الباحث القرآني

قال البغوي: "على علم من الله أني له أهل" وقال مقاتل: "على خير علمه الله عندي" ومضمون هذا القول أن الله آتانيه على علمه بأني أهله. وقال آخرون: "بل العلم له نفسه ومعناه أوتيته على علم مني بوجوه المكاسب" قاله قتادة وغيره. وقيل: المعنى قد علمت أني لما أوتيت هذا في الدنيا فلي عند الله منزلة وشرف. وهذا معنى قول مجاهد "أوتيته على شرف" قال تعالى: ﴿بَلْ هي فِتْنَةٌ﴾ أي النعم التي أوتيتها فتنة نختبره فيها ومحنة نمتحنه بها لا يدل على اصطفائه واجتبائه وأنه محبوب لنا مقرب عندنا ولهذا قال في قصة قارون: ﴿أوَلَمْ يَعْلَمْ أنَّ اللَّهَ قَدْ أهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَن هو أشَدُّ مِنهُ قُوَّةً وأكْثَرُ جَمْعا﴾ فلو كان إعطاء المال والقوة والجاه يدل على رضاء الله سبحانه عمن آتاه ذلك وشرف قدره وعلو منزلته عنده لما أهلك من آتاه من ذلك أكثر مما آتى قارون فلما أهلكهم مع سعة هذا العطاء وبسطته علم أن عطاءه إنما كان ابتلاء وفتنة لا محبة ورضا واصطفاء لهم على غيرهم. ولهذا قال في الآية الأخرى: ﴿بَلْ هي فِتْنَة﴾ أي النعمة فتنة لا كرامة ولكن أكثرهم لا يعلمون. ثم أكد هذا المعنى بقوله: ﴿قَدْ قالَها الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَما أغْنى عَنْهم ما كانُوا يَكْسِبُونَ فَأصابَهم سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا﴾ أي قد قال هذه المقالة الذين من قبلهم لما آتيناهم نعمنا قال قال ابن عباس: "كانوا قد بطروا نعمة الله إذ آتاهم الدنيا وفرحوا بها وطغوا وقالوا هذه كرامة من الله لنا" وقوله: ﴿فَما أغْنى عَنْهم ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ المعنى أنهم ظنوا أن ما آتيناهم لكرامتهم علينا ولم يكن كذلك لأنهم وقعوا في العذاب، ولم يغن عنهم ما كسبوا شيئا وتبين أن تلك النعم لم تكن لكرامتهم علينا، وهو أن من منعناه إياها. وقال أبو إسحاق: "معنى الآية أن قولهم إنما آتانا الله ذلك لكرامتنا عليه وإنا أهله أحبط أعمالهم فكنى عن إحباط العمل بقوله: ﴿فَما أغْنى عَنْهم ما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ ثم أبطل سبحانه هذا الظن الكاذب منهم بقوله: ﴿أوَلَمْ يَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشاءُ ويَقْدِرُ﴾ " والمقصود أن قوله ﴿على علم﴾ إن أريد به علمه نفسه كان المعنى أوتيته على ما عندي من العلم والخبرة والمعرفة التي توصلت بها إلى ذلك وحصلته بها. وإن أريد به علم الله كان المعنى أوتيته على ما علم الله عندي من الخير والاستحقاق وإني أهله وذلك من كرامتي عليه وقد يترجح هذا القول بقوله أوتيته ولم يقل حصلته واكتسبته بعلمي ومعرفتي فدل على اعترافه بأن غيره آتاه إياه ويدل عليه قوله تعالى: ﴿بَلْ هي فِتْنَةٌ﴾ أي محنة واختبار. والمعنى أنه لم يؤت هذا لكرامته علينا بل أوتيه امتحانا منا وابتلاء واختبارا هل يشكر فيه أم يكفر. وأيضا فهذا يوافق قوله: ﴿فَأمّا الإنْسانُ إذا ما ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأكْرَمَهُ ونَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أكْرَمَنِ وأمّا إذا ما ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أهانَنِ﴾ فهو قد اعترف بأن ربه هو الذي آتاه ذلك، ولكن ظن أنه لكرامته عليه. فالآية على التقدير الأول تتضمن ذم من أضاف النعم إلى نفسه وعلمه وقوته، ولم يضفها إلى فضل الله وإحسانه، وذلك محض الكفر بها، فإن رأس الشكر الاعتراف بالنعمة، وأنها من المنعم وحده، فإذا أضيفت إلى غيره كان جحدا لها، فإذا قال أوتيته على ما عندي من العلم والخبرة التي حصلت بها ذلك فقد أضافها إلى نفسه، وأعجب بها، كما أضافها إلى قدرته الذين قالوا ﴿من أشد منا قوة﴾ فهؤلاء اغتروا بقوتهم، وهذا اغتر بعلمه، فما أغنى عن هؤلاء قوتهم، ولا عن هذا علمه. وعلى التقدير الثاني يتضمن ذم من اعتقد أن إنعام الله عليه لكونه أهلا ومستحقا لها، فقد جعل سبب النعمة ما قام به من الصفات التي يستحق بها على الله أن ينعم عليه، وأن تلك النعمة جزاء له على إحسانه وخيره، فقد جعل سببها ما اتصف به هو لا ما قام بربه من الجود والإحسان والفضل والمنة، ولم يعلم أن ذلك ابتلاء واختبار له أيشكر أم يكفر، ليس ذلك جزاء على ما هو منه، ولو كان ذلك جزاء على عمله أو خير قام به فالله سبحانه هو المنعم عليه بذلك السبب، فهو المنعم بالمسبب والجزاء والكل محض منته وفضله وجوده، وليس للعبد من نفسه مثقال ذرة من الخير. وعلى التقديرين فهو لم يضف النعمة إلى الرب من كل وجه، وإن أضافها إليه من وجه دون وجه، وهو سبحانه وحده هو المنعم من جميع الوجوه على الحقيقة بالنعم وأسبابها فأسبابها من نعمه على العبد، وإن حصلت بكسبه فكسبه من نعمه فكل نعمة فمن الله وحده حتى الشكر فإنه نعمة وهي منه سبحانه، فلا يطيق أحد أن يشكره إلا بنعمته، وشكره نعمة منه عليه كما قال داود: "يا رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة من نعمك علي تستوجب شكرا آخر فقال: الآن شكرتني يا داود" ذكره الإمام أحمد. وذكر أيضا عن الحسن قال: قال داود: "إلهي لو أن لكل شعرة من شعري لسانين يذكرانك بالليل والنهار والدهر كله لما أدّوا مالك علي من حق نعمة واحدة" والمقصود أن حال الشاكر ضد حال القائل إنما أوتيته على علم عندي.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب