الباحث القرآني

* (فصل) ثمَّ تَأمل الحِكْمَة في خلق آلات البَطْش في الحَيَوانات من الإنسان وغَيره، فالإنسان لما خلق مهيئا لمثل هَذِه الصناعات من البناء والخياطة والكِتابَة وغَيرها. خلق لَهُ كف مستدير منبسط وأصابع يتَمَكَّن بها من القَبْض والبسط والطي والنشر، والجمع والتفريق، وضم الشَّيْء إلى مثله والحَيَوان البهيم لما لم يتهيأ لتلك الصَّنائِع لم يخلق لَهُ تِلْكَ الأكف والأصابع بل لما قدر أن يكون غذاء بَعْضها من صَيْده كالسباع خلق لَهُ أكف لطافه مدمجة ذَوات براثن ومخالب تصلح لاقتناص الصَّيْد، ولا تصلح للصناعات هَذا كُله في آكلَة اللَّحْم من الحَيَوان. وأما آكلة النَّبات فَلَمّا قدر أنها لا تصطاد ولا صَنْعَة لَها خلق لبعضها أظلافا تقيها خشونة الأرض إذا جالت في طلب المرعى ولبعضها حوافر ململمة مقعرة كأخمص القدَم لتنطبق على الأرض وتهيأ للرُّكُوب والحمولة ولم يخلق لَها براثن ولا أنيابا لأن غذاءها لا يحْتاج إلى ذَلِك. * (فصل) ثمَّ تَأمل الحِكْمَة في خلقَة الحَيَوان الَّذِي يَأْكُل اللَّحْم من البَهائِم كَيفَ جعلت لَهُ أسنان حداد وبراثن شَدّاد، وأشداق مهرونة وأفواه واسِعَة، وأعينت بأسلحة وأدوات تصلح للصَّيْد والأكل، ولذَلِك تَجِد سِباع الطير ذَوات مناقير حداد ومخالب كالكلاليب. وَلِهَذا حرم النَّبِي كل ذِي ناب من السباع ومخلب من الطير لضرره وعدوانه وشره، والمغتذي شَبيه بالغاذي فلو اغتذى بها الإنسان لصار فِيهِ من أخلاقها وعدوانها وشرها ما يشابهها بِهِ، فَحرم على الأمة أكلها ولم يحرم عَلَيْهِم الضبع. وإن كانَ ذا ناب فَإنَّهُ لَيْسَ من السباع عند أحد من الأمم والتَّحْرِيم إنَّما كانَ لما تضمن الوصفين أن يكون ذا ناب، وأن يكون من السباع. وَلا يُقال هَذا ينْتَقض بالسبع إذا لم يكن لَهُ ناب، لأن هَذا لم يُوجد أبدا فصلوات الله وسَلامه على من أوتي جَوامِع الكَلم فأوضح الأحكام وبَين الحَلال والحرام. فانْظُر حِكْمَة الله عز وجل في خلقه وأمره فِيما خلقه وفِيما شَرعه تَجِد مصدر ذَلِك كُله الحِكْمَة البالِغَة الَّتِي لا يخْتل نظامها ولا ينخرم أبدا، ولا يخْتل أصلا. وَمن النّاس من يكون حَظه من مُشاهدَة حِكْمَة الأمر أعظم من مُشاهدَة حِكْمَة الخلق، وهَؤُلاء خَواص العباد الَّذين عقلوا عَن الله أمره ودينه، وعرفُوا حكمته فِيما أحكمه وشهِدت فطنهم وعقولهم أن مصدر ذَلِك حِكْمَة بالِغَة وإحسان ومصلحة أريدت بالعباد في معاشهم ومعادهم، وهم في ذَلِك دَرَجات لا يحصيها إلا الله. وَمِنهُم من يكون حَظه من مُشاهدَة حِكْمَة الخلق أوفر من حَظه من حِكْمَة الأمر وهم أكثر الأطباء الَّذين صرفُوا أفكارهم إلى اسْتِخْراج مَنافِع النَّبات والحَيَوان وقواها، وما تصلح لَهُ مُفْردَة ومركبة، ولَيْسَ لَهُم نصيب في حِكْمَة الأمر إلّا كَما للفقهاء من حِكْمَة الخلق بل أقل من ذَلِك. وَمِنهُم من فتح عَلَيْهِ بمشاهدة الخلق والأمر بِحَسب استعداده وقوته فَرَأى الحِكْمَة الباهرة الَّتِي بهرت العُقُول في هَذا وهَذا، فَإذا نظر إلى خلقه وما فِيهِ من الحكم ازْدادَ إيمانًا ومَعْرِفَة وتَصْدِيقًا بِما جاءَت بِهِ الرُّسُل. وإذا نظر إلى أمره وما تضمنه من الحكم الباهرة ازْدادَ إيمانا ويقينا وتسليما لا كمن حجب بالصنعة عَن الصّانِع، وبالكواكب عَن مكوكبها، فَعمي بَصَره، وغلظ عَن الله حجابه، ولَو أعطى علمه حَقه لَكانَ من أقوى النّاس إيمانًا لأنه اطلع من حِكْمَة الله وباهر آياته وعجائب صَنعته الدّالَّة عَلَيْهِ وعَلى علمه وقدرته وحكمته على ما خَفِي عَن غَيره، ولَكِن من حِكْمَة الله أيضا أن سلب كثيرا من عقول هَؤُلاءِ خاصيتها وحجبها عَن مَعْرفَته وأوقفها عند ظاهر من العلم بِالحَياةِ الدُّنْيا وهم عَن الآخرة هم غافلون لدناءتها وخستها وحقارتها، وعدم أهليتها لمعرفته ومَعْرِفَة أسمائه وصِفاته وأسرار دينه وشرعه، والفضل بيد الله يؤتيه من يَشاء والله ذُو الفضل العَظِيم. وَهَذا باب لا يطلع الخلق مِنهُ على ما له نِسْبَة إلى الخافي عَنْهُم مِنهُ أبدا، بل علم الأولين والآخرين مِنهُ كنقرة العصفور من البَحْر، ومَعَ هَذا فَلَيْسَ ذَلِك بِمُوجب للإعراض عَنهُ واليأس مِنهُ، بل يسْتَدلّ العاقِل بِما ظهر لَهُ مِنهُ على ما وراءه. ((الجزء الثالث عشر))
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب