الباحث القرآني

* (فصل) وَتسَمى رياح الرَّحْمَة المُبَشِّرات، والنشر والذاريات والمرسلات والرخاء واللواقع ورياح العَذاب العاصف والقاصف وهما في البَحْر والعقيم والصرصر وهما في البر وإن شاءَ حركه بحركة العَذاب فَجعله عقيما وأودعه عذابا اليما وجعله نقمة على من يَشاء من عباده فَيَجْعَلهُ صَرْصَرًا ونحسا وعاتيا ومفسدا لما يمر عَلَيْهِ وهِي مُخْتَلفَة في مهابها فَمِنها صبا ودبور وجنوب وشمال وفي مَنفَعَتها وتأثيرها أعظم اخْتِلاف فريح لينَة رطبَة تغذي النَّبات وأبدان الحَيَوان وأخرى تجففه وأخرى تهلكه وتعطبه وأُخْرى تشده وتصلبه وأُخْرى توهنه وتضعفه. وَلِهَذا يخبر سُبْحانَهُ عَن رياح الرَّحْمَة بِصِيغَة الجمع لاخْتِلاف مَنافِعها وما يحدث مِنها فريح تثير السَّحاب وريح تلقحه وريح تحمله على متونها وريح تغذي النَّبات، ولما كانَت الرِّياح مُخْتَلفَة في مهابها وطبائعها جعل لكل ريح ريحًا مقابلتها تكسر سورتها وحدتها ويبقى لينها ورحمتها فرياح الرَّحْمَة مُتعَدِّدَة، وأما ريح العَذاب فَإنَّهُ ريح واحِدَة ترسل من وجه واحِد لإهلاك ما ترسل بإهلاكه فلاتقوم لَها ريح أخرى تقابلها وتكسر سورتها وتدفع حدتها بل تكون كالجيش العَظِيم الَّذِي لا يقاومه شَيْء يدمر كل ما أتى عَلَيْهِ وتَأمل حِكْمَة القُرْآن وجلالته وفصاحته كَيفَ طرد هَذا في البر، وأما في البَحْر فَجاءَت ريح الرَّحْمَة فِيهِ بِلَفْظ الواحِد كَقوله تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يسيركم في البر والبَحْر حَتّى إذا كُنْتُم في الفلك وجرين بهم برِيح طيبَة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مَكان﴾ فَإن السفن إنَّما تسير بِالرِّيحِ الواحِدَة الَّتِي تَأتي من وجه واحِد فَإذا اخْتلفت الرِّياح على السفن وتقابلت لم يتم سَيرها فالمقصود مِنها في البَحْر خلاف المَقْصُود مِنها في البر إذْ المَقْصُود في البَحْر أن تكون واحِدَة طيبَة لا يعارضها شَيْء، فأفردت هُنا وجمعت في البر، ثمَّ إنه سُبْحانَهُ أعطى هَذا المَخْلُوق اللَّطِيف الَّذِي يحركه أضعف المَخْلُوقات ويخرقه من الشدَّة والقُوَّة والبأس ما يقلق بِهِ الأجسام الصلبة القوية الممتنعة ويزعجها عَن أماكنها ويفتتها ويحملها على مَتنه فانْظُر إليه مَعَ لطافته وخِفته إذا دخل في الزق مثلا وامتلأ بِهِ ثمَّ وضع عَلَيْهِ الجِسْم الثقيل كالرّجلِ وغَيره وتحامل عَلَيْهِ ليغمسه في الماء لم يطق، ويَضَع الحَدِيد الصلب الثقيل على وجه الماء فيرسب فِيهِ فامْتنعَ هَذا اللَّطِيف من قهر الماء لَهُ، ولم يمْتَنع مِنهُ القوي الشَّديد وبهذه الحِكْمَة أمسك الله سُبْحانَهُ السفن على وجه الماء مَعَ ثقلها وثقل ما تحويه، وكَذَلِكَ كل مجوف حل فِيهِ الهَواء فَإنَّهُ لا يرسب فِيهِ لأن الهَواء يمْتَنع من الغوس في الماء فتتعلق بِهِ السَّفِينَة المشحونة الموقرة. فَتَأمل كَيفَ استجار هَذا الجِسْم الثقيل العَظِيم بِهَذا اللَّطِيف الخَفِيف وتعلق بِهِ حَتّى أمن من الغَرق وهَذا كالَّذي يهوي في قليب فَيتَعَلَّق بذيل رجل قوي شَدِيد يمْتَنع عَن السُّقُوط في القليب فينجو بتعلقه بِهِ فسبحان من علق هَذا المركب العَظِيم الثقيل بِهَذا الهَواء اللَّطِيف من غير علاقَة ولا عقدة تشاهد، ومن آياته السَّحاب المسخر بَين السَّماء والأرض كَيفَ ينشئه سُبْحانَهُ بالرياح فتثيره كسيفا ثمَّ يؤلف بَينه ويضم بعضه إلى بعض ثمَّ تلقحه الرّيح وهِي الَّتِي سَمّاها سُبْحانَهُ لَواقِح ثمَّ يَسُوقهُ على متونها إلى الأرض المحتاجة إليه فَإذا علاها واستوى عَلَيْها إهراق ماءَهُ عليها، فَيُرْسل سُبْحانَهُ عَلَيْهِ الرّيح وهو في الجو فتذروه وتفرقه لِئَلّا يُؤْذِي ويهدم ما ينزل عَلَيْهِ بجملته حَتّى إذا رويت وأخذت حاجَتها مِنهُ أقلع عَنْها وفارقها فَهي روايا الأرض مَحْمُولَة على ظُهُور الرِّياح. وَفِي التِّرْمِذِيّ وغَيره أن النَّبِي لما رأى السَّحاب قالَ هَذِه روايا الأرض يَسُوقها الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يذكرُونَهُ فالسحاب حامِل رزق العباد وغَيرهم الَّتِي عَلَيْها ميرتهم وكانَ الحسن إذا رأى السَّحاب قالَ في هَذا والله رزقكم ولَكِنَّكم تحرموه بخطاياكم وذنوبكم". وَفِي الصَّحِيح عَن النَّبِي قالَ: "بَينا رجل بفلاة من الأرض إذْ سمع صَوتا في سَحابَة اسْقِ حديقة فلان فَمر الرجل مَعَ السحابة حَتّى أتت على حديقة فَلَمّا توسطتها أفرغت فِيها ماءها، فَإذا بِرَجُل مَعَه مسحاة يسحي الماء بها فَقالَ: ما اسْمك يا عبد الله؟ قالَ فلان للاسم الَّذِي سَمعه في السحابة" وَبِالجُمْلَةِ فَإذا تَأمَّلت السَّحاب الكثيف المظلم كَيفَ تراهُ يجْتَمع في جو صاف لا كدورة فِيهِ، وكَيف يخلقه الله مَتى شاءَ وإذا شاءَ وهو مَعَ لينه ورخاوته حامِل للْماء الثقيل بَين السَّماء والأرْض، إلى أن يَأْذَن لَهُ ربه وخالقه في إرسال ما مَعَه من الماء فيرسله وينزله مِنهُ مقطعا بالقطرات كل قَطْرَة بِقدر مَخْصُوص اقتضته حكمته ورَحمته فيرش السَّحاب الماء على الأرض رشا ويرسله قطرات مفصلة لاتختلط قَطْرَة مِنها بأخرى، ولا يتَقَدَّم متأخرها ولا يتَأخَّر متقدمها ولا تدْرك القطرة صاحبتها فتمزج بها بل تنزل كل واحِدَة في الطَّرِيق الَّذِي رسم لَها لا تعدل عَنهُ حَتّى تصيب الأرض قَطْرَة قَطْرَة قد عينت كل قَطْرَة مِنها لجزء من الأرض لا تتعداه إلى غَيره، فَلَو اجْتمع الخلق كلهم على أن يخلقوا مِنها قَطْرَة واحِدَة أوْ يحصوا عدد القطر في لَحْظَة واحِدَة لعجزوا عَنهُ. فَتَأمل كَيفَ يَسُوقهُ سُبْحانَهُ رزقا للعباد والدَّواب والطير والذر والنمل يَسُوقهُ رزقا للحيوان الفُلانِيّ في الأرض الفُلانِيَّة بِجانِب الجَبَل الفُلانِيّ فيصل إليه على شدَّة من الحاجة والعطش في وقت كَذا وكَذا، ثمَّ كَيفَ أودعه في الأرض ثمَّ أخرج بِهِ أنواع الأغذية والأدوية والأقوات.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب