الباحث القرآني

* (فائدة) وأما تقديم الغفور على الرحيم فهو أولى بالطبع لأن المغفرة سلامة والرحمة غنيمة والسلامة تطلب قبل الغنيمة وفي الحديث أن النبي قال: لعمرو بن العاص " أبعثك وجها يسلمك الله فيه ويغنمك وأرغب لك رغبة من المال " (صحيح) فهذا من الترتيب البديع بدأ بالسلامة قبل الغنيمة وبالغنيمة قبل الكسب. وأما قوله: ﴿وَهُوَ الرَّحِيمُ الغَفُورُ﴾ فالرحمة هناك متقدمة على المغفرة فإما بالفضل والكمال وإما بالطبع لأنها منتظمة بذكر أصناف الخلق من المكلفين وغيرهم من الحيوان فالرحمة تشملهم والمغفرة تخصهم والعموم بالطبع قبل الخصوص. * (فصل) وأما تقديم الرحيم على الغفور في موضع واحد وهو أول سبأ، ففيه معنى غير ما ذكره [السهيلي] يظهر لمن تأمل سياق أوصافه العلى وأسمائه الحسنى في أول السورة إلى قوله ﴿وهو الرحيم الغفور﴾ فإنه ابتدأ سبحانه السورة بحمده الذي هو أعم المعارف وأوسع العلوم وهو متضمن لجميع صفات كماله ونعوت جلاله مستلزم لها كما هو متضمن لحكمته في جميع أفعاله وأوامره فهو المحمود على كل حال وعلى كل ما خلقه وشرعه ثم عقب هذا الحمد بملكه الواسع المديد فقال: ﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ﴾ ثم عقبه بأن هذا الحمد ثابت له في الآخرة غير منقطع أبدا فإنه حمد يستحقه لذاته وكمال أوصافه وما يستحقه لذاته دائم بدوامه لا يزول أبدا، وقرن بين الملك والحمد على عاداته تعالى في كلامه فإن اقتران أحدهما بالآخر له كمال زائد على الكمال بكل واحد منهما، فله كمال من ملكه وكمال من حمده وكمال من اقتران أحدهما بالآخر فإن الملك بلا حمد يستلزم نقصا والحمد بلا ملك يستلزم عجزا، والحمد مع الملك غاية الكمال، ونظير هذا العزة والرحمة والعفو والقدرة والغنى والكرم فوسط الملك بين الجملتين فجعله محفوفا بحمد قبله وحمد بعده، ثم عقب هذا الحمد والملك باسم (الحكيم الخبير) الدالين على كمال الإرادة، وأنها لا تتعلق بمراد إلا لحكمة بالغة، وعلى كمال العلم وأنه كما يتعلق بظواهر المعلومات فهو متعلق ببواطنها التي لا تدرك إلا بخبره، فنسبة الحكمة إلى الإرادة كنسبة الخبرة إلى العلم، فالمراد ظاهر، والحكمة باطنة والعلم ظاهر والخبرة باطنة، فكمال الإرادة أن تكون واقعة على وجه الحكمة، وكمال العلم أن يكون كاشفا عن الخبرة، فالخبرة باطن العلم وكماله والحكمة باطن الإرادة وكمالها. فتضمنت الآية إثبات حمده وملكه وحكمته وعلمه على أكمل الوجوه. ثم ذكر تفاصيل علمه بما ظهر وما بطن في العالم العلوي والسفلي فقال: ﴿يَعْلَمُ ما يَلِجُ في الأرْضِ وما يَخْرُجُ مِنها وما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وما يَعْرُجُ فِيها﴾ ثم ختم الآية بصفتين تقتضيان غاية الإحسان إلى خلقه وهما الرحمة والمغفرة فيجلب لهم الإحسان والنفع على أتم الوجوه برحمته، ويعفو عن زلتهم ويهب لهم ذنوبهم ولا يؤاخذهم بها بمغفرته فقال: ﴿وَهُوَ الرَّحِيمُ الغَفُورُ﴾ فتضمنت هذه الآية سعة علمه ورحمته وحكمه ومغفرته، وهو سبحانه يقرن بين سعة العلم والرحمة كما يقرن بين العلم والحلم فمن الأول قوله: ﴿رَبَّنا وسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وعِلْمًا﴾ ومن الثاني: ﴿واللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ فما قرن شيء إلى شيء أحسن من حلم إلى علم ومن رحمة إلى علم وحملة العرش أربعة اثنان يقولان سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لك الحمد على حلمك بعد علمك واثنان يقولان سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لك الحمد على عفوك بعد قدرتك فاقتران العفو بالقدرة كاقتران الحلم والرحمة بالعلم لأن العفو إنما يحسن عند القدرة وكذلك الحلم والرحمة إنما يحسنان مع العلم، وقدم (الرحيم) في هذا الموضع لتقدم صفة العلم، فحسن ذكر (الرحيم) بعده ليقترن به فيطابق قوله ﴿ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما﴾. ثم ختم الآية بذكر صفة المغفرة لتضمنها دفع الشر، وتضمن ما قبلها جلب الخير. ولما كان دفع الشر مقدما على جلب الخير قدم اسم الغفور على الرحيم حيث وقع، ولما كان في هذا الموضع تعارض يقتضي تقديم اسمه الرحيم لأجل ما قبله قدم على الغفور. (فائدة: في إفراد السماء وجمعها) قوله تعالى: ﴿وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِن مِثْقالِ ذَرَّةٍ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ﴾ [يونس: ٦١] بخلاف قوله في سبأ: ﴿عالِمِ الغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ في السَّماواتِ ولا في الأرْضِ﴾ فإن قبلها ذكر سبحانه سعة ملكه ومحله وهو السماوات كلها والأرض، ولما لم يكن في سورة يونس ما يقتضي ذلك أفردها إرادة للجنس.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب