الباحث القرآني
* (فائدة)
الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنت، أو لا يؤمن، بل يستمر على السيئات والكفر، ولابد من امتحان هذا وهذا.
فأما من قال: آمنت فلا بد أن يمتحنه الرب ويبتليه، ليتبين: هل هو صادق في قوله، آمنت، أو كاذب؟ فإن كان كاذبا رجع على عقبيه، وفر من الامتحان، كما يفر من عذاب الله، وإن كان صادقا ثبت على قوله، ولم يزده الابتلاء والامتحان إلا إيمانا على إيمانه.
قال تعالى ﴿وَلَمّا رَأى المُؤْمِنُونَ الأحْزابَ قالُوا هذا ما وعَدَنا اللهُ ورَسُولُه وصَدَقَ اللهُ ورَسُولهُ وما زادَهم إلا إيمانًا وتَسْلِيِمًا﴾ [الأحزاب: ٢٢].
وأما من لم يؤمن، فإنه يمتحن في الآخرة بالعذاب، ويفتن به، وهي أعظم المحنتين، هذا إن سلم من امتحانه بعذاب الدنيا ومصائبها، وعقوبتها التي أوقعها الله بمن لم يتبع رسله وعصاهم، فلا بد من المحنة في هذه الدار وفي البرزخ، وفي القيامة لكل أحد، ولكن المؤمن أخف محنة وأسهل بلية. فإن الله يدفع عنه بالإيمان، ويحمل عنه به ويرزقه من الصبر والثبات والرضى والتسليم ما يهون به عليه محنته.
وأما الكافر والمنافق والفاجر، فتشتد محنته وبليته وتدوم، فمحنة المؤمن خفيفة منقطعة، ومحنة الكافر والمنافق والفاجر شديدة متصلة.
فلا بد من حصول الألم والمحنة لكل نفس آمنت أو كفرت، لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء، ثم تكون له عاقبة الدنيا والآخرة، والكافر والمنافق والفاجر، تحصل له اللذة والنعيم ابتداء، ثم يصير إلى الألم، فلا يطمع أحد أن يخلص من المحبة والألم ألبتة.
* (فصل: في ذكر ريح الجنة ومن مسيرة كم ينشق)
قال الطبراني حدثنا موسى بن حازم الأصبهاني حدثنا محمد بن بكير الحضرمي حدثنا مروان بن معاوية الفزاري عن الحسن بن عمرو عن مجاهد عن جنادة بن أبي أمية عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ قال:
"من قتل قتيلا من أهل الذمة لم يرح رائحة الجنة وأن ريحها ليوجد من مسيرة مائة عام"
ورواه البخاري في الصحيح عن قيس بن حفص عن عبد الواحد بن زياد عن الحسن ابن عمرو الفقيمي عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو ولم يذكر بينهما جنادة وقال ليوجد من مسيرة أربعين عاما
وقال الترمذي حدثنا محمد بن بشار حدثنا معدي ابن سليمان هو البصري عن ابن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال:
"ألا من قتل نفسا معاهدا له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يراح رائحة الجنة وأن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفا "
قال: وفي الباب عن أبي بكرة وحديث أبي هريرة حديث حسن صحيح قال محمد بن عبد الواحد وإسناده عندي على شرط الصحيح قلت وقد رواه الطبراني من حديث عيسى بن يونس عن عوف الأعرابي عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة يرفعه من قتل نفسا معاهدة بغير حقها لم يرح رائحة الجنة وإن ريح الجنة يوجد من مسيرة مائة عام
وقال الطبراني: حدثنا إسحق بن إبراهيم عن عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن أو غيره عن أبي بكرة قال: سمعت رسول الله يقول:
"ريح الجنة يوجد من مسيرة مائة عام"
وهذه الألفاظ لا تعارض بينهما بوجه.
وقد أخرجا في الصحيحين من حديث أنس قال لم يشهد عمي مع رسول الله بدرا قال فشق عليه
قال أول مشهد شهده رسول الله غبت عنه قال فإني أراني الله مشهدا فيما بعد مع رسول الله ليرين الله ما أصنع قال فهاب أن يقول غيرها قال فشهد مع رسول الله يوم أحد قال فاستقبل سعد بن معاذ فقال له أين فقال: واها لريح الجنة أجده دون أحد قال: فقاتلهم حتى قتل قال فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية فقالت أخته عمة الربيع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه ونزلت هذه الآية ﴿مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾
قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه
وريح الجنة نوعان: ريح يوجد في الدنيا تشمه الأرواح أحيانا لا تدركه العباد وريح يدرك بحاسة الشم للأبدان كما يشم روائح الأزهار وغيرها وهذا يشترك أهل الجنة في إدراكه في الآخرة من قرب وبعد وأما في الدنيا فقد يدركه من شاء الله من أنبيائه ورسله وهذا الذي وجده أنس بن النضر يجوز أن يكون من هذا القسم وأن يكون من الأول والله أعلم
وقال أبو نعيم: حدثنا محمد بن معمر حدثنا محمد بن أحمد المؤذن حدثنا عبد الواحد بن غياث أنبأنا الربيع بن بدر حدثنا هارون بن رياب عن مجاهد عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: "إن رائحة الجنة توجد من مسيرة خمس مائة عام"
وقال الطبراني حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا محمد بن احمد بن محمد بن طريف حدثنا أبي حدثنا محمد بن كثير حدثني جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد بن علي عن جابر قال قال رسول الله ﷺ: " ريح الجنة يوجد من مسيرة ألف عام والله لا يجدها عاق ولا قاطع رحم" وقال أبو داود الطيالسي في مسنده: حدثنا شعبة عن الحكم عن مجاهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي ﷺ قال:
"من ادعى إلى غير أبيه لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمس مائة عام وقد أشهد الله سبحانه عباده في هذه الدار آثارا من آثار الجنة وأنموذجا منها من الرائحة الطيبة واللذات المشتهاة والمناظر البهية والفاكهة الحسنة والنعيم والسرور وقرة العين"
* [فَصْلٌ: في غَزْوَةِ الخَنْدَقِ]
وَكانَتْ في سَنَةِ خَمْسٍ مِنَ الهِجْرَةِ في شَوّالٍ عَلى أصَحِّ القَوْلَيْنِ إذْ لا خِلافَ أنَّ أُحُدًا كانَتْ في شَوّالٍ سَنَةَ ثَلاثٍ، وواعَدَ المُشْرِكُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في العامِ المُقْبِلِ، وهو سَنَةُ أرْبَعٍ، ثُمَّ أخْلَفُوهُ لِأجْلِ جَدْبِ تِلْكَ السّنَةِ، فَرَجَعُوا، فَلَمّا كانَتْ سَنَةُ خَمْسٍ جاءُوا لِحَرْبِهِ هَذا قَوْلُ أهْلِ السِّيَرِ والمَغازِي.
وَخالَفَهم مُوسى بْنُ عُقْبَةَ، وقالَ بَلْ كانَتْ سَنَةَ أرْبَعٍ. قالَ أبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ: وهَذا هو الصَّحِيحُ الَّذِي لا شَكَّ فِيهِ، واحْتُجَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ في " الصَّحِيحَيْنِ " أنَّهُ عُرِضَ عَلى النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ أُحُدٍ، وهو ابْنُ أرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَلَمْ يُجِزْهُ، ثُمَّ عُرِضَ عَلَيْهِ يَوْمَ الخَنْدَقِ، وهو ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأجازَهُ.
قالَ: فَصَحّ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُما إلّا سَنَةٌ واحِدَةٌ.
وَأُجِيبَ عَنْ هَذا بِجَوابَيْنِ، أحَدُهُما: أنَّ ابْنَ عُمَرَ أخْبَرَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَدَّهُ لَمّا اسْتَصْغَرَهُ عَنِ القِتالِ، وأجازَهُ لَمّا وصَلَ إلى السِّنِّ الَّتِي رَآهُ فِيها مُطِيقًا، ولَيْسَ في هَذا ما يَنْفِي تَجاوُزَها بِسَنَةٍ أوْ نَحْوِها.
الثّانِي: أنَّهُ لَعَلَّهُ كانَ يَوْمَ أُحُدٍ في أوَّلِ الرّابِعَةَ عَشْرَةَ، ويَوْمَ الخَنْدَقِ في آخِرِ الخامِسَةِ عَشْرَةَ.
[سَبَبُ غَزْوَةِ الخَنْدَقِ]
وَكانَ سَبَبُ غَزْوَةِ الخَنْدَقِ أنَّ اليَهُودَ لَمّا رَأوُا انْتِصارَ المُشْرِكِينَ عَلى المُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، وعَلِمُوا بِمِيعادِ أبي سفيان لِغَزْوِ المُسْلِمِينَ، فَخَرَجَ لِذَلِكَ، ثُمَّ رَجَعَ لِلْعامِ المُقْبِلِ خَرَجَ أشْرافُهم كسلام بن أبي الحقيق، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع، وغَيْرِهِمْ إلى قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ يُحَرِّضُونَهم عَلى غَزْوِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
وَيُؤَلِّبُونَهم عَلَيْهِ، ووَعَدُوهم مِن أنْفُسِهِمْ بِالنَّصْرِ لَهُمْ، فَأجابَتْهم قُرَيْشٌ، ثُمَّ خَرَجُوا إلى غَطَفانَ، فَدَعَوْهُمْ، فاسْتَجابُوا لَهُمْ، ثُمَّ طافُوا في قَبائِلِ العَرَبِ يَدْعُونَهم إلى ذَلِكَ، فاسْتَجابَ لَهم مَنِ اسْتَجابَ، فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ وقائِدُهم أبو سفيان في أرْبَعَةِ آلافٍ، ووافَتْهم بَنُو سُلَيْمٍ بِمَرِّ الظَّهْرانِ، وخَرَجَتْ بَنُو أسَدٍ وفَزارَةُ وأشْجَعُ وبَنُو مُرَّةَ، وجاءَتْ غَطَفانُ وقائِدُهم عيينة بن حصن. وكانَ مَن وافى الخَنْدَقَ مِنَ الكُفّارِ عَشَرَةَ آلافٍ.
فَلَمّا سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَسِيرِهِمْ إلَيْهِ اسْتَشارَ الصَّحابَةَ، فَأشارَ عَلَيْهِ سَلْمانُ الفارِسِيُّ بِحَفْرِ خَنْدَقٍ يَحُولُ بَيْنَ العَدُوِّ وبَيْنَ المَدِينَةِ، فَأمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَبادَرَ إلَيْهِ المُسْلِمُونَ، وعَمِلَ بِنَفْسِهِ فِيهِ، وبادَرُوا هُجُومَ الكُفّارِ عَلَيْهِمْ، وكانَ في حَفْرِهِ مِن آياتِ نُبُوَّتِهِ، وأعْلامِ رِسالَتِهِ ما قَدْ تَواتَرَ الخَبَرُ بِهِ، وكانَ حَفْرُ الخَنْدَقِ أمامَ سَلْعٍ، وسَلْعٌ: جَبَلٌ خَلْفَ ظُهُورِ المُسْلِمِينَ، والخَنْدَقُ بَيْنَهم وبَيْنَ الكُفّارِ.
وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ في ثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، فَتَحَصَّنَ بِالجَبَلِ مِن خَلْفِهِ، وبِالخَنْدَقِ أمامَهم.
وَقالَ ابْنُ إسْحاقَ: خَرَجَ في سَبْعِمِائَةٍ، وهَذا غَلَطٌ مِن خُرُوجِهِ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَأمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِالنِّساءِ والذَّرارِي، فَجُعِلُوا في آطامِ المَدِينَةِ، واسْتَخْلَفَ عَلَيْها ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ.
وانْطَلَقَ حيي بن أخطب إلى بَنِي قُرَيْظَةَ فَدَنا مِن حِصْنِهِمْ، فَأبى كعب بن أسد أنْ يَفْتَحَ لَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُكَلِّمُهُ حَتّى فَتَحَ لَهُ، فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْهِ قالَ: لَقَدْ جِئْتُكَ بِعِزِّ الدَّهْرِ جِئْتُكَ بِقُرَيْشٍ وغَطَفانَ وأسَدٍ عَلى قادَتِها لِحَرْبِ مُحَمَّدٍ، قالَ كعب: جِئْتَنِي واللَّهِ بِذُلِّ الدَّهْرِ وبِجَهامٍ قَدْ هَراقَ ماؤُهُ، فَهو يَرْعُدُ ويَبْرُقُ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ.
فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتّى نَقَضَ العَهْدَ الَّذِي بَيْنَهُ وبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ودَخَلَ مَعَ المُشْرِكِينَ في مُحارَبَتِهِ، فَسُرَّ بِذَلِكَ المُشْرِكُونَ، وشَرَطَ كعب عَلى حيي أنَّهُ إنْ لَمْ يَظْفَرُوا بِمُحَمَّدٍ أنْ يَجِيءَ حَتّى يَدْخُلَ مَعَهُ في حِصْنِهِ، فَيُصِيبَهُ ما أصابَهُ، فَأجابَهُ إلى ذَلِكَ، ووَفّى لَهُ بِهِ.
وَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ خَبَرُ بَنِي قُرَيْظَةَ ونَقْضُهم لِلْعَهْدِ، فَبَعَثَ إلَيْهِمُ السَّعْدَيْنِ، وخَوّاتَ بْنَ جُبَيْرٍ، وعَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَواحَةَ لِيَعْرِفُوا: هَلْ هم عَلى عَهْدِهِمْ أوْ قَدْ نَقَضُوهُ؟ فَلَمّا دَنَوْا مِنهُمْ، فَوَجَدُوهم عَلى أخْبَثِ ما يَكُونُ، وجاهَرُوهم بِالسَّبِّ والعَداوَةِ، ونالُوا مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فانْصَرَفُوا عَنْهُمْ، ولَحَنُوا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَحْنًا يُخْبِرُونَهُ أنَّهم قَدْ نَقَضُوا العَهْدَ وغَدَرُوا، فَعَظُمَ ذَلِكَ عَلى المُسْلِمِينَ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عِنْدَ ذَلِكَ:
«اللَّهُ أكْبَرُ، أبْشِرُوا يا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ»
واشْتَدَّ البَلاءُ، ونَجَمَ النِّفاقُ، واسْتَأْذَنَ بَعْضُ بَنِي حارِثَةَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في الذِّهابِ إلى المَدِينَةِ، وقالُوا: ﴿إنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وما هي بِعَوْرَةٍ إنْ يُرِيدُونَ إلّا فِرارًا﴾ [الأحزاب: ١٣]
وَهَمَّ بَنُو سَلَمَةَ بِالفَشَلِ، ثُمَّ ثَبَّتَ اللَّهُ الطّائِفَتَيْنِ.
وَأقامَ المُشْرِكُونَ مُحاصِرِينَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ شَهْرًا، ولَمْ يَكُنْ بَيْنَهم قِتالٌ لِأجْلِ ما حالَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الخَنْدَقِ بَيْنَهم وبَيْنَ المُسْلِمِينَ، إلّا أنَّ فَوارِسَ مِن قُرَيْشٍ مِنهم عمرو بن عبد ود، وجَماعَةٌ مَعَهُ أقْبَلُوا نَحْوَ الخَنْدَقِ، فَلَمّا وقَفُوا عَلَيْهِ قالُوا: إنّ هَذِهِ مَكِيدَةٌ ما كانَتِ العَرَبُ تَعْرِفُها، ثُمَّ تَيَمَّمُوا مَكانًا ضَيِّقًا مِنَ الخَنْدَقِ، فاقْتَحَمُوهُ، وجالَتْ بِهِمْ خَيْلُهم في السَّبْخَةِ بَيْنَ الخَنْدَقِ وسَلْعٍ، ودَعَوْا إلى البِرازِ، فانْتُدِبَ لعمرو عَلِيٌّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَبارَزَهُ، فَقَتَلَهُ اللَّهُ عَلى يَدَيْهِ، وكانَ مِن شُجْعانِ المُشْرِكِينَ وأبْطالِهِمْ، وانْهَزَمَ الباقُونَ إلى أصْحابِهِمْ (وَكانَ شِعارُ المُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ " حم لا يُنْصَرُونَ).
وَلَمّا طالَتْ هَذِهِ الحالُ عَلى المُسْلِمِينَ أرادَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنْ يُصالِحَ عيينة بن حصن والحارث بن عوف رَئِيسَيْ غَطَفانَ عَلى ثُلُثِ ثِمارِ المَدِينَةِ، ويَنْصَرِفا بِقَوْمِهِما، وجَرَتِ المُراوَضَةُ عَلى ذَلِكَ، فاسْتَشارَ السَّعْدَيْنِ في ذَلِكَ، فَقالا: يا رَسُولَ اللَّهِ إنْ كانَ اللَّهُ أمَرَكَ بِهَذا فَسَمْعًا وطاعَةً، وإنْ كانَ شَيْئًا تَصْنَعُهُ لَنا فَلا حاجَةَ لَنا فِيهِ، لَقَدْ كُنّا نَحْنُ وهَؤُلاءِ القَوْمُ عَلى الشِّرْكِ بِاللَّهِ وعِبادَةِ الأوْثانِ، وهم لا يَطْمَعُونَ أنْ يَأْكُلُوا مِنها ثَمَرَةً إلّا قِرًى أوْ بَيْعًا، فَحِينَ أكْرَمَنا اللَّهُ بِالإسْلامِ، وهَدانا لَهُ، وأعَزَّنا بِكَ نُعْطِيهِمْ أمْوالَنا؟ واللَّهِ لا نُعْطِيهِمْ إلّا السَّيْفَ، فَصَوَّبَ رَأْيَهُما، وقالَ: «إنّما هو شَيْءٌ أصْنَعُهُ لَكم لَمّا رَأيْتُ العَرَبَ قَدْ رَمَتْكم عَنْ قَوْسٍ واحِدَةٍ».
ثُمّ إنّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ - ولَهُ الحَمْدُ - صَنَعَ أمْرًا مِن عِنْدِهِ خَذَلَ بِهِ العَدُوَّ، وهَزَمَ جُمُوعَهُمْ، وفَلَّ حَدَّهُمْ، فَكانَ مِمّا هَيَّأ مِن ذَلِكَ أنَّ رَجُلًا مِن غَطَفانَ يُقالُ لَهُ نعيم بن مسعود بن عامر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جاءَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي قَدْ أسْلَمْتُ، فَمُرْنِي بِما شِئْتُ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنّما أنْتَ رَجُلٌ واحِدٌ فَخَذِّلْ عَنّا ما اسْتَطَعْتَ فَإنَّ الحَرْبَ خُدْعَةٌ»، فَذَهَبَ مِن فَوْرِهِ ذَلِكَ إلى بَنِي قُرَيْظَةَ، وكانَ عَشِيرًا لَهم في الجاهِلِيّةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ وهم لا يَعْلَمُونَ بِإسْلامِهِ، فَقالَ: يا بَنِي قُرَيْظَةَ إنّكم قَدْ حارَبْتُمْ مُحَمَّدًا، وإنَّ قُرَيْشًا إنْ أصابُوا فُرْصَةً انْتَهَزُوها، وإلّا انْشَمَرُوا إلى بِلادِهِمْ راجِعِينَ وتَرَكُوكم ومُحَمَّدًا، فانْتَقَمَ مِنكُمْ، قالُوا: فَما العَمَلُ يا نعيم؟ قالَ: لا تُقاتِلُوا مَعَهم حَتّى يُعْطُوكم رَهائِنَ قالُوا: لَقَدْ أشَرْتَ بِالرَّأْيِ، ثُمَّ مَضى عَلى وجْهِهِ إلى قُرَيْشٍ، فَقالَ لَهُمْ: تَعْلَمُونَ وُدِّي لَكم ونُصْحِي لَكُمْ، قالُوا: نَعَمْ. قالَ: إنّ يَهُودَ قَدْ نَدِمُوا عَلى ما كانَ مِنهم مَن نَقْضِ عَهْدِ مُحَمَّدٍ وأصْحابِهِ، وإنَّهم قَدْ راسَلُوهُ أنَّهم يَأْخُذُونَ مِنكم رَهائِنَ يَدْفَعُونَها إلَيْهِ، ثُمَّ يُمالِئُونَهُ عَلَيْكُمْ، فَإنْ سَألُوكم رَهائِنَ فَلا تُعْطُوهُمْ، ثُمَّ ذَهَبَ إلى غَطَفانَ، فَقالَ لَهم مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمّا كانَ لَيْلَةُ السَّبْتِ مِن شَوّالٍ بَعَثُوا إلى اليَهُودِ: إنّا لَسْنا بِأرْضِ مُقامٍ، وقَدْ هَلَكَ الكُراعُ والخُفُّ، فانْهَضُوا بِنا حَتّى نُناجِزَ مُحَمَّدًا، فَأرْسَلَ إلَيْهِمُ اليَهُودُ: إنّ اليَوْمَ يَوْمُ السَّبْتِ، وقَدْ عَلِمْتُمْ ما أصابَ مَن قَبْلَنا حِينَ أحْدَثُوا فِيهِ، ومَعَ هَذا فَإنّا لا نُقاتِلُ مَعَكم حَتّى تَبْعَثُوا إلَيْنا رَهائِنَ.
فَلَمّا جاءَتْهم رُسُلُهم بِذَلِكَ قالَتْ قُرَيْشُ: صَدَقَكم واللَّهِ نعيم، فَبَعَثُوا إلى يَهُودَ، إنّا واللَّهِ لا نُرْسِلُ إلَيْكم أحَدًا، فاخْرُجُوا مَعَنا حَتّى نُناجِزَ مُحَمَّدًا، فَقالَتْ قُرَيْظَةُ: صَدَقَكم واللَّهِ نعيم، فَتَخاذَلَ الفَرِيقانِ، وأرْسَلَ اللَّهُ عَلى المُشْرِكِينَ جُنْدًا مِنَ الرِّيحِ، فَجَعَلَتْ تُقَوِّضُ خِيامَهُمْ، ولا تَدَعُ لَهم قِدْرًا إلّا كَفَأتْها، ولا طُنُبًا إلّا قَلَعَتْهُ، ولا يَقِرُّ لَهم قَرارٌ، وجُنْدُ اللَّهِ مِنَ المَلائِكَةِ يُزَلْزِلُونَهُمْ، ويُلْقُونَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ والخَوْفَ، وأرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمانِ يَأْتِيهِ بِخَبَرِهِمْ، فَوَجَدَهم عَلى هَذِهِ الحالِ، وقَدْ تَهَيَّئُوا لِلرَّحِيلِ، فَرَجَعَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأخْبَرَهُ بِرَحِيلِ القَوْمِ، فَأصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَدُوَّهُ بِغَيْظِهِ لَمْ يَنالُوا خَيْرًا، وكَفاهُ اللَّهُ قِتالَهُمْ، فَصَدَقَ وعْدَهُ، وأعَزَّ جُنْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَهُ، وهَزَمَ الأحْزابَ وحْدَهُ، فَدَخَلَ المَدِينَةَ، ووَضَعَ السِّلاحَ، فَجاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وهو يَغْتَسِلُ في بَيْتِ أم سلمة، فَقالَ: أوَضَعْتُمُ السِّلاحَ! إنّ المَلائِكَةَ لَمْ تَضَعْ بَعْدُ أسْلِحَتَها انْهَضْ إلى غَزْوَةِ هَؤُلاءِ يَعْنِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَنادى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«مَن كانَ سامِعًا مُطِيعًا، فَلا يُصَلِّيَنَّ العَصْرَ إلّا في بَنِي قُرَيْظَةَ»
فَخَرَجَ المُسْلِمُونَ سِراعًا، وكانَ مِن أمْرِهِ وأمْرِ بَنِي قُرَيْظَةَ ما قَدَّمْناهُ، واسْتُشْهِدَ يَوْمَ الخَنْدَقِ، ويَوْمَ قُرَيْظَةَ نَحْوُ عَشْرَةٍ مِنَ المُسْلِمِينَ.
* [فَصْلٌ: اغْتِيالُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ أبا رافِعٍ]
وَقَدْ قَدَّمْنا أنَّ أبا رافع كانَ مِمَّنْ ألَّبَ الأحْزابَ عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ولَمْ يُقْتَلْ مَعَ بَنِي قُرَيْظَةَ كَما قُتِلَ صاحِبُهُ حيي بن أخطب ورَغِبَتِ الخَزْرَجُ في قَتْلِهِ مُساواةً لِلْأوْسِ في قَتْلِ كعب بن الأشرف، وكانَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ وتَعالى - قَدْ جَعَلَ هَذَيْنَ الحَيَّيْنِ يَتَصاوَلانِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في الخَيْراتِ، فاسْتَأْذَنُوهُ في قَتْلِهِ، فَأذِنَ لَهُمْ، فانْتُدِبَ لَهُ رِجالٌ كُلُّهم مِن بَنِي سَلَمَةَ، وهم عبد الله بن عتيك، وهو أمِيرُ القَوْمِ، وعبد الله بن أنيس، وأبُو قَتادَةَ الحارِثُ بْنُ رَبْعِيٍّ، ومسعود بن سنان، وخزاعي بن أسود، فَسارُوا حَتّى أتَوْهُ في خَيْبَرَ في دارٍ لَهُ، فَنَزَلُوا عَلَيْهِ لَيْلًا، فَقَتَلُوهُ ورَجَعُوا إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وكُلُّهُمُ ادَّعى قَتْلَهُ، فَقالَ: «أرُونِي أسْيافَكُمْ، فَلَمّا أرَوْهُ إيّاها قالَ لِسَيْفِ عبد الله بن أنيس: هَذا الَّذِي قَتَلَهُ، أرى فِيهِ أثَرَ الطَّعامِ».
{"ayahs_start":25,"ayahs":["وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بِغَیۡظِهِمۡ لَمۡ یَنَالُوا۟ خَیۡرࣰاۚ وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ ٱلۡقِتَالَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِیًّا عَزِیزࣰا","وَأَنزَلَ ٱلَّذِینَ ظَـٰهَرُوهُم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ مِن صَیَاصِیهِمۡ وَقَذَفَ فِی قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعۡبَ فَرِیقࣰا تَقۡتُلُونَ وَتَأۡسِرُونَ فَرِیقࣰا","وَأَوۡرَثَكُمۡ أَرۡضَهُمۡ وَدِیَـٰرَهُمۡ وَأَمۡوَ ٰلَهُمۡ وَأَرۡضࣰا لَّمۡ تَطَـُٔوهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣰا"],"ayah":"وَأَوۡرَثَكُمۡ أَرۡضَهُمۡ وَدِیَـٰرَهُمۡ وَأَمۡوَ ٰلَهُمۡ وَأَرۡضࣰا لَّمۡ تَطَـُٔوهَاۚ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق