الباحث القرآني

* [فَصْلٌ قُوَّةُ الإيمانِ والعِلْمِ الَّتِي يُسامَحُ صاحِبُها بِما لا يُسامَحُ بِهِ غَيْرُهُ] فَإنْ قِيلَ: قَدْ ذَكَرْتُمْ أنَّ المُحِبَّ يُسامَحُ بِما لا يُسامَحُ بِهِ غَيْرُهُ، ويُعْفى لِلْوَلِيِّ عَمّا لا يُعْفى لِسِواهُ، وكَذَلِكَ العالِمُ أيْضًا، يُغْفَرُ لَهُ ما لا يُغْفَرُ لِلْجاهِلِ، كَما رَوى الطَّبَرانِيُّ بِإسْنادٍ جَيِّدٍ - مَرْفُوعًا إلى النَّبِيِّ ﷺ: «إنَّ اللَّهَ - سُبْحانَهُ - إذا جَمَعَ النّاسَ يَوْمَ القِيامَةِ في صَعِيدٍ واحِدٍ، قالَ لِلْعُلَماءِ: إنِّي كُنْتُ أُعْبَدُ بِفَتْواكُمْ، وقَدْ عَلِمْتُ أنَّكم كُنْتُمْ تَخْلِطُونَ كَما يَخْلِطُ النّاسُ، وإنِّي لَمْ أضَعْ عِلْمِي فِيكم وأنا أُرِيدُ أنْ أُعَذِّبَكُمُ، اذْهَبُوا فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»، هَذا مَعْنى الحَدِيثِ، وقَدْ رُوِيَ مُسْنَدًا ومُرْسَلًا. فَهَذا الَّذِي ذَكَرْتُمْ صَحِيحٌ، وهو مُقْتَضى الحِكْمَةِ والجُودِ والإحْسانِ، ولَكِنْ ماذا تَصْنَعُونَ بِالعُقُوبَةِ المُضاعَفَةِ الَّتِي ورَدَ التَّهْدِيدُ بِها في حَقِّ أُولَئِكَ إنْ وقَعَ مِنهم ما يُكْرَهُ؟ كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿يانِساءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَها العَذابُ ضِعْفَيْنِ﴾ [الأحزاب: ٣٠] وَقَوْلِهِ تَعالى ﴿وَلَوْلا أنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا - إذًا لَأذَقْناكَ ضِعْفَ الحَياةِ وضِعْفَ المَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيرًا﴾ [الإسراء: ٧٤-٧٥] أيْ لَوْلا تَثْبِيتُنا لَكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ بَعْضَ الشَّيْءِ، ولَوْ فَعَلْتَ لَأذَقْناكَ ضِعْفَ عَذابِ الحَياةِ وضِعْفَ عَذابِ المَماتِ، أيْ ضاعَفْنا لَكَ العَذابَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وقالَ تَعالى ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأقاوِيلِ - لَأخَذْنا مِنهُ بِاليَمِينِ - ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنهُ الوَتِينَ﴾ [الحاقة: ٤٤-٤٦] أيْ لَوْ أتى بِشَيْءٍ مِن عِنْدِ نَفْسِهِ لَأخَذْنا مِنهُ بِيَمِينِهِ، وقَطَعْنا نِياطَ قَلْبِهِ وأهْلَكْناهُ، وقَدْ أعاذَهُ اللَّهُ مِنَ الرُّكُونِ إلى أعْدائِهِ بِذَرَّةٍ مِن قَلْبِهِ، ومِنَ التَّقَوُّلِ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ، وكَمْ مِن راكِنٍ إلى أعْدائِهِ ومُتَقَوِّلٍ عَلَيْهِ مِن قِبَلِ نَفْسِهِ قَدْ أمْهَلَهُ ولَمْ يَعْبَأْ بِهِ، كَأرْبابِ البِدَعِ كُلِّهِمْ، المُتَقَوِّلِينَ عَلى أسْمائِهِ وصِفاتِهِ ودِينِهِ. وَما ذَكَرْتُمْ في قِصَّةِ يُونُسَ هو مِن هَذا البابِ، فَإنَّهُ لَمْ يُسامَحْ بِغَضْبَةٍ، وسُجِنَ لِأجْلِها في بَطْنِ الحُوتِ، ويَكْفِي حالُ أبِي البَشَرِ حَيْثُ لَمْ يُسامَحُ بِلُقْمَةٍ، وكانَتْ سَبَبَ إخْراجِهِ مِنَ الجَنَّةِ. فالجَوابُ أنَّ هَذا أيْضًا حَقٌّ، ولا تَنافِيَ بَيْنَ الأمْرَيْنِ، فَإنَّ مَن كَمُلَتْ عَلَيْهِ نِعْمَةُ اللَّهِ، واخْتَصَّهُ مِنها بِما لَمْ يَخْتَصَّ بِهِ غَيْرَهُ في إعْطائِهِ مِنها ما حُرِمَهُ غَيْرُهُ، فَحُبِيَ بِالإنْعامِ، وخُصَّ بِالإكْرامِ، وخُصَّ بِمَزِيدِ التَّقْرِيبِ، وجُعِلَ في مَنزِلَةِ الوَلِيِّ الحَبِيبِ، اقْتَضَتْ حالُهُ مِن حِفْظِ مَرْتَبَةِ الوِلايَةِ والقُرْبِ والِاخْتِصاصِ بِأنْ يُراعِيَ مَرْتَبَتَهُ مِن أدْنى مُشَوِّشٍ وقاطِعٍ، فَلِشِدَّةِ الِاعْتِناءِ بِهِ، ومَزِيدِ تَقْرِيبِهِ، واتِّخاذِهِ لِنَفْسِهِ، واصْطِفائِهِ عَلى غَيْرِهِ، تَكُونُ حُقُوقُ ولِيِّهِ وسَيِّدِهِ عَلَيْهِ أتَمَّ، ونِعَمُهُ عَلَيْهِ أكْمَلَ، والمَطْلُوبُ مِنهُ فَوْقَ المَطْلُوبِ مِن غَيْرِهِ، فَهو إذا غَفَلَ وأخَلَّ بِمُقْتَضى مَرْتَبَتِهِ نُبِّهَ بِما لَمْ يُنَبَّهْ عَلَيْهِ البَعِيدُ البَرّانِيُّ، مَعَ كَوْنِهِ يُسامَحُ بِما لَمْ يُسامَحْ بِهِ ذَلِكَ أيْضًا، فَيَجْتَمِعُ في حَقِّهِ الأمْرانِ. وَإذا أرَدْتَ مَعْرِفَةَ اجْتِماعِهِما، وعَدَمِ تَناقُضِهِما، فالواقِعُ شاهِدٌ بِهِ، فَإنَّ المَلِكَ يُسامِحُ خاصَّتَهُ وأوْلِياءَهُ بِما لَمْ يُسامِحْ بِهِ مَن لَيْسَ في مَنزِلَتِهِمْ، ويَأْخُذُهُمْ، ويُؤَدِّبُهم بِما لَمْ يَأْخُذْ بِهِ غَيْرَهُمْ، وقَدْ ذَكَرْنا شَواهِدَ هَذا وهَذا، ولا تَناقُضَ بَيْنَ الأمْرَيْنِ. وَأنْتَ إذا كانَ لَكَ عَبْدانِ، أوْ ولَدانِ، أوْ زَوْجَتانِ، أحَدُهُما أحَبُّ إلَيْكَ مِنَ الآخَرِ، وأقْرَبُ إلى قَلْبِكَ، وأعَزُّ عَلَيْكَ عامَلْتَهُ بِهَذَيْنِ الأمْرَيْنِ، واجْتَمَعَ في حَقِّهِ المُعامَلَتانِ بِحَسَبِ قُرْبِهِ مِنكَ، وحُبِّكَ لَهُ، وعِزَّتِهِ عَلَيْكَ، فَإذا نَظَرْتَ إلى كَمالِ إحْسانِكَ إلَيْهِ، وإتْمامِ نِعْمَتِكَ عَلَيْهِ اقْتَضَتْ مُعامَلَتُهُ بِما لا تُعامِلُ بِهِ مَن دُونَهُ، مِنَ التَّنْبِيهِ وعَدَمِ الإهْمالِ، وإذا نَظَرْتَ إلى إحْسانِهِ ومَحَبَّتِهِ لَكَ، وطاعَتِهِ وخِدْمَتِهِ، وكَمالِ عُبُودِيَّتِهِ ونُصْحِهِ وهَبْتَ لَهُ وسامَحْتَهُ، وعَفَوْتَ عَنْهُ، بِما لا تَفْعَلُهُ مَعَ غَيْرِهِ، فالمُعامَلَتانِ بِحَسَبِ ما مِنكَ وما مِنهُ. وَقَدْ ظَهَرَ اعْتِبارُ هَذا المَعْنى في الشَّرْعِ، حَيْثُ جَعَلَ حَدَّ مَن أنْعَمَ عَلَيْهِ بِالتَّزَوُّجِ إذا تَعَدّاهُ إلى الزِّنا الرَّجْمَ، وحَدَّ مَن لَمْ يُعْطِهِ هَذِهِ النِّعْمَةَ الجَلْدَ، وكَذَلِكَ ضاعَفَ الحَدَّ عَلى الحُرِّ الَّذِي قَدْ مَلَّكَهُ نَفْسَهُ، وأتَمَّ عَلَيْهِ نِعْمَتَهُ، ولَمْ يَجْعَلْهُ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ، وجَعَلَ حَدَّ العَبْدِ المَنقُوصِ بِالرِّقِّ، الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذِهِ النِّعْمَةُ نِصْفَ ذَلِكَ. فَسُبْحانَ مَن بَهَرَتْ حِكْمَتُهُ في خَلْقِهِ وأمْرِهِ وجَزائِهِ عُقُولَ العالَمِينَ، وشَهِدَتْ بِأنَّهُ أحْكَمُ الحاكِمِينَ. ؎لِلَّهِ سِرٌّ تَحْتَ كُلِّ لَطِيفَةٍ ∗∗∗ فَأخُو البَصائِرِ غائِصٌ يَتَمَلَّقُ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب