الباحث القرآني

قال الواحدي وغيره: أكثر المفسرين: على أن المراد بلهو الحديث: الغناء، قاله ابن عباس في رواية سعيد بن جبير ومقسم عنه، وقاله عبد الله بن مسعود، في رواية أبي الصهباء عنه، وهو قول مجاهد وعكرمة. وروى ثور بن أبي فاختة عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ﴾ قال: "هُوَ الرَّجُلُ يَشْتَرِي الَجْارِيَةَ تُغَنِّيهِ لِيْلًا ونهارًا" وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: "هو اشتراء المغني والمغنية بالمال الكثير، والاستماع إليه، وإلى مثله من الباطل" وهذا قول مكحول. وهذا اختيار أبي إسحاق أيضًا. قال: أكثر ما جاء في التفسير: أن لهو الحديث هاهنا هو الغناء، لأنه يلهي عن ذكر الله تعالى. قال الواحدي: قال أهل المعاني: ويدخل في هذا كل من اختار اللهو، والغناء والمزامير والمعازف على القرآن، وإن كان اللفظ قد ورد بالشراء، فلفظ الشراء يذكر في الاستبدال، والاختيار، وهو كثير في القرآن. قال: ويدل على هذا: ما قاله قتادة في هذه الآية "لعله أن لا يكون أنفق مالًا" قال: "وبحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق". قال الواحدي: وهذه الآية على هذا التفسير تدل على تحريم الغناء، ثم ذكر كلام الشافعي في رد الشهادة بإعلان الغناء. قال: وأما غناء القينات: فذلك أشد ما في الباب، وذلك لكثرة الوعيد الوارد فيه وهو ما روى أن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال: "مَنِ اسْتَمَعَ إلى قَيْنَةٍ صُبَّ في أُذُنَيْهِ الآنُكُ يَوْمَ القِيامَةِ". الآنك: الرصاص المذاب. وقد جاء تفسير لهو الحديث بالغناء مرفوعًا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم. ففى "مسند الإمام أحمد"، "ومسند عبد الله بن الزبير الحميدى"، "وجامع الترمذي" من حديث أبي أمامة، والسياق للترمذي: أن النبي ﷺ قال:"لا تَبِيعُوا القيناتِ، ولا تَشْتَرُوهُنَّ، ولا تُعَلِّمُوهُنَّ، ولا خَيْرَ في تِجارَةٍ فِيهِنَّ وثمَنُهُنَّ حَرامٌ". فى مثل هذا نزلت هذه الآية: ﴿وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ [لقمان: ٦]. وهذا الحديث وإن كان مداره على عبيد الله بن زحر عن على بن يزيد الإلهانى عن القاسم، فعبيد الله بن زحر ثقة، والقاسم ثقة، وعلى ضعيف، إلا أن للحديث شواهد ومتابعات، سنذكرها إن شاء الله، ويكفي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث: بأنه الغناء، فقد صح ذلك عن ابن عباس، وابن مسعود. قال أبو الصهباء: "سألت ابن مسعود عن قوله تعالى: ﴿ومن الناس من يشترى لهو الحديث﴾ [لقمان: ٦] فقال: والله الذي لا إله غيره هو الغناء - يرددها ثلاث مرات. وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضًا أنه: الغناء. قال الحاكم أبو عبد الله في التفسير، من كتاب المستدرك: "ليعلم طالب هذا العلم أن تفسير الصحابى الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين: حديث مسند. وقال في موضع آخر من كتابه: "هو عندنا في حكم المرفوع". وهذا، وإن كان فيه نظر، فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم، فهم أعلم الأمة بمراد الله عز وجل من كتابه، فعليهم نزل، وهم أول من خوطب به من الأمة. وقد شاهدوا تفسيره من الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم علمًا وعملًا، وهم العرب الفصحاء على الحقيقة، فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل. ولا تعارض بين تفسير "لهو الحديث" بالغناء، وتفسيره: بأخبار الأعاجم وملوكها، وملوك الروم، ونحو ذلك مما كان النضر بن الحارث يحدث به أهل مكة، يشغلهم به عن القرآن، فكلاهما لهو الحديث، ولهذا قال ابن عباس: "لهو الحديث: الباطل والغناء". فمن الصحابة من ذكر هذا، ومنهم من ذكر الآخر، ومنهم من جمعهما. والغناء أشد لهوًا، وأعظم ضررًا من أحاديث الملوك وأخبارهم، فإنه رقية الزنا، ومنبت النفاق، وشرك الشيطان، وخمرة العقل، وصده عن القرآن أعظم من صد غيره من الكلام الباطل، لشدة ميل النفوس إليه، ورغبتها فيه. إذا عرف هذا، فأهل الغناء ومستمعوه لهم نصيب من هذا الذم بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن، وإن لم ينالوا جميعه، فإن الآيات تضمنت ذم من استبدل لهو الحديث بالقرآن ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوًا، وإذا تليى عليه القرآن ولي مستكبرًا كأن لم يسمعه، كأن في أذنيه وقرًا، وهو الثقل والصمم، وإذا علم منه شيئًا استهزأ به، فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفرًا، وإن وقع بعضه للمغنين ومستمعيهم، فلهم حصة ونصيب من هذا الذم. يوضحه: أنك لا تجد أحدًا عني بالغناء وسماع آلاته، إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى، علمًا وعملًا، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء، بحيث إذا عرض له سماع الغناء وسماع القرآن عدل عن هذا إلى ذاك، وثقل عليه سماع القرآن، وربما حمله الحال على أن يسكت القارئ ويستطيل قراءته، ويستزيد المغنى ويستقصر نوبته، وأقل ما في هذا: أن يناله نصيب وافر من هذا الذم، إن لم يحظ به جميعه والكلام في هذا مع من في قلبه بعض حياة يحس بها. فأما من مات قلبه، وعظمت فتنته، فقد سد على نفسه طريق النصيحة: ﴿وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أنْ يَطَهِّرَ قُلُوبَهم لهم في الدُّنْيا خِزْىٌ ولَهم في الآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: ٤١].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب