الباحث القرآني

قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا يونس بن حبيب: حدثنا أبو داود، عن الصلت بن دينار: حدثنا عقبة بن صهبان الهنائى قال: "سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله عز وجل: ﴿ثُمَّ أوْرَثْنا الكِتابَ الذين اصْطَفَيْنا مِن عِبادِنا، فَمِنهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، ومِنهم مُقْتَصِدٌ، ومِنهم سابِقٌ بِالَخْيَراتِ بِإذْنِ اللهِ﴾ فقالت: يا بني، هؤلاء في الجنة. أما السابق بالخيرات فمن مضي علي عهد رسول الله ﷺ، شهد له رسول الله ﷺ بالجنة والرزق. وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به. وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم، فجعلت نفسها معنا". * (فائدة) وقال عبد الله بن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن أبي السمح عن أبي هريرة عن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ تلا قوله عز وجل: ﴿جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِن أساوِرَ مِن ذَهَبٍ﴾ فقال: "إن عليهم التيجان إن أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب" * (فصل) وقد اختلف في قوله تعالى: ﴿جَنّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِن أساوِرَ مِن ذَهَبٍ﴾ الآية. هل ذلك راجع إلى الأصناف الثلاثة: الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات، أو يختص بالقسمين الأخيرين، وهما المقتصد والسابق دون الظالم، على قولين: فذهبت طائفة إلى أن الأصناف الثلاثة كلهم في الجنة، وهذا يروى عن ابن مسعود وابن عباس وأبي سعيد الخدري وعائشة أُم المؤمنين، قال أبو إسحاق السبيعي: أما الذي سمعت منذ ستون سنة فكلهم ناج، قال أبو داود الطيالسى: أنبأنا الصلت بن دينار: حدثنا عقبة بن صبهان الهنائى قال: سألت عائشة عن قول الله تعالى: ﴿فَمِنهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ومَنهُم مُّقْتَصِدٌ ومِنهم سابِقٌ بِالخَيْراتِ﴾ [فاطر: ٣٢]، فقالت لي: يا بني، كل هؤلاء في الجنة، فأما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله يشهد له رسول الله بالخيرة والرزق، وأما المقتصد فمن تبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلى ومثلك. قال: فجعلت نفسها معنا. وقال ابن مسعود: هذه الأُمة يوم القيامة أثلاث: ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يوم القيامة يحاسبون حسابًا يسيرًا ثم يدخلون الجنة، وثلث يجيئون بذنوب عظام، فيقول الله: ما هؤلاء؟ وهو أعلم بهم، فتقول الملائكة: هم مذنبون إلا أنهم لم يشركوا. فيقول الله: أدخلوهم في سعة رحمتى، وقال كعب: تحاذت مناكبهم ورب الكعبة وتفاضلوا بأعمالهم وقال الحسن: السابقون من رجحت حسناتهم، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته، والظالم من خفت موازينه واحتجت هذه الفرقة بأنه سبحانه سمى الكل "مصطفين" وأخبر أنه اصطفاهم من جملة العباد، ومحال أن يكون الكافر والمشرك من المصطفين، لأن الاصطفاء هو الاختيار، وهو الافتعال من صفوة الشيء وهو خياره، فعلم أن هؤلاء الأصناف الثلاثة صفوة الخلق وبعضهم خير من بعض: فسابقهم مصطفى عليهم، ثم مقتصدهم مصطفى على ظالمهم، ثم ظالمهم مصطفى على الكافر والمشرك. واحتجت أيضًا بآثار روتها تؤيد ما ذهب إليه: فمنها ما رواه سليمان الشاذكونى حدثنا حصين بن بهز عن أبى ليلى عن أخيه عن أبيه عن أُسامة بن زيد عن النبي ﷺ في هذه الآية قال: كلهم في الجنة. ومنها ما رواه الطبراني: حدثنا أحمد بن حماد بن رعية، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا ابن لهيعة عن أحمد بن حازم المعافري عن صالح مولى التوأمة عن أبي الدرداءِ قال: قرأ النبي هذه الآية: ﴿فَمِنهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ومِنهم مُقْتَصِدٌ ومِنهم سابِقٌ بِالخَيْراتِ بإذنِ الله﴾ [فاطر: ٣٢]، فقال: أما السابق فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حسابًا يسيرًا، وأما الظالم فيجلس في طول المحبس ثم يتجاوز الله عنه. ومنها ما رواه زكريا الساجي عن الحسن بن على الواسطى عن أبي سعيد الخزاعي عن الحسن بن سالم عن سعد بن ظريف عن أبى هاشم الطائي قال: قدمت المدينة فدخلت مسجدها فجلست إلى سارية، فجاءَ حذيفة فقال: ألا أُحدثك بحديث سمعته من رسول الله ﷺ؟ يقول: "يبعث الله تبارك وتعالى هذه الأُمة - أو كما قال - ثلاثة أصناف، وذلك في قوله تعالى: ﴿فَمِنهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ، ومِنهم مُقْتَصِدٌ، ومِنهم سابِقٌ بِالخَيْراتِ﴾ [فاطر: ٣٢]، فالسابق بالخيرات يدخل الجنة بلا حساب والمقتصد يحاسب حسابًا يسيرًا، والظالم لنفسه يدخل الجنة برحمة الله. ومنها ما رواه الطبراني عن محمد بن إسحاق بن راهوية: حدثنا أبي، حدثنا جرير عن الأعمش عن رجل سماه عن أبي الدرداءِ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول في قوله تعالى: {فَمِنهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ الآية ... قال: "السابق بالخيرات والمقتصد يدخلان الجنة بغير حساب، والظالم لنفسه يحاسب حسابًا يسيرًا ثم يدخل الجنة". ومنها ما رواه ابن لهيعة عن أبي جعفر عن يونس بن عبد الرحمن عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول هذه الآية: ﴿ثُمَّ أوْرَثْنا الكِتاب الَّذِينَ اصطفيْنا مِن عِبادِنا - إلى قوله -سابقٌ بِالخَيْرات﴾ [فاطر: ٣٢]، قال: فأما السابقون فيدخلون الجنة بغير حساب. وأما المقتصد فيحاسب حسابًا يسيرًا، وأما الظالمون فيحاسبون فيصيبهم عناءُ وكرب ثم يدخلون الجنة ثم يقولون: ﴿الحَمْدُ للهِ الَّذى أذْهَبَ عَنّا الحَرَنْ إنَّ رَبَّنا لَغَفُور شَكُورٌ﴾ [فاطر: ٣٤] منها ما رواه الحميدي: حدثنا سفيان، حدثنا طعمة بن عمرو الجعفرى عن رجل قال: قال أبو الدرداءِ لرجل: ألا أُحدثك بحديث أخصك به لم أحدث به أحدًا؟ قال رسول الله ﷺ: ﴿فَمِنهم ظالم لِنَفْسِهِ ومِنهم مُقْتَصِدٌ ومنهم سابِقٌ بالخيَرات﴾ بإذن الله جَنّاتُ عَدْنٍ قال: "دخلوا الجنة جميعًا". واحتجت أيضًا بالآيات والأحاديث التي تشهد بنجاة الموحدين من أهل الكبائر ودخولهم الجنة. واحتجت أيضًا بأن ظلم النفس إنما يراد به ظلمها بالذنوب والمعاصي، فإن الظلم ثلاثة أنواع: ظلم في حق النفس باتباعها شهواتها وإيثارها لها على طاعة ربها وظلم في حق الخلق بالعدوان عليهم ومنعهم حقوقهم، وظلم في حق الرب بالشرك به، فظلم النفس إنما هو بالمعاصي وقد تواترت النصوص بأن العصاة من الموحدين مآلهم إلى الجنة. وقالت طائفة: بل الوعد بالجنات إنما هو للمقتصد والسابق دون الظالم لنفسه، فإن الظالم لنفسه لا يدخل تحت الوعد المطلق والظالم لنفسه هنا هو الكافر، والمقتصد المؤمن العاصي والسابق المؤمن التقي. وهذا يروى عن عكرمة والحسن وقتادة، وهو اختيار جماعة من المفسرين منهم صاحب الكشاف ومنذر ابن سعيد في تفسيره والرماني وغيرهم، قالوا: وهذه الآية متناولة لجميع أقسام الخلق شقيهم وسعيدهم، وهي نظير آية قوله تعالي: ﴿وَكُنتُمْ أزْواجًا ثَلاثَةً فأصْحابُ المَيْمَنَةِ ما أصْحابُ المَيْمَنةِ وأصْحابُ المَشْأمَةِ ما أصْحابُ المَشأمَة والسّابِقُونَ السّابِقُونَ﴾ [الواقعة: ٧-١٠] قالوا: فأصحاب الميمنة هم المقتصدون وأصحاب المشأمة هم الظالمون لأنفسهم، والسابقون السابقون هم السابقون بالخيرات. قالوا: ولم يصطفي الله من خلقه ظالمًا لنفسه، بل المصطفون من عباده هم صفوته وخيارهم والظالمون لأنفسهم ليسوا خيار العباد بل شرارهم، فكيف يوقع عليهم اسم المصطفين وتناولهم فعل الأصطفاء؟ قالوا: فأيضًا صفوة الله هم أحباؤه والله لا يحب الظالمين فلا يكونون مصطفين قالوا: ولأن الظالم لنفسه وإن كان ممن أورث الكتاب، فهو بتركه العمل بما فيه قد ظلم نفسه والله تعالي إنما اصطفى من عباده من أورثة كتابه ليعمل بما فيه فأما من نبذه وراء ظهوره فليس من المصطفين من عباده قالوا: ولأن الاصطفاء افتعال من صفوة الشيء وهو خلاصته ولبه، وأصله اصتفى فأُبدلت التاءُ طاءً لوقوعها بعد الصاد كالاصطباح والاصطلام ونحوه، والظالم لنفسه ليس صفوة العباد ولا خلاصتهم ولا لبهم فلا يكون مصطفى، قالوا: ولأن الله سلَّم على المصطفين من عباده فقال: ﴿قُلِ الحَمْدُ للهِ وسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِين اصطفى﴾ [النمل: ٥٩]، وهذا يقتضي سلامتهم من كل شر وكل عذاب، والظالم لنفسه غير سالم من هذا ولا هذا فكيف يكون من المصطفين؟ قالوا: وأيضًا فطريقة القرآن أن الوعد المطلق بالثواب إنما يكون للمتقين لا للظالمين كقوله تعالى: ﴿تِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي نُورثُ مِن عِبادِنا مَن كانَ تَقِيًّا﴾ [مريم: ٦٣] فأين الظالم لنفسه هنا؟ وقوله تعالى: ﴿أذَلِكَ خَيْرٌ أمْ جَنَّةُ الخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ المُتَّقون﴾ [الفرقان: ١٥]، وقوله تعالى: ﴿وَسارِعُوا إلى مَغْفِرةٍ مِن رَبِّكم وجَنَّةٍ عَرْضُها السَّمَواتُ والأرْضُ أُعدَّت لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: ١٣٢]، وقوله: ﴿إنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازًا حَدائِقَ وأعْنابًا وكَواعِبَ أتْرابًا وكَأْسًا دِهاقًا لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْوًا ولا كِذّابًا جَزاءً مِن رَبِّكَ عَطاءً حِسابًا﴾ [النبأ: ٣١-٣٦]. والقرآن مملوءٌ من هذا، ولم يجئ فيه موضع واحد بإطلاق الوعد بالثواب للظالم لنفسه أصلًا قالوا: وأيضًا فلم يجئ في القرآن ذكر الظالم لنفسه إلا في معرض الوعيد لا الوعد، كقوله تعالى: ﴿إنَّ المُجْرِمِينَ في عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهم وهم فِيهِ مُبْلِسُونَ وما ظَلَمْناهم ولَكِنْ كانُوا هُمُ الظّالِمِين﴾ [الزخرف: ٧٤-٧٦]، وقوله: ﴿فَقالُوا رَبَّنا بِاعِدْ بَيْنَ أسْفارنا وظَلَمُوا أنْفُسَهم فَجَعْلْناهم أحادِيثَ ومزقْناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ [سبأ: ٩٩]، وقوله: ﴿وَما ظَلَمْناهم ولَكِن كانُوا أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾ [النحل: ١١٨] وقوله لا ينال عهدى الظالمين وقوله: أن الله لا يظلم الناس شيئًا ولكن الناس أنفسهم يظلمون] قالوا: وأيضًا فالظالم لنفسه هو الذي خفت موازينه ورجحت سيئاته، والقرآن كله يدل على خسارته وأنه غير ناج كقوله تعالى: ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ومَن خَفّتْ مَوازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الّذِينَ خَسِرُواْ أنْفُسَهُم بِما كانُواْ بِآياتِنا يِظْلِمُونَ﴾ [الأعراف: ٨-٩] وقوله: ﴿وأمّا مَن خَفَّتْ مَوازِينُهُ فأُمُّهُ هاوِيَةٌ﴾ [القارعة: ٨-٩]، فكيف يذكر وعده بجناته وكرامته للظالمين أنفسهم الخفيفة موازينهم؟ قالوا: وأيضًا فقوله تعالى: ﴿جَنّاتُ عَدْنٍ﴾ [يدخلونها] مرفوع لأنه بدل من قوله: ﴿ذَلِكَ هو الفَضْلُ الكَبِيرُ وهو بدل نكرة من معرفة كقوله: {لَنَسْفَعًا بِالنّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ﴾ [العلق: ١٥-١٦]، وحسن وقوعه [مجيء النكرة موصوفة لتخصيصها بالوصف وقربها من المعرفة ومعلوم أن المبدل منه هو] "الفضل الكبير" مختص بالسابقين بالخيرات، والمعنى أن سبقهم بالخيرات بإذنه ذلك هو الفضل الكبير وهو جنات عدن يدخلونها، وجعل السبق بالخيرات نفس الجنات لأنه سببها وموجبها. قالوا: وأيضًا فإنه وصف حليتهم فيها بأنها أساور من ذهب ولؤلؤ، وهذه جنات السابقين لا جنات المقتصدين، فإن جنات الفردوس أربع كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداءُ الكبرياءِ على وجهه في جنة عدن". ومعلوم أن الجنتين الذهبيتين أعلى وأفضل من الفضيتين فإذا كانت الجنتان الذهبيتان للظالمين لأنفسهم، فمن يسكن الجنتين الفضتين؟ فعلم أن هذه الجنات المذكورة لا تتناول الظالمين لأنفسهم قالوا: وأيضًا فإن أقرب المذكورات إلى ضمير الداخلين هم السابقون بالخيرات فوجب اختصاصهم بالدخول إلى الجنات المذكورات. قالوا: وفي اختصاصهم - بعد ذكر الأقسام - بذكر ثوابهم والسكوت عن الآخرين ما هو معلوم من طريقة القرآن إذ يصرح بذكر ثواب الأبرار والمتقين والمخلصين [والمحسنين ومن رجحت حسناتهم ويذكر عقاب الكفار] والفجار والظالمين لأنفسهم ومن خفت موازينهم، ويسكت عن القسم الذي فيه شائبتان وله مادتان هذه طريقة القرآن كقوله تعالى: ﴿إنَّ الأبْرارَ لَفي نَعِيمٍ وإنَّ الفُجّارَ لَفي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار: ١٣-١٤]، وقوله: ﴿فأمّا مَن طَغى وآثر الحَياةَ الدُّنْيا فَإنَّ الجَحِيمِ هِى المَأْوى وأمّا مَن خافَ مَقامَ رَبِّهِ ونَهى النَّفْسَ عَنِ الهَوى فَإنَّ الجَنَّةَ هِى المَأْوى﴾ [النازعات: ٣٧-٤١]. وهذا كثير في القرآن قالوا: وفي السكوت عن شأْن صاحب الشائبتين تحذير عظيم وتخويف له بأن أمره مرجأٌ إلى الله وليس عليه ضمان ولا له عنده وعد، وليحذر كل الحذر وليبادر بالتوبة، النصوح التي تلحقه فالمضمون لهم النجاة والفلاح. قالوا: وأيضًا فمن المحال أن يقع على أحد من المصطفين اسم الظلم مطلقًا، على الكافر، كما قال تعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا أنفِقُوا مِمّا رَزَقْناكم مِن قَبْل أن يَأْتِي يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ ولا خُلَّةٌ ولا شَفاعَةٌ والكافِرُونَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ [البقرة:٢٥٤]، وقال تعالى: ﴿والظّالِمُونَ ما لَهم مِن ولِي ولا نَصِيرٍ﴾ [الشورى: ٨] مع قوله: ﴿اللهُ ولِي الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: ٢٥٧] والظالم لا ولي له ولا يكون من المؤمنين. قالوا: وأيضًا فمن تدبر الآيات وتأمل سياقها وجدها قد استوعبت جميع أقسام الخلق، ودلت على مراتبهم في الجزاءِ، فذكر سبحانه أن الناس نوعان: ظالم، ومحسن. ثم قسم المحسن إلى قسمين: مقتصد، وسابق، ثم ذكر جزاء المحسن، فلما فرغ منه ذكر جزاءَ الظالم فقال: ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا لَهم نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا ولا يُخَفَّفُ عَنْهم مِن عَذابِها كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ﴾ [فاطر: ٣٦]، وقال تعالى: ﴿وَمَن يَقُلْ مِنهم إنِّي إلَهٌ مِن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الظّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٢٩] فذكر أنواع العباد وجزاءَهم قالوا: وأيضًا فهذه طريقة القرآن في ذكر أصناف الخلق الثلاثة كما ذكرهم الله تعالى في سورة الواقعة والمطففين وسورة الإنسان، فأما سورة الواقعة فذكرهم في أولها وفي آخرها فقال في أولها: ﴿وَكُنتُمْ أزْواجًا ثَلاثَةً فأصْحابُ المَيْمَنَةِ ما أصْحابُ المَيْمَنَةِ وأصْحابُ المَشْأمَةِ ما أصْحابُ المَشْأمَةِ والسّابِقُونَ السّابِقُونَ أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ في جَنّاتِ النَّعِيم﴾ [الواقعة: ٧-١٢]، فأصحاب المشأمة هم الظالمون. وأما أصحاب اليمين فقسمان: أبرار وهم أصحاب الميمنة، وسابقون وهم المقربون، وفي آخرها: ﴿فَأمّا إن كانَ مِن المُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ ورَيْحانٌ وجَنَّةُ نَعِيمٍ وأمّا إن كانَ مِن أصْحابِ اليَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِن أصْحابِ اليَمِينِ وأمّا إن كانَ مِن المُكَذَّبِينَ الضّالِّينَ فنُزُلٌ مِن حَمِيمِ وتَصْلِيةُ جَحِيمٍ﴾ [الواقعة: ٨٨-٩٤]، فذكر حالهم في القيامة الكبرى في أول السورة، ثم ذكر حالهم في القيامة الصغرى في البرزخ في آخر السورة، ولهذا قدم قبله ذكر الموت ومفارقة الروح فقال: ﴿فَلَوْلا إذا بَلَغَتِ الحُلْقُوم وأنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ونَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ مِنكم ولَكِن لا تُبْصِرُونَ فَلَوْلا إن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونها إن كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ [الواقعة: ٨٣-٨٧] ثُمَ قال: ﴿فأمّا إن كانَ مِن المُقَرَّبِين﴾ [الواقعة: ٨٨] إلى آخرها. وأما في أولها فذكر أقسام الخلق عقب قوله: ﴿إذا وقَعَتِ الواقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ خافِضَةٌ رافِعَةٌ إذا رُجَّتِ الأرْضُ رَجًّا وبُسَّتِ الجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنبَثًا وكُنتُمْ أزْواجًا ثَلاثَةً﴾ [الواقعة: ١-٧]، وأما سورة الإنسان فقال تعالى: ﴿إنّا أعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وأغْلالًا وسَعِيرًا﴾ [الإنسان: ٤] فهؤلاء الظالمون أصحاب المشأمة قال: ﴿إنَّ الأبْرارَ يَشْرَبَون مِن كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُورًا﴾ [الإنسان: ٥]، فهؤلاء المقتصدون أصحاب اليمين، ثم قال: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفْجِّرُونَها تَفْجِيرًا﴾ [الإنسان:٦]، فهؤلاء المقربون السابقون، ولهذا خصهم بالإضافة إليه وأخبر أنهم يشربون بتلك العين صرفًا محضًا وأنها تمزج للأبرار مزجًا كما قال في سورة المطففين في شراب الأبرار: ﴿وَمِزاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِها المُقَرَّبُونَ﴾ [المطففين:٢٧-٢٨] وقال: يشرب "بها" المقربون، ولم يقل: "منها" إشعارًا بأن شربهم بالعين نفسها خالصة لا بها وبغيرها فضمن "يشرب" معنى يروى، فعدّى بالباءَ، وهذا ألطف مأْخذًا وأحسن معنى من أن يجعل الباء بمعنى من، [ولكن] يضمن يشرب الفعل معنى فعل آخر، فيتعدى تعديته، وهذه طريقة الحذاق من النحاة وهي طريقة سيبويه وأئمة أصحابه، وقال في الأبرار: ﴿يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُورًا﴾ [الإنسان: ٥]، لأن شرب المقربين لما كان أكمل استعير له الباءُ الدالة على شرب الرى بالعين خالصة ودلالة القرآن ألطف وأبلغ من أن يحيط بها البَشر. وقال تعالى في سورة المطففين: ﴿كَلا إنَّ كِتابَ الفُجّارِ لَفي سِجِّينٍ وما أدْراكَ ما سِجِّينٌ كِتابٌ مَرْقُومٌ﴾ إلى قوله: ﴿كَلا إنَّهم عَن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إنَّهم لَصالُوا الجَحِيمِ ثُمَّ يُقالُ هَذا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ [المطففين: ٧-١٧]، [فهؤلاء الظالمون أصحاب الشمال] ثم قال: ﴿كَلا إنَّ كِتابَ الأبْرارِ لَفي عِلِيِّينَ َما أدراك ما عِلِّيُّونَ﴾ [المطففين: ١٨-١٩]، فهؤلاء الأبرارِ المقتصدون، وأخبر أن المقربين يشهدون كتابهم - أي يكتب بحضرتهم ومشهدهم - لا يغيبون عنه، اعتناءً به وإظهارًا لكرامة صاحبه ومنزلته عند ربه. ثم ذكر سبحانه نعيم الأبرار ومجالستهم ونظرهم إلى ربهم وظهور نضرة النعيم في وجوههم، ثم ذكر شرابهم فقال: ﴿يُسْقَوْنَ مِن رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ وفي ذَلِكَ فَلْيَتَنافَسِ المُتَنافِسُونَ﴾ [المطففين: ٢٥-٢٦]، ثم قال: ﴿وَمِزاجُهُ مِن تَسنيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِها المُقَرَّبُونَ﴾ [المطففين: ٢٧-٢٨]، [التسنيم] أعلى أشربه الجنة، فأخبر سبحانه أن مزاج شراب الأبرار من التسنيم، وأن المقربين يشربون منه بلا مزاج، ولهذا قال: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِها المُقَرَّبون﴾ [المطففين: ٢٨]، كما قال تعالى في سورة الإنسان سواءً، قال ابن عباس وغيره: يشرب بها المقربون صرفًا، ويمزج لأصحاب اليمين مزجًا. وهذا لأن الجزاءَ وفاق العمل، فكما خلصت أعمال المقربين كلها لله خلص شرابهم، وكما مزج الأبرار الطاعات بالمباحات مزج لهم شرابهم، فمن أخلص أخلص شرابه ومن مزج مزج شرابه. ؎يا لاهيًا في غمرة الجهل والهوي ∗∗∗ صريعًا على فرش الردى يتقلب ؎تأمل - هداك الله - ما [ثم] وانتبه ∗∗∗ فهذا شراب القوم حقًا يركَّب ؎وتركيبه في هذه الدار إن تفت ∗∗∗ فليس له بعد المنية مطلب ؎فيا عجبًا من معرض عن حياته ∗∗∗ وعن حظه العالي ويلهو ويلعب ؎ولو علم المحروم أي بضاعة ∗∗∗ أضاع لأمسى قلبه يتلهب ؎فإن كان لا يدرى فتلك مصيبة ∗∗∗ وإن كان يدرى فالمصيبة أصعب ؎بلي سوف يدرى حين ينكشف الغطا ∗∗∗ ويصبح مسلوبًا ينوح ويندب ؎ويعجب ممن باع شيئًا بدون ما ∗∗∗ يساوى بلا علم وأمرك أعجب ؎لأنك قد بعت الحياة وطيبها ∗∗∗ بلذة حلم عن قليل سيذهب ؎فهلا عكست الأمر إن كنت حازمًا ∗∗∗ ولكن أضعت الحزم والحكم يغلب ؎تصدُّ وتنأى عن حبيبك دائمًا ∗∗∗ فأين عن الأحباب ويحك تذهب ؎ستعلم يوم الحشر أي تجارة ∗∗∗ أضعت إذا تلك الموازين تنصب قالوا: فهكذا هذه الآيات التي في سورة الملائكة ذكر فيها الأقسام الثلاثة: الظالم لنفسه وهو من أصحاب الشمال، وذكر المقتصد وهو من أصحاب اليمين، وذكر السابقين وهم المقربون. قالوا: وليس في الآية ما يدل على اختصاص الكتاب بالقرآن والمصطفين بهذه الأمة، بل الكتاب اسم جنس للكتب التي أنزلها على رسله، فإنه أورثها المصطفين من عباده من كل أمة، والأنبياء هم الذين أورثوه أولا ثم أورثوه المصطفين من عباده من كل أمة، والأنبياء هم الذين أورثوه أولا ثم أورثوه المصطفين من أممهم بعدهم، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى الهُدى وأوْرَثْنا بَنِي إسْرائيلَ الكِتاب هُدىً وذِكْرى لأُولِي الألْبابِ﴾ فأخبر أنه إنما يكون هدى وذكرى لمن له لب عقل به الكتاب وعمل بما فيه، والعامل بما فيه هو الذي أورثه الله علمه. وتأمل قوله تعالى: ﴿وَإنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الكِتابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفي شَكٍّ مِنهُ مُرِيبٍ﴾ [الشورى: ١٤]، كيف حذف الفاعل هنا وبنى الفعل للمفعول لما كان في معرض الذم لهم ونفي العلم عنهم، ولما كان في سياق ذكر نعمه وآلائه ومنته عليهم قال: ﴿وَأوْرَثْنا بَنِي إسْرائيلَ الكِتابَ﴾، ونظير هذه الآية: ﴿ثُمَّ أوْرَثْنا الكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِن عِبادِنا﴾ [فاطر: ٣٢]، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ورِثُوا الكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذا الأدْنى ويَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وإنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ﴾ [الاعراف: ١٩٦]، وأنه لما كان الكلام في سياق ذمهم على إتباعهم شهواتهم وإيثارهم العرض الفاني على حظهم من الآخرة وتماديهم في ذلك لم ينسب التوريث إليه، بل نسبه إلى المحل فقال: أورثوا الكتاب ولم يقل: أورثناهم الكتاب وقد ذكرت نظير هذا قوله: ﴿أوْرَثْنا الكِتابَ﴾ أنه للمدح، وأورثوا الكتاب إما في سياق الذم، وإما منقسم في كتاب " التحفة المكية " الكلية. والمقصود أن الذين أورثهم الكتاب هم المصطفون من عباده أولا وآخرا قالوا: وقوله تعالى: ﴿فَمِنهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ لا يرجع إلى المصطفين، بل إما أن يكون الكلام قد تم عند قوله: ﴿مِن عِبادِنا﴾ ثم استأنف جملة أخرى وذكر فيها أقسام العباد وأن منهم ظالم ومنهم مقتصد ومنهم سابق. ويكون الكلام جملتين مستقلتين: بين في إحداهما أنه أورث كتابه من اصطفاه من عباده، وبين في الأخرى أن من عباده ظالما ومقتصدا وسابقا، وإما أن يكون المعنى تقسيم المرسل إليهم بالنسبة إلى قبول الكتاب وأن منهم من لم يقبله وهو الظالم لنفسه، ومنهم من قبله مقتصدا فيه، ومنهم من قبله سابقا بالخيرات بإذن الله، قالوا: والذي يدل على هذا الوجه أنه سبحانه ذكر إرساله في كل أمة نذيرا ممن تقدم هذه الأمة فقال: ﴿وَإنْ مِن أُمَّةٍ إلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ﴾ [فاطر: ٢٤]، ثم ذكر أن رسلهم جاءتهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المبين، الآيات الدالة على صدقهم وصحة رسالاتهم، والزبر: الكتاب، واحدها زبور بمعنى مزبور أي مكتوب، الكتاب المنير: من باب عطف الخاص على العام لتميزه عن المسمى العام بفضله وشرفه امتاز بها واختص بها عن غيره، وهو كعطف جبريل وميكائيل على الملائكة، وكعطف أولى العزم على النبيين من قوله: ﴿وَإذْ أخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهم ومِنكَ ومِن نُوحٍ وإبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ [الأحراب: ٧] والكتاب المنير هاهنا: التوراة والإنجيل. ثم ذكر إهلاك المكذبين لكتابه ورسله فقال: ﴿ثُمَّ أخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ﴾ [فاطر: ٢٦]، ثم ذكر التالين لكتابه وهم المتبعون له العالمون بشرائعه: فقال: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وأقامُوا الصَّلاةَ وأنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهم سِرًّا وعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ لِيُوَفِّيَهم أُجُورَهم ويَزِيدَهم مِن فَضْلِهِ إنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ [فاطر: ٢٩-٣٠]. ثم ذكر الكتاب الذي خص به خاتم أنبيائه ورسله محمد ﷺ فقال: ﴿والَّذِي أوْحَيْنا إلَيْكَ مِنَ الكِتابِ هو الحَقُّ مُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ [فاطر: ٣١]. ثم ذكر سبحانه من أورثهم الكتاب بعد أولئك وأنه اصطفاهم لتوريث كتابه إذ رده المكذبون لو يقبلوا توريثه. قالوا: وأما قولكم: إن الاصطفاء افتعال من الصفوة وهي الخيار وهي إنما تكون في السعداء، فهذا بعينه حجة لنا في أن الظالم لنفسه ليس ممن اصطفاه الله من عباده وقد تقدم تقريره. قالوا: وأما الآثار التي رويتموها عن النبي ﷺ في ذلك فكلها ضعيفة الأسانيد ومنقطعة لا تثبت، كيف وهي معارضة بآثار مثلها أو أقوى منها، قال ابن مردويه في " تفسيره ": حدثنا الحسن بن عبد الله، حدثنا صالح بن أحمد، حدثنا أحمد بن محمد بن المعلي الآدمي، حدثنا حفص بن عمار، حدثنا مبارك ابن فضالة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ في قوله تعالى: ﴿فَمِنهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ [فاطر: ٣٢]، قال: الكافر، قالوا: وأما النصوص الدالة على أن أهل التوحيد يدخلون الجنة فصحيحة لا ننازعكم فيها، غير أنها مطلقة، ولكن لها شروط وموانع، كما أن النصوص الدالة على عذاب أهل الكبائر صحيحة متواترة، ولها شروط وموانع يتوقف لحوق الوعيد عليها، فكذلك نصوص الوعد يتوقف مقتضاها على شروطها وانتفاء موانعها. قالوا: وأما قولكم إن ظلم النفس إنما يراد به ظلمها بالذنوب والمعاصي دون الكفر فليس بصحيح، فقد ذكر في القرآن ما يدل على أن ظلم النفس يكون بالكفر والشرك، ولو لم يكن في هذا إلا قول موسى لقومه: ﴿يا قَوْمِ إنَّكم ظَلَمْتُمْ أنْفُسَكم بِاتِّخاذِكُمُ العِجْلَ﴾ [البقرة: ٥٤]، وقوله عز وجل: ﴿وَظَلَمُوا أنْفُسَهم فَجَعَلْناهم أحادِيثَ ومَزَّقْناهم كُلَّ مُمَزَّق﴾ [سبأ: ١٩] ونظائره كثيرة. قالت الطائفة الأولى: لو تدبرتم القرآن حق تدبره وأعطيتم الآيات حقها من الفهم وراعيتم وجوه الدلالة وسياق الكلام، لعلمتم أن الصواب معنا وأن هذه الأقسام الثلاثة من الأقسام التي خلقت للجنة وهم درجات عند الله وأن هذا التقسيم الذي دلت عليه أخص من التقسيم المذكور في سورة الواقعة والإنسان والمطففين، فإن ذلك تقسيم للناس إلى شقي وسعيد، وتقسيم السعداء إلى أبرار ومقربين، وتلك القسمة خالية عن ذكر العاصي الظالم لنفسه، وأما هذه الآيات ففيها تقسيم الأمة إلى محسن ومسيئ، فالمسيئ هو الظالم لنفسه، والمحسن نوعنان مقتصد وسابق بالخيرات، فإن الوجود شامل لهذا القسم، بل هو أغلب أقسام الأمة فكيف يخلو القرآن عن ذكره وبيان حكمه، ثم لما استوفى أقسام الأمة ذكر الخارجين عنهم وهم الذين كفروا فعمت الآية أقسام الخلق كلهم، وعلى ما ذهبتم إليه تكون الآية قد أهملت ذكر القسم الأغلب الأكثر وكررت ذكر حكم الكافر أولا وآخرا. ولا ريب أن ما ذكرناه أولى لبيان هذا القسم وعموم الفائدة، وأيضا فإن قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أوْرَثْنا الكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِن عِبادِنا﴾ [فاطر: ٣٢] صريح في أن الذين أورثهم الكتاب هم المصطفون من عباده، وقوله عز وجل: ﴿فَمِنهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ [فاطر: ٣٢] إما أن يرجع إلى الذين اصطفاهم، وإما أن يرجع إلى العباد، ورجوعه إلى الذين اصطفاهم لوجهين: أحدهما أن قوله تعالى: ﴿وَمِنهم مُقْتَصِدٌ ومِنهم سابِقٌ﴾ [فاطر: ٣٢]، إنما يرجع إلى المصطفين لا إلى العباد لأن سياق الآية والإتيان بالفاء والتقسيم المذكور كله يدل على أن المراد بيان أقسام الوارثين للكتاب لا بيان أقسام العبد، إذ لو أراد ذلك لأتى بلفظ يزيل الوهم ولا يلتبس به المراد بغيره، وكأن وجه الكلام الذي يدل عليه ظاهره. الثاني: أنك إذا قلت: أعطيت مالي البالغين من أولادي فمنهم تاجر ومنهم خازن ومنهم مبذر ومسرف، هل يفهم من هذا أحد قط أن هذا التقسيم لجملة أولاده، بل لا يفهم منه إلا أن أولاده كانوا في أخذهم المال أقساما ثلاثة، ولهذا أتي فيها بالفاء الدالة على تفصيل ما أجمله أولا كما إذا قلت: خذ هذا المال فأعط فلانا كذا وأعط فلانا كذا، ونظائره متعددة، ولا وجه للإتيان بالفاء هاهنا إلا تفصيل المذكور أولا، لا تفصيل المسكوت عنه والآية قد سكتت عن تفصيل العباد الذين اصطفى منهم من أورثه الكتاب، فالتفصيل للمذكور ليس إلا، فتأمله فإنه واضح. قالوا: وأما قولكم إن الله لا يصطفي من عباده ظالما لنفسه لأن الاصطفاء هو الاختيار من الشيء صفوته وخياره إلى آخر ما ذكرتم فجوابه أن كون العبد المصطفى لله ووليا لله ومحبوبا لله ونحو ذلك من الأسماء الدالة على شرف منزلة العبد وتقريب الله له لا ينافي ظلم العبد نفسه أحيانا بالذنوب والمعاصي بل أبلغ من ذلك أن صديقيته لا تنافي ظلمه لنفسه، ولهذا قال صديق الأمة وخيارها للنبي ﷺ: علمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال: "قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم". وقد قال تعالى: ﴿وَسارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِن رَبِّكم وجَنَّةٍ عَرْضُها السَّماواتُ والأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ في السَّرّاءِ والضَّرّاءِ والكاظِمِينَ الغَيْظَ والعافِينَ عَنِ النّاسِ واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ والَّذِينَ إذا فَعَلُوا فاحِشَةً أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم ذَكَرُوا اللَّهَ فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٣٣-١٣٥]. فأخبر سبحانه عن صفات المتقين وأنهم يقع منهم ظلم النفس والفاحشة لكن لا يصرون على ذلك، وقال تعالى: ﴿والَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ لَهم ما يَشاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزاءُ المُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهم أسْوَأ الَّذِي عَمِلُوا ويَجْزِيَهم أجْرَهم بِأحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الزمر: ٣٣-٣٥] فهؤلاء الصديقون المتقون قد أخبر سبحانه أن لهم أعمالا سيئة يكفرها، ولا ريب أنها ظلم للنفس وقال موسى: ﴿رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إنَّهُ هو الغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [القصص: ١٦]، وقال آدم عليه السلام: ﴿قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أنْفُسَنا وإنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسِرِينَ﴾ [الأعراف: ٢٣]، وقال يونس عليه السلام: ﴿لا إلَهَ إلاَّ أنْتَ سُبْحانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٧]، وقال تعالى: ﴿إنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ إلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النمل: ١١]. وإذا كان ظلم النفس لا ينافي الصديقية والولاية، ولا يخرج العبد عن كونه من المتقين، بل يجتمع فيه الأمران يكون وليا لله صديقا متقيا وهو مسيئ ظالم لنفسه، علم أن ظلمه لنفسه لا يخرجه عن كونه من الذين اصطفاهم الله من عباده وأورثهم كتابه، إذ هو مصطفى من جهة كونه من ورثة الكتاب علما وعملا، ظالم لنفسه من جهة تفريطه في بعض ما أمر به وتعديه بعض ما نهي عنه، كما يكون الرجل وليا لله محبوبا له من جهة ومبغوضا له من جهة أخرى، وهذا عبد الله حمار كان يكثر شرب الخمر والله يبغضه من هذه الجهة، ويحب الله ورسوله ويحبه الله ويواليه من هذه الجهة، ولهذا نهى النبي ﷺ عن لعنه وقال: إنه يحب الله ورسوله ونكتة المسألة أن الاصطفاء والولاية والصديقية وكون الرجل من الأبرار ومن المتقين ونحو ذلك كلها مراتب تقبل التجزيء والانقسام والكمال والنقصان كما هو ثابت باتفاق المسلمين في أصل الإيمان، وعلى هذا فيكون هذا القسم مصطفى من وجه ظالما لنفسه من وجه آخر. وظلم النفس نوعان: نوع لا يبقى معه شيء من الإيمان والولاية والصديقية والاصطفاء وهو ظلمها بالشرك والكفر، ونوع يبقى معه حظه من الإيمان والاصطفاء والولاية وهو ظلمها بالمعاصي، وهو درجات متفاوتة في القدر والوصف. فهذا التفصيل يكشف قناع المسألة ويزيل أشكالها بحمد الله. قالوا: وأما قولكم: إن قوله تعالى: ﴿جَنّاتِ عَدْنٍ﴾ مرفوع لأنه بدل من قوله: ﴿ذَلِكَ هو الفَضْلُ الكَبِيرُ﴾ [فاطر: ٣٢] وهو مختص بالسابقين، وذكر حليتهم فيها من أساور من ذهب يدل على ذلك إلخ. فجوابه من وجهين: أحدهما أن هذا بعينه وارد عليكم، فإن المقتصد من أهل الجنات، ومعلوم أن جنات السابقين بالخيرات أعلى وأفضل من جناته، فما كان جوابكم عن المقتصد فهو الجواب بعينه عن الظالم لنفسه، فإن التفاوت حاصل بين جنات الأصناف الثلاثة، ويختص كل صنف بما يليق بهم ويقتضيه مقامهم وعملهم. الجواب الثاني: أنه سبحانه ذكر جزاء السابقين بالخيرات هنا مشوقا لعباده إليه منبها لهم على مقداره وشرفه، وسكت عن جزاء الظالمين لأنفسهم والمقتصدين ليحذر الظالمون ويجد المقتصدون، وذكر في سورة الإنسان جزاء الأبرار منبها على ما هو أعلى وأجل منه وهو جزاء المقربين السابقين ليدل على أن هذا إذا كان جزاء الأبرار المقتصدين فما الظن بجزاء المقربين السابقين فقال تعالى: ﴿إنَّ الأبْرارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُورًا﴾ إلى قوله: ﴿وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِن فِضَّةٍ وأكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرا قَوارِيرَ مِن فِضَّةٍ﴾ إلى قوله: ﴿عالِيَهم ثِيابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وإسْتَبْرَقٌ وحُلُّوا أساوِرَ مِن فِضَّةٍ وسَقاهم رَبُّهم شَرابًا طَهُورًا﴾ [الإنسان: ٥-٢١]، فذكر هنا الأساور من الفضة والأكواب من الفضة في جزاء الأبرار، وذكر في سورة الملائكة الأساور من الذهب في جزاء السابقين بالخيرات، فعلم جزاء المقتصدين من سورة الإنسان، وعلم جزاء السابقين من سورة الملائكة، فانتظمت السورتان جزاء المقربين على أتم الوجوه، والله أعلم بأسرار كلامه وحكمه. قالوا: وهذا هو الجواب عن قولكم: إن الضمير يختص به أقرب مذكور إليه. قالوا: وأما قولكم إن الظالم لنفسه إنما هو الكافر فقد تقدم جوابه وذكر ما يبطله. قالوا: وأما قولكم: إن هذا الآيات نظير آيات الواقعة وسورة الإنسان وسورة المطففين في تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام: أصحاب الشمال، وأصحاب اليمين، والمقربون. فلا ريب أن هذه الآية وافية بالأقسام الثلاثة مع مزيد تقسيم آخر وهو تقسيم أصحاب اليمين إلى ظالم لنفسه ومقتصد فهي مشتملة على تلك الأقسام وزيادة. قالوا: وأما قولكم: إن الآثار الدالة على أن الأصناف الثلاثة هم السعداء أهل الجنة ضعيفة لا تقوم بها حجة فجوابه: إنها قد بلغت في الكثرة إلى حد يشد بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض، ونحن نسوق م نها آثارا غير ما ذكرناه يعلم به كثرتها وتعدد طرقها، فروى ابن مردويه في تفسيره من حديث سفيان عن الأعمش عن رجل عن أبي ثابت أن رجلا دخل المسجد فقال: اللهم ارحم غربتي وآنس وحشتي وسق لي جليسا صالحا. فقال أبو الدرداء: إن كنت صادقا لأنا أسعد بذلك منك، سمعت رسول الله ﷺ قرأ هذه الآية: ﴿ثُمَّ أوْرَثْنا الكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِن عِبادِنا فَمِنهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ومِنهم مُقْتَصِدٌ ومِنهم سابِقٌ بِالخَيْراتِ﴾ [فاطر: ٣٢]، مقال: أما السابق بالخيرات فيدخله الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم والحزن ثم يدخل الجنة ثم قرأ هذه الآية: ﴿الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور﴾ [فاطر: ٣٤]. وقد ذكرنا فيما تقدم حديث أبي ليلى عن أخيه عيسى عن أبيه عن أسامة بن زيد في قوله تعالى: ﴿فَمِنهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ومِنهم مُقْتَصِدٌ﴾ قال: قال: رسول الله ﷺ "كلهم من هذه الأمة". وروى ابن مردويه أيضا من حديث الفضل بن عميرة القيسي عن ميمون بن سياه عن أبي عثمان النهدي قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول على المنبر: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "سابقنا سابق ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له"، وقرأ عمر: ﴿فَمِنهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ومِنهم مُقْتَصِدٌ ومِنهم سابِقٌ بِالخَيْراتِ﴾. وروى أيضا من حديث أبي داود عن شعبة عن الوليد بن العيراز قال: سمعت رجلا من ثقيف يحدث عن رجل من كنانة عن أبي سعيد أن النبي ﷺ قال في هذه الآية: ﴿ثُمَّ أوْرَثْنا الكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِن عِبادِنا﴾، قال "كلهم في الجنة"، أو قال: "كلهم بمنزلة واحدة". قال شعبة: أحدهما، ورواه دواد بن إبراهيم عن شعبة به وقالوا: دخلوا الجنة كلهم بمنزلة واحدة. فهذا حديث صحيح إلى شعبة وإذا كان شعبة في حديث لم يطرح، بل شد يديك به. ورواه يحيى بن سعيد عن الوليد بن العيزار فذكره بمثله، وروى محمد بن سعد عن أبيه عن عمه: حدثنا أبي عن أبيه عن ابن عباس في قوله عز وجل: ﴿ثُمَّ أوْرَثْنا الكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِن عِبادِنا﴾ الآية، قال: جعل الله أهل الإيمان على ثلاث منازل كقوله: ﴿وَأصْحابُ الشِّمالِ ما أصْحابُ الشِّمالِ﴾ ﴿وَأصْحابُ اليَمِينِ ما أصْحابُ اليَمِينِ﴾، ﴿والسّابِقُونَ السّابِقُونَ أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ﴾ فهم على هذا المثال. قلت: يريد ابن عباس أن الله قسم أصحاب اليمين إلى ثلاث منازل كما قسم الخلق في الواقعة إلى ثلاث منازل، فإن أصحاب الشمال المذكورين في الواقعة هم الكفار المنكرون للبعث، فكيف تكون هذه منزلة من منازل أهل الإيمان؟ ويجوز أن يريد أن الظالمين لأنفسهم المستحقين للعذاب هم من أهل الشمال، ولكن إيمانهم يجعلهم آخرا من أهل اليمين. وروي من حديث معاوية بن صالح عن علي بن أبي (طلحة) عن ابن عباس في هذه الآية فقال: هم أمة محمد ﷺ ورثهم الله (سبحانه) كل كتاب أنزله، فظالمهم يغفر له، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب. وروي من حديث عثمان بن أبي شيبة حدثنا الحسن بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدثنا عمران بن محمد بن أبي ليلى، حدثنا أبي عن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب - أو عن رجل عن البراء بن عازب - قال: قال رسول الله ﷺ: ﴿فَمِنهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ومِنهم مُقْتَصِدٌ ومِنهم سابِقٌ بِالخَيْراتِ بِإذْنِ اللَّهِ﴾، قال: "كلهم ناج وهي هذه الأمة". ورواه الفريابي حدثنا سفيان عن أبي ليلى عن الحكم عن رجل حدثه عن البراء قال: قال رسول الله ﷺ في هذه الآية: ﴿ثُمَّ أوْرَثْنا الكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِن عِبادِنا﴾ الآية، قال "كل ناج". وقال آدم بن أبي إياس: حدثنا أبو فضالة عن الأزهري عبد الله الخزاز، حدثنا من سمع عثمان بن عفان يقول: ألا إن سابقنا أهل جهادنا، ألا وإن مقتصدنا أهل حضرنا ألا وإن ظالمنا أهل بدونا، وقد تقدم حديث عائشة وأبي الدرداء وحذيفة. قالوا: فهذه الآثار يشد بعضها بعضا، وأنها قد تعددت طرقها واختلفت مخارجها وسياق الآية يشهد لها بالصحة فلا يعدل عنها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب