الباحث القرآني
* [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ غَيْرَةُ المُرِيدِ]
قالَ: الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ: غَيْرَةُ المُرِيدِ. وهي غَيْرَةٌ عَلى وقْتٍ فاتَ.
وَهِيَ غَيْرَةٌ قاتِلَةٌ. فَإنَّ الوَقْتَ وحِيُّ التَّقَضِّي. أبِيُّ الجانِبِ، بَطِيُّ الرُّجُوعِ.
و" المُرِيدُونَ " هم أرْبابُ الأحْوالِ، و" العُبّادُ " أرْبابُ الأوْرادِ والعِباداتِ. وكُلُّ مُرِيدٍ عابِدٌ. وكُلُّ عابِدٍ مُرِيدٌ. لَكِنَّ القَوْمَ خَصُّوا أهْلَ المَحَبَّةِ وأذْواقِ حَقائِقِ الإيمانِ باسْمِ " المُرِيدِ " وخَصُّوا أصْحابَ العَمَلِ المُجَرَّدِ بِاسْمِ " العابِدِ " وكُلُّ مُرِيدٍ لا يَكُونُ عابِدًا فَزِنْدِيقٌ، وكُلُّ عابِدٍ لا يَكُونُ مُرِيدًا فَمُراءٍ.
و" الوَقْتُ " عِنْدَ العابِدِ: هو وقْتُ العِبادَةِ والأوْرادِ. وعِنْدَ المُرِيدِ: هو وقْتُ الإقْبالِ عَلى اللَّهِ، والجَمْعِيَّةِ عَلَيْهِ، والعُكُوفِ عَلَيْهِ بِالقَلْبِ كُلِّهِ.
و" الوَقْتُ " أعَزُّ شَيْءٍ عَلَيْهِ، يَغارُ عَلَيْهِ أنْ يَنْقَضِيَ بِدُونِ ذَلِكَ. فَإذا فاتَهُ الوَقْتُ لا يُمْكِنُهُ اسْتِدْراكُهُ ألْبَتَّةَ. لِأنَّ الوَقْتَ الثّانِيَ قَدِ اسْتَحَقَّ واجِبَهُ الخاصَّ، فَإذا فاتَهُ وقْتٌ فَلا سَبِيلَ لَهُ إلى تَدارُكِهِ.
كَما في المُسْنَدِ مَرْفُوعًا «مَن أفْطَرَ يَوْمًا مِن رَمَضانَ، مُتَعَمِّدًا مِن غَيْرِ عُذْرٍ: لَمْ يَقْضِهِ عَنْهُ صِيامُ الدَّهْرِ، وإنْ صامَهُ».
وَقَوْلُهُ " وهي غَيْرَةٌ قاتِلَةٌ " يَعْنِي: مُضِرَّةً ضَرَرًا شَدِيدًا بَيِّنًا يُشْبِهُ القَتْلَ، لِأنَّ حَسْرَةَ الفَوْتِ قاتِلَةٌ. ولا سِيَّما إذا عَلِمَ المُتَحَسِّرُ: أنَّهُ لا سَبِيلَ لَهُ إلى الِاسْتِدْراكِ.
وَأيْضًا. فالغَيْرَةُ عَلى التَّفْوِيتِ تَفْوِيتٌ آخَرُ، كَما يُقالُ: الِاشْتِغالُ بِالنَّدَمِ عَلى الوَقْتِ الفائِتِ تَضْيِيعٌ لِلْوَقْتِ الحاضِرِ. ولِذَلِكَ يُقالُ: الوَقْتُ سَيْفٌ. إنْ لَمْ تَقْطَعْهُ، وإلّا قَطَعَكَ.
ثُمَّ بَيَّنَ الشَّيْخُ السَّبَبَ في كَوْنِ هَذِهِ الغَيْرَةِ قاتِلَةً. فَقالَ:
" فَإنَّ الوَقْتَ وحِيُّ التَّقَضِّي " أيْ سَرِيعُ الِانْقِضاءِ، كَما تَقُولُ العَرَبُ الوَحا الوَحا، العَجَلَ العَجَلَ، والوَحْيُ الإعْلامُ في خَفاءٍ وسُرْعَةٍ. ويُقالُ: جاءَ فُلانٌ وحْيًا أيْ مَجِيئًا سَرِيعًا.
فالوَقْتُ مُنْقَضٍ بِذاتِهِ، مُنْصَرِمٌ بِنَفْسِهِ. فَمَن غَفَلَ عَنْ نَفْسِهِ تَصَرَّمَتْ أوْقاتُهُ، وعَظُمَ فَواتُهُ. واشْتَدَّتْ حَسَراتُهُ. فَكَيْفَ حالُهُ إذا عَلِمَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الفَوْتِ مِقْدارَ ما أضاعَ. وطَلَبَ الرُّجْعى فَحِيلَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الِاسْتِرْجاعِ وطَلَبِ تَناوُلِ الفائِتِ.
وَكَيْفَ يُرَدُّ الأمْسُ في اليَوْمِ الجَدِيدِ؟ ﴿وَأنّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِن مَكانٍ بَعِيدٍ﴾ [سبأ: ٥٢] ومُنِعَ مِمّا يُحِبُّهُ ويَرْتَضِيهِ، وعَلِمَ أنَّ ما اقْتَناهُ لَيْسَ مِمّا يَنْبَغِي لِلْعاقِلِ أنْ يَقْتَنِيَهُ، وحِيلَ بَيْنَهُ وبَيْنَ ما يَشْتَهِيهِ.
؎فَيا حَسَراتِ ما إلى رَدِّ مِثْلِهِ ∗∗∗ سَبِيلٌ ولَوْ رُدَّتْ لَهانَ التَّحَسُّرُ
؎هِيَ الشَّهَواتُ اللّاءِ كانَتْ تَحَوَّلَتْ ∗∗∗ إلى حَسَراتٍ حِينَ عَزَّ التَّصَبُّرُ
؎فَلَوْ أنَّها رُدَّتْ بِصَبْرٍ وقُوَّةٍ ∗∗∗ تَحَوَّلْنَ لَذّاتٍ وذُو اللُّبِّ يُبْصِرُ
وَيُقالُ: إنَّ أصْعَبَ الأحْوالِ المُنْقَطِعَةِ: انْقِطاعُ الأنْفاسِ. فَإنَّ أرْبابَها إذا صَعِدَ النَّفَسُ الواحِدُ صَعَّدُوهُ إلى نَحْوِ مَحْبُوبِهِمْ، صاعِدًا إلَيْهِ، مُتَلَبِّسًا بِمَحَبَّتِهِ والشَّوْقِ إلَيْهِ. فَإذا أرادُوا دَفْعَهُ لَمْ يَدْفَعُوهُ حَتّى يُتْبِعُوهُ نَفَسًا آخَرَ مِثْلَهُ. فَكُلُّ أنْفاسِهِمْ بِاللَّهِ. وإلى اللَّهِ، مُتَلَبِّسَةً بِمَحَبَّتِهِ والشَّوْقِ إلَيْهِ والأُنْسِ بِهِ. فَلا يَفُوتُهم نَفَسٌ مِن أنْفاسِهِمْ مَعَ اللَّهِ إلّا إذا غَلَبَهُمُ النَّوْمُ. وكَثِيرٌ مِنهم يَرى في نَوْمِهِ: أنَّهُ كَذَلِكَ لِالتِباسِ رُوحِهِ وقَلْبِهِ. فَيَحْفَظُ عَلَيْهِ أوْقاتَ نَوْمِهِ ويَقَظَتِهِ. ولا تُسْتَنْكَرُ هَذِهِ الحالُ. فَإنَّ المَحَبَّةَ إذا غَلَبَتْ عَلى القَلْبِ ومَلَكَتْهُ: أوْجَبَتْ لَهُ ذَلِكَ لا مَحالَةَ.
والمَقْصُودُ: أنَّ الوارِداتِ سَرِيعَةُ الزَّوالِ. تَمُرُّ أسْرَعَ مِنَ السَّحابِ، ويَنْقَضِي الوَقْتُ بِما فِيهِ. فَلا يَعُودُ عَلَيْكَ مِنهُ إلّا أثَرُهُ وحُكْمُهُ. فاخْتَرْ لِنَفْسِكَ ما يَعُودُ عَلَيْكَ مِن وقْتِكَ. فَإنَّهُ عائِدٌ عَلَيْكَ لا مَحالَةَ. لِهَذا يُقالُ لِلسُّعَداءِ ﴿كُلُوا واشْرَبُوا هَنِيئًا بِما أسْلَفْتُمْ في الأيّامِ الخالِيَةِ﴾ [الحاقة: ٢٤] ويُقالُ لِلْأشْقِياءِ ﴿ذَلِكم بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ﴾ [غافر: ٧٥].
{"ayahs_start":51,"ayahs":["وَلَوۡ تَرَىٰۤ إِذۡ فَزِعُوا۟ فَلَا فَوۡتَ وَأُخِذُوا۟ مِن مَّكَانࣲ قَرِیبࣲ","وَقَالُوۤا۟ ءَامَنَّا بِهِۦ وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِۭ بَعِیدࣲ","وَقَدۡ كَفَرُوا۟ بِهِۦ مِن قَبۡلُۖ وَیَقۡذِفُونَ بِٱلۡغَیۡبِ مِن مَّكَانِۭ بَعِیدࣲ","وَحِیلَ بَیۡنَهُمۡ وَبَیۡنَ مَا یَشۡتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشۡیَاعِهِم مِّن قَبۡلُۚ إِنَّهُمۡ كَانُوا۟ فِی شَكࣲّ مُّرِیبِۭ"],"ayah":"وَقَدۡ كَفَرُوا۟ بِهِۦ مِن قَبۡلُۖ وَیَقۡذِفُونَ بِٱلۡغَیۡبِ مِن مَّكَانِۭ بَعِیدࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق