الباحث القرآني

الفارُّ يظن أنه بفراره يطول عمره، فيتمتع بالعيش، وقد أكذب الله سبحانه هذا الظن، حيث يقول: ﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الفِرارُ إن فَرَرْتُمْ مِنَ المَوْتِ أوِ القَتْلِ وإذْا لا تُمَتَّعُونَ إلا قَلِيلاَ﴾ [الأحزاب: ١٦]. فأخبر الله أن الفرار من الموت بالشهادة لا ينفع، فلا فائدة فيه، وأنه لو نفع لم ينفع إلا قليلا، إذ لا بد له من الموت، فيفوته بهذا القليل ما هو خير منه وأنفع من حياة الشهيد عند ربه. ثم قال: ﴿مَن ذا الَّذِي يَعْصِمُكم مِنَ اللهِ إنْ أرادَ بِكم سُوءا أوْ أرادَ بِكم رَحْمَة؟ ولا يَجِدُونَ لَهُمُ مِن دُونِ اللهِ ولِيا ولا نَصِيرًا﴾ [الأحزاب: ١٧]. فأخبر سبحانه أن العبد لا يعصمه أحد من الله، إن أراد به سوءا غير الموت الذي فر منه، فإنه من الموت لما كان يسوءه، فأخبر الله سبحانه أنه لو أراد به سوءا غيره لم يعصمه أحد من الله، وأنه قد يفر مما يسوءه من القتل في سبيل الله، فيقع فيما يسوءه مما هو أعظم منه. وإذا كان هذا في مصيبة النفس، فالأمر هكذا في مصيبة المال والعرض والبدن، فإن من بخل بماله أن ينفقه في سبيل الله تعالى وإعلاء كلمته، سلبه الله إياه، أو قيض له إنفاقه فيما لا ينفعه دنيا ولا أخرى، بل فيما يعود عليه بمضرته عاجلا وآجلا، وإن حبسه وادخره منعه التمتع به، ونقله إلى غيره. فيكون له مَهْنَؤهُ وعلى مخلِّفه وزوه. وكذلك من رَفَّه بدنه وعرضه وآثر راحته على التعب لله وفي سبيله أتعبه الله سبحانه أضعاف ذلك في غير سبيله، ومرضاته وهذا أمر يعرفه الناس بالتجارب. * (فائدة) قالَ بعض الحُكَماء في وصيته عَلَيْكُم بِأهْل السخاء والشجاعة فَإنَّهُم أهل حسن الظَّن بِالله والشجاعة جنَّة للرجل من المكاره والجبن إعانَة مِنهُ لعَدوه على نَفسه فَهو جند وسلاح يُعْطِيهِ عدوه ليحاربه بِهِ. وقد قالَت العَرَب الشجاعَة وقاية والجبن مقتلة وقد أكذب الله سُبْحانَهُ أطماع الجُبَناء في ظنهم أن جبنهم ينجيهم من القَتْل والمَوْت فَقالَ الله تَعالى: ﴿قل لن ينفعكم الفِرار إن فررتم من المَوْت أو القَتْل﴾ [الأحزاب: ١٦] وَلَقَد أحسن القائِل [هُوَ قطري بن الفُجاءَة الساري] ؎(أقُول لَها وقد طارت شعاعا ∗∗∗ من الأبْطال ويحك لن تراعي) ؎(فَإنّك لَو سَألت بَقاء يَوْم ∗∗∗ على الأجَل الَّذِي لَك لن تطاعي) ؎(فصبرا في مجال المَوْت صبرا ∗∗∗ فَما نيل الخلود بمستطاع) ؎(وَما ثوب الحَياة بِثَوْب عز ∗∗∗ فيطوي عَن أخي الخنع اليراع) ؎(سَبِيل المَوْت غايَة كل حَيّ ∗∗∗ وداعيه لأهل الأرْض داعِي) ؎(وَمن لم يعتبط يسام ويهرم ∗∗∗ وتسلمه المنون إلى انْقِطاع) ؎(وَما للمرء خير في حَياة ∗∗∗ إذا ما عد من سقط المَتاع) واعْتبر ذَلِك في معارك الحروب بِأن من يقتل مُدبرا أكثر مِمَّن يقتل مُقبلا وفي وصِيَّة أبي بكر الصّديق بن الوَلِيد احرص على المَوْت توهب لَك الحَياة وَقالَ خالِد بن الوَلِيد حضرت كَذا وكَذا زحفا في الجاهِلِيَّة والإسْلام وما في جَسَدِي مَوضِع إلّا وفِيه طعنة بِرُمْح أو ضَرْبَة بِسيف وها أنا ذا أمُوت على فِراشِي فَلا نامَتْ أعين الجُبَناء وَلا ريب عند كل عاقل أن اسْتِقْبال المَوْت إذا جاءَك خير من استدباره والله أعلم وقد بَين هَذا حسان بن ثابت قائِلا ؎(ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ∗∗∗ ولَكِن على أقدامنا تقطر الدما) وَقالَ آخر محققا هَذا المَعْنى: ؎(مُحرمَة أكفال خيلي على القنا ∗∗∗ ودامية لباتها ونحورها) ؎(حرام على أرماحنا طعن مُدبر ∗∗∗ وتندق مِنها في الصُّدُور صدورها) وَكانُوا يفتخرون بِالمَوْتِ على غير فراش ولما بلغ عبد الله بن الزبير قتل أخِيه مُصعب قالَ إن يقتل فقد قتل أخُوهُ وأبوهُ وعَمه إنّا والله لا نموت حتف أنفنا ولَكِن حتفنا بِالرِّماحِ وتَحْت ظلال السيوف [ثمَّ تمثل بقول القائِل ؎(وَإنّا لتستحلي المنايا نفوسنا ∗∗∗ وتترك أُخْرى مرّة ما تذوقها) [وَفِي مثل هَذا يَقُول السموأل من كادياء وهو في الحماسة] ؎(وَما ماتَ منا سيد في فراشه ∗∗∗ ولا طل منا حَيْثُ كانَ قَتِيل) ؎(تسيل على حد الظبات نفوسنا ∗∗∗ ولَيْسَت على غير الظبات تسيل) ؎(وَإنّا لقوم لا نرى القَتْل سبه ∗∗∗ إذا ما رَأتْهُ عامر وسلول) ؎(إذا قصرت أسيافنا كانَ وصلها ∗∗∗ خطانا إلى اعدائنا فتطول) وَقالَ مُحَمَّد بن عبد الله بن طاهِر بن الحُسَيْن الخُزاعِيّ ؎(لست لريحان ولا راح ∗∗∗ ولا على الجار بتياح) ؎(فَإن أردْت الآن لي موقعا ∗∗∗ فَبين أسياف وأرماح) ؎(ترى فَتى تَحت ظلال القنا ∗∗∗ يقبض أرواحا بأرواح) وَلَو لم يكن في الشجاعَة إلّا أن الشجاع يرد صيته واسْمه عَنهُ أذى الخلق ويمنعهم من الإقْدام عَلَيْهِ لكفى بها شرفا وفضلا كَما قالَ عَمْرو ابْن براقه، وكانَ فاتكا مَشْهُورا بالإقدام والثبات ؎(كَذبْتُمْ وبَيت الله لا تأخذونها ∗∗∗ مراغمة ما دامَ للسيف قائِم) ؎(مَتى تجمع القلب الذكي وصارما ∗∗∗ وأنفا حميا تجتنبك المَظالِم)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب