الباحث القرآني

فالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ: هو مِن شَأْنِهِ الصِّدْقُ في قَوْلِهِ وعَمَلِهِ وحالِهِ. فالصِّدْقُ: في هَذِهِ الثَّلاثَةِ. فالصِّدْقُ في الأقْوالِ: اسْتِواءُ اللِّسانِ عَلى الأقْوالِ، كاسْتِواءِ السُّنْبُلَةِ عَلى ساقِها. والصِّدْقُ في الأعْمالِ: اسْتِواءُ الأفْعالِ عَلى الأمْرِ والمُتابَعَةِ. كاسْتِواءِ الرَّأْسِ عَلى الجَسَدِ. والصِّدْقُ في الأحْوالِ: اسْتِواءُ أعْمالِ القَلْبِ والجَوارِحِ عَلى الإخْلاصِ. واسْتِفْراغُ الوُسْعِ، وبَذْلُ الطّاقَةِ، فَبِذَلِكَ يَكُونُ العَبْدُ مِنَ الَّذِينَ جاءُوا بِالصِّدْقِ. وَبِحَسَبِ كَمالِ هَذِهِ الأُمُورِ فِيهِ وقِيامِها بِهِ: تَكُونُ صِدِّيقِيَّتُهُ. وَلِذَلِكَ كانَ لِأبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأرْضاهُ: ذُرْوَةُ سَنامِ الصِّدِّيقِيَّةِ، سُمِّيَ الصِّدِّيقَ عَلى الإطْلاقِ. والصِّدِّيقُ أبْلَغُ مِنَ الصَّدُوقِ، والصَّدُوقُ أبْلَغُ مِنَ الصّادِقِ. فَأعْلى مَراتِبِ الصِّدْقِ: مَرْتَبَةُ الصِّدِّيقِيَّةِ. وَهِيَ كَمالُ الِانْقِيادِ لِلرَّسُولِ ﷺ، مَعَ كَمالِ الإخْلاصِ لِلْمُرْسِلِ. * [فَصْلٌ مَنزِلَةُ الرِّياضَةِ] وَمِن مَنازِلِ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مَنزِلَةُ الرِّياضَةِ. هِيَ تَمْرِينُ النَّفْسِ عَلى الصِّدْقِ والإخْلاصِ. قالَ صاحِبُ المَنازِلِ: هي تَمْرِينُ النَّفْسِ عَلى قَبُولِ الصِّدْقِ. وَهَذا يُرادُ بِهِ أمْرانِ: تَمْرِينُها عَلى قَبُولِ الصِّدْقِ إذا عَرَضَهُ عَلَيْها في أقْوالِهِ وأفْعالِهِ وإرادَتِهِ، فَإذا عَرَضَ عَلَيْها الصِّدْقَ قَبِلَتْهُ وانْقادَتْ لَهُ وأذْعَنَتْ لَهُ. والثّانِي: قَبُولُ الحَقِّ مِمَّنْ عَرَضَهُ عَلَيْهِ، قالَ اللَّهُ ﴿والَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ﴾ [الزمر: ٣٣] فَلا يَكْفِي صِدْقُكَ، بَلْ لا بُدَّ مِن صِدْقِكَ وتَصْدِيقِكَ لِلصّادِقِينَ، فَكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ يَصْدُقُ، ولَكِنْ يَمْنَعُهُ مِنَ التَّصْدِيقِ كِبْرٌ أوْ حَسَدٌ، أوْ غَيْرُ ذَلِكَ. قالَ: وهي عَلى ثَلاثِ دَرَجاتٍ: رِياضَةٌ عامَّةٌ، وهي تَهْذِيبُ الأخْلاقِ بِالعِلْمِ، وتَصْفِيَةُ الأعْمالِ بِالإخْلاصِ، وتَوْفِيرُ الحُقُوقِ في المُعامَلَةِ. أمّا تَهْذِيبُ الأخْلاقِ بِالعِلْمِ فالمُرادُ بِهِ إصْلاحُها وتَصْفِيَتُها بِمُوجَبِ العِلْمِ، فَلا يَتَحَرَّكُ بِحَرَكَةٍ ظاهِرَةٍ أوْ باطِنَةٍ إلّا بِمُقْتَضى العِلْمِ، فَتَكُونُ حَرَكاتٌ ظاهِرَةٌ وباطِنَةٌ مَوْزُونَةٌ بِمِيزانِ الشَّرْعِ. وَأمّا تَصْفِيَةُ الأعْمالِ بِالإخْلاصِ فَهو تَجْرِيدُها عَنْ أنْ يَشُوبَها باعِثٌ لِغَيْرِ اللَّهِ، وهي عِبارَةٌ عَنْ تَوْحِيدِ المُرادِ، وتَجْرِيدِ الباعِثِ إلَيْهِ. وَأمّا تَوْفِيرُ الحُقُوقِ في المُعامَلَةِ فَهو أنْ تُعْطِيَ ما أُمِرْتَ بِهِ مِن حَقِّ اللَّهِ وحُقُوقِ العِبادِ كامِلًا مُوَفَّرًا، قَدْ نَصَحْتَ فِيهِ صاحِبَ الحَقِّ غايَةَ النُّصْحِ، وأرْضَيْتَهُ كُلَّ الرِّضا، فَفُزْتَ بِحَمْدِهِ لَكَ وشُكْرِهِ. وَلَمّا كانَتْ هَذِهِ الثَّلاثَةُ شاقَّةً عَلى النَّفْسِ جِدًّا كانَ تَكَلُّفُها رِياضَةً، فَإذا اعْتادَها صارَتْ خُلُقًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب