الباحث القرآني

(فائدة عزيزة الوجود) احتج المعتزلة على مخلوقية القرآن بقوله تعالى: ﴿خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ ونحو ذلك من الآيات. فأجاب الأكثرون بأنه عام مخصوص يخص محل النزاع كسائر الصفات من العلم ونحوه. قال ابن عقيل في الإرشاد: "ووقع لي أن القرآن لا يتناوله هذا الإخبار ولا يصلح لتناوله" قال: "لأن به حصل عقد الإعلام بكونه خالقا لكل شيء، وما حصل به عقد الإعلام والإخبار لم يكن داخلا تحت الخبر" قال: "ولو أن شخصا قال: لا أتكلم اليوم كلاما إلا كان كذبا لم يدخل إخباره بذلك تحت ما أخبر به". قلت: ثم تدبرت هذا فوجدته مذكورا في قوله تعالى: في قصة مريم ﴿فَإمّا تَرَيِنَّ مِنَ البَشَرِ أحَدًا فَقُولِي إنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إنْسِيًّا﴾ وإنما أمرت بذلك لئلا تسأل عن ولدها، فقولها ﴿فلن أكلم اليوم إنسيا﴾ به حصل إخبار بأنها لا تكلم الإنس، ولم يكن ما أخبرت به داخلا تحت الخبر، وإلا كان قولها هذا مخالفا لنذرها. * (فصل) والتَّحْقِيقُ: أنَّ صِفاتِ الرَّبِّ - جَلَّ جَلالُهُ - داخِلَةٌ في مُسَمّى اسْمِهِ، فَلَيْسَ اسْمُهُ اللَّهُ، والرَّبُّ، والإلَهُ أسْماءً لِذاتٍ مُجَرَّدَةٍ، لا صِفَةً لَها ألْبَتَّةَ، فَإنَّ هَذِهِ الذّاتَ المُجَرَّدَةِ وُجُودُها مُسْتَحِيلٌ، وإنَّما يَفْرِضُها الذِّهْنُ فَرْضَ المُمْتَنِعاتِ، ثُمَّ يَحْكُمُ عَلَيْها، واسْمُ " اللَّهِ " سُبْحانَهُ، " والرَّبِّ، والإلَهِ " - اسْمٌ لِذاتٍ لَها جَمِيعُ صِفاتِ الكَمالِ ونُعُوتِ الجَلالِ، كالعِلْمِ، والقُدْرَةِ، والحَياةِ، والإرادَةِ، والكَلامِ، والسَّمْعِ، والبَصَرِ، والبَقاءِ، والقِدَمِ، وسائِرِ الكَمالِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ لِذاتِهِ، فَصِفاتُهُ داخِلَةٌ في مُسَمّى اسْمِهِ، فَتَجْرِيدُ الصِّفاتِ عَنِ الذّاتِ، والذّاتِ عَنِ الصِّفاتِ فَرْضٌ وخَيالٌ ذِهْنِيٌّ لا حَقِيقَةَ لَهُ، وهو أمْرٌ اعْتِبارِيٌّ لا فائِدَةَ فِيهِ، ولا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةٌ، ولا إيمانٌ، ولا هو عِلْمٌ في نَفْسِهِ، وبِهَذا أجابَ السَّلَفُ الجَهْمِيَّةَ لَمّا اسْتَدَلُّوا عَلى خَلْقِ القُرْآنِ، بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ قالُوا: والقُرْآنُ شَيْءٌ. فَأجابَهُمُ السَّلَفُ بِأنَّ القُرْآنَ كَلامُهُ، وكَلامُهُ مِن صِفاتِهِ، وصِفاتُهُ داخِلَةٌ في مُسَمّى اسْمِهِ - كَعِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ وحَياتِهِ، وسَمْعِهِ وبَصَرِهِ، ووَجْهِهِ ويَدَيْهِ - فَلَيْسَ اللَّهُ اسْمًا لِذاتٍ لا نَعْتَ لَها، ولا صِفَةَ، ولا فِعْلَ، ولا وجْهَ، ولا يَدَيْنِ، ذَلِكَ إلَهٌ مَعْدُومٌ مَفْرُوضٌ في الأذْهانِ، لا وُجُودَ لَهُ في الأعِيانِ، كَإلَهِ الجَهْمِيَّةِ، الَّذِي فَرَضُوهُ غَيْرِ خارِجٍ عَنِ العالَمِ ولا داخِلٍ فِيهِ، ولا مُتَّصِلٍ بِهِ ولا مُنْفَصِلٍ عَنْهُ، ولا مُحايِثٍ لَهُ ولا مُبايِنٍ، وكَإلَهِ الفَلاسِفَةِ الَّذِي فَرَضُوهُ وُجُودًا مُطْلَقًا لا يَتَخَصَّصُ بِصِفَةٍ ولا نَعْتٍ، ولا لَهُ مَشِيئَةٌ ولا قُدْرَةٌ، ولا إرادَةٌ ولا كَلامٌ، وكَإلَهِ الِاتِّحادِيَّةِ الَّذِي فَرَضُوهُ وُجُودًا سارِيًا في المَوْجُوداتِ ظاهِرًا فِيها، هو عَيْنُ وُجُودِها، وكَإلَهِ النَّصارى الَّذِي فَرَضُوهُ قَدِ اتَّخَذَ صاحِبَةً ووَلَدًا، وتَدَرَّعَ بِناسُوتِ ولَدِهِ، واتَّخَذَ مِنهُ حِجابًا. فَكُلُّ هَذِهِ الآلِهَةِ مِمّا عَمِلَتْهُ أيْدِي أفْكارِها، وإلَهُ العالَمِينَ الحَقُّ: هو الَّذِي دَعَتْ إلَيْهِ الرُّسُلُ وعَرَّفُوهُ بِأسْمائِهِ وصِفاتِهِ وأفْعالِهِ فَوْقَ سَماواتِهِ عَلى عَرْشِهِ، بائِنٌ مِن خَلْقِهِ، مَوْصُوفٌ بِكُلِّ كَمالٍ، مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، لا مِثالَ لَهُ، ولا شَرِيكَ، ولا ظَهِيرَ، ولا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أحَدٌ إلّا بِإذْنِهِ، ﴿هُوَ الأوَّلُ والآخِرُ والظّاهِرُ والباطِنُ وهو بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد: ٣] غَنِيٌ بِذاتِهِ عَنْ كُلِّ ما سِواهُ، وكُلُّ ما سِواهُ فَقِيرٌ إلَيْهِ بِذاتِهِ. * (فصل) المرتبة الرابعة من مراتب القضاء والقدر وهي خلق الله تعالى لأفعال المكلفين ودخولها تحت قدرته ومشيئته كما دخلت تحت علمه وكتابه قال تعالى: ﴿اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ وكِيلٌ﴾ وهذا عام محفوظ لا يخرج عنه شيء من العالم أعيانه وأفعاله وحركاته وسكناته، وليس مخصوصا بذاته وصفاته فإنه الخالق بذاته وصفاته، وما سواه مخلوق له. واللفظ قد فرق بين الخالق والمخلوق، وصفاته سبحانه داخله في مسمى اسمه، فإن (الله) سبحانه اسم للإله الموصوف بكل صفة كمال، المنزه عن كل صفة نقص ومثال. والعالم قسمان أعيان وأفعال، وهو الخالق لأعيانه وما يصدر عنها من الأفعال، كما أنه العالم بتفاصيل ذلك، فلا يخرج شيء منه عن علمه، ولا عن قدرته، ولا عن خلقه ومشيئته. قالت القدرية: نحن نقول إن الله خالق أفعال العباد لا على أنه محدثها ومخترعها لكن على معنى أنه مقدرها فإن الخلق التقدير كما قال تعالى: ﴿فَتَبارَكَ اللَّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ﴾ وقال الشاعر: ؎ولأنت تفري ما خلقت ∗∗∗ وبعض القوم يخلق ثم لا يفرى أي لأنت تمضي ما قدرته وتنفذه بعزمك وقدرتك وبعض القوم يقدر ثم لا قوة له ولا عزيمة على إنفاذ ما قدره وإمضائه فالله تعالى مقدر أفعال العباد وهم الذين أوجدوها وأحدثوها. قال أهل السنة: قدماؤكم ينكرون تقدير الله سبحانه لأعمال العباد ألبتة فلا يمكنهم أن يجيبوا بذلك ومن اعترف منكم بالتقدير فهو تقدير لا يرجع إلى تأثير وإنما هو مجرد العلم بها والخبر عنها ليس التقدير عندكم جعلها على قدر كذا وكذا فإن هذا عندكم غير مقدور للرب ولا مصنوع له وإنما هو صنع العبد وإحداثه فرجع التقدير إلى مجرد العلم والخبر. وهذا لا يسمى خلقا في لغة أمة من الأمم ولو كان هذا خلقا لكان من علم شيئا وعلم أسمائه وصفاته وأخبر عنه بذلك خالقا له فالتقدير الذي أثبتموه إن كان متضمنا للتأثير في إيجاد الفعل فهو خلاف مذهبكم وإن لم يتضمن تأثيرا في إيجاده فهو راجع إلى محض العلم والخبر. قالت القدرية قوله: ﴿اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ من العام المراد به الخاص ولا سيما فإنكم قلتم إن القرآن لم يدخل في هذا العموم وهو من أعظم الأشياء وأجلها فخصصنا مه أفعال العباد بالأدلة الدالة على كونها فعلهم ومنعهم. قالت أهل السنة: القرآن كلام الله سبحانه وكلامه صفة من صفاته وصفات الخالق وذاته لم تدخل في المخلوق فإن الخالق غير المخلوق فليس هاهنا تخصيصا ألبتة بل الله سبحانه بذاته وصفاته الخالق وكل ما عداه مخلوق وذلك عموم لا تخصيص فيه بوجه إذ ليس إلا الخالق والمخلوق والله وحده الخالق وما سواه كله مخلوق وأما الأدلة الدالة على أن أفعال العباد صنع لهم وإنما أفعالهم القائمة بهم وأنهم هم الذين فعلوها فكلها حق نقول بموجبها ولكن لا ينبغي أن تكون أفعالا لهم ومخلوقة مفعولة لله فإن الفعل غير المفعول ولا نقول أنها فعل لله والعبد مضطر مجبور عليها ولا نقول أنها فعل للعبد والله غير قادر عليها ولا جاعل للعبد فاعلا لها ولا نقول أنها مخلوقة بين مخلوقين مستقلين بالإيجاد والتأثير. وهذه الأقوال كلها باطلة. قالت القدرية يعني قوله تعالى: ﴿اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ مما لا يقدر عليه غيره وأما أفعال العباد التي يقدر عليها العباد فإضافتها إليهم ينفي إضافتها إليه والألزم وقوع مفعولين بين فاعلين وهو محال. قالت أهل السنة: إضافتها إليهم فعلا وكسبا لا ينفي إضافتها إليه سبحانه خلقا ومشيئة فهو سبحانه الذي شاءها وخلقها وهم الذين فعلوها وكسبوها حقيقة فلو لم تكن مضافة إلى مشيئته وقدرته وخلقه لاستحال وقوعها منهم إذ العباد أعجز وأضعف من أن يفعلوا ما لم يشأه الله ولم يقدر عليه ولا خلقه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب