الباحث القرآني
[إخْراجُ النُّصُوصِ عَنْ ظاهِرِها لِتُوافِقَ مَذْهَبَ المُفْتِي]
لا يَجُوزُ إخْراجُ النُّصُوصِ عَنْ ظاهِرِها لِتُوافِقَ مَذْهَبَ المُفْتِي]
الفائِدَةُ الخامِسَةُ والخَمْسُونَ: إذا سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِن كِتابِ اللَّهِ أوْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَلَيْسَ لَهُ أنْ يُخْرِجَها عَنْ ظاهِرِها بِوُجُوهِ التَّأْوِيلاتِ الفاسِدَةِ لِمُوافَقَةِ نِحْلَتِهِ وهَواهُ، ومَن فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ المَنعَ مِن الإفْتاءِ والحَجْرَ عَلَيْهِ، وهَذا الَّذِي ذَكَرْناهُ هو الَّذِي صَرَّحَ بِهِ أئِمَّةُ الإسْلامِ قَدِيمًا وحَدِيثًا.
قالَ أبُو حاتِمٍ الرّازِيّ: حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأعْلى قالَ: قالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشّافِعِيُّ: الأصْلُ قُرْآنٌ أوْ سَنَةٌ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ فَقِياسٌ عَلَيْهِما، وإذا اتَّصَلَ الحَدِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وصَحَّ الإسْنادُ بِهِ فَهو المُنْتَهى والإجْماعُ أكْبَرُ مِن الخَبَرِ الفَرْدِ، والحَدِيثُ عَلى ظاهِرِهِ، وإذا احْتَمَلَ المَعانِيَ فَما أشْبَهَ مِنها ظاهِرَهُ أوْلاها بِهِ، فَإذا تَكافَأتْ الأحادِيثُ فَأصَحُّها إسْنادًا أوْلاها، ولَيْسَ المُنْقَطِعُ بِشَيْءٍ، ما عَدا مُنْقَطِعَ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، ولا يُقاسُ أصْلٌ عَلى أصْلٍ ولا يُقالُ لِأصْلٍ: لِمَ؟ وكَيْفَ؟ وإنَّما يُقالُ لِلْفَرْعِ: لِمَ؟ فَإذا صَحَّ قِياسُهُ عَلى الأصْلِ صَحَّ وقامَتْ بِهِ الحُجَّةُ، رَواهُ الأصَمُّ عَنْ ابْنِ أبِي حاتِمٍ.
وَقالَ أبُو المَعالِي الجُوَيْنِيُّ في الرِّسالَةِ النِّظامِيَّةِ في الأرْكانِ الإسْلامِيَّةِ ": ذَهَبَ أئِمَّةُ السَّلَفِ إلى الِانْكِفافِ عَنْ التَّأْوِيلِ، وإجْراءِ الظَّواهِرِ عَلى مَوارِدِها وتَفْوِيضِ مَعانِيها إلى الرَّبِّ تَعالى، واَلَّذِي نَرْتَضِيهِ رَأْيًا ونَدِينُ اللَّهَ بِهِ عَقْدَ اتِّباعِ سَلَفِ الأُمَّةِ؛ فالأوْلى الِاتِّباعُ وتَرْكُ الِابْتِداعِ، والدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ القاطِعُ في ذَلِكَ أنَّ إجْماعَ الأُمَّةِ حُجَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، وهو مُسْتَنَدُ مُعْظَمِ الشَّرِيعَةِ، وقَدْ دَرَجَ صَحْبُ الرَّسُولِ ﷺ ورَضِيَ عَنْهم عَلى تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِمَعانِيها ودَرْكِ ما فِيها، وهم صَفْوَةُ الإسْلامِ، والمُسْتَقِلُّونَ بِأعْباءِ الشَّرِيعَةِ، وكانُوا لا يَأْلُونَ جَهْدًا في ضَبْطِ قَواعِدِ المِلَّةِ والتَّواصِي بِحِفْظِها، وتَعْلِيمِ النّاسِ ما يَحْتاجُونَ إلَيْهِ مِنها، ولَوْ كانَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الظَّواهِرِ مَسُوغًا أوْ مَحْتُومًا لَأوْشَكَ أنْ يَكُونَ اهْتِمامُهم بِها فَوْقَ اهْتِمامِهِمْ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وإذا انْصَرَمَ عَصْرُهم وعَصْرُ التّابِعِينَ لَهم عَلى الإضْرابِ عَنْ التَّأْوِيلِ، كانَ ذَلِكَ قاطِعًا بِأنَّهُ الوَجْهُ المُتَّبَعُ، فَحَقٌّ عَلى ذِي الدِّينِ أنْ يَعْتَقِدَ تَنْزِيهَ البارِي عَنْ صِفاتِ المُحَدِّثِينَ، ولا يَخُوضُ في تَأْوِيلِ المُشْكِلاتِ، ويَكِلُ مَعْناها إلى الرَّبِّ تَعالى.
وَعِنْدَ إمامِ القُرّاءِ وسَيِّدِهِمْ الوُقُوفُ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلا اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٧] مِن العَزائِمِ ثُمَّ الِابْتِداءُ بِقَوْلِهِ: ﴿والرّاسِخُونَ في العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ﴾ [آل عمران: ٧].
وَمِمّا اسْتُحْسِنَ مِن كَلامِ مالِكٍ أنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] كَيْفَ اسْتَوى؟ فَقالَ: الِاسْتِواءُ مَعْلُومٌ، والكَيْفُ مَجْهُولٌ، والإيمانُ بِهِ واجِبٌ، والسُّؤالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، فَلْتُجْرَ آيَةُ الِاسْتِواءِ والمَجِيءِ وقَوْلُهُ: ﴿لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: ٧٥] وقَوْلُهُ: ﴿وَيَبْقى وجْهُ رَبِّكَ﴾ [الرحمن: ٢٧] وقَوْلُهُ: ﴿تَجْرِي بِأعْيُنِنا﴾ [القمر: ١٤] وما صَحَّ مِن أخْبارِ الرَّسُولِ كَخَبَرِ النُّزُولِ وغَيْرِهِ عَلى ما ذَكَرْنا، انْتَهى كَلامُهُ.
وَقالَ أبُو حامِدٍ الغَزالِيُّ: الصَّوابُ لِلْخَلَفِ سُلُوكُ مَسْلَكِ السَّلَفِ في الإيمانِ المُرْسَلِ والتَّصْدِيقِ المُجْمَلِ، وما قالَهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ، بِلا بَحْثٍ وتَفْتِيشٍ.
وَقالَ في كِتابِ التَّفْرِقَةِ: الحَقُّ الِاتِّباعُ والكَفُّ عَنْ تَغْيِيرِ الظّاهِرِ رَأْسًا، والحَذَرُ عَنْ اتِّباعِ تَأْوِيلاتٍ لَمْ يُصَرِّحْ بِها الصَّحابَةُ، وحَسْمُ بابِ السُّؤالِ رَأْسًا، والزَّجْرُ عَنْ الخَوْضِ في الكَلامِ والبَحْثِ، إلى أنْ قالَ: ومِن النّاسِ مَن يُبادِرُ إلى التَّأْوِيلِ ظَنًّا لا قَطْعًا، فَإنْ كانَ فَتْحُ هَذا البابِ والتَّصْرِيحُ بِهِ يُؤَدِّي إلى تَشْوِيشِ قُلُوبِ العَوامّ بُدِّعَ صاحِبُهُ، وكُلُّ ما لَمْ يُؤْثَرْ عَنْ السَّلَفِ ذِكْرُهُ وما يَتَعَلَّقُ مِن هَذا الجِنْسِ بِأُصُولِ العَقائِدِ المُهِمَّةِ فَيَجِبُ تَكْفِيرُ مَن يُغَيِّرُ الظَّواهِرَ بِغَيْرِ بُرْهانٍ قاطِعٍ.
وَقالَ أيْضًا: كُلُّ ما لَمْ يَحْتَمِلْ التَّأْوِيلَ في نَفْسِهِ وتَواتَرَ نَقْلُهُ ولَمْ يُتَصَوَّرْ أنْ يَقُومَ عَلى خِلافِهِ بُرْهانٌ فَمُخالَفَتُهُ تَكْذِيبٌ مَحْضٌ، وما تَطَرَّقَ إلَيْهِ احْتِمالُ تَأْوِيلٍ ولَوْ بِمَجازٍ بَعِيدٍ، فَإنْ كانَ بُرْهانُهُ قاطِعًا وجَبَ القَوْلُ بِهِ، وإنْ كانَ البُرْهانُ يُفِيدُ ظَنًّا غالِبًا ولا يَعْظُمُ ضَرَرُهُ في الدِّينِ فَهو بِدْعَةٌ، وإنْ عَظُمَ ضَرَرُهُ في الدِّينِ فَهو كُفْرٌ.
قالَ: ولَمْ تَجْرِ عادَةُ السَّلَفِ بِهَذِهِ المُجادَلاتِ، بَلْ شَدَّدُوا القَوْلَ عَلى مَن يَخُوضُ في الكَلامِ، ويَشْتَغِلُ بِالبَحْثِ والسُّؤالِ.
وَقالَ أيْضًا: الإيمانُ المُسْتَفادُ مِن الكَلامِ ضَعِيفٌ، والإيمانُ الرّاسِخُ إيمانُ العَوامّ الحاصِلُ في قُلُوبِهِمْ في الصِّبا بِتَواتُرِ السَّماعِ وبَعْدَ البُلُوغِ بِقَرائِنَ يَتَعَذَّرُ التَّعْبِيرُ عَنْها.
قالَ: وقالَ شَيْخُنا أبُو المَعالِي: يَحْرِصُ الإمامُ ما أمْكَنَهُ عَلى جَمْعِ عامَّةِ الخَلْقِ عَلى سُلُوكِ سَبِيلِ السَّلَفِ في ذَلِكَ، انْتَهى.
وَقَدْ اتَّفَقَتْ الأئِمَّةُ الأرْبَعَةُ عَلى ذَمِّ الكَلامِ وأهْلِهِ، وكَلامُ الإمامِ الشّافِعِيِّ ومَذْهَبُهُ فِيهِمْ مَعْرُوفٌ عِنْدَ جَمِيعِ أصْحابِهِ، وهو أنَّهم يُضْرَبُونَ ويُطافُ بِهِمْ في قَبائِلِهِمْ وعَشائِرِهِمْ: هَذا جَزاءُ مَن تَرَكَ الكِتابَ والسُّنَّةَ وأقْبَلَ عَلى الكَلامِ.
وَقالَ: لَقَدْ اطَّلَعْتُ مِن أهْلِ الكَلامِ عَلى شَيْءٍ ما كُنْتُ أظُنُّهُ، وقالَ: لَأنْ يُبْتَلى العَبْدُ بِكُلِّ شَيْءٍ نُهِيَ عَنْهُ غَيْرَ الكُفْرِ أيْسَرُ مِن أنْ يُبْتَلى بِالكَلامِ، وقالَ لِحَفْصٍ الفَرْدِ: أنا أُخالِفُكَ في كُلِّ شَيْءٍ حَتّى في قَوْلِ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، أنا أقُولُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ الَّذِي يُرى في الآخِرَةِ واَلَّذِي كَلَّمَ مُوسى تَكْلِيمًا، وأنْتَ تَقُولُ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ الَّذِي لا يُرى في الآخِرَةِ ولا يَتَكَلَّمُ.
وَقالَ البَيْهَقِيُّ: ذَكَرَ الشّافِعِيُّ إبْراهِيمَ بْنَ إسْماعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ فَقالَ: أنا مُخالِفٌ لَهُ في كُلِّ شَيْءٍ، وفي قَوْلِهِ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، لَسْتُ أقُولُ كَما يَقُولُ، أنا أقُولُ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ الَّذِي كَلَّمَ مُوسى مِن وراءِ حِجابٍ، وذاكَ يَقُولُ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ كَلامًا أسْمَعَهُ مُوسى مِن وراءِ حِجابٍ.
وَقالَ في أوَّلِ خُطْبَةِ رِسالَتِهِ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هو كَما وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وفَوْقَ ما يَصِفُهُ بِهِ الواصِفُونَ مِن خَلْقِهِ، وهَذا تَصْرِيحٌ بِأنَّهُ لا يُوصَفُ إلّا بِما وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ - تَعالى، وأنَّهُ يَتَعالى ويَتَنَزَّهُ عَمّا يَصِفُهُ بِهِ المُتَكَلِّمُونَ وغَيْرُهم مِمّا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ.
وَقالَ أبُو نَصْرٍ أحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ خالِدٍ السِّجْزِيُّ: سَمِعْتُ أبِي يَقُولُ: قُلْتُ لِأبِي العَبّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ: ما التَّوْحِيدُ؟ فَقالَ: تَوْحِيدُ أهْلِ العِلْمِ وجَماعَةِ المُسْلِمِينَ أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وتَوْحِيدُ أهْلِ الباطِلِ الخَوْضُ في الأعْراضِ والأجْسامِ، وإنَّما بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِإنْكارِ ذَلِكَ.
وَقالَ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ: كَيْف لا يَخْشى الكَذِبَ عَلى اللَّهِ ورَسُولِهِ مَن يَحْمِلُ كَلامَهُ عَلى التَّأْوِيلاتِ المُسْتَنْكَرَةِ والمَجازاتِ المُسْتَكْرَهَةِ الَّتِي هي بِالألْغازِ والأحاجِي أوْلى مِنها بِالبَيانِ والهِدايَةِ؟ وهَلْ يَأْمَنُ عَلى نَفْسِهِ أنْ يَكُونَ مِمَّنْ قالَ اللَّهُ فِيهِمْ ﴿وَلَكُمُ الوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ﴾ [الأنبياء: ١٨] قالَ الحَسَنُ: هي واللَّهِ لِكُلِّ واصِفٍ كَذِبًا إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وهَلْ يَأْمَنُ أنْ يَتَناوَلَهُ قَوْله تَعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي المُفْتَرِينَ﴾ [الأعراف: ١٥٢]
قالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: هي لِكُلِّ مُفْتَرٍ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وقَدْ نَزَّهَ - سُبْحانَهُ - نَفْسَهُ عَنْ كُلِّ ما يَصِفُهُ بِهِ خَلْقُهُ إلّا المُرْسَلِينَ فَإنَّهم إنّما يَصِفُونَهُ بِما أذِنَ لَهم أنْ يَصِفُوهُ بِهِ، فَقالَ تَعالى: ﴿سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ﴾ [الصافات: ١٨٠] ﴿وَسَلامٌ عَلى المُرْسَلِينَ﴾ [الصافات: ١٨١] وقالَ تَعالى: ﴿سُبْحانَ اللَّهِ عَمّا يَصِفُونَ - إلا عِبادَ اللَّهِ المُخْلَصِينَ﴾ [الصافات: ١٥٩-١٦٠] ويَكْفِي المُتَأوِّلِينَ كَلامُ اللَّهِ ورَسُولِهِ بِالتَّأْوِيلاتِ الَّتِي لَمْ يُرِدْها، ولَمْ يَدُلَّ عَلَيْها كَلامُ اللَّهِ أنَّهم قالُوا بِرَأْيِهِمْ عَلى اللَّهِ، وقَدَّمُوا آراءَهم عَلى نُصُوصِ الوَحْيِ، وجَعَلُوها عِيارًا عَلى كَلامِ اللَّهِ ورَسُولِهِ، ولَوْ عَلِمُوا أيَّ بابِ شَرٍّ فَتَحُوا عَلى الأُمَّةِ بِالتَّأْوِيلاتِ الفاسِدَةِ، وأيَّ بِناءٍ لِلْإسْلامِ هَدَمُوا بِها، وأيَّ مَعاقِلَ وحُصُونٍ اسْتَباحُوها لَكانَ أحَدُهم أنْ يَخِرَّ مِن السَّماءِ إلى الأرْضِ أحَبُّ إلَيْهِ مِن أنْ يَتَعاطى شَيْئًا مِن ذَلِكَ، فَكُلُّ صاحِبِ باطِلٍ قَدْ جَعَلَ ما تَأوَّلَهُ المُتَأوِّلُونَ عُذْرًا لَهُ فِيما تَأوَّلَهُ هُوَ، وقالَ: ما الَّذِي حَرَّمَ عَلَيَّ التَّأْوِيلَ وأباحَهُ لَكُمْ؟ فَتَأوَّلَتْ الطّائِفَةُ المُنْكِرَةُ لِلْمَعادِ نُصُوصَ المَعادِ، وكانَ تَأْوِيلُهم مِن جِنْسِ تَأْوِيلِ مُنْكِرِي الصِّفاتِ، بَلْ أقْوى مِنهُ لِوُجُوهٍ عَدِيدَةٍ يَعْرِفُها مَن وازَنَ بَيْنَ التَّأْوِيلَيْنِ، وقالُوا: كَيْفَ نَحْنُ نُعاقِبُ عَلى تَأْوِيلِنا وتُؤْجَرُونَ أنْتُمْ عَلى تَأْوِيلِكُمْ؟ قالُوا: ونُصُوصُ الوَحْيِ بِالصِّفاتِ أظْهَرُ وأكْثَرُ مِن نُصُوصِهِ بِالمَعادِ، ودَلالَةُ النُّصُوصِ عَلَيْها أبْيَنُ فَكَيْفَ يَسُوغُ تَأْوِيلُها بِما يُخالِفُ ظاهِرَها ولا يَسُوغُ لَنا تَأْوِيلُ نُصُوصِ المَعادِ؟ وكَذَلِكَ فَعَلَتْ الرّافِضَةُ في أحادِيثِ فَضائِلِ الخُلَفاءِ الرّاشِدِينَ وغَيْرِهِمْ مِن الصَّحابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -، وكَذَلِكَ فَعَلَتْ المُعْتَزِلَةُ في تَأْوِيلِ أحادِيثِ الرُّؤْيَةِ والشَّفاعَةِ، وكَذَلِكَ القَدَرِيَّةُ في نُصُوصِ القَدَرِ، وكَذَلِكَ الحَرُورِيَّةُ وغَيْرُهم مِن الخَوارِجِ في النُّصُوصِ الَّتِي تُخالِفُ مَذاهِبَهُمْ، وكَذَلِكَ القَرامِطَةُ والباطِنِيَّةُ طَرَدَتْ البابَ، وطَمَّثَ الوادِي عَلى القَرِيِّ، وتَأوَّلَتْ الدِّينَ كُلَّهُ، فَأصْلُ خَرابِ الدِّينِ والدُّنْيا إنّما هو مِن التَّأْوِيلِ الَّذِي لَمْ يُرِدْهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ بِكَلامِهِ ولا دَلَّ عَلَيْهِ أنَّهُ مُرادُهُ، وهَلْ اخْتَلَفَتْ الأُمَمُ عَلى أنْبِيائِهِمْ إلّا بِالتَّأْوِيلِ؟ وهَلْ وقَعَتْ في الأُمَّةِ فِتْنَةٌ كَبِيرَةٌ أوْ صَغِيرَةٌ إلّا بِالتَّأْوِيلِ؟ فَمِن بابِهِ دَخَلَ إلَيْها، وهَلْ أُرِيقَتْ دِماءُ المُسْلِمِينَ في الفِتَنِ إلّا بِالتَّأْوِيلِ؟
وَلَيْسَ هَذا مُخْتَصًّا بِدِينِ الإسْلامِ فَقَطْ، بَلْ سائِرُ أدْيانِ الرُّسُلِ لَمْ تَزَلْ عَلى الِاسْتِقامَةِ والسَّدادِ حَتّى دَخَلَها التَّأْوِيلُ، فَدَخَلَ عَلَيْها مِن الفَسادِ ما لا يَعْلَمُهُ إلّا رَبُّ العِبادِ.
وَقَدْ تَواتَرَتْ البِشاراتُ بِصِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ في الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ، ولَكِنْ سَلَّطُوا عَلَيْها التَّأْوِيلاتِ فَأفْسَدُوها، كَما أخْبَرَ - سُبْحانَهُ - عَنْهم مِن التَّحْرِيفِ والتَّبْدِيلِ والكِتْمانِ، فالتَّحْرِيفُ تَحْرِيفُ المَعانِي بِالتَّأْوِيلاتِ الَّتِي لَمْ يُرِدْها المُتَكَلِّمُ بِها، والتَّبْدِيلُ تَبْدِيلُ لَفْظٍ بِلَفْظٍ آخَرَ، والكِتْمانُ جَحْدُهُ.
وَهَذِهِ الأدْواءُ الثَّلاثَةُ مِنها غُيِّرَتْ الأدْيانُ والمِلَلُ، وإذا تَأمَّلْتَ دِينَ المَسِيحِ وجَدْتَ النَّصارى إنّما تَطَرَّقُوا إلى إفْسادِهِ بِالتَّأْوِيلِ بِما لا يَكادُ يُوجَدُ قَطُّ مِثْلُهُ في شَيْءٍ مِن الأدْيانِ، ودَخَلُوا إلى ذَلِكَ مِن بابِ التَّأْوِيلِ.
وَكَذَلِكَ زَنادِقَةُ الأُمَمِ جَمِيعُهم إنّما تَطَرَّقُوا إلى إفْسادِ دِياناتِ الرُّسُلِ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِمْ بِالتَّأْوِيلِ، ومِن بابِهِ دَخَلُوا، وعَلى أساسِهِ بَنَوْا، وعَلى نُقَطِهِ خَطُّوا.
[دَواعِي التَّأْوِيلِ]
والمُتَأوِّلُونَ أصْنافٌ عَدِيدَةٌ، بِحَسَبِ الباعِثِ لَهم عَلى التَّأْوِيلِ، وبِحَسَبِ قُصُورِ أفْهامِهِمْ ووُفُورِها، وأعْظَمُهم تَوَغُّلًا في التَّأْوِيلِ الباطِلِ مَن فَسَدَ قَصْدُهُ وفَهْمُهُ، فَكُلَّما ساءَ قَصْدُهُ وقَصُرَ فَهْمُهُ كانَ تَأْوِيلُهُ أشَدَّ انْحِرافًا، فَمِنهم مَن يَكُونُ تَأْوِيلُهُ لِنَوْعِ هَوًى مِن غَيْرِ شُبْهَةٍ، بَلْ يَكُونُ عَلى بَصِيرَةٍ مِن الحَقِّ، ومِنهم مِن يَكُونُ تَأْوِيلُهُ لِنَوْعِ شُبْهَةٍ عَرَضَتْ لَهُ أخْفَتْ عَلَيْهِ الحَقَّ [وَمِنهم مَن يَكُونُ تَأْوِيلُهُ لِنَوْعِ هُدًى مِن غَيْرِ شُبْهَةٍ، بَلْ يَكُونُ عَلى بَصِيرَةٍ مِن الحَقِّ] ومِنهم مَن يَجْتَمِعُ لَهُ الأمْرانِ الهَوى في القَصْدِ والشُّبْهَةُ في العِلْمِ.
[بَعْضُ آثارِ التَّأْوِيلِ] وبِالجُمْلَةِ فافْتِراقُ أهْلِ الكِتابَيْنِ، وافْتِراقُ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلى ثَلاثٍ وسَبْعِينَ فِرْقَةً إنّما أوْجَبَهُ التَّأْوِيلُ، وإنَّما أُرِيقَتْ دِماءُ المُسْلِمِينَ يَوْمَ الجَمَلِ وصِفِّينَ والحَرَّةِ وفِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وهَلُمَّ جَرًّا بِالتَّأْوِيلِ، وإنَّما دَخَلَ أعْداءُ الإسْلامِ مِن المُتَفَلْسِفَةِ والقَرامِطَةِ والباطِنِيَّةِ والإسْماعِيلِيَّة والنُّصَيْرِيَّةِ مِن بابِ التَّأْوِيلِ، فَما امْتُحِنَ الإسْلامُ بِمِحْنَةٍ قَطُّ إلّا وسَبَبُها التَّأْوِيلُ؛ فَإنَّ مِحْنَتَهُ إمّا مِن المُتَأوِّلِينَ، وإمّا أنْ يُسَلَّطَ عَلَيْهِمْ الكُفّارُ بِسَبَبِ ما ارْتَكَبُوا مِن التَّأْوِيلِ وخالَفُوا ظاهِرَ التَّنْزِيلِ وتَعَلَّلُوا بِالأباطِيلِ، فَما الَّذِي أراقَ دِماءَ بَنِي جَذِيمَةَ وقَدْ أسْلَمُوا غَيْرُ التَّأْوِيلِ حَتّى رَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدَيْهِ وتَبَرَّأ إلى اللَّهِ مِن فِعْلِ المُتَأوِّلِ بِقَتْلِهِمْ وأخَذَ أمْوالَهُمْ؟ وما الَّذِي أوْجَبَ تَأخُّرَ الصَّحابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ عَنْ مُوافَقَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ غَيْرُ التَّأْوِيلِ حَتّى اشْتَدَّ غَضَبُهُ لِتَأخُّرِهِمْ عَنْ طاعَتِهِ حَتّى رَجَعُوا عَنْ ذَلِكَ التَّأْوِيلِ؟ وما الَّذِي سَفَكَ دَمَ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ عُثْمانَ ظُلْمًا وعُدْوانًا وأوْقَعَ الأُمَّةَ فِيما أوْقَعَها فِيهِ حَتّى الآنَ غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟ وما الَّذِي سَفَكَ دَمَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وابْنِهِ الحُسَيْنِ وأهْلِ بَيْتِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم - غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟ وما الَّذِي أراقَ دَمَ عَمّارِ بْنِ ياسِرٍ وأصْحابِهِ غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟ وما الَّذِي أراقَ دَمَ ابْنِ الزُّبَيْرِ وحُجْرِ بْنِ عَدِيٍّ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وغَيْرِهِمْ مِن ساداتِ الأُمَّةِ غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟ وما الَّذِي أُرِيقَتْ عَلَيْهِ دِماءُ العَرَبِ في فِتْنَةِ أبِي مُسْلِمٍ غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟ وما الَّذِي جَرَّدَ الإمامَ أحْمَدَ بَيْن العِقابَيْنِ وضُرِبَ السِّياطَ حَتّى عَجَّتْ الخَلِيقَةُ إلى رَبِّها تَعالى غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟ وما الَّذِي قَتَلَ الإمامَ أحْمَدَ بْنَ نَصْرٍ الخُزاعِيَّ وخَلَّدَ خَلْقًا مِن العُلَماءِ في السُّجُونِ حَتّى ماتُوا غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟ وما الَّذِي سَلَّطَ سُيُوفَ التَّتارِ عَلى دارِ الإسْلامِ حَتّى رَدُّوا أهْلَها غَيْرُ التَّأْوِيلِ؟ وهَلْ دَخَلَتْ طائِفَةُ الإلْحادِ مِن أهْلِ الحُلُولِ والِاتِّحادِ إلّا مِن بابِ التَّأْوِيلِ؟
وَهَلْ فُتِحَ بابُ التَّأْوِيلِ إلّا مُضادَّةً ومُناقَضَةً لِحُكْمِ اللَّهِ في تَعْلِيمِهِ عِبادَهُ البَيانَ الَّذِي امْتَنَّ اللَّهُ في كِتابِهِ عَلى الإنْسان بِتَعْلِيمِهِ إيّاهُ؛ فالتَّأْوِيلُ بِالألْغازِ والأحاجِي والأُغْلُوطاتِ أوْلى مِنهُ بِالبَيانِ والتَّبْيِينِ، وهَلْ فَرَّقَ بَيْنَ دَفْعِ حَقائِقِ ما أخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ وأمَرَتْ بِهِ بِالتَّأْوِيلاتِ الباطِلَةِ المُخالِفَةِ لَهُ وبَيْنَ رَدِّهِ وعَدَمِ قَبُولِهِ، ولَكِنَّ هَذا رَدُّ جُحُودٍ ومُعانِدَةٍ، وذاكَ رَدُّ خِداعٍ ومُصانَعَةٍ.
قالَ أبُو الوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ المالِكِيُّ في كِتابِهِ المُسَمّى بِالكَشْفِ عَنْ مَناهِجِ الأدِلَّةِ " وقَدْ ذَكَرَ التَّأْوِيلَ وجِنايَتَهُ عَلى الشَّرِيعَةِ، إلى أنْ قالَ: ﴿فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ﴾ هَؤُلاءِ أهْلُ الجَدَلِ والكَلامِ، وأشَدُّ ما عَرَضَ عَلى الشَّرِيعَةِ مِن هَذا الصِّنْفِ أنَّهم تَأوَّلُوا كَثِيرًا مِمّا ظَنُّوهُ لَيْسَ عَلى ظاهِرِهِ، وقالُوا: إنّ هَذا التَّأْوِيلَ هو المَقْصُودُ بِهِ، وإنَّما أمَرَ اللَّهُ بِهِ في صُورَةِ المُتَشابِهِ ابْتِلاءً لِعِبادِهِ واخْتِبارًا لَهُمْ، ونَعُوذُ بِاللَّهِ مِن سُوءِ الظَّنِّ بِاللَّهِ، بَلْ نَقُولُ: إنّ كِتابَ اللَّهِ العَزِيزِ إنّما جاءَ مُعْجِزًا مِن جِهَةِ الوُضُوحِ والبَيانِ، فَما أبْعَدُ مِن مَقْصِدِ الشّارِعِ مَن قالَ فِيما لَيْسَ بِمُتَشابِهٍ: إنّهُ مُتَشابِهٌ، ثُمَّ أوَّلَ ذَلِكَ المُتَشابِهَ بِزَعْمِهِ، وقالَ لِجَمِيعِ النّاسِ: إنّ فَرْضَكم هو اعْتِقادُ هَذا التَّأْوِيلِ، مِثْلُ ما قالُوهُ في آيَةِ الِاسْتِواءِ عَلى العَرْشِ وغَيْرُ ذَلِكَ مِمّا قالُوا: إنّ ظاهِرَهُ مُتَشابِهٌ، ثُمَّ قالَ: وبِالجُمْلَةِ فَأكْثَرُ التَّأْوِيلاتِ الَّتِي زَعَمَ القائِلُونَ بِها أنَّها المَقْصُودُ مِن الشَّرْعِ إذا تَأمَّلْتَ وجَدْتَ لَيْسَ يَقُومُ عَلَيْها بُرْهانٌ.
[مَثَلُ المُتَأوِّلِينَ] إلى أنْ قالَ: ومِثالُ مَن أوَّلَ شَيْئًا مِن الشَّرْعِ وزَعَمَ أنَّ ما أوَّلَهُ هو الَّذِي قَصَدَهُ الشَّرْعُ مِثالُ مَن أتى إلى دَواءٍ قَدْ رَكَّبَهُ طَبِيبٌ ماهِرٌ لِيَحْفَظَ صِحَّةَ جَمِيعِ النّاسِ أوْ أكْثَرِهِمْ فَجاءَ رَجُلٌ فَلَمْ يُلائِمْهُ ذَلِكَ الدَّواءُ الأعْظَمُ لِرَداءَةِ مِزاجٍ كانَ بِهِ لَيْسَ يَعْرِضُ إلّا لِلْأقَلِّ مِن النّاسِ، فَزَعَمَ أنَّ بَعْضَ تِلْكَ الأدْوِيَةِ الَّتِي صَرَّحَ بِاسْمِها الطَّبِيبُ الأوَّلُ في ذَلِكَ الدَّواءِ العامِّ المَنفَعَةِ لَمْ يُرِدْ بِهِ ذَلِكَ الدَّواءَ العامَّ الَّذِي جَرَتْ العادَةُ في اللِّسانِ أنْ يُدَلُّ بِذَلِكَ الِاسْمِ عَلَيْهِ، وإنَّما أرادَ بِهِ دَواءً آخَرَ مِمّا يُمْكِنُ أنْ يُدَلُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ بِاسْتِعارَةٍ بَعِيدَةٍ، فَأزالَ ذَلِكَ الدَّواءَ الأوَّلَ مِن ذَلِكَ المُرَكَّبِ الأعْظَمِ، وجَعَلَ فِيهِ بَدَلَهُ الدَّواءَ الَّذِي ظَنَّ أنَّهُ قَصَدَهُ الطَّبِيبُ، وقالَ لِلنّاسِ: هَذا هو الَّذِي قَصَدَهُ الطَّبِيبُ الأوَّلُ، فاسْتَعْمَلَ النّاسُ ذَلِكَ الدَّواءَ المُرَكَّبَ عَلى الوَجْهِ الَّذِي تَأوَّلَهُ عَلَيْهِ هَذا المُتَأوِّلُ، فَفَسَدَتْ أمْزِجَةُ كَثِيرٍ مِن النّاسِ، فَجاءَ آخَرُونَ فَشَعَرُوا بِفَسادِ أمْزِجَةِ النّاسِ مِن ذَلِكَ الدَّواءِ المُرَكَّبِ، فَرامُوا إصْلاحَهُ بِأنْ بَدَّلُوا بَعْضَ أدْوِيَتِهِ بِدَواءٍ آخَرَ غَيْرِ الدَّواءِ الأوَّلِ؛ فَعَرَضَ مِن ذَلِكَ لِلنّاسِ نَوْعٌ مِن المَرَضِ غَيْرِ النَّوْعِ الأوَّلِ، فَجاءَ ثالِثٌ فَتَأوَّلَ مِن أدْوِيَةِ ذَلِكَ المُرَكَّبِ غَيْرَ التَّأْوِيلِ الأوَّلِ والثّانِي، فَعَرَضَ لِلنّاسِ مِن ذَلِكَ نَوْعٌ ثالِثٌ مِن المَرَضِ غَيْرُ النَّوْعَيْنِ المُتَقَدِّمَيْنِ، فَجاءَ مُتَأوِّلٌ رابِعٌ فَتَأوَّلَ دَواءً آخَرَ غَيْرَ الأدْوِيَةِ المُتَقَدِّمَةِ؛ فَعَرَضَ مِنهُ لِلنّاسِ نَوْعٌ رابِعٌ مِن المَرَضِ غَيْرُ الأمْراضِ المُتَقَدِّمَةِ؛ فَلَمّا طالَ الزَّمانُ بِهَذا
الدَّواءِ المُرَكَّبِ الأعْظَمِ، وسَلَّطَ النّاسُ التَّأْوِيلَ عَلى أدْوِيَتِهِ، وغَيَّرُوها وبَدَّلُوها عَرَضَ مِنهُ لِلنّاسِ أمْراضٌ شَتّى، حَتّى فَسَدَتْ المَنفَعَةُ المَقْصُودَةُ بِذَلِكَ الدَّواءِ المُرَكَّبِ في حَقِّ أكْثَرِ النّاسِ، وهَذِهِ هي حالَةِ الفِرَقِ الحادِثَةِ في هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مَعَ الشَّرِيعَةِ، وذَلِكَ أنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ مِنهم تَأوَّلَتْ غَيْرَ التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأوَّلَتْهُ الفِرْقَةُ الأُخْرى، وزَعَمَتْ أنَّهُ هو الَّذِي قَصَدَهُ صاحِبُ الشَّرْعِ حَتّى تَمَزَّقَ الشَّرْعُ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وبَعُدَ جِدًّا عَنْ مَوْضُوعِ الأوَّلِ، ولَمّا عَلِمَ صاحِبُ الشَّرْعِ - صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ وعَلى آلِهِ - أنَّ مِثْلَ هَذا يَعْرِضُ، ولا بُدَّ في شَرِيعَتِهِ قالَ ﷺ: «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلى ثَلاثٍ وسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّها في النّارِ، إلّا واحِدَةً» يَعْنِي بِالواحِدَةِ الَّتِي سَلَكَتْ ظاهِرَ الشَّرْعِ ولَمْ تُؤَوِّلْهُ.
وَأنْتَ إذا تَأمَّلْتَ ما عَرَضَ في هَذِهِ الشَّرِيعَةِ في هَذا الوَقْتِ مِن الفَسادِ العارِضِ فِيها مِن قِبَلِ التَّأْوِيلِ تَبَيَّنْتَ أنَّ هَذا المِثالَ صَحِيحٌ.
وَأوَّلُ مَن غَيَّرَ هَذا الدَّواءَ الأعْظَمَ هم الخَوارِجُ، ثُمَّ المُعْتَزِلَةُ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ الأشْعَرِيَّةُ، ثُمَّ الصُّوفِيَّةُ، ثُمَّ جاءَ أبُو حامِدٍ فَطَمَّ الوادِي عَلى القُرى، هَذا كَلامُهُ بِلَفْظِهِ.
وَلَوْ ذَهَبْنا نَسْتَوْعِبُ ما جَناهُ التَّأْوِيلُ عَلى الدُّنْيا والدِّينِ وما نالَ الأُمَمَ قَدِيمًا وحَدِيثًا بِسَبَبِهِ مِن الفَسادِ لاسْتَدْعى ذَلِكَ عِدَّةَ أسْفارٍ، واللَّهُ المُسْتَعانُ.
{"ayah":"هُوَ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ مِنۡهُ ءَایَـٰتࣱ مُّحۡكَمَـٰتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلۡكِتَـٰبِ وَأُخَرُ مُتَشَـٰبِهَـٰتࣱۖ فَأَمَّا ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِمۡ زَیۡغࣱ فَیَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنۡهُ ٱبۡتِغَاۤءَ ٱلۡفِتۡنَةِ وَٱبۡتِغَاۤءَ تَأۡوِیلِهِۦۖ وَمَا یَعۡلَمُ تَأۡوِیلَهُۥۤ إِلَّا ٱللَّهُۗ وَٱلرَّ ٰسِخُونَ فِی ٱلۡعِلۡمِ یَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِۦ كُلࣱّ مِّنۡ عِندِ رَبِّنَاۗ وَمَا یَذَّكَّرُ إِلَّاۤ أُو۟لُوا۟ ٱلۡأَلۡبَـٰبِ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق