الباحث القرآني

وَهي تُسَمّى آيَةُ المَحَبَّةِ. قالَ أبُو سُلَيْمانَ الدّارانِيُّ: لَمّا ادَّعَتِ القُلُوبُ مَحَبَّةَ اللَّهِ: أنْزَلَ اللَّهُ لَها مِحْنَةً ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾. قالَ بَعْضُ السَّلَفِ: ادَّعى قَوْمٌ مَحَبَّةَ اللَّهِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ المِحْنَةِ ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾. وَقالَ " ﴿يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ " إشارَةٌ إلى دَلِيلِ المَحَبَّةِ وثَمَرَتِها، وفائِدَتِها. فَدَلِيلُها وعَلامَتُها: اتِّباعُ الرَّسُولِ. وفائِدَتُها وثَمَرَتُها: مَحَبَّةُ المُرْسَلِ لَكم. فَما لَمْ تَحْصُلِ المُتابَعَةُ. فَلَيْسَتْ مَحَبَّتُكم لَهُ حاصِلَةً. ومَحَبَّتُهُ لَكم مُنْتَفِيَةً. أصْلُ العِبادَةِ: مَحَبَّةُ اللَّهِ، بَلْ إفْرادُهُ بِالمَحَبَّةِ، وأنْ يَكُونَ الحُبُّ كُلُّهُ لِلَّهِ، فَلا يُحِبُّ مَعَهُ سِواهُ، وإنَّما يُحِبُّ لِأجْلِهِ وفِيهِ، كَما يُحِبُّ أنْبِياءَهُ ورُسُلَهُ ومَلائِكَتَهُ وأوْلِياءَهُ، فَمَحَبَّتُنا لَهم مِن تَمامِ مَحَبَّتِهِ، ولَيْسَتْ مَحَبَّةً مَعَهُ، كَمَحَبَّةِ مَن يَتَّخِذُ مَن دُونِ اللَّهِ أنْدادًا يُحِبُّونَهم كَحُبِّهِ. وَإذا كانَتِ المَحَبَّةُ لَهُ هي حَقِيقَةَ عُبُودِيَّتِهِ وسِرَّها، فَهي إنَّما تَتَحَقَّقُ بِاتِّباعِ أمْرِهِ، واجْتِنابِ نَهْيِهِ، فَعِنْدَ اتِّباعِ الأمْرِ واجْتِنابِ النَّهْيِ تَتَبَيَّنُ حَقِيقَةُ العُبُودِيَّةِ والمَحَبَّةِ، ولِهَذا جَعَلَ تَعالى اتِّباعَ رَسُولِهِ عَلَمًا عَلَيْها، وشاهِدًا لِمَنِ ادَّعاها، فَقالَ تَعالى ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: ٣١] فَجَعَلَ اتِّباعَ رَسُولِهِ مَشْرُوطًا بِمَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ، وشَرْطًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ، ووُجُودُ المَشْرُوطِ مُمْتَنِعٌ بِدُونِ وُجُودِ شَرْطِهِ وتَحَقُّقُهُ بِتَحَقُّقِهِ فَعُلِمَ انْتِفاءُ المَحَبَّةِ عِنْدَ انْتِفاءِ المُتابَعَةِ، فانْتِفاءُ مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ لازِمٌ لِانْتِفاءِ المُتابَعَةِ لِرَسُولِهِ، وانْتِفاءُ المُتابَعَةِ مَلْزُومٌ لِانْتِفاءِ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ، فَيَسْتَحِيلُ إذًا ثُبُوتُ مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ، وثُبُوتُ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهم بِدُونِ المُتابَعَةِ لِرَسُولِهِ. وَدَلَّ عَلى أنَّ مُتابَعَةَ الرَّسُولِ ﷺ هي حُبُّ اللَّهِ ورَسُولِهِ، وطاعَةُ أمْرِهِ، ولا يَكْفِي ذَلِكَ في العُبُودِيَّةِ حَتّى يَكُونَ اللَّهُ ورَسُولُهُ أحَبَّ إلى العَبْدِ مِمّا سِواهُما، فَلا يَكُونُ عِنْدَهُ شَيْءٌ أحَبَّ إلَيْهِ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ، ومَتى كانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ أحَبَّ إلَيْهِ مِنهُما فَهَذا هو الشِّرْكُ الَّذِي لا يَغْفِرُهُ اللَّهُ لِصاحِبِهِ البَتَّةَ، ولا يَهْدِيهِ اللَّهُ، قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿قُلْ إنْ كانَ آباؤُكم وأبْناؤُكم وإخْوانُكم وأزْواجُكم وعَشِيرَتُكم وأمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها ومَساكِنُ تَرْضَوْنَها أحَبَّ إلَيْكم مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ وجِهادٍ في سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ﴾ [التوبة: ٢٤]. فَكُلُّ مَن قَدَّمَ طاعَةَ أحَدٍ مِن هَؤُلاءِ عَلى طاعَةِ اللَّهِ ورَسُولِهِ، أوْ قَوْلَ أحَدٍ مِنهم عَلى قَوْلِ اللَّهِ ورَسُولِهِ، أوْ مَرْضاةَ أحَدٍ مِنهم عَلى مَرْضاةِ اللَّهِ ورَسُولِهِ، أوْ خَوْفَ أحَدٍ مِنهم ورَجاءَهُ والتَوَكُّلَ عَلَيْهِ عَلى خَوْفِ اللَّهِ ورَجائِهِ والتَوَكُّلِ عَلَيْهِ، أوْ مُعامَلَةَ أحَدِهِمْ عَلى مُعامَلَةِ اللَّهِ فَهو مِمَّنْ لَيْسَ اللَّهُ ورَسُولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ مِمّا سِواهُما، وإنْ قالَهُ بِلِسانِهِ فَهو كَذِبٌ مِنهُ، وإخْبارٌ بِخِلافِ ما هو عَلَيْهِ، وكَذَلِكَ مَنَّ قَدَّمَ حُكْمَ أحَدٍ عَلى حُكْمِ اللَّهِ ورَسُولِهِ، فَذَلِكَ المُقَدَّمُ عِنْدَهُ أحَبُّ إلَيْهِ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ، لَكِنْ قَدْ يَشْتَبِهُ الأمْرُ عَلى مَن يُقَدِّمُ قَوْلَ أحَدٍ أوْ حُكْمَهُ، أوْ طاعَتَهُ أوْ مَرْضاتَهُ، ظَنًّا مِنهُ أنَّهُ لا يَأْمُرُ ولا يَحْكُمُ ولا يَقُولُ إلّا ما قالَهُ الرَّسُولُ، فَيُطِيعُهُ، ويُحاكِمُ إلَيْهِ، ويَتَلَقّى أقْوالَهُ كَذَلِكَ، فَهَذا مَعْذُورٌ إذا لَمْ يَقْدِرْ عَلى غَيْرِ ذَلِكَ، وأمّا إذا قَدَرَ عَلى الوُصُولِ إلى الرَّسُولِ، وعَرَفَ أنَّ غَيْرَ مَنِ اتَّبَعَهُ هو أوْلى بِهِ مُطْلَقًا، أوْ في بَعْضِ الأُمُورِ، ولَمْ يَلْتَفِتْ إلى الرَّسُولِ ولا إلى مَن هو أوْلى بِهِ، فَهَذا الَّذِي يُخافُ عَلَيْهِ، وهو داخِلٌ تَحْتَ الوَعِيدِ، فَإنِ اسْتَحَلَّ عُقُوبَةَ مَن خالَفَهُ وأذَلَّهُ، ولَمْ يُوافِقْهُ عَلى اتِّباعِ شَيْخِهِ، فَهو مِنَ الظَّلَمَةِ المُعْتَدِينَ، وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا. * (فصل) قال الحسن: قال قوم على عهد النبي ﷺ: إنا نحب ربنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية: ﴿قُل إن كنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ وقال الجنيد: ادَّعى قوم محبة الله فأنزل الله آية المحبة: ﴿قُل إن كنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتَّبِعُونِى يُحْبِبْكُمُ اللهُ﴾ يعني أن متابعة الرسول هي موافقة حبيبكم، فإنه المبلغ عنه ما يحبه وما يكرهه وهي قوله فمتابعته موافقة لله في فعل ما يحب وترك ما يكره. وقال مالك في هذه الآية: من أحب طاعة الله أحبه الله وحببه إلى خلقه وإنما كانت موافقة المحبوب دليلًا على محبته لأن من أحب حبيبًا فلا بد أن يحب ما يحبه ويبغض ما يبغضه، وإلا لم يكن محبًا له محبة صادقة، بل تخلف ذلك عنه وإلا لم يكن محبًا له، بل يكون محبًا لمراده أحبه محبوبه أم كرهه ومحبوبه عنده وسيلة إلى ذلك المراد، فلو حصل له حظه من غيره ترحل عوضه. فهذه المحبة المدخولة الفاسدة، وإذا كانت المحبة الصحيحة تستدعى حب ما يحبه المحبوب وبغض ما يبغضه فلا بد أن يوافقه فيه. ولكن هاهنا مسألة يغلط فيها كثير من المدعين للمحبة، وهي أن موافقة المحبوب في مراده ليس المعنى بها مراده الخلقي الكونى، فإن كل الكون مراده، وكل ما يفعله الخلائق فهو موجب مشيئته وإرادته الكونية، فلو كانت موافقته في هذا المراد هي محبته لم يكن له عدو أصلًا، وكانت الشياطين والكفار والمشركون عباد الأوثان والشمس والقمر أولياءَه وأحبابه، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. وإنما يظن ذلك من يظنه من أعدائه الجاحدين لمحبته ودينه، الذين يسوون بين أوليائه وأعدائه. قال الله تعالى: ﴿أمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ كالمُفسِدِينَ فِى الأرْضِ أمْ نَجْعَلُ المُتَّقِينَ كالفُجّار﴾ [ص: ٢٨]، وقال الله تعالى: ﴿أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيئاتِ أنْ نَّجْعَلَهم كالَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَواءً مَحْياهم ومَماتُهُمْ، ساءَ ما يَحْكُمُونَ﴾ [الجاثية: ٢١]، وقال الله تعالى: ﴿أفَنَجْعَلَ المُسْلِمِينَ كالمُجْرِمِينَ ما لَكم كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [القلم: ٣٥-٣٦] فأنكر سبحانه على من سوى بين المسلمين والمجرمين، وبين المطيعين والمفسدين مع أن الكل تحت المراد الكوني والمشيئة العامة. * (فائدة) وَتَأمَّلْ قَوْلَهُ ﴿فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ أيِ الشَّأْنُ في أنَّ اللَّهَ يُحِبُّكم. لا في أنَّكم تُحِبُّونَهُ، وهَذا لا تَنالُونَهُ إلّا بِاتِّباعِ الحَبِيبِ ﷺ. (فائدة أخرى) الزهد خمسة أقسام زهد في الدنيا، وزهد في النفس، وزهد في الجاه والرئاسة، وزهد فيما سوى المحبوب، وزهد في كل إرادة تخالف مراد المحبوب، وهذا إنما يحصل بكمال المتابعة لرسول الحبيب قال الله تعالى ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ويَغْفِرْ لَكم ذُنُوبَكم واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فجعل سبحانه متابعة رسوله سببا لمحبتهم له، وكون العبد محبوبا لله أعلى من كونه محبا لله، فليس الشأن أن تحب الله ولكن الشأن أن يحبك الله، فالطاعة للمحبوب عنوان محبته كما قيل ؎تعصي الإله وأنت تزعم حبه ∗∗∗ هذا محال في القياس بديع ؎لو كان حبك صادقا لأطعته ∗∗∗ إن المحب لمن يحب مطيع
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب