الباحث القرآني
أثنى على عبده أيوب بأحسن الثناء على صبره فقال ﴿إنّا وجَدْناهُ صابِرًا نِعْمَ العَبْدُ إنَّهُ أوّابٌ﴾
فأطلق عليه نعم العبد بكونه وجده صابرا، وهذا يدل على أن من لم يصبر إذا ابتلي فإنه بئس العبد.
* (فائدة)
الشكوى إلى اللّه سبحانه لا تنافي الصبر بوجه، فإن اللّه تعالى قال عن أيوب ﴿إنّا وجَدْناهُ صابِرًا نِعْمَ العَبْدُ إنَّهُ أوّابٌ﴾
مع إخباره عنه بالشكوى إليه في قوله ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾، وأخبر عن نبيه يعقوب أنه وعد من نفسه بالصبر الجميل والنبي إذا قال وفّى مع قوله ﴿إنَّما أشْكُوا بَثِّي وحُزْنِي إلى اللَّهِ﴾، ولم يجعل ذلك نقصا لصبره.
ولا يلتف أن غير هذا من ترهات القوم، كما قال بعضهم لما قال: ﴿مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾
قال تعالى: ﴿إنّا وجَدْناهُ صابِرًا﴾ ولم يقل صبورا حيث قال ﴿مسّني الضر﴾.
وقال بعضهم لم يقل: ارحمني، وإنما قال ﴿أنت أرحم الراحمين﴾ فلم يزد على الإخبار بحاله ووصف ربه.
وقال بعضهم إنما شكا مس ضر حين ضعف لسانه عن الذكر فشكا مس ضر ضعف الذكر لا ضر المرض والألم.
وقال بعضهم استخرج منه هذا القول ليكون قدوة للضعفاء من هذه الأمة.
وكأن هذا القائل رأى أن الشكوى إلى اللّه تنافي الصبر وغلط أقبح الغلط فالمنافي للصبر شكواه لا الشكوى إليه فاللّه يبتلي عبده ليسمع تضرعه ودعاءه والشكوى إليه ولا يحب التجلد عليه، وأحب ما إليه انكسار قلب عبده بين يديه وتذلله له وإظهار ضعفه وفاقته وعجزه وقلة صبره، فاحذر كل الحذر إظهار التجلد عليه وعليك بالتضرع والتمسكن وإبداء العجز والفاقة والذل والضعف، فرحمته أقرب إلى هذا القلب من اليد للفم.
* (فصل: في استدلال البعض بهذه الآية على جواز الحيل)
قالوا: وقد قال الله تعالى لنبيه أيوب عليه السلام، وقد حلف ليجلدن امرأته مائة. ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فاضْرِبْ بِهِ ولا تَحْنَثْ﴾
قال سعيد عن قتادة: كانت امرأته قد عرضت له بأمر، وأرادها إبليس على شيء فقال لها: لو تكلمت بكذا وكذا؟
وإنما حملها عليها الجوع. فحلف نبي الله لئن شفاه الله تعالى ليجلدنها مائة جلدة.
قال: فأمر بأصل فيه تسعة وتسعون قضيبًا، والأصل تكملة المائة، فيضربها به ضربة واحدة.
فأبر الله تعالى نبيه. وخفف عن أمتَه.
وقال عبد الرحمن بن جبير: لقيها إبليس فقال لها: والله لو تكلم صاحبك بكلمة واحدة لكشف عنه كل ضر، ولرجع إليه ماله وولده، فأخبرت أيوب فقال: ويلك، ذاك عدو الله، إنما مثلك المرأة الزانية، إذا جاءها صديقها بشيء قبلته وأدخلته.
وإن لم يأتها بشيء طردته وأغلقت بابها عنه.
لما أعطانا الله تعالى المال والولد آمنا به، وإذا قبض الذي له منا نكفر به.
إن أقامني الله تعالى من مرضى لأجلدنك مائة. فأفتاه الله بما أخبر به: أن يأخذ ضغثًا، وهو الحزمة من الشيء، مثل الشماريخ الرطبة والعيدان ونحوها، مما هو قائم على ساق، فيضربها ضربة واحدة.
وهذا تعليم منه سبحانه لعباده التخلص من الآثام، والمخرج من الحرج بأيسر شيء وهذا أصلنا في باب الحيل، فإنا قسنا على هذا وجعلناه أصلًا.
* (فصل)
قال منكرو الحيل:
الحيل ثلاثة أنواع:
نوع هو قربة وطاعة، وهو من أفضل الأعمال عند الله تعالى.
ونوع هو جائز مباح، لا حرج على فاعله، ولا على تاركه تركه، وترجح فعله على تركه أو عكس ذلك تابع لمصلحته.
ونوع هو محرم ومخادعة لله تعالى ورسوله، متضمن لإسقاط ما أوجبه، وإبطال ما شرعه، وتحليل ما حرمه.
وإنكار السلف والأئمة، وأهل الحديث إنما هو لهذا النوع.
فإن الحيلة لا تذم مطلقًا، ولا تحمد مطلقًا، ولفظها لا يشعر بمدح ولا ذم، وإن غلب في العرف إطلاقها على ما يكون من الطرق الخفية إلى حصول الغرض، بحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة.
وأخص من هذا: تخصيصها بما يذم من ذلك، وهذا هو الغالب على عرف الفقهاء المنكرين للحيل، فإن أهل العرف لهم تصرف في تخصيص الألفاظ العامة ببعض موضوعاتها وتقييد مطلقها ببعض أنواعه.
فإن الحيلة فعلة، من الحول، وهو التصرف من حال إلى حال، وهي من ذوات الواو، وأصلها "حولة" فسكنت الواو وانكسر ما قبلها، فقلبت ياء، كميزان، وميقات، وميعاد.
قال في المحكَم: الحْولُ، والحَيلْ، والحِوَلُ، والحَوْلة، والحِيلة، والحوِيل، والمحالة، والمحال، والاحتيال، والتَّحوُّل، والتَّحيُّل: كل ذلك: الحذق، وجودة النظر، والقدرة على وجه التصرف. قال: والحول والحيل، والحيلات: جمع حيلة، ورجل حُوَل، وحُوَلةَ، وحول، وحُوَّلة، وحوالى، وحولول، وحُوَّلى: شديد الاحتيال. وما أحوله وأحيله، وهو أحول منك، وأحيل، انتهى.
فالحيلة: فعلة من الحول، وهو التحول من حال إلى حال، وكل من حاول أمرًا يريد فعله أو الخلاص منه، فما يحاوله به حيلة يتوصل بها إليه.
فالحيلة: معتبرة بالأمر المحتال بها عليه إطلاقًا ومنعا ومصلحة ومفسدة وطاعة ومعصية.
فإن كان المقصود أمرا حسنًا كانت الحيلة حسنة. وإن كان قبيحًا كانت الحيلة قبيحة.
وإن كان طاعة وقربة كانت الحيلة عليه كذلك.
وإن كانت معصية وفسوقًا كانت الحيلة عليه كذلك.
ولما قال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "لا تَرْتَكبُوا ما ارْتَكَبَتِ اليَهُودُ، فَتَسْتَحِلُّوا محاَرِمَ اللهِ تَعالى بِأدْنى الحِيلِ".
صارت في عرف الفقهاء إذا أطلقت: يقصد بها الحيل التي تستحل بها المحارم كحيل اليهود.
وكل حيلة تتضمن إسقاط حق لله تعالى أو لآدمى، فهي مما يستحل بها المحارم.
ونظير ذلك: لفظ الخداع، فإنه ينقسم إلى محمود ومذموم، فإن كان بحق فهو محمود، وإن كان بباطل فهو مذموم.
ومن النوع المحمود: قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "الحرب خدعة"
وقوله في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره:
"كُلُّ الكَذِبِ يُكْتَبُ عَلى ابْنِ آدَمَ، إلا ثَلاثَ خِصالٍ: رَجُل كَذَبَ عَلى امْرَأتِهِ لِيُرْضِيَها، ورَجُلٌ كَذَبَ بَيْنَ اثْنَيْنِ لِيُصْلِجَ بَيْنَهُما، ورَجُلٌ كَذَبَ في خِدْعَةِ حَرْبٍ".
ومن النوع المذموم قوله في حديث عياض بن جمار، الذي رواه مسلم في صحيحه:
"أهْلُ النّارِ خَمْسَةٌ، ذَكَرَ مِنهم رَجُلًا لا يُصْبِحُ ولا يُمْسِي إلا وهْوَ يَخادِعُكَ عَنْ أهْلِكَ ومِالِكَ".
وقوله تعالى: ﴿يُخادِعُونَ اللهَ والَّذِينَ آمَنُوا وما يَخْدَعُونَ إلا أنْفُسَهم وما يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: ٩]
وقوله تعالى: ﴿وَإنْ يُرِيدُوا أنْ يَخْدَعُوكَ فَإنَّ حَسْبَكَ اللهُ﴾ [الأنفال: ٦٢].
* (فصل)
إذا عرف ذلك فلا إشكال أنه يجوز للإنسان أن يظهر قولًا أو فعلًا مقصوده به مقصود صالح، وإن كان ظاهره خلاف ما قصد به إذا كانت فيه مصلحة دينية، مثل دفع الظلم عن نفسه أو غيره، أو إبطال حيلة محرمة.
وإنما المحرم: أن يقصد بالعقود الشرعية غير ما شرعها الله تعالى ورسوله له.
فيصير مخادعًا لله تعالى ورسوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، كائدًا لدينه، ماكرًا بشرعه، فإن مقصوده حصول الشيء الذي حرمه الله تعالى ورسوله بتلك الحيلة، وإسقاط الذي أوجبه بتلك الحيلة.
* (فصل)
وأما قوله تعالى لأيوب عليه السلام: ﴿وَخُذْ بيَدِكَ ضِغْثًا فاضْرِبْ بِهِ ولا تَحْنَثْ﴾ [ص: ٤٤].
فمن العجب أن يحتج بهذه الآية من يقول إنه لو حلف ليضربنه عشرة أسواط، فجمعها وضربه بها ضربة واحدة لم يبر في يمينه.
هذا قول أصحاب أبي حنيفة، ومالك، وأصحاب أحمد.
وقال الشافعي: إن علم أنها مسته كلها بر في يمينه، وإن علم أنها لم تمسه لم يبر. وإن شك لم يحنث، ولو كان هذا موجبًا لبر الحالف لسقط عن الزاني والقاذف والشارب تعدد الضرب، بأن يجمع له مائة سوط، أو ثمانين، ويضرب بها ضربة واحدة.
وهذا إنما يجزئ في حق المريض، كما قال الإمام أحمد في المريض عليه الحد
"يضرب بعثكال يسقط عنه الحد".
واحتج بما رواه عن أبي أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد بن عبادة قال: "كان بين أبياتنا رويجل ضعيف مخدع، فلم يرع الحي إلا وهو على أمة من إمائهم يخبث بها، قال: فَذَكَرَ ذلِكَ سَعْدُ بْنُ عُبادَةَ لِرَسوِلِ الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلَم، وكانَ ذلِكَ الرَّجُلُ مُسْلِمًا، فقالَ: "اضْرِبُوهُ حَدَّهُ"، فَقالُوا: يا رَسُولَ الله: إنّهُ أضْعَفُ مَّمِا تحْسبُ، لَوْ ضَرَبْناهُ مِائَةً قَتَلْناهُ، فقالَ: "خُذُوا له عِثْكالًا فِيهِ مِائَةُ شِمْراخٍ، ثُمَّ اضْرِبُوهُ بهِ ضَرْبةً واحِدَةً، فَفَعَلُوا".
وأما قصة أيوب فلها فقه دقيق، فإن امرأته كانت لشدة حرصها على عافيته وخلاصه من دائه تلتمس له الدواء بما تقدر عليه. فلما لقيها الشيطان وقال ما قال، أخبرت أيوب عليه السلام بذلك، فقال: إنه الشيطان، ثم حلف: لئن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة سوط، فكانت معذورة محسنة في شأنه، ولم يكن في شرعهم كفارة، فإنه لو كان في شرعهم كفارة لعدل إلى التكفير، ولم يحتج إلى ضربها، فكانت اليمين موجبة عندهم، كالحدود، وقد ثبت أن المحدود إذا كان معذورًا خفف عنه، بأن يجمع له مائة شمراخ، أو مائة سوط، فيضرب بها ضربة واحدة، وامرأة أيوب كانت معذورة، لم تعلم أن الذي خاطبها الشيطان، وإنما قصدت الإحسان، فلم تكن تستحق العقوبة، فأفتى الله نبيه أيوب عليه السلام أن يعاملها معاملة المعذور، هذا مع رفقها به، وإحسانها إليه، فجمع الله له بين البر في يمينه، والرفق بامرأته المحسنة المعذورة التي لا تستحق العقوبة. فظهر موافقة نص القرآن في قصة أبوب عليه السلام لنص السنة في شأن الضعيف الذي زنى، فلا يتعدى بها عن محلها.
فإن قيل: فقولوا هذا في نظير ذلك، ممن حلف ليضربن امرأته أو أمته مائة، وكانتا معذورتين، لا ذنب لهما: أنه يبر بجمع ذلك في ضربة بمائة شمراخ.
قيل: قد جعل الله له مخرجًا بالكفارة، ويجب عليه أن يكفر عن يمينه، ولا يعصي الله بالبر في يمينه هاهنا، ولا يحل له أن يبر فيها، بل بره فيها هو حنثه مع الكفارة، ولا يحل له أن يضربها، لا مفرقًا ولا مجموعًا.
{"ayah":"وَخُذۡ بِیَدِكَ ضِغۡثࣰا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَـٰهُ صَابِرࣰاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥۤ أَوَّابࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق