدِّينِ لَقَطَعُوا بِتَحْرِيمِها.
وَمِمّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أنَّ الَّذِينَ أفْتَوْا مِن العُلَماءِ بِبَعْضِ مَسائِلِ الحِيَلِ وأخَذُوا ذَلِكَ مِن بَعْضِ قَواعِدِهِمْ لَوْ بَلَغَهم ما جاءَ في ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ وأصْحابِهِ لَرَجَعُوا عَنْ ذَلِكَ يَقِينًا، فَإنَّهم كانُوا في غايَةِ الإنْصافِ، وكانَ أحَدُهم يَرْجِعُ عَنْ رَأْيِهِ بِدُونِ ذَلِكَ، وقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ غَيْرُ واحِدٍ مِنهم وإنْ كانُوا كُلُّهم مُجْمِعِينَ عَلى ذَلِكَ.
قالَ الشّافِعِيُّ: إذا صَحَّ الحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فاضْرِبُوا بِقَوْلِي الحائِطَ، وهَذا وإنْ كانَ لِسانُ الشّافِعِيِّ فَإنَّهُ لِسانُ الجَماعَةِ كُلِّهِمْ، ومِن الأُصُولِ الَّتِي اتَّفَقَ عَلَيْها الأئِمَّةُ أنَّ أقْوالَ أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ المُنْتَشِرَةِ لا تُتْرَكُ إلّا بِمِثْلِها. يُوَضِّحُ ذَلِكَ أنَّ القَوْلَ بِتَحْرِيمِ الحِيَلِ قَطْعِيٌّ لَيْسَ مِن مَسالِكِ الِاجْتِهادِ؛ إذْ لَوْ كانَ مِن مَسالِكِ الِاجْتِهادِ لَمْ يَتَكَلَّمْ الصَّحابَةُ والتّابِعُونَ والأئِمَّةُ في أرْبابِ الحِيَلِ بِذَلِكَ الكَلامِ الغَلِيظِ الَّذِي ذَكَرْنا مِنهُ اليَسِيرَ مِن الكَثِيرِ، وقَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ عَلى أنَّها بِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ؛ فَلا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَن يُفْتِي بِها، ويَجِبُ نَقْضُ حُكْمِهِ، ولا يَجُوزُ الدَّلالَةُ لِلْمُقَلِّدِ عَلى مَن يُفْتِي بِها، وقَدْ نَصَّ الإمامُ أحْمَدُ عَلى ذَلِكَ كُلِّهِ، ولا خِلافَ في ذَلِكَ بَيْنَ الأئِمَّةِ، كَما أنَّ المَكِّيِّينَ والكُوفِيِّينَ لا يَجُوزُ تَقْلِيدُهم في مَسْألَةِ المُتْعَةِ والصَّرْفِ والنَّبِيذِ، ولا يَجُوزُ تَقْلِيدُ بَعْضِ المَدَنِيِّينَ في مَسْألَةِ الحُشُوشِ وإتْيانِ النِّساءِ في أدْبارِهِنَّ بَلْ عِنْدَ فُقَهاءِ الحَدِيثِ أنَّ مَن شَرِبَ النَّبِيذَ المُخْتَلِفَ فِيهِ حُدَّ، وهَذا فَوْقَ الإنْكارِ بِاللِّسانِ، بَلْ عِنْدَ فُقَهاءِ أهْلِ المَدِينَةِ يُفَسَّقُ، ولا تُقْبَلُ شَهادَتُهُ، وهَذا يَرُدُّ قَوْلَ مَن قالَ: لا إنْكارَ في المَسائِلِ المُخْتَلَفِ فِيها، وهَذا خِلافُ إجْماعِ الأئِمَّةِ، ولا يُعْلَمُ إمامٌ مِن أئِمَّةِ الإسْلامِ قالَ ذَلِكَ، وقَدْ نَصَّ الإمامُ أحْمَدُ عَلى أنَّ مَن تَزَوَّجَ ابْنَتَهُ مِن الزِّنا يُقْتَلُ، والشّافِعِيُّ وأحْمَدُ ومالِكٌ لا يَرَوْنَ خِلاف أبِي حَنِيفَةَ فِيمَن تَزَوَّجَ أُمَّهُ وابْنَتَهُ أنَّهُ يُدْرَأُ عَنْهُ الحَدُّ بِشُبْهَةٍ دَراءَةٍ لِلْحَدِّ، بَلْ عِنْدَ الإمامِ أحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُقْتَلُ، وعِنْدَ الشّافِعِيِّ ومالِكٍ يُحَدُّ حَدَّ الزِّنا في هَذا، مَعَ أنَّ القائِلِينَ بِالمُتْعَةِ والصَّرْفِ مَعَهم سُنَّةٌ وإنْ كانَتْ مَنسُوخَةً، وأرْبابُ الحِيَلِ لَيْسَ مَعَهم سُنَّةٌ، ولا أثَرٌ عَنْ صاحِبٍ، ولا قِياسٌ صَحِيحٌ.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُوا۟ ٱلرَّسُولَ وَأُو۟لِی ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَـٰزَعۡتُمۡ فِی شَیۡءࣲ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۚ ذَ ٰلِكَ خَیۡرࣱ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِیلًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق