الباحث القرآني
* (فائدة)
وَقَدْ يُقالُ: إنَّما سَمّاهم عِبادَهُ إذْ لَمْ يَقْنَطُوا مِن رَحْمَتِهِ، وأنابُوا إلَيْهِ، واتَّبَعُوا أحْسَنَ ما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِن رَبِّهِمْ، فَيَكُونُوا مِن عَبِيدِ الإلَهِيَّةِ والطّاعَةِ.
* (فصل)
إنه سبحانه يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه أعظم فرح يقدر أو يخطر ببال أو يدور في خلد وحصول هذا الفرح موقوف على التوبة الموقوفة على وجود ما يتاب منه وما يتوقف عليه الشيء لا يوجد بدونه فإن وجود الملزوم بدون لازمه محال، ولا ريب أن وجود الفرح أكمل من عدمه فمن تمام الحكمة تقدير أسبابه ولوازمه.
وقد نبه أعلم الخلق بالله على هذا المعنى بعينه حيث يقول في الحديث الصحيح:
"لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم"
فلو لم يقدر الذنوب والمعاصي فلمن يغفر؟ وعلى من يتوب؟ وعمن يعفو ويسقط حقه؟ ويظهر فضله وجوده وحلمه وكرمه؟ وهو واسع المغفرة.
فكيف يعطل هذه الصفة؟ أم كيف يتحقق بدون ما يغفر؟ ومن يغفر له؟ ومن يتوب وما يتاب عنه؟
فلو لم يكن في تقدير الذنوب والمعاصي والمخالفات إلا هذا وحده لكفى به حكمة وغاية محمودة.
فكيف والحكم والمصالح والغايات المحمودة التي في ضمن هذا التقدير فوق ما يخطر بالبال.
وكان بعض العباد يدعو في طوافه
"اللهم اعصمني من المعاصي، ويكرر ذلك.
فقيل له في المنام أنت سألتني العصمة وعبادي يسألوني العصمة، فإذا عصمتكم من الذنوب فلمن أغفر؟ وعلى من أتوب؟ وعمن أعفو؟ "
* [فَصْلٌ: هَلِ المُطِيعُ الَّذِي لَمْ يَعْصِ خَيْرٌ مِنَ العاصِي الَّذِي تابَ إلى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا، أوْ هَذا التّائِبُ أفْضَلُ مِنهُ؟]
اخْتُلِفَ في ذَلِكَ.
فَطائِفَةٌ رَجَّحَتْ مَن لَمْ يَعْصِ عَلى مَن عَصى وتابَ تَوْبَةً نَصُوحًا، واحْتَجُّوا بِوُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ أكْمَلَ الخَلْقِ وأفْضَلَهم أطْوَعُهم لِلَّهِ، وهَذا الَّذِي لَمْ يَعْصِ أطْوَعُ، فَيَكُونُ أفْضَلَ.
الثّانِي: أنَّ في زَمَنِ اشْتِغالِ العاصِي بِمَعْصِيَتِهِ يَسْبِقُهُ المُطِيعُ عِدَّةَ مَراحِلَ إلى فَوْقُ، فَتَكُونُ دَرَجَتُهُ أعْلى مِن دَرَجَتِهِ، وغايَتُهُ أنَّهُ إذا تابَ اسْتَقْبَلَ سَيْرَهُ لِيَلْحَقَهُ، وذاكَ في سَيْرٍ آخَرَ، فَأنّى لَهُ بِلَحاقِهِ؟
فَهُما بِمَنزِلَةِ رَجُلَيْنِ مُشْتَرِكَيْنِ في الكَسْبِ، كُلَّما كَسَبَ أحَدُهُما شَيْئًا كَسَبَ الآخَرُ مِثْلَهُ، فَعَمَدَ أحَدُهُما إلى كَسْبِهِ فَأضاعَهُ، وأمْسَكَ عَنِ الكَسْبِ المُسْتَأْنَفِ، والآخَرُ مُجِدٌّ في الكَسْبِ، فَإذا أدْرَكَتْهُ حَمِيَّةُ المُنافَسَةِ، وعادَ إلى الكَسْبِ وجَدَ صاحِبَهُ قَدْ كَسَبَ في تِلْكَ المُدَّةِ شَيْئًا كَثِيرًا، فَلا يَكْسِبُ شَيْئًا إلّا كَسَبَ صاحِبُهُ نَظِيرَهُ، فَأنّى لَهُ بِمُساواتِهِ؟
الثّالِثُ: أنَّ غايَةَ التَّوْبَةِ أنْ تَمْحُوَ عَنْ هَذا سَيِّئاتِهِ، ويَصِيرَ بِمَنزِلَةِ مَن لَمْ يَعْمَلْها، فَيَكُونَ سَعْيُهُ في مُدَّةِ المَعْصِيَةِ لا لَهُ ولا عَلَيْهِ، فَأيْنَ هَذا السَّعْيُ مِن سَعْيِ مَن هو كاسِبٌ رابِحٌ؟
الرّابِعُ: أنَّ اللَّهَ يَمْقُتُ عَلى مَعاصِيهِ ومُخالَفَةِ أوامِرِهِ، فَفي مُدَّةِ اشْتِغالِ هَذا بِالذُّنُوبِ كانَ حَظُّهُ المَقْتَ، وحَظُّ المُطِيعِ الرِّضا، فاللَّهُ لَمْ يَزَلْ عَنْهُ راضِيًا، ولا رَيْبَ أنَّ هَذا خَيْرٌ مِمَّنْ كانَ اللَّهُ راضِيًا عَنْهُ ثُمَّ مَقَتَهُ، ثُمَّ رَضِيَ عَنْهُ، فَإنَّ الرِّضا المُسْتَمِرَّ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي تَخَلَّلَهُ المَقْتُ.
الخامِسُ: أنْ الذَّنْبَ بِمَنزِلَةِ شُرْبِ السُّمِّ، والتَّوْبَةَ تِرْياقُهُ ودَواؤُهُ، والطّاعَةَ هي الصِّحَّةُ والعافِيَةُ، وصِحَّةٌ وعافِيَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ خَيْرٌ مِن صِحَّةٍ تَخَلَّلَها مَرَضٌ وشُرْبُ سُمٍّ أفاقَ مِنهُ، ورُبَّما أدَّيا بِهِ إلى التَّلَفِ أوِ المَرَضِ أبَدًا.
السّادِسُ: أنَّ العاصِيَ عَلى خَطَرٍ شَدِيدٍ، فَإنَّهُ دائِرٌ بَيْنَ ثَلاثَةِ أشْياءَ:
أحَدُها: العَطَبُ والهَلاكُ بِشُرْبِ السُّمِّ.
الثّانِي: النُّقْصانُ مِنَ القُوَّةِ وضَعْفُها إنْ سَلِمَ مِنَ الهَلاكِ.
والثّالِثُ: عَوْدُ قُوَّتِهِ إلَيْهِ كَما كانَتْ أوْ خَيْرًا مِنها بَعِيدٌ.
والأكْثَرُ إنَّما هو القِسْمانِ الأوَّلانِ، ولَعَلَّ الثّالِثَ نادِرٌ جِدًّا، فَهو عَلى يَقِينٍ مِن ضَرَرِ السُّمِّ، وعَلى رَجاءٍ مِن حُصُولِ العافِيَةِ، بِخِلافِ مَن لَمْ يَتَناوَلْ ذَلِكَ.
السّابِعُ: أنَّ المُطِيعَ قَدْ أحاطَ عَلى بُسْتانِ طاعَتِهِ حائِطًا حَصِينًا لا يَجِدُ الأعْداءُ إلَيْهِ سَبِيلًا، فَثَمَرَتُهُ وزَهْرَتُهُ وخُضْرَتُهُ وبَهْجَتُهُ في زِيادَةٍ ونُمُوٍّ أبَدًا، والعاصِي قَدْ فَتَحَ فِيهِ ثَغْرًا، وثَلَمَ فِيهِ ثُلْمَةً، ومَكَّنَ مِنهُ السُّرّاقَ والأعْداءَ، فَدَخَلُوا فَعاثُوا فِيهِ يَمِينًا وشَمالًا، أفْسَدُوا أغْصانَهُ، وخَرَّبُوا حِيطانَهُ، وقَطَّعُوا ثَمَراتِهِ، وأحْرَقُوا في نَواحِيهِ، وقَطَعُوا ماءَهُ، ونَقَصُوا سَقْيَهُ، فَمَتى يَرْجِعُ هَذا إلى حالِهِ الأوَّلِ؟ فَإذا تَدارَكَهُ قَيَّمَهُ ولَمَّ شَعَثَهُ، وأصْلَحَ ما فَسَدَ مِنهُ، وفَتَحَ طُرُقَ مائِهِ، وعَمَّرَ ما خَرِبَ مِنهُ، فَإنَّهُ إمّا أنْ يَعُودَ كَما كانَ، أوْ أنْقَصَ، أوْ خَيْرًا، ولَكِنْ لا يَلْحَقُ بُسْتانَ صاحِبِهِ الَّذِي لَمْ يَزَلْ عَلى نَضارَتِهِ وحُسْنِهِ، بَلْ في زِيادَةٍ ونُمُوٍّ، وتَضاعُفِ ثَمَرَةٍ، وكَثْرَةِ غَرْسٍ.
والثّامِنُ: أنَّ طَمَعَ العَدُوِّ في هَذا العاصِي إنَّما كانَ لِضَعْفِ عِلْمِهِ وضَعْفِ عَزِيمَتِهِ، ولِذَلِكَ يُسَمّى جاهِلًا.
قالَ قَتادَةُ: أجْمَعَ أصْحابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلى أنَّ كُلَّ ما عُصِيَ اللَّهُ بِهِ فَهو جَهالَةٌ، وكَذَلِكَ قالَ اللَّهُ تَعالى في حَقِّ آدَمَ ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ [طه: ١١٥] وقالَ في حَقِّ غَيْرِهِ ﴿فاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُو العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: ٣٥]
وَأمّا مَن قَوِيَتْ عَزِيمَتُهُ، وكَمَلَ عِلْمُهُ، وقَوِيَ إيمانُهُ لَمْ يَطْمَعْ فِيهِ عَدُوُّهُ، وكانَ أفْضَلَ.
التّاسِعُ: أنَّ المَعْصِيَةَ لا بُدَّ أنْ تُؤَثِّرَ أثَرًا سَيِّئًا ولا بُدَّ إمّا هَلاكًا كُلِّيًا، وإمّا خُسْرانًا وعِقابًا يَعْقُبُهُ إمّا عَفْوٌ ودُخُولُ الجَنَّةِ، وإمّا نَقْصُ دَرَجَةٍ، وإمّا خُمُودُ مِصْباحِ الإيمانِ، وعَمَلُ التّائِبِ في رَفْعِ هَذِهِ الآثارِ والتَّكْفِيرِ، وعَمَلُ المُطِيعِ في الزِّيادَةِ، ورَفْعِ الدَّرَجاتِ.
وَلِهَذا كانَ قِيامُ اللَّيْلِ نافِلَةً لِلنَّبِيِّ ﷺ خاصَّةً، فَإنَّهُ يَعْمَلُ في زِيادَةِ الدَّرَجاتِ، وغَيْرُهُ يَعْمَلُ في تَكْفِيرِ السَّيِّئاتِ، وأيْنَ هَذا مِن هَذا؟
العاشِرُ: أنَّ المُقْبِلَ عَلى اللَّهِ المُطِيعَ لَهُ يَسِيرُ بِجُمْلَةِ أعْمالِهِ، وكُلَّما زادَتْ طاعاتُهُ وأعْمالُهُ ازْدادَ كَسْبُهُ بِها وعَظُمَ، وهو بِمَنزِلَةِ مَن سافَرَ فَكَسَبَ عَشْرَةَ أضْعافِ رَأْسِ مالِهِ، فَسافَرَ ثانِيًا بِرَأْسِ مالِهِ الأوَّلِ وكَسْبِهِ، فَكَسَبَ عَشْرَةَ أضْعافِهِ أيْضًا، فَسافَرَ ثالِثًا أيْضًا بِهَذا المالِ كُلِّهِ، وكانَ رِبْحُهُ كَذَلِكَ، وهَلُمَّ جَرّا، فَإذا فَتَرَ عَنِ السَّفَرِ في آخِرِ أمْرِهِ، مَرَّةً واحِدَةً، فاتَهُ مِنَ الرِّبْحِ بِقَدْرِ جَمِيعِ ما رَبِحَ أوْ أكْثَرَ مِنهُ، وهَذا مَعْنى قَوْلِ الجُنَيْدِ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَوْ أقْبَلَ صادِقٌ عَلى اللَّهِ ألْفَ عامٍ ثُمَّ أعْرَضَ عَنْهُ لَحْظَةً واحِدَةً كانَ ما فاتَهُ أكْثَرَ مِمّا نالَهُ، وهو صَحِيحٌ بِهَذا المَعْنى، فَإنَّهُ قَدْ فاتَهُ في مُدَّةِ الإعْراضِ رِبْحُ تِلْكَ الأعْمالِ كُلِّها، وهو أزْيَدُ مِنَ الرِّبْحِ المُتَقَدِّمِ، فَإذا كانَ هَذا حالَ مَن أعْرَضَ، فَكَيْفَ مَن عَصى وأذْنَبَ؟ وفي هَذا الوَجْهِ كِفايَةٌ.
* (فَصْلٌ)
وَطائِفَةٌ رَجَّحَتِ التّائِبَ، وإنْ لَمْ تُنْكِرْ كَوْنَ الأوَّلِ أكْثَرَ حَسَناتٍ مِنهُ، واحْتَجَّتْ بِوُجُوهٍ:
أحَدُها: أنَّ عُبُودِيَّةَ التَّوْبَةِ مِن أحَبِّ العُبُودِيّاتِ إلى اللَّهِ، وأكْرَمِها عَلَيْهِ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ يُحِبُّ التَّوّابِينَ، ولَوْ لَمْ تَكُنِ التَّوْبَةُ أحَبَّ الأشْياءِ إلَيْهِ لَما ابْتُلِيَ بِالذَّنْبِ أكْرَمُ الخَلْقِ عَلَيْهِ، فَلِمَحَبَّتِهِ لِتَوْبَةِ عَبْدِهِ ابْتَلاهُ بِالذَّنْبِ الَّذِي يُوجِبُ وُقُوعَ مَحْبُوبِهِ مِنَ التَّوْبَةِ، وزِيادَةَ مَحَبَّتِهِ لِعَبْدِهِ، فَإنَّ لِلتّائِبِينَ عِنْدَهُ مَحَبَّةً خاصَّةً، يُوَضِّحُ ذَلِكَ:
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ لِلتَّوْبَةِ عِنْدَهُ سُبْحانَهُ مَنزِلَةً لَيْسَتْ لِغَيْرِها مِنَ الطّاعاتِ، ولِهَذا يَفْرَحُ سُبْحانَهُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إلَيْهِ أعْظَمَ فَرَحٍ يُقَدَّرُ، كَما مَثَّلَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِفَرَحِ الواجِدِ لِراحِلَتِهِ الَّتِي عَلَيْها طَعامُهُ وشَرابُهُ في الأرْضِ الدَّوِيَّةِ المُهْلِكَةِ، بَعْدَ ما فَقَدَها، وأيِسَ مِن أسْبابِ الحَياةِ، ولَمْ يَجِئْ هَذا الفَرَحُ في شَيْءٍ مِنَ الطّاعاتِ سِوى التَّوْبَةِ، ومَعْلُومٌ أنَّ لِهَذا الفَرَحِ تَأْثِيرًا عَظِيمًا في حالِ التّائِبِ وقَلْبِهِ، ومَزِيدُهُ لا يُعَبَّرُ عَنْهُ، وهو مِن أسْرارِ تَقْدِيرِ الذُّنُوبِ عَلى العِبادِ، فَإنَّ العَبْدَ يَنالُ بِالتَّوْبَةِ دَرَجَةَ المَحْبُوبِيَّةِ، فَيَصِيرُ حَبِيبًا لِلَّهِ، فَإنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ ويُحِبُّ العَبْدَ المُفَتَّنَ التَّوّابَ، ويُوَضِّحُهُ:
الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ عُبُودِيَّةَ التَّوْبَةِ فِيها مِنَ الذُّلِّ والِانْكِسارِ، والخُضُوعِ، والتَّمَلُّقِ لِلَّهِ، والتَّذَلُّلِ لَهُ، ما هو أحَبُّ إلَيْهِ مِن كَثِيرٍ مِنَ الأعْمالِ الظّاهِرَةِ، وإنْ زادَتْ في القَدْرِ والكَمِّيَّةِ عَلى عُبُودِيَّةِ التَّوْبَةِ، فَإنَّ الذُّلَّ والِانْكِسارَ رُوحُ العُبُودِيَّةِ، ومُخُّها ولُبُّها، يُوَضِّحُهُ:
الوَجْهُ الرّابِعُ: أنَّ حُصُولَ مَراتِبِ الذُّلِّ والِانْكِسارِ لِلتّائِبِ أكْمَلُ مِنها لِغَيْرِهِ، فَإنَّهُ قَدْ شارَكَ مَن لَمْ يُذْنِبْ في ذُلِّ الفَقْرِ، والعُبُودِيَّةِ، والمَحَبَّةِ، وامْتازَ عَنْهُ بِانْكِسارِ قَلْبِهِ كَما في الأثَرِ الإسْرائِيلِيِّ: يا رَبِّ أيْنَ أجِدُكَ؟ قالَ: عِنْدَ المُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهم مِن أجْلِي، ولِأجْلِ هَذا كانَ أقْرَبَ ما يَكُونُ العَبْدُ مِن رَبِّهِ وهو ساجِدٌ لِأنَّهُ مَقامُ ذُلٍّ وانْكِسارٍ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ.
وَتَأمَّلْ قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ فِيما يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وجَلَّ «أنَّهُ يَقُولُ يَوْمَ القِيامَةِ: يا ابْنَ آدَمَ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قالَ: يا رَبِّ، كَيْفَ أُطْعِمُكَ وأنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟ قالَ: اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أما لَوْ أطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي، ابْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، قالَ: يا رَبِّ، كَيْفَ أسْقِيكَ، وأنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟ قالَ: اسْتَسْقاكَ عَبْدِي فُلانٌ فَلَمْ تَسْقِهِ، أما لَوْ سَقَيْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي، ابْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قالَ: يا رَبِّ، كَيْفَ أعُودُكَ، وأنْتَ رَبُّ العالَمِينَ؟ قالَ: أما إنَّ عَبْدِي فُلانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أما لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ»
فَقالَ في عِيادَةِ المَرِيضِ " لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ "
وَقالَ في الإطْعامِ، والإسْقاءِ " لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي " فَفَرَّقَ بَيْنَهُما، فَإنَّ المَرِيضَ مَكْسُورُ القَلْبِ ولَوْ كانَ مَن كانَ، فَلا بُدَّ أنْ يَكْسِرَهُ المَرَضُ فَإذا كانَ مُؤْمِنًا قَدِ انْكَسَرَ قَلْبُهُ بِالمَرَضِ كانَ اللَّهُ عِنْدَهُ.
وَهَذا - واللَّهُ أعْلَمُ - هو السِّرُّ في اسْتِجابَةِ دَعْوَةِ الثَّلاثَةِ: المَظْلُومِ، والمُسافِرِ، والصّائِمِ، لِلْكَسْرَةِ الَّتِي في قَلْبِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُمْ، فَإنَّ غُرْبَةَ المُسافِرِ وكَسْرَتَهُ مِمّا يَجِدُهُ العَبْدُ في نَفْسِهِ، وكَذَلِكَ الصَّوْمُ، فَإنَّهُ يَكْسِرُ سُورَةَ النَّفْسِ السَّبْعِيَّةِ الحَيَوانِيَّةِ، ويُذِلُّها.
والقَصْدُ: أنَّ شَمْعَةَ الجَبْرِ والفَضْلِ والعَطايا، إنَّما تَنْزِلُ في شَمْعِدانِ الِانْكِسارِ، ولِلْعاصِي التّائِبِ مِن ذَلِكَ أوْفَرُ نَصِيبٍ، يُوَضِّحُهُ:
الوَجْهُ الخامِسُ: أنَّ الذَّنْبَ قَدْ يَكُونُ أنْفَعَ لِلْعَبْدِ إذا اقْتَرَنَتْ بِهِ التَّوْبَةُ مِن كَثِيرٍ مِنَ الطّاعاتِ، وهَذا مَعْنى قَوْلِ بَعْضِ السَّلَفِ: قَدْ يَعْمَلُ العَبْدُ الذَّنْبَ فَيَدْخُلُ بِهِ الجَنَّةَ، ويَعْمَلُ الطّاعَةَ فَيَدْخُلُ بِها النّارَ، قالُوا: وكَيْفَ ذَلِكَ؟ قالَ: يَعْمَلُ الذَّنْبَ فَلا يَزالُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، إنْ قامَ وإنْ قَعَدَ وإنْ مَشى ذَكَرَ ذَنْبَهُ، فَيُحْدِثُ لَهُ انْكِسارًا، وتَوْبَةً، واسْتِغْفارًا، ونَدَمًا، فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبَ نَجاتِهِ، ويَعْمَلُ الحَسَنَةَ، فَلا تَزالُ نُصْبَ عَيْنَيْهِ، إنْ قامَ وإنْ قَعَدَ وإنْ مَشى، كُلَّما ذَكَرَها أوْرَثَتْهُ عُجْبًا وكِبْرًا ومِنَّةً، فَتَكُونُ سَبَبَ هَلاكِهِ، فَيَكُونُ الذَّنْبُ مُوجِبًا لِتَرَتُّبِ طاعاتٍ وحَسَناتٍ، ومُعامَلاتٍ قَلْبِيَّةٍ، مِن خَوْفِ اللَّهِ والحَياءِ مِنهُ، والإطْراقِ بَيْنَ يَدَيْهِ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ خَجَلًا، باكِيًا نادِمًا، مُسْتَقِيلًا رَبَّهُ، وكُلُّ واحِدٍ مِن هَذِهِ الآثارِ أنْفَعُ لِلْعَبْدِ مِن طاعَةٍ تُوجِبُ لَهُ صَوْلَةً، وكِبْرًا، وازْدِراءً بِالنّاسِ، ورُؤْيَتَهم بِعَيْنِ الِاحْتِقارِ، ولا رَيْبَ أنَّ هَذا الذَّنْبَ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ، وأقْرَبُ إلى النَّجاةِ والفَوْزِ مِن هَذا المُعْجَبِ بِطاعَتِهِ، الصّائِلِ بِها، المانِّ بِها، وبِحالِهِ عَلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وعِبادِهِ، وإنْ قالَ بِلِسانِهِ خِلافَ ذَلِكَ، فاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما في قَلْبِهِ، ويَكادُ يُعادِي الخَلْقَ إذا لَمْ يُعَظِّمُوهُ ويَرْفَعُوهُ، ويَخْضَعُوا لَهُ، ويَجِدُ في قَلْبِهِ بَغْضَةً لِمَن لَمْ يَفْعَلْ بِهِ ذَلِكَ، ولَوْ فَتَّشَ نَفْسَهُ حَقَّ التَّفْتِيشِ لَرَأى فِيها ذَلِكَ كامِنًا، ولِهَذا تَراهُ عاتِبًا عَلى مَن لَمْ يُعَظِّمْهُ ويَعْرِفْ لَهُ حَقَّهُ، مُتَطَلِّبًا لِعَيْبِهِ في قالَبِ حَمِيَّةٍ لِلَّهِ، وغَضَبٍ لَهُ، وإذا قامَ بِمَن يُعَظِّمُهُ ويَحْتَرِمُهُ، ويَخْضَعُ لَهُ مِنَ الذُّنُوبِ أضْعافَ ما قامَ بِهَذا فَتَحَ لَهُ بابَ المَعاذِيرِ والرَّجاءِ، وأغْمَضَ عَنْهُ عَيْنَهُ وسَمْعَهُ، وكَفَّ لِسانَهُ وقَلْبَهُ، وقالَ: بابُ العِصْمَةِ عَنْ غَيْرِ الأنْبِياءِ مَسْدُودٌ، ورُبَّما ظَنَّ أنَّ ذُنُوبَ مَن يُعَظِّمُهُ تُكَفَّرُ بِإجْلالِهِ وتَعْظِيمِهِ وإكْرامِهِ إيّاهُ.
فَإذا أرادَ اللَّهُ بِهَذا العَبْدِ خَيْرًا ألْقاهُ في ذَنْبٍ يَكْسِرُهُ بِهِ، ويُعَرِّفُهُ قَدْرَهُ، ويَكْفِي بِهِ عِبادَهُ شَرَّهُ، ويُنَكِّسُ بِهِ رَأْسَهُ، ويَسْتَخْرِجُ بِهِ مِنهُ داءَ العُجْبِ والكِبْرِ والمِنَّةِ عَلَيْهِ وعَلى عِبادِهِ، فَيَكُونُ هَذا الذَّنْبُ أنْفَعَ لِهَذا مِن طاعاتٍ كَثِيرَةٍ، ويَكُونُ بِمَنزِلَةِ شُرْبِ الدَّواءِ لِيَسْتَخْرِجَ بِهِ الدّاءَ العُضالَ، كَما قِيلَ بِلِسانِ الحالِ في قِصَّةِ آدَمَ وخُرُوجِهِ مِنَ الجَنَّةِ بِذَنْبِهِ:
يا آدَمُ، لا تَجْزَعْ مِن كَأْسِ زَلَلٍ كانَتْ سَبَبَ كَيْسِكَ، فَقَدِ اسْتُخْرِجَ بِها مِنكَ داءٌ لا يَصْلُحُ أنْ تَجاوِرَنا بِهِ، وأُلْبِسْتَ بِها حُلَّةَ العُبُودِيَّةِ.
؎لَعَلَّ عَتْبَكَ مَحْمُودٌ عَواقِبُهُ ∗∗∗ ورُبَّما صَحَّتِ الأجْسامُ بِالعِلَلِ
يا آدَمُ، إنَّما ابْتَلَيْتُكَ بِالذَّنْبِ لِأنِّي أُحِبُّ أنْ أُظْهِرَ فَضْلِي، وجُودِي وكَرَمِي، عَلى مَن عَصانِي «لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، ولَجاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ».
يا آدَمُ، كُنْتَ تَدْخُلُ عَلَيَّ دُخُولَ المُلُوكِ عَلى المُلُوكِ، واليَوْمَ تَدْخُلُ عَلَيَّ دُخُولَ العَبِيدِ عَلى المُلُوكِ.
يا آدَمُ، إذا عَصَمْتُكَ وعَصَمْتُ بَنِيكَ مِنَ الذُّنُوبِ، فَعَلى مَن أجُودُ بِحِلْمِي؟ وعَلى مَن أجُودُ بِعَفْوِي ومَغْفِرَتِي، وتَوْبَتِي، وأنا التَّوّابُ الرَّحِيمُ؟
يا آدَمُ، لا تَجْزَعْ مِن قَوْلِي لَكَ ﴿اخْرُجْ مِنها﴾ [الأعراف: ١٨] فَلَكَ خَلَقْتُها، ولَكِنِ اهْبِطْ إلى دارِ المُجاهَدَةِ، وابْذُرْ بِذْرَ التَّقْوى، وأمْطِرْ عَلَيْكَ سَحائِبَ الجُفُونِ، فَإذا اشْتَدَّ الحُبُّ واسْتَغْلَظَ، واسْتَوى عَلى سُوقِهِ، فَتَعالَ فاحْصُدْهُ.
يا آدَمُ، ما أهْبَطْتُكَ مِنَ الجَنَّةِ إلّا لِتَتَوَسَّلَ إلَيَّ في الصُّعُودِ، وما أخْرَجْتُكَ مِنها نَفْيًا لَكَ عَنْها، ما أخْرَجْتُكَ مِنها إلّا لِتَعُودَ.
؎إنْ جَرى بَيْنَنا وبَيْنَكَ عَتْبٌ ∗∗∗ وتَناءَتْ مِنّا ومِنكَ الدِّيارُ
؎فالوِدادُ الَّذِي عَهِدْتَ مُقِيمٌ ∗∗∗ والعَثارُ الَّذِي أصَبْتَ جُبارُ
يا آدَمُ، ذَنْبٌ تَذِلُّ بِهِ لَدَيْنا، أحَبُّ إلَيْنا مِن طاعَةٍ تُدِلُّ بِها عَلَيْنا.
يا آدَمُ، أنِينُ المُذْنِبِينَ، أحَبُّ إلَيْنا مِن تَسْبِيحِ المُدِلِّينَ.
" يا ابْنَ آدَمَ، إنَّكَ ما دَعَوْتَنِي ورَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلى ما كانَ مِنكَ ولا أُبالِي، يا ابْنَ آدَمَ، لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنانَ السَّماءِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، يا ابْنَ آدَمَ، لَوْ لَقِيتَنِي بِقُرابِ الأرْضِ خَطايا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا أتَيْتُكَ بِقُرابِها مَغْفِرَةً ".
يُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ العِبادِ أنَّهُ كانَ يَسْألُ رَبَّهُ في طَوافِهِ بِالبَيْتِ أنْ يَعْصِمَهُ ثُمَّ غَلَبَتْهُ عَيْناهُ فَنامَ، فَسَمِعَ قائِلًا يَقُولُ: أنْتَ تَسْألُنِي العِصْمَةَ، وكُلُّ عِبادِي يَسْألُونَنِي العِصْمَةَ، فَإذا عَصَمْتُهم فَعَلى مَن أتَفَضَّلُ وأجُودُ بِمَغْفِرَتِي وعَفْوِي؟ وعَلى مَن أتُوبُ؟ وأيْنَ كَرَمِي وعَفْوِي ومَغْفِرَتِي وفَضْلِي؟ ونَحْوُ هَذا مِنَ الكَلامِ.
يا ابْنَ آدَمَ، إذا آمَنتَ بِي ولَمْ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا، أقَمْتُ حَمَلَةَ عَرْشِي ومَن حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِي ويَسْتَغْفِرُونَ لَكَ وأنْتَ عَلى فِراشِكَ، وفي الحَدِيثِ العَظِيمِ الإلَهِيِّ حَدِيثِ أبِي ذَرٍّ «يا عِبادِي، إنَّكم تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ والنَّهارِ، وأنا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَمَن عَلِمَ أنِّي ذُو قُدْرَةٍ عَلى المَغْفِرَةِ غَفَرْتُ لَهُ ولا أُبالِي»
﴿قُلْ ياعِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إنَّهُ هو الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: ٥٣].
يا عَبْدِي! لا تَعْجِزْ، فَمِنكَ الدُّعاءُ وعَلَيَّ الإجابَةُ، ومِنكَ الِاسْتِغْفارُ وعَلَيَّ المَغْفِرَةُ، ومِنكَ التَّوْبَةُ وعَلَيَّ تَبْدِيلُ سَيِّئاتِكَ حَسَناتٍ " يُوَضِّحُهُ:
الوَجْهُ السّادِسُ: وهو قَوْلُهُ تَعالى ﴿إلّا مَن تابَ وآمَنَ وعَمِلَ عَمَلًا صالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: ٧٠] وهَذا مِن أعْظَمِ البِشارَةِ لِلتّائِبِينَ إذا اقْتَرَنَ بِتَوْبَتِهِمْ إيمانٌ وعَمَلٌ صالِحٌ، وهو حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: ما رَأيْتُ النَّبِيَّ ﷺ فَرِحَ بِشَيْءٍ قَطُّ فَرَحَهُ بِهَذِهِ الآيَةِ لَمّا أُنْزِلَتْ، وفَرَحُهُ بِنُزُولِ ﴿إنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا - لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ﴾ [الفتح: ١-٢].
واخْتَلَفُوا في صِفَةِ هَذا التَّبْدِيلِ، وهَلْ هو في الدُّنْيا، أوْ في الآخِرَةِ؟ عَلى قَوْلَيْنِ:
فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وأصْحابُهُ: هو تَبْدِيلُهم بِقَبائِحِ أعْمالِهِمْ مَحاسِنَها، فَبَدَّلَهم بِالشِّرْكِ إيمانًا، وبِالزِّنا عِفَّةً وإحْصانًا، وبِالكَذِبِ صِدْقًا، وبِالخِيانَةِ أمانَةً.
فَعَلى هَذا مَعْنى الآيَةِ أنَّ صِفاتِهِمُ القَبِيحَةَ، وأعْمالَهُمُ السَّيِّئَةَ، بُدِّلُوا عِوَضَها صِفاتٍ جَمِيلَةً، وأعْمالًا صالِحَةً، كَما يُبَدَّلُ المَرِيضُ بِالمَرَضِ صِحَّةً، والمُبْتَلى بِبَلائِهِ عافِيَةً.
وَقالَ سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، وغَيْرُهُ مِنَ التّابِعِينَ: هو تَبْدِيلُ اللَّهِ سَيِّئاتِهِمُ الَّتِي عَمِلُوها بِحَسَناتٍ يَوْمَ القِيامَةِ، فَيُعْطِيهِمْ مَكانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً.
واحْتَجَّ أصْحابُ هَذا القَوْلِ بِما رَوى التِّرْمِذِيُّ في جامِعِهِ: حَدَّثَنا الحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ قالَ: حَدَّثَنا وكِيعٌ قالَ: حَدَّثَنا الأعْمَشُ عَنِ المَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أبِي ذَرٍّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «إنِّي لَأعْلَمُ آخِرَ رَجُلٍ يَخْرُجُ مِنَ النّارِ، يُؤْتى بِالرَّجُلِ يَوْمَ القِيامَةِ، فَيُقالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغارَ ذُنُوبِهِ، ويُخَبَّأُ عَنْهُ كِبارُها، فَيُقالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذا كَذا وكَذا، وهو مُقِرٌّ لا يُنْكِرُ، وهو مُشْفِقٌ مِن كِبارِها، فَيُقالُ: أعْطُوهُ مَكانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ عَمِلَها حَسَنَةً، فَيَقُولُ: إنَّ لِي ذُنُوبًا ما أراها هاهُنا، قالَ أبُو ذَرٍّ: فَلَقَدْ رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ضَحِكَ حَتّى بَدَتْ نَواجِذُهُ».
فَهَذا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، ولَكِنْ في الِاسْتِدْلالِ بِهِ عَلى صِحَّةِ هَذا القَوْلِ نَظَرٌ، فَإنَّ هَذا قَدْ عُذِّبَ بِسَيِّئاتِهِ ودَخَلَ بِها النّارَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أُخْرِجَ مِنها، وأُعْطِيَ مَكانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، صَدَقَةً تَصَدَّقَ اللَّهُ بِها عَلَيْهِ ابْتِداءً بِعَدَدِ ذُنُوبِهِ، ولَيْسَ في هَذا تَبْدِيلُ تِلْكَ الذُّنُوبِ بِحَسَناتٍ، إذْ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَما عُوقِبَ عَلَيْها كَما لَمْ يُعاقَبِ التّائِبُ، والكَلامُ إنَّما هو في تائِبٍ أُثْبِتَ لَهُ مَكانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةٌ، فَزادَتْ حَسَناتُهُ، فَأيْنَ في هَذا الحَدِيثِ ما يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ؟
والنّاسُ اسْتَقْبَلُوا هَذا الحَدِيثَ مُسْتَدِلِّينَ بِهِ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ عَلى هَذا القَوْلِ، وقَدْ عَلِمْتَ ما فِيهِ، لَكِنْ لِلسَّلَفِ غَوْرٌ ودِقَّةُ فَهْمٍ لا يُدْرِكُها كَثِيرٌ مِنَ المُتَأخِّرِينَ.
فالِاسْتِدْلالُ بِهِ صَحِيحٌ، بَعْدَ تَمْهِيدِ قاعِدَةٍ، إذا عَرَفْتَ عُرْفَ لُطْفِ الِاسْتِدْلالِ بِهِ ودِقَّتِهِ، وهي أنَّ الذَّنْبَ لا بُدَّ لَهُ مِن أثَرٍ، وأثَرُهُ يَرْتَفِعُ بِالتَّوْبَةِ تارَةً، وبِالحَسَناتِ الماحِيَةِ تارَةً، وبِالمَصائِبِ المُكَفِّرَةِ تارَةً، وبِدُخُولِ النّارِ لِيَتَخَلَّصَ مِن أثَرِهِ تارَةً، وكَذَلِكَ إذا اشْتَدَّ أثَرُهُ، ولَمْ تَقْوَ تِلْكَ الأُمُورُ عَلى مَحْوِهِ، فَلا بُدَّ إذًا مِن دُخُولِ النّارِ لِأنَّ الجَنَّةَ لا يَكُونُ فِيها ذَرَّةٌ مِنَ الخَبِيثِ، ولا يَدْخُلُها إلّا مَن طابَ مِن كُلِّ وجْهٍ، فَإذا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِن خُبْثِ الذُّنُوبِ أُدْخِلَ كِيرَ الِامْتِحانِ، لِيُخَلِّصَ ذَهَبَ إيمانِهِ مِن خُبْثِهِ، فَيَصْلُحُ حِينَئِذٍ لِدارِ المُلْكِ.
إذا عُلِمَ هَذا فَزَوالُ مُوجَبِ الذَّنْبِ وأثَرُهُ تارَةً يَكُونُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وهي أقْوى الأسْبابِ، وتارَةً يَكُونُ بِاسْتِيفاءِ الحَقِّ مِنهُ وتَطْهِيرِهِ في النّارِ، فَإذا تَطَهَّرَ بِالنّارِ، وزالَ أثَرُ الوَسَخِ والخَبَثِ عَنْهُ، أُعْطِيَ مَكانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، فَإذا تَطَهَّرَ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وزالَ عَنْها بِها أثَرُ وسَخِ الذُّنُوبِ وخُبْثِها، كانَ أوْلى بِأنْ يُعْطى مَكانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً، لِأنَّ إزالَةَ التَّوْبَةِ لِهَذا الوَسَخِ والخَبَثِ أعْظَمُ مِن إزالَةِ النّارِ، وأحَبُّ إلى اللَّهِ، وإزالَةُ النّارِ بَدَلٌ مِنها، وهي الأصْلُ، فَهي أوْلى بِالتَّبْدِيلِ مِمّا بَعْدَ الدُّخُولِ، يُوَضِّحُهُ:
الوَجْهُ التّاسِعُ: وهو أنَّ التّائِبَ قَدْ بُدِّلَ كُلَّ سَيِّئَةٍ بِنَدَمِهِ عَلَيْها حَسَنَةً، إذْ هو تَوْبَةُ تِلْكَ السَّيِّئَةِ، والنَّدَمُ تَوْبَةٌ، والتَّوْبَةُ مِن كُلِّ ذَنْبٍ حَسَنَةٌ، فَصارَ كُلُّ ذَنْبٍ عَمِلَهُ زائِلًا بِالتَّوْبَةِ الَّتِي حَلَّتْ مَحَلَّهُ وهي حَسَنَةٌ، فَصارَ لَهُ مَكانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةٌ بِهَذا الِاعْتِبارِ، فَتَأمَّلْهُ فَإنَّهُ مِن ألْطَفِ الوُجُوهِ.
وَعَلى هَذا فَقَدْ تَكُونُ هَذِهِ الحَسَنَةُ مُساوِيَةً في القَدْرِ لِتِلْكَ السَّيِّئَةِ، وقَدْ تَكُونُ دُونَها، وقَدْ تَكُونُ فَوْقَها، وهَذا بِحَسَبِ نُصْحِ هَذِهِ التَّوْبَةِ، وصِدْقِ التّائِبِ فِيها، وما يَقْتَرِنُ بِها مِن عَمَلِ القَلْبِ الَّذِي تَزِيدُ مَصْلَحَتُهُ ونَفْعُهُ عَلى مَفْسَدَةِ تِلْكَ السَّيِّئَةِ، وهَذا مِن أسْرارِ مَسائِلِ التَّوْبَةِ ولَطائِفِها، يُوَضِّحُهُ:
الوَجْهُ العاشِرُ: أنَّ ذَنْبَ العارِفِ بِاللَّهِ وبِأمْرِهِ قَدْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حَسَناتٌ أكْبَرُ مِنهُ وأكْثَرُ، وأعْظَمُ نَفْعًا، وأحَبُّ إلى اللَّهِ مِن عِصْمَتِهِ مِن ذَلِكَ الذَّنْبِ مَن ذُلٍّ وانْكِسارٍ وخَشْيَةٍ، وإنابَةٍ ونَدَمٍ، وتَدارُكٍ بِمُراغَمَةِ العَدُوِّ بِحَسَنَةٍ أوْ حَسَناتٍ أعْظَمَ مِنهُ، حَتّى يَقُولَ الشَّيْطانُ: يا لَيْتَنِي لَمْ أُوقِعْهُ فِيما أوْقَعْتُهُ فِيهِ، ويَنْدَمُ الشَّيْطانُ عَلى إيقاعِهِ في الذَّنْبِ، كَنَدامَةِ فاعِلِهِ عَلى ارْتِكابِهِ، لَكِنْ شَتّانَ ما بَيْنَ النَّدَمَيْنِ، واللَّهُ تَعالى يُحِبُّ مِن عَبْدِهِ مُراغَمَةَ عَدُوِّهِ وغَيْظَهُ، كَما تَقَدَّمَ أنَّ هَذا مِنَ العُبُودِيَّةِ مِن أسْرارِ التَّوْبَةِ، فَيَحْصُلُ مِنَ العَبْدِ مُراغَمَةُ العَدُوِّ بِالتَّوْبَةِ والتَّدارُكِ، وحُصُولُ مَحْبُوبِ اللَّهِ مِنَ التَّوْبَةِ، وما يَتْبَعُها مِن زِيادَةِ الأعْمالِ هُنا، ما يُوجِبُ جَعْلَ مَكانِ السَّيِّئَةِ حَسَنَةً بَلْ حَسَناتٍ.
وَتَأمَّلْ قَوْلَهُ: ﴿يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ﴾ ولَمْ يَقُلْ مَكانَ كُلِّ واحِدَةٍ واحِدَةً فَهَذا يَجُوزُ أنْ يُبَدِّلَ السَّيِّئَةَ الواحِدَةَ بِعِدَّةِ حَسَناتٍ بِحَسَبِ حالِ المُبَدِّلِ.
وَأمّا في الحَدِيثِ فَإنَّ الَّذِي عُذِّبَ عَلى ذُنُوبِهِ لَمْ يُبَدَّلْها في الدُّنْيا بِحَسَناتٍ مِنَ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ وتَوابِعِها، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ ما يَجْعَلُ مَكانَ السَّيِّئَةِ حَسَناتٍ، فَأُعْطَيَ مَكانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً واحِدَةً، وسَكَتَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ كِبارِ ذُنُوبِهِ، ولَمّا انْتَهى إلَيْها ضَحِكَ، ولَمْ يُبَيِّنْ ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِها، وأخْبَرَ أنَّ اللَّهَ يُبَدِّلُ مَكانَ كُلِّ صَغِيرَةٍ حَسَنَةً، ولَكِنْ في الحَدِيثِ إشارَةٌ لَطِيفَةٌ إلى أنَّ هَذا التَّبْدِيلَ يَعُمُّ كِبارَها وصِغارَها مِن وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: قَوْلُهُ: أخْبِئُوا عَنْهُ كِبارَها، فَهَذا إشْعارٌ بِأنَّهُ إذا رَأى تَبْدِيلَ الصَّغائِرِ ذَكَرَها وطَمِعَ في تَبْدِيلِها، فَيَكُونُ تَبْدِيلُها أعْظَمَ مَوْقِعًا عِنْدَهُ مِن تَبْدِيلِ الصَّغائِرِ، وهو بِهِ أشَدُّ فَرَحًا واغْتِباطًا.
والثّانِي: ضَحِكُ النَّبِيِّ ﷺ عِنْدَ ذِكْرِ ذَلِكَ، وهَذا الضَّحِكُ مُشْعِرٌ بِالتَّعَجُّبِ مِمّا يُفْعَلُ بِهِ مِنَ الإحْسانِ، وما يُقِرُّ بِهِ عَلى نَفْسِهِ مِنَ الذُّنُوبِ، مِن غَيْرِ أنْ يُقَرَّرَ عَلَيْها ولا يُسْألَ عَنْها، وإنَّما عُرِضَتْ عَلَيْهِ الصَّغائِرُ.
فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ العالَمِينَ، وأجْوَدُ الأجْوَدِينَ، وأكْرَمُ الأكْرَمِينَ، البَرُّ اللَّطِيفُ، المُتَوَدِّدُ إلى عِبادِهِ بِأنْواعِ الإحْسانِ، وإيصالِهِ إلَيْهِمْ مِن كُلِّ طَرِيقٍ بِكُلِّ نَوْعٍ، لا إلَهَ إلّا هو الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ.
* (فَصْلٌ)
وَكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ إنَّما يُفَسِّرُ التَّوْبَةَ بِالعَزْمِ عَلى أنْ لا يُعاوِدَ الذَّنْبَ، وبِالإقْلاعِ عَنْهُ في الحالِ، وبِالنَّدَمِ عَلَيْهِ في الماضِي، وإنْ كانَ في حَقِّ آدَمِيٍّ فَلا بُدَّ مِن أمْرٍ رابِعٍ، وهو التَّحَلُّلُ مِنهُ.
وَهَذا الَّذِي ذَكَرُوهُ بَعْضُ مُسَمّى التَّوْبَةِ بَلْ شَرْطُها، وإلّا فالتَّوْبَةُ في كَلامِ اللَّهِ ورَسُولِهِ - كَما تَتَضَمَّنُ ذَلِكَ - تَتَضَمَّنُ العَزْمَ عَلى فِعْلِ المَأْمُورِ والتِزامِهِ فَلا يَكُونُ بِمُجَرَّدِ الإقْلاعِ والعَزْمِ والنَّدَمِ تائِبًا، حَتّى يُوجَدَ مِنهُ العَزْمُ الجازِمُ عَلى فِعْلِ المَأْمُورِ، والإتْيانِ بِهِ، هَذا حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ، وهي اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الأمْرَيْنِ، لَكِنَّها إذا قُرِنَتْ بِفِعْلِ المَأْمُورِ كانَتْ عِبارَةً عَمّا ذَكَرُوهُ، فَإذا أُفْرِدَتْ تَضَمَّنَتِ الأمْرَيْنِ، وهي كَلَفْظَةِ التَّقْوى الَّتِي تَقْتَضِي عِنْدَ إفْرادِها فِعْلَ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ، وتَرْكَ ما نَهى اللَّهُ عَنْهُ، وتَقْتَضِي عِنْدَ اقْتِرانِها بِفِعْلِ المَأْمُورِ الِانْتِهاءَ عَنِ المَحْظُورِ.
فَإنَّ حَقِيقَةَ التَّوْبَةِ الرُّجُوعُ إلى اللَّهِ بِالتِزامِ فَعْلِ ما يُحِبُّ، وتَرْكِ ما يَكْرَهُ، فَهي رُجُوعٌ مِن مَكْرُوهٍ إلى مَحْبُوبٍ، فالرُّجُوعُ إلى المَحْبُوبِ جُزْءُ مُسَمّاها، والرُّجُوعُ عَنِ المَكْرُوهِ الجُزْءُ الآخَرُ، ولِهَذا عَلَّقَ سُبْحانَهُ الفَلاحَ المُطْلَقَ عَلى فِعْلِ المَأْمُورِ وتَرْكِ المَحْظُورِ بِها، فَقالَ ﴿وَتُوبُوا إلى اللَّهِ جَمِيعًا أيُّها المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ [النور: ٣١]
فَكُلُّ تائِبٍ مُفْلِحٌ، ولا يَكُونُ مُفْلِحًا إلّا مَن فَعَلَ ما أُمِرَ بِهِ وتَرَكَ ما نُهِيَ عَنْهُ، وقالَ تَعالى ﴿وَمَن لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ [الحجرات: ١١]
وَتارِكُ المَأْمُورِ ظالِمٌ، كَما أنَّ فاعِلَ المَحْظُورِ ظالِمٌ، وزَوالُ اسْمِ الظُّلْمِ عَنْهُ إنَّما يَكُونُ بِالتَّوْبَةِ الجامِعَةِ لِلْأمْرَيْنِ، فالنّاسُ قِسْمانِ: تائِبٌ وظالِمٌ لَيْسَ إلّا، فالتّائِبُونَ هُمُ ﴿العابِدُونَ الحامِدُونَ السّائِحُونَ الرّاكِعُونَ السّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ والنّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ والحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ١١٢]
فَحِفْظُ حُدُودِ اللَّهِ جُزْءُ التَّوْبَةِ، والتَّوْبَةُ هي مَجْمُوعُ هَذِهِ الأُمُورِ، وإنَّما سُمِّيَ تائِبًا لِرُجُوعِهِ إلى أمْرِ اللَّهِ مِن نَهْيِهِ، وإلى طاعَتِهِ مِن مَعْصِيَتِهِ، كَما تَقَدَّمَ.
فَإذًا التَّوْبَةُ هي حَقِيقَةُ دِينِ الإسْلامِ، والدِّينُ كُلُّهُ داخِلٌ في مُسَمّى التَّوْبَةِ وبِهَذا اسْتَحَقَّ التّائِبُ أنْ يَكُونَ حَبِيبَ اللَّهِ، فَإنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ، وإنَّما يُحِبُّ اللَّهُ مَن فَعَلَ ما أمَرَ بِهِ، وتَرَكَ ما نَهى عَنْهُ.
فَإذًا التَّوْبَةُ هي الرُّجُوعُ مِمّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ ظاهِرًا وباطِنًا إلى ما يُحِبُّهُ ظاهِرًا وباطِنًا، ويَدْخُلُ في مُسَمّاها الإسْلامُ، والإيمانُ، والإحْسانُ، وتَتَناوَلُ جَمِيعَ المَقاماتِ، ولِهَذا كانَتْ غايَةَ كُلِّ مُؤْمِنٍ، وبِدايَةَ الأمْرِ وخاتِمَتَهُ، كَما تَقَدَّمَ، وهي الغايَةُ الَّتِي وُجِدَ لِأجْلِها الخَلْقُ، والأمْرُ والتَّوْحِيدُ جُزْءٌ مِنها، بَلْ هو جُزْؤُها الأعْظَمُ الَّذِي عَلَيْهِ بِناؤُها.
وَأكْثَرُ النّاسِ لا يَعْرِفُونَ قَدْرَ التَّوْبَةِ ولا حَقِيقَتَها، فَضْلًا عَنِ القِيامِ بِها عِلْمًا وعَمَلًا وحالًا، ولَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ تَعالى مَحَبَّتَهُ لِلتَّوّابِينَ إلّا وهم خَواصُّ الخَلْقِ لَدَيْهِ.
وَلَوْلا أنَّ التَّوْبَةَ اسْمٌ جامِعٌ لِشَرائِعِ الإسْلامِ وحَقائِقِ الإيمانِ لَمْ يَكُنِ الرَّبُّ تَعالى يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ ذَلِكَ الفَرَحَ العَظِيمَ، فَجَمِيعُ ما يَتَكَلَّمُ فِيهِ النّاسُ مِنَ المَقاماتِ والأحْوالِ هو تَفاصِيلُ التَّوْبَةِ وآثارُها.
* (فَصْلٌ)
* قال في (هداية الحيارى)
قالَ السّائِلُ:
نَرى في دِينِكم أكْثَرَ الفَواحِشِ فِيمَن هو أعْلَمُ وأفْقَهُ في دِينِكم كالزِّنى واللِّواطِ والخِيانَةِ، والحَسَدِ والبُخْلِ، والغَدْرِ والجُبْنِ، والكِبْرِ والخُيَلاءِ، وقِلَّةِ الوَرَعِ واليَقِينِ، وقِلَّةِ الرَّحْمَةِ والمُرُوءَةِ والحَمِيَّةِ، وكَثْرَةِ الهَلَعِ، والتَّكالُبِ عَلى الدُّنْيا والكَسَلِ في الخَيْراتِ، وهَذا الحالُ يُكَذِّبُ لِسانَ المَقالِ.
والجَوابُ مِن وُجُوهٍ:
أحَدُها: أنْ يُقالَ: ماذا عَلى الرُّسُلِ الكِرامِ مِن مَعاصِي أُمَمِهِمْ وأتْباعِهِمْ؟
وَهَلْ يَقْدَحُ ذَلِكَ شَيْئًا في نُبُوَّتِهِمْ، أوْ يُوجِبُ تَغَيُّرًا في وجْهِ رِسالَتِهِمْ؟!
وَهَلْ سَلِمَ مِنَ الذُّنُوبِ عَلى اخْتِلافِ أنْواعِها وأجْناسِها إلّا الرُّسُلُ والأنْبِياءُ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ؟
وَهَلْ يَجُوزُ رَدُّ رِسالَتِهِمْ وتَكْذِيبُهم بِمَعْصِيَةِ بَعْضِ أتْباعِهِمْ لَهُمْ؟
وَهَلْ هَذا إلّا مِن أقْبَحِ التَّعَنُّتِ؟
وَهُوَ بِمَنزِلَةِ رَجُلٍ مَرِيضٍ دَعاهُ طَبِيبٌ ناصِحٌ إلى سَبَبٍ يَنالُ بِهِ غايَةَ عافِيَتِهِ، فَقالَ: لَوْ كُنْتُ طَبِيبًا لَمْ يَكُنْ فُلانٌ وفُلانٌ مَرْضى.
وَهَلْ يَلْزَمُ الرُّسُلَ أنْ يَشْفُوا جَمِيعَ المَرْضى بِحَيْثُ لا يَبْقى في العالَمِ مَرِيضٌ؟
وَهَلْ تَعَنَّتَ أحَدٌ عَلى الرُّسُلِ بِمِثْلِ هَذا التَّعَنُّتِ؟ الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ الذُّنُوبَ أوِ المَعاصِيَ أمْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الأُمَمِ، لَمْ يَزَلْ في العالَمِ مِن طَبَقاتِ بَنِي آدَمَ عالِمِهِمْ وجاهِلِهِمْ، وزاهِدِهِمْ في الدُّنْيا وراغِبِهِمْ، وأمِيرِهِمْ ومَأْمُورِهِمْ، ولَيْسَ ذَلِكَ أمْرًا اخْتَصَّتْ بِهِ هَذِهِ الأُمَّةُ حَتّى يُقْدَحَ بِهِ فِيها وفي نَبِيِّها.
الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّ الذُّنُوبَ والمَعاصِيَ لا تُنافِي الإيمانَ بِالرُّسُلِ، بَلْ يَجْتَمِعُ في العَبْدِ الإسْلامُ والإيمانُ، والذُّنُوبُ والمَعاصِي، فَيَكُونُ فِيهِ هَذا وهَذا.
فالمَعاصِي لا تُنافِي الإيمانَ بِالرُّسُلِ وإنْ قَدَحَتْ في كَمالِهِ وتَمامِهِ.
الوَجْهُ الرّابِعُ: أنَّ الذُّنُوبَ تُغْفَرُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، فَلَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُ العَبْدِ عَنانَ السَّماءِ، وعَدَدَ الرَّمْلِ والحَصى، ثُمَّ تابَ مِنها تابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، قالَ تَعالى: {قُلْ ياعِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا.
فَهَذا في حَقِّ التّائِبِ، وأنَّ التَّوْبَةَ تَجُبُّ ما قَبْلَها، والتّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَن لا ذَنْبَ لَهُ، والتَّوْحِيدُ يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ، كَما في الحَدِيثِ الصَّحِيحِ: ابْنَ آدَمَ لَوْ لَقِيتَنِي بِقُرابِ الأرْضِ خَطايا، ثُمَّ لَقِيتَنِي لا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا، لَقِيتُكَ بِقُرابِها مَغْفِرَةً فالمُسْلِمُونَ ذُنُوبُهم ذُنُوبُ مُوَحِّدٍ، إنْ قَوِيَ التَّوْحِيدُ عَلى مَحْوِ آثارِها بِالكُلِّيَّةِ وإلّا فَما مَعَهم مِنَ التَّوْحِيدِ يُخْرِجُهم مِنَ النّارِ إذا عُذِّبُوا بِذُنُوبِهِمْ.
وَأمّا المُشْرِكُونَ والكُفّارُ فَإنَّ شِرْكَهم وكُفْرَهم مُحْبِطٌ حَسَناتِهِمْ، فَلا يَلْقَوْنَ رَبَّهم بِحَسَنَةٍ يَرْجُونَ بِها النَّجاةَ، ولا يَعْقُبُ لَهم شَيْءٌ مِن مَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِمْ، قالَ تَبارَكَ وتَعالى: {إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشاءُ وقالَ تَعالى في حَقِّ الكُفّارِ والمُشْرِكِينَ: وقَدِمْنا إلى ما عَمِلُوا مِن عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنثُورًا، وقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أبى اللَّهُ أنْ يَقْبَلَ مِن مُشْرِكٍ عَمَلًا.
فالذُّنُوبُ تَزُولُ آثارُها بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، والتَّوْحِيدِ الخالِصِ، والحَسَناتِ الماحِيَةِ، والمَصائِبِ المُكَفِّرَةِ لَها، وشَفاعَةِ الشّافِعِينَ في المُوَحِّدِينَ، وآخِرُ ذَلِكَ إذا عُذِّبَ بِما يَبْقى عَلَيْهِ مِنها أخْرَجَهُ تَوْحِيدُهُ مِنَ النّارِ، وأمّا الشِّرْكُ بِاللَّهِ والكُفْرُ بِالرَّسُولِ، فَإنَّهُ يُحْبِطُ جَمِيعَ الحَسَناتِ بِحَيْثُ لا يَبْقى مَعَهُ حَسَنَةٌ.
الوَجْهُ الخامِسُ: أنْ يُقالَ لِمُورِدِ هَذا السُّؤالِ - إنَّ كانَ مِنَ الأُمَّةِ الغَضَبِيَّةِ إخْوانِ القِرَدَةِ - ألا يَسْتَحِي مِن إيرادِ هَذا السُّؤالِ، مَن آباؤُهُ وأسْلافُهُ كانُوا يَشْهَدُونَ في كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الآياتِ ما لَمْ يَرَهُ غَيْرُهم مِنَ الأُمَمِ؟ وفَلَقَ اللَّهُ لَهُمُ البَحْرَ فَأنْجاهم مِن عَدُوِّهِمْ، وما جَفَّتْ أقْدامُهم مِن ماءِ البَحْرِ حَتّى قالُوا لِمُوسى: اجْعَلْ لَنا إلَهًا كَما لَهم آلِهَةٌ قالَ إنَّكم قَوْمٌ تَجْهَلُونَ.
وَلَمّا ذَهَبَ لِمِيقاتِ رَبِّهِ لَمْ يُمْهِلُوهُ أنْ عَبَدُوا بَعْدَ ذَهابِهِ العِجْلَ المَصُوغَ، وغُلِبَ أخُوهُ هارُونُ مَعَهُمْ، ولَمْ يَقْدِرْ عَلى الإنْكارِ عَلَيْهِمْ، وكانُوا مَعَ مُشاهَدَتِهِمُ العَجائِبَ يَهُمُّونَ بِرَجْمِ مُوسى وأخِيهِ هارُونَ في كَثِيرٍ مِنَ الأوْقاتِ، والوَحْيُ بَيْنَ أظْهُرِهُمْ، ولَمّا نَدَبَهم إلى الجِهادِ، قالُوا: ﴿فاذْهَبْ أنْتَ ورَبُّكَ فَقاتِلا إنّا ها هُنا قاعِدُونَ﴾
وَآذَوْا مُوسى أنْواعَ الأذى، حَتّى قالُوا: إنَّهُ آدَرُ وهَذا لِكَوْنِهِ كانَ يَغْتَسِلُ وحْدَهُ، فاغْتَسَلَ يَوْمًا ووَضَعَ ثَوْبَهُ عَلى حَجَرٍ فَفَرَّ الحَجَرُ بِثَوْبِهِ وعَدا خَلْفَهُ عُرْيانًا حَتّى نَظَرَ بَنُو إسْرائِيلَ إلى عَوْرَتِهِ، فَرَأوْهُ أحْسَنَ خَلْقِ اللَّهِ مُتَجَرِّدًا.
وَلَمّا ماتَ أخُوهُ هارُونَ قالُوا: مُوسى قَتَلَهُ وغَيَّبَهُ، فَرَفَعَتِ المَلائِكَةُ لَهم تابُوتَهُ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ حَتّى عايَنُوهُ مَيِّتًا، وآثَرُوا العَوْدَ إلى مِصْرَ وإلى العُبُودِيَّةِ، لِيَشْبَعُوا مِن أكْلِ اللَّحْمِ والبَصَلِ والقِثّاءِ والعَدَسِ، هَكَذا عِنْدَهم.
والَّذِي حَكّاهُ اللَّهُ عَنْهم أنَّهم آثَرُوا ذَلِكَ عَلى المَنِّ والسَّلْوى، وانْهِماكُهم عَلى الزِّنى، ومُوسى بَيْنَ أظْهُرِهِمْ، وعَدُوُّهم بِإزائِهِمْ، حَتّى ضَعُفُوا عَنْهم ولَمْ يَظْفَرُوا بِهِمْ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ، وعِبادَتُهُمُ الأصْنامَ بَعْدَ عَصْرِ يُوشَعَ بْنِ نُونَ، وتَحَيُّلُهم عَلى صَيْدِ الحِيتانِ في يَوْمِ السَّبْتِ لا تَنْسَهُ، حَتّى مُسِخُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ، وقَتْلُهُمُ الأنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ حَتّى قَتَلُوا في يَوْمٍ واحِدٍ سَبْعِينَ نَبِيًّا في أوَّلِ النَّهارِ، وأقامُوا السُّوقَ آخِرَهُ كَأنَّهم جَزَرُوا غَنَمًا، أمْرٌ مَعْرُوفٌ.
وَقَتْلُهم يَحْيى بْنَ زَكَرِيّا، ونَشْرُهم إيّاهُ في المِنشارِ.
وَإصْرارُهم عَلى العَظائِمِ، واتِّفاقُهم عَلى تَغْيِيرِ كَثِيرٍ مِن أحْكامِ التَّوْراةِ، ورَمْيُهم لُوطًا بِأنَّهُ وطِئَ ابْنَتَيْهِ وأوْلَدَهُما.
وَرَمْيُهم يُوسُفَ بِأنَّهُ حَلَّ سَراوِيلَهُ وجَلَسَ مِنَ امْرَأةِ العَزِيزِ مَجْلِسَ المَرْأةِ مِنَ القابِلَةِ حَتّى انْشَقَّ الحائِطُ، وخَرَجَتْ لَهُ كَفُّ يَعْقُوبَ وهو عاضٌّ عَلى أنامِلِهِ، فَقامَ وهَرَبَ، وهَذا لَوْ رَآهُ أفْسَقُ النّاسِ وأفْجَرُهم لَقامَ ولَمْ يَقْضِ غَرَضَهُ.
وَطاعَتُهم لِلْخارِجِ عَلى ولَدِ سُلَيْمانَ بْنِ داوُدَ لَمّا وضَعَ لَهم كَبْشَيْنِ مِن ذَهَبٍ، فَعَكَفَتْ جُمْلَتُهم عَلى عِبادَتِها، إلى أنْ جَرَتِ الحَرْبُ بَيْنَهم وبَيْنَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كانُوا مَعَ ولَدِ سُلَيْمانَ، وقُتِلَ مِنهم في مَعْرَكَةٍ واحِدَةٍ أُلُوفٌ مُؤَلَّفَةٌ.
أفَلا يَسْتَحِي عُبّادُ الكِباشِ والبَقَرِ مِن تَعْيِيرِ المُوَحِّدِينَ بِذُنُوبِهِمْ؟ أوَلا يَسْتَحِي ذُرِّيَّةُ قَتَلَةِ الأنْبِياءِ مِن تَعْيِيرِ المُجاهِدِينَ لِأعْداءِ اللَّهِ؟ فَأيْنَ ذُرِّيَّةُ مَن سُيُوفُ آبائِهِمْ تَقْطُرُ مِن دِماءِ الأنْبِياءِ مِمَّنْ تَقْطُرُ سُيُوفُهم مِن دِماءِ الكُفّارِ المُشْرِكِينَ؟ أوَلا يَسْتَحِي مَن يَقُولُ في صَلاتِهِ لِرَبِّهِ: انْتَبِهْ كَمْ تَنامُ، اسْتَيْقِظْ مِن رَقْدَتِكَ، يُنَخِّيهِ بِذَلِكَ ويَحْمِيهِ، مِن تَعْيِيرِ مَن يَقُولُ في صَلاتِهِ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ.
فَلَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُ المُسْلِمِينَ عَدَدَ الحَصى والرَّمْلِ، والتُّرابِ والأنْفاسِ، ما بَلَغَتْ مَبْلَغَ قَتْلِ نَبِيٍّ واحِدٍ، ولا وصَلَتْ إلى قَوْلِ إخْوانِ القِرَدَةِ إنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ ونَحْنُ أغْنِياءُ، وقَوْلِهِمْ ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾، وقَوْلِهِمْ ﴿نَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ﴾ وقَوْلِهِمْ: إنَّ اللَّهَ بَكى عَلى الطُّوفانِ حَتّى رَمَدَتْ عَيْناهُ مِنَ البُكاءِ وجَعَلَتِ المَلائِكَةُ تَعُودُهُ، وقَوْلِهُمْ: إنَّهُ عَضَّ أنامِلَهُ عَلى ذَلِكَ، وقَوْلُهُمْ: إنَّهُ نَدِمَ عَلى خَلْقِ البَشَرِ وشَقَّ عَلَيْهِ لَمّا رَأى مِن مَعاصِيهِمْ وظُلْمِهِمْ.
وَأعْظَمُ مِن ذَلِكَ نِسْبَةُ هَذا كُلِّهِ إلى التَّوْراةِ الَّتِي أنْزَلَها عَلى كَلِيمِهِ، فَلَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُ المُسْلِمِينَ ما بَلَغَتْ لَكانَتْ في جَنْبٍ ذَلِكَ كَتَفْلَةٍ في بَحْرٍ، ولا تَنْسَ قِصَّةَ أسْلافِهِمْ مَعَ شاءُولَ الخارِجَ عَلى داوُدَ، فَإنَّ سَوادَهُمُ الأعْظَمَ انْضَمَّ إلَيْهِ، وشَهِدُوا مَعَهُ عَلى حَرْبِ داوُدَ، ثُمَّ لَمّا عادُوا إلى طاعَةَ داوُدَ، وجاءَتْ وُفُودُهم وعَساكِرُهم مُسْتَغْفِرِينَ مُعْتَذِرِينَ بِحَيْثُ اخْتَصَمُوا في السَّبْقِ إلَيْهِ، فَتَتَبَّعُ مِنهم شَخْصٌ ونادى بِأعْلى صَوْتِهِ: لا نَصِيبَ لَنا في داوُدَ ولا حَظَّ في شاءُولَ، لِيَمْضِ كُلٌّ مِنكم إلى خِبائِهِ يا إسْرائِيلِيِّينَ فَلَمْ يَكُنْ بِأوْشَكَ مِن أنْ ذَهَبَ جَمِيعُ عَسْكَرِ بَنِي إسْرائِيلَ إلى أخْبِيَتِهِمْ بِسَبَبِ كَلِمَتِهِ، ولَمّا قُتِلَ هَذا الصّائِحُ، عادَتِ العَساكِرُ جَمِيعُها إلى خِدْمَةِ داوُدَ، فَما كانَ القَوْمُ إلّا مِثْلَ هَمَجٍ رِعاعٍ يَجْمَعُهم طَبْلٌ ويُفَرِّقُهم عَصا.
{"ayah":"۞ قُلۡ یَـٰعِبَادِیَ ٱلَّذِینَ أَسۡرَفُوا۟ عَلَىٰۤ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُوا۟ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ یَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِیعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِیمُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











