الباحث القرآني
اسْتشْهد سُبْحانَهُ بأولي العلم على أجل مشهود عَلَيْهِ وهو توحيده فَقالَ ﴿شهد الله أنه لا إلَه إلّا هو والمَلائِكَة وأولو العلم قائِما بِالقِسْطِ﴾
وَهَذا يدل على فضل العلم وأهله من وُجُوه:
أحدها استشهادهم دون غَيرهم من البشر
والثّانِي اقتران شَهادَتهم بِشَهادَتِهِ
والثّالِث اقترانها بِشَهادَة مَلائكَته
والرّابِع أن في ضمن هَذا تزكيتهم وتعديلهم فإن الله لا يستشهد من خلقه إلا العُدُول ومِنه الأثر المَعْرُوف عَن النَّبِي "يحمل هَذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عَنهُ تَحْرِيف الغالين وانتحال المبطلين وتَأْويل الجاهِلين"
وَقالَ مُحَمَّد بن أحْمَد بن يَعْقُوب بن شيبَة رَأيْت رجلا قدم رجلا إلى إسماعيل بن إسْحاق القاضِي فادّعى عَلَيْهِ دَعْوى فَسَألَ المُدعى عَلَيْهِ فأنكر فَقالَ للْمُدَّعي ألك بَيِّنَة قالَ نعم فلان وفُلان قالَ أما فلان فَمن شهودي، وأما فلان فَلَيْسَ من شهودي
قالَ فيعرفه القاضِي قالَ نعم قالَ بِماذا قالَ أعرفه بكتب الحَدِيث قالَ فَكيف تعرفه في كتبه الحَدِيث؟ قالَ ما علمت إلا خيرا
قالَ فإن النَّبِي قالَ يحمل هَذا العلم من كل خلف عدوله فَمن عدله رَسُول الله أولى مِمَّن عدلته أنت فَقالَ قُم فهاته فقد قبلت شَهادَته.
وَسَيَأْتِي إن شاءَ الله الكَلام على هَذا الحَدِيث في مَوْضِعه.
الخامِس أنه وصفهم بكونهم أولي العلم وهَذا يدل على اختصاصهم بِهِ وأنهم أهله وأصحابه لَيْسَ بمستعار لَهُم
السّادِس أنه سُبْحانَهُ اسْتشْهد بِنَفسِهِ وهو أجل شاهد ثمَّ بِخِيار خلقه وهم مَلائكَته والعُلَماء من عباده ويكفيهم بِهَذا فضلا وشرفا.
السّابِع أنه اسْتشْهد بهم على أجل مشهود بِهِ وأعظمه وأكبره وهو شَهادَة أن لا إلَه إلّا الله، والعظيم القدر إنما يستشهد على الأمر العَظِيم أكابر الخلق وساداتهم.
الثّامِن أنه سُبْحانَهُ جعل شَهادَتهم حجَّة على المنكرين فهم بِمَنزِلَة آدلته وآياته وبراهنيه الدّالَّة على توحيده.
التّاسِع أنه سُبْحانَهُ أفرد الفِعْل المتضمن لهَذِهِ الشَّهادَة لصادرة مِنهُ ومن مَلائكَته ومِنهُم ولم يعْطف شَهادَتهم بِفعل آخر غير شَهادَته، وهَذا يدل على شدَّة ارتباط شَهادَتهم بِشَهادَتِهِ فَكَأنَّهُ سُبْحانَهُ شهد لنَفسِهِ بِالتَّوْحِيدِ على ألسنتهم وأنطقهم بِهَذِهِ الشَّهادَة فَكانَ هو الشّاهِد بها لنَفسِهِ إقامَة وإنطاقا وتعليما، وهم الشاهدون بها لَهُ إقْرارا واعترافا وتَصْدِيقًا وإيمانا.
العاشِر أنه سُبْحانَهُ جعلهم مؤدين لحقه عند عباده بِهَذِهِ الشَّهادَة فَإذا أدوها فقد أدوا الحق المَشْهُود بِهِ فَثَبت الحق المَشْهُود بِهِ فَوَجَبَ على الخلق الإقرار بِهِ وكانَ ذَلِك غايَة سعادتهم في معاشهم ومعادهم وكل من ناله الهدى بِشَهادَتِهِم وأقر بِهَذا الحق بِسَبَب شَهادَتهم فَلهم من الأجر مثل أجره وهَذا فضل عَظِيم لا يدري قدره إلا الله وكَذَلِكَ كل من شهد بها عَن شَهادَتهم فَلهم من الأجر مثل أجره أيضا فَهَذِهِ عشرَة أوجه في هَذِه الآية.
الحادِي عشر في تَفْضِيل العلم وأهله أنه سُبْحانَهُ نفي التَّسْوِيَة بَين أهله وبَين غَيرهم كَما نفى التَّسْوِيَة بَين أصحاب الجنَّة وأصحاب النّار فَقالَ تَعالى ﴿قل هَل يستوي الَّذين يعلمُونَ والَّذين لا يعلمُونَ﴾ كَما قالَ تَعالى ﴿لا يستوي أصحاب النّار وأصحاب الجنَّة﴾ وهَذا يدل على غايَة فَضلهمْ وشرفهم.
الوَجْه الثّانِي عشر أنه سُبْحانَهُ جعل أهل الجَهْل بِمَنزِلَة العميان الَّذين لا يبصرون فَقالَ (أفَمَن يَعْلَمُ أنَّما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحَقُّ كَمَن هو أعْمى} فَما ثمَّ إلا عالم أوْ أعمى، وقد وصف سُبْحانَهُ أهل الجَهْل بِأنَّهُم صم بكم عمي في غير مَوضِع من كِتابه.
الوَجْه الثّالِث عشر أنه سُبْحانَهُ أخبر عَن أولي العلم بأنهم يرَوْنَ أن ما أنْزلْ إليه من ربه حَقًا وجعل هَذا ثَناء عَلَيْهِم واستشهادا بهم فَقالَ تَعالى ﴿وَيَرى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ هو الحَقَّ﴾.
الوَجْه الرّابِع عشر أنه سُبْحانَهُ أمر بسؤالهم والرُّجُوع إلى أقْوالهم وجعل ذَلِك كالشَّهادَةِ مِنهُم فَقالَ ﴿وَما أرْسَلْنا قَبْلَكَ إلّا رِجالًا نُوحِي إلَيْهِمْ فاسْألُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧)﴾
وأهل الذّكر هم أهل العلم بِما أنْزلْ على الأنبياء.
الوَجْه الخامِس عشر أنه سُبْحانَهُ شهد لأهل العلم شَهادَة في ضمنها الاستشهاد بهم على صِحَة ما أنْزلْ الله على رَسُوله فَقالَ تَعالى ﴿أفَغَيْرَ اللَّهِ أبْتَغِي حَكَمًا وهو الَّذِي أنْزَلَ إلَيْكُمُ الكِتابَ مُفَصَّلًا والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْلَمُونَ أنَّهُ مُنَزَّلٌ مِن رَبِّكَ بِالحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (١١٤)﴾
الوَجْه السّادِس عشر أنه سُبْحانَهُ سلى نبيه بإيمان أهل العلم بِهِ وأمره أن لا يعبأ بالجاهلين شَيْئا فَقالَ تَعالى ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْناهُ لِتَقْرَأهُ عَلى النّاسِ عَلى مُكْثٍ ونَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أوْ لا تُؤْمِنُوا إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأذْقانِ سُجَّدًا (١٠٧) ويَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إنْ كانَ وعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (١٠٨)﴾
وَهَذا شرف عَظِيم لهل العلم وتَحْته أن أهله العالمُونَ قد عرفوه وآمنوا بِهِ وصَدقُوا فَسَواء آمن بِهِ غَيرهم أو لا.
الوَجْه السّابِع عشر أنه سُبْحانَهُ مدح أهل العلم وأثنى عَلَيْهِم وشرفهم بأن جعل كِتابه آيات بَيِّنات في صُدُورهمْ وهَذِه خاصَّة ومنقبة لَهُم دون غَيرهم فَقالَ تَعالى ﴿وَكَذَلِكَ أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ فالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ومِن هَؤُلاءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ وما يَجْحَدُ بِآياتِنا إلّا الكافِرُونَ (٤٧) وما كُنْتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتابٍ ولا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذًا لارْتابَ المُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هو آياتٌ بَيِّناتٌ في صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وما يَجْحَدُ بِآياتِنا إلّا الظّالِمُونَ (٤٩)﴾
وَسَواء كانَ المَعْنى أن القُرْآن مُسْتَقر في صُدُور الَّذين أوتوا العلم ثابت فِيها مَحْفُوظ وهو في نَفسه آيات بَيِّنات فَيكون أخبر عَنهُ بخبرين أحدهما أنه آيات بَيِّنات.
الثّانِي أنه مَحْفُوظ مُسْتَقر ثابت في صُدُور الَّذين أوتوا العلم أوْ كانَ المَعْنى أنه آيات بَيِّنات في صُدُورهمْ أي كَونه آيات بَيِّنات مَعْلُوم لَهُم ثابت في صُدُورهمْ.
والقَوْلان متلازمان ليسا بمختلفين وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَهو مدح لَهُم وثناء عَلَيْهِم في ضمنه الاستشهاد بهم فَتَأمّله.
الوَجْه الثّامِن عشر أنه سُبْحانَهُ أمر نبيه أن يسْأله مزِيد العلم فَقالَ تَعالى في سورة طه ﴿فَتَعالى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ ولا تَعْجَلْ بِالقُرْآنِ مِن قَبْلِ أنْ يُقْضى إلَيْكَ وحْيُهُ وقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (١١٤)﴾
وَكفى بِهَذا شرفا للْعلم أن امْر نبيه أن يسْأله المَزِيد مِنهُ.
الوَجْه التّاسِع عشر أنه سُبْحانَهُ أخبر عَن رفْعَة دَرَجات أهل العلم والإيمان خاصَّة فَقالَ تَعالى في سورة المجادلة ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا قِيلَ لَكم تَفَسَّحُوا في المَجالِسِ فافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكم وإذا قِيلَ انْشُزُوا فانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكم والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجاتٍ واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١)﴾
وَقد أخبر سُبْحانَهُ في كِتابه بِرَفْع الدَّرَجات في أربعة مَواضِع أحدها هَذا والثّانِي قَوْله إنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذين إذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم وإذا تليت عَلَيْهِم آياته زادتهم إيمانًا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلاة ومِمّا رَزَقْناهم يُنْفقُونَ أولئك هم المُؤْمِنُونَ حَقًا لَهُم دَرَجات عند رَبهم ومغفرة ورزق كريم والثّالِث قوله تَعالى: ﴿وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصّالِحاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ العُلى (٧٥)﴾ والرّابِع قوله تَعالى: ﴿وَفَضَّلَ اللَّهُ المُجاهِدِينَ عَلى القاعِدِينَ أجْرًا عَظِيمًا (٩٥) دَرَجاتٍ مِنهُ ومَغْفِرَةً ورَحْمَةً ... (٩٦)﴾
فَهَذِهِ أربعة مَواضِع في ثَلاثَة مِنها الرّفْعَة بالدرجات لأهل الإيمان الَّذِي هو العلم النافع والعَمَل الصّالح
والرّابِع الرّفْعَة بِالجِهادِ فَعادَت رفْعَة الدَّرَجات كلها إلى العلم والجهاد اللَّذين بهما قوام الدّين.
الوَجْه العشْرُونَ أنه سُبْحانَهُ اسْتشْهد بِأهْل العلم والإيمان يَوْم القِيامَة على بطلان قَول الكفّار فَقالَ تَعالى ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السّاعَةُ يُقْسِمُ المُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذَلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وقالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ والإيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ في كِتابِ اللَّهِ إلى يَوْمِ البَعْثِ فَهَذا يَوْمُ البَعْثِ ولَكِنَّكم كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦)﴾.
الوَجْه الحادِي والعشْرُونَ أنه سُبْحانَهُ أخبر أنهم أهل خَشيته بل خصهم من بَين النّاس بذلك فَقالَ تَعالى في سورة فاطر ﴿إنَّما يخْشى الله من عباده العلماء إن الله عَزِيز غَفُور﴾ وهَذا حصر لخشيته في أولي العلم وقالَ تَعالى ﴿جَزاؤُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها أبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم ورَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَن خَشِيَ رَبَّهُ (٨)﴾
وَقد أخبر أن أهل خَشيته هم العلماء فَدلَّ على أن هَذا الجَزاء المَذْكُور للْعُلَماء بِمَجْمُوع النصين.
وَقالَ ابْن مَسْعُود رضى الله عَنهُ كفى بخشية الله علما وكفى بالاغترار بِالله جهلا.
الوَجْه الثّانِي والعشْرُونَ أنه سُبْحانَهُ أخبر عَن أمثاله الَّتِي يضْربها لِعِبادِهِ يدلهم على صِحَة ما أخبر بِهِ أن أهل العلم هم المنتفعون بها المختصون بعلمها فَقالَ تَعالى ﴿وَتلك الأمثال نَضْرِبها للنّاس وما يَعْقِلها إلّا العالمُونَ﴾
وَفِي القُرْآن بضعَة وأربعون مثلا وكانَ بعض السّلف إذا مر بِمثل لا يفهمهُ يبكي ويَقُول لست من العالِمين.
الوَجْه الثّالِث والعشْرُونَ أنه سُبْحانَهُ ذكر مناظرة إبْراهِيم لأبيه وقَومه وغلبته لَهُم بِالحجَّةِ وأخْبر عَن تفضيله بذلك ورَفعه دَرَجَته بِعلم الحجَّة فَقالَ تَعالى عقيب مناظرته لابيه وقَومه في سُورَة الأنعام ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن نَشاءُ إنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٨٣)﴾ قالَ زيد بن أسلم رضى الله عَنهُ ﴿نرفع دَرَجات من نشاء﴾ بِعلم الحجَّة.
الوَجْه الرّابِع والعشْرُونَ أنه سُبْحانَهُ أخبر أنه خلق الخلق ووضع بَيته الحَرام والشهر الحَرام والهدى والقلائد ليعلم عباده أنه بِكُل شَيْء عليم وعَلى كل شَيْء قدير فَقالَ تَعالى ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ومِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وأنَّ اللَّهَ قَدْ أحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (١٢)﴾
فَدلَّ على أن علم العباد برَبهمْ وصِفاته وعبادته وحده هو الغايَة المَطْلُوبَة من الخلق والأمر.
الوَجْه الخامِس والعشْرُونَ أن الله سُبْحانَهُ أمر أهل العلم بالفرح بِما آتاهُم وأخْبر أنه خير مِمّا يجمع النّاس فَقالَ تَعالى ﴿قل بِفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مِمّا يجمعُونَ﴾
وَفسّر فضل الله بالإيمان، ورَحمته بِالقُرْآنِ، والإيمان والقُرْآن هما العلم النافع والعَمَل الصّالح والهدى ودين الحق وهما أفضل علم وأفضل عمل.
الوَجْه السّادِس والعشْرُونَ أنه سُبْحانَهُ شهد لمن آتاهُ العلم بأنه قد آتاهُ خيرا كثيرا فَقالَ تَعالى في سورة البقرة ﴿يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشاءُ ومَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ... (٢٦٩)﴾
قالَ ابْن قُتَيْبَة والجُمْهُور الحِكْمَة إصابَة الحق والعَمَل بِهِ وهِي العلم النافع والعَمَل الصّالح.
الوَجْه السّابِع والعشْرُونَ أنه سُبْحانَهُ عدد نعمه وفضله على رَسُوله وجعل من أجلها أن آتاهُ الكتاب والحكمَة وعلمه ما لم يكن يعلم فَقالَ تَعالى ﴿وَأنزل الله عَلَيْك الكتاب والحكمَة وعلمك ما لم تكن تعلم وكانَ فضل الله عَلَيْك عَظِيما﴾.
الوَجْه الثّامِن والعشْرُونَ أنه سُبْحانَهُ ذكر عباده المُؤمنِينَ بِهَذِهِ النِّعْمَة وأمرهمْ بشكرها وأن يذكروه على إسدائها إليهم فَقالَ تَعالى ﴿كَما أرْسَلْنا فِيكم رَسُولًا مِنكم يَتْلُو عَلَيْكم آياتِنا ويُزَكِّيكم ويُعَلِّمُكُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ ويُعَلِّمُكم ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فاذْكُرُونِي أذْكُرْكم واشْكُرُوا لِي ولا تَكْفُرُونِ (١٥٢)﴾.
الوَجْه التّاسِع والعشْرُونَ أنه سُبْحانَهُ لما أخبر مَلائكَته بِأنَّهُ يُرِيد أن يَجْعَل في الأرض خَليفَة قالُوا لَهُ ﴿أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها ويَسْفِكُ الدِّماءَ ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ قالَ إنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهم عَلى المَلائِكَةِ فَقالَ أنْبِئُونِي بِأسْماءِ هَؤُلاءِ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إلّا ما عَلَّمْتَنا إنَّكَ أنْتَ العَلِيمُ الحَكِيمُ (٣٢)﴾
إلى آخر قصَّة آدم وأمر المَلائِكَة بِالسُّجُود لآدَم فَأبى إبليس فلعنه وأخرجه من السَّماء.
وَبَيان فضل العلم من هَذِه القِصَّة من وُجُوه:
أحدها أنه سُبْحانَهُ رد على المَلائِكَة لما سَألُوهُ كَيفَ يَجْعَل في الأرض من هم أطوع لَهُ مِنهُ فَقالَ ﴿إني أعْلَم ما لا تعلمُونَ﴾
فَأجاب سُؤالهمْ بِأنَّهُ يعلم من بواطن الأمور وحقائقها ما لا يعلمونه وهو العَلِيم الحَكِيم، فَظهر من هَذا الخَلِيفَة من خِيار خلقه ورُسُله وأنبيائه وصالحي عباده والشُّهَداء والصديقين والعُلَماء وطبقات أهل العلم والإيمان من هو خير من المَلائِكَة، وظهر من إبليس من هو شَرّ العالمين فَأخْرج سُبْحانَهُ هَذا وهَذا، والمَلائِكَة لم يكن لَها علم لا بِهَذا ولا بِهَذا ولا بِما في خلق آدم وإسكانه الأرض من الحكم الباهرة.
الثّانِي أنه سُبْحانَهُ لما أراد إظهار تَفْضِيل آدم وتمييزه وفضله ميزه عَلَيْهِم بِالعلمِ فَعلمه الأسماء كلها ﴿ثمَّ عرضهمْ على المَلائِكَة فَقالَ أنبئوني بأسماء هَؤُلاءِ إن كُنْتُم صادِقين﴾ جاءَ في التَّفْسِير أنهم قالُوا لن يخلق رَبنا خلقا هو أكرم عَلَيْهِ منا، فظنوا أنهم خير وأفضل من الخَلِيفَة الَّذِي يَجعله الله في الأرض فَلَمّا امتحنهم بِعلم ما علمه لهَذا الخَلِيفَة أقروا بِالعَجزِ وجَهل ما لم يعلموه فَقالُوا ﴿سُبْحانَكَ لا علم لنا إلّا ما علمتنا إنك أنت العَلِيم الحَكِيم﴾ فَحِينَئِذٍ أظهر لَهُم فضل آدم بِما خصّه بِهِ من العلم فَقالَ يا آدم أنبئهم بأسمائهم فَلَمّا أنبأهم بِأسْمائِهِمْ أقرُّوا لَهُ بِالفَضْلِ.
الثّالِث أنه سُبْحانَهُ لما أن عرفهم فضل آدم بِالعلمِ وعجزهم عَن معرفَة ما علمه قالَ لَهُم ﴿ألَمْ أقُلْ لَكم إنِّي أعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ والأرْضِ وأعْلَمُ ما تُبْدُونَ وما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣)﴾
فعرفهم سُبْحانَهُ نَفسه بِالعلمِ وأنه أحاط علما بظاهرهم وباطِنهمْ وبغيب السَّماوات والأرض فتعرف إليهم بِصفة العلم وعرفهم فضل نبيه وكليمه بِالعلمِ وعجزهم عَمّا آتاهُ آدم من العلم وكفى بِهَذا شرفا للْعلم.
الرّابِع أنه سُبْحانَهُ جعل في آدم من صِفات الكَمال ما كانَ بِهِ أفضل من غَيره من المَخْلُوقات، وأرادَ سُبْحانَهُ أن يظْهر لملائكته فَضله وشرفه فأظهر لَهُم أحسن ما فِيهِ وهو علمه فَدلَّ على أن العلم أشرف ما في الإنسان وأن فَضله وشرفه إنَّما هو بِالعلمِ.
وَنَظِير هَذا ما فعله بِنَبِيِّهِ يُوسُف عَلَيْهِ السَّلام لما أرادَ إظهار فَضله وشرفه على أهل زَمانه كلهم أظهر للْملك وأهل مصر من علمه بِتَأْوِيل رُؤْياهُ ما عجز عَنهُ عُلَماء التَّعْبِير، فَحِينَئِذٍ قدمه ومكنه وسلم إليه خَزائِن الأرض وكانَ قبل ذَلِك قد حَبسه على ما رَآهُ من حسن وجهه وجمال صورته، ولما ظهر لَهُ حسن صُورَة علمه وجمال مَعْرفَته أطلقه من الحَبْس ومكنه في الأرض، فَدلَّ على أن صُورَة العلم عند بني آدم أبهى وأحسن من الصُّورَة الحسية، ولَو كانَت أجمل صُورَة.
وَهَذا وجه مُسْتَقل في تَفْضِيل العلم مُضاف إلى ما تقدم فتم بِهِ ثَلاثُونَ وجها.
الوَجْه الحادِي والثَّلاثُونَ أنه سُبْحانَهُ ذمّ أهل الجَهْل في مَواضِع كَثِيرَة من كِتابه فَقالَ تَعالى ﴿وَلَكِن أكثرهم يجهلون﴾ وقالَ ﴿وَلَكِن أكثرهم لا يعلمُونَ﴾ وقالَ تَعالى ﴿أمْ تَحْسَبُ أنَّ أكْثَرَهم يَسْمَعُونَ أوْ يَعْقِلُونَ إنْ هم إلّا كالأنْعامِ بَلْ هم أضَلُّ سَبِيلًا (٤٤)﴾
فَلم يقْتَصر سُبْحانَهُ على تَشْبِيه الجُهّال بالأنعام حَتّى جعلهم أضل سَبِيلا مِنهُم.
وَقالَ ﴿إنَّ شَرَّ الدَّوابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ البُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢)﴾
أخبر أن الجُهّال شَرّ الدَّوابّ عِنْده على اخْتِلاف أصنافها من الحمير والسِّباع والكلاب والحشرات وسائِر الدَّوابّ فالجهال شَرّ مِنهُم ولَيْسَ عَليّ دين الرُّسُل أضر من الجُهّال بل اعداؤهم على الحَقِيقَة وقالَ تَعالى لنَبيه وقد أعاذه ﴿فلا تكونن من الجاهِلين﴾
وَقالَ كليمه مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاة والسَّلام ﴿أعوذ بِالله أن أكون من الجاهِلين﴾ وقالَ لأوّل رسله نوح عَلَيْهِ السَّلام ﴿إنِّي أعظك أن تكون من الجاهِلين﴾
فَهَذِهِ حال الجاهِلين عِنْده والأول حال أهل العلم عِنْده، وأخْبَرْ سُبْحانَهُ عَن عُقُوبَته لأعدائه أنه مَنعهم علم كِتابه ومعرفته وفقهه فَقالَ تَعالى ﴿وَإذا قَرَأْتَ القُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجابًا مَسْتُورًا (٤٥) وجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أكِنَّةً أنْ يَفْقَهُوهُ وفي آذانِهِمْ وقْرًا ... (٤٦)﴾
وَأمر نبيه بالإعراض عَنْهُم فَقالَ ﴿وَأعْرض عَن الجاهِلين﴾ وأثنى على عباده بالإعراض عَنْهُم ومتاركتهم كَما في قَوْله ﴿وَإذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أعْرَضُوا عَنْهُ وقالُوا لَنا أعْمالُنا ولَكم أعْمالُكم سَلامٌ عَلَيْكم لا نَبْتَغِي الجاهِلِينَ (٥٥)﴾
وَقالَ تَعالى ﴿وَإذا خاطبهم الجاهلون قالُوا سَلاما﴾ وكل هَذا يدل على قبح الجَهْل عِنْده وبغضه للْجَهْل وأهله وهو كَذَلِك عند النّاس فَإن كل أحْد يتبرأ مِنهُ وإن كانَ فيه.
الوجه الثّانِي والثَّلاثُونَ أن العلم حَياة ونور، والجهل موت وظلمة، والشَّر كُله سَببه عدم الحَياة والنور، والخَيْر كُله سَببه النُّور والحياة فَإن النُّور يكْشف عَن حقائق الأشياء ويبين مراتبها والحياة هي المصححة لصفات الكَمال المُوجبَة لتسديد الأقوال والأعمال فَكلما تصرف من الحَياة فَهو خير كُله كالحياء الَّذِي سَببه كَمال حَياة القلب وتصوره حَقِيقَة القبْح ونفرته مِنهُ وضده الوقاحة والفُحْش وسَببه موت القلب وعدم نفرته من القَبِيح وكالحياء الَّذِي هو المَطَر الَّذِي بِهِ حَياة كل شَيْء قالَ تَعالى ﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْناهُ وجَعَلْنا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ في النّاسِ كَمَن مَثَلُهُ في الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنها﴾
كانَ مَيتا بِالجَهْلِ قلبه فأحياه بِالعلمِ وجعل لَهُ من الإيمان نورا يمشي بِهِ في النّاس وقالَ تَعالى ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكم كِفْلَيْنِ مِن رَحْمَتِهِ ويَجْعَلْ لَكم نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ويَغْفِرْ لَكم واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلّا يَعْلَمَ أهْلُ الكِتابِ ألّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِن فَضْلِ اللَّهِ وأنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ (٢٩)﴾
وَقالَ تَعالى ﴿اللَّهُ ولِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهم مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ والَّذِينَ كَفَرُوا أوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهم مِنَ النُّورِ إلى الظُّلُماتِ أُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ (٢٥٧)﴾.
الوَجْه الثّالِث والثَّلاثُونَ أن الله سُبْحانَهُ جعل صيد الكَلْب الجاهِل ميتَة يحرم أكلها وأباح صيد الكَلْب المعلم.
وَهَذا أيضا من شرف العلم أنه لا يُباح إلّا صيد الكَلْب العالم، وأما الكَلْب الجاهِل فَلا يحل أكل صَيْده فَدلَّ على شرف العلم وفضله قالَ الله تَعالى في سورة المائدة ﴿يَسْألُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهم قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وما عَلَّمْتُمْ مِنَ الجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمّا أمْسَكْنَ عَلَيْكم واذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ واتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسابِ (٤)﴾
وَلَوْلا مزية العلم والتعليم وشرفهما كانَ صيد الكَلْب المعلم والجاهِل سَواء.
الوَجْه الرّابِع والثَّلاثُونَ أن الله سُبْحانَهُ أخْبرنا عَن صَفيه وكليمه الَّذِي كتب لَهُ التوارة بِيَدِهِ وكَلمه مِنهُ إليه أنه رَحل إلى رجل عالم يتَعَلَّم مِنهُ ويزداد علما إلى علمه فَقالَ ﴿وَإذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أبْرَحُ حَتّى أبْلُغَ مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ أوْ أمْضِيَ حُقُبًا (٦٠)﴾
حرصا مِنهُ على لِقاء هَذا العالم وعَلى التَّعَلُّم مِنهُ فَلَمّا لقِيه سلك مَعَه مَسْلَك المتعلم مَعَ معلمه وقالَ لَهُ ﴿هَل أتبعك على أن تعلمن مِمّا علمت رشدا﴾ فبدأه بعد السَّلام بالاستئذان على مُتابَعَته وأنه لا يتبعهُ إلّا باذنه، وقالَ ﴿على أن تعلمن مِمّا علمت رشدا﴾
فَلم يَجِئ ممتحنا ولا متعلما وإنَّما جاءَ متعلما مستزيدا علما إلى علمه، وكفى بِهَذا فضلا وشرفا للْعلم فَإن نَبِي الله وكليمه سافر ورحل حَتّى لقي النصب من سَفَره في تعلم ثَلاث مسائِل من رجل عالم، ولما سمع بِهِ لم يقر لَهُ قَرار حَتّى لقِيه وطلب مِنهُ مُتابَعَته وتعليمه، وفي قصتهما عبر وآيات وحكم لَيْسَ هَذا مَوضِع ذكرها.
الوَجْه الخامِس والثَّلاثُونَ قوله تَعالى: ﴿وَما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنهم طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهم إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهم يَحْذَرُونَ (١٢٢)﴾
ندب تَعالى في سورة التوبة المُؤمنِينَ إلى التفقه في الدّين وهو تعلمه وإنذار قَومهمْ إذا رجعُوا إليهم وهو التَّعْلِيم وقد اخْتلف في الآية فَقيل المَعْنى أن المُؤمنِينَ لم يَكُونُوا لينفروا كلهم للتفقه والتعلم بل يَنْبَغِي أن ينفر من كل فرقة مِنهُم طائِفَة تتفقه تِلْكَ الطّائِفَة ثمَّ ترجع تعلم القاعدين فَيكون النفير على هَذا نفير تعلم والطائفة تقال على الواحِد فَما زاد قالُوا فَهو دَلِيل على قبُول خبر الواحِد وعَلى هَذا نفير تعلم.
والطائفة تقال على الواحِد فَما زاد قالُوا فَهو دَلِيل على قبُول خبر الواحِد وعَلى هَذا حملها الشّافِعِي وجَماعَة.
وَقالَت طائِفَة أخرى المَعْنى وما كانَ المُؤْمِنُونَ لينفروا إلى الجِهاد كلهم بل يَنْبَغِي أن تنفر طائِفَة للْجِهاد وفرْقَة تقعد تتفقه في الدّين فَإذا جاءَت الطّائِفَة الَّتِي نفرت فقهتها القاعِدَة وعلمتها ما أنْزلْ من الدّين والحلال والحرام وعَلى هَذا فَيكون قَوْله ليتفقهوا ولينذروا للفرقة الَّتِي نفرت مِنها طائِفَة وهَذا قَول الأكثرين، وعَلى هَذا فالنفير نفير جِهاد على أصله فَإنَّهُ حَيْثُ اسْتعْمل إنَّما يفهم مِنهُ الجِهاد قالَ الله تَعالى ﴿انفروا خفافا وثقالا وجاهدُوا بأموالكم وأنْفُسكُمْ﴾ وقالَ النَّبِي "لا هِجْرَة بعد الفَتْح ولَكِن جِهاد ونِيَّة وإذا استنفرتم فانفروا"
وَهَذا هو المَعْرُوف من هَذِه اللَّفْظَة وعَلى القَوْلَيْنِ فَهو ترغيب في التفقه في الدّين وتعلمه وتعليمه فَإن ذَلِك يعدل الجِهاد بل رُبما يكون أفضل مِنهُ كَما سَيَأْتِي تَقْرِيره في الوَجْه الثّامِن والمِائَة إن شاءَ الله تَعالى.
الوَجْه السّادِس والثَّلاثُونَ قوله تَعالى: في سورة العصر ﴿والعَصْرِ (١) إنَّ الإنْسانَ لَفي خُسْرٍ (٢) إلّا الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ وتَواصَوْا بِالحَقِّ وتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)﴾
قالَ الشّافِعِي - رضي الله عنه - لَو فكر النّاس كلهم في هَذِه السُّورَة لكفتهم وبَيان ذَلِك أن المَراتِب أربعة وباستكمالها يحصل للشَّخْص غايَة كَماله:
إحداها معرفَة الحق
الثّانِيَة عمله بِهِ
الثّالِثَة تَعْلِيمه من لا يُحسنهُ
الرّابِعَة صبره على تعلمه والعَمَل بِهِ وتعليمه.
فَذكر تَعالى المَراتِب الأربعة في هَذِه السُّورَة واقسم سُبْحانَهُ في هَذِه السُّورَة بالعصر أن كل أحد في خسر إلا الَّذين آمنُوا وعمِلُوا الصّالِحات وهم الَّذين عرفُوا الحق وصَدقُوا بِهِ فَهَذِهِ مرتبَة ﴿وَعمِلُوا الصّالِحات﴾ وهم الَّذين عمِلُوا بِما علموه من الحق فَهَذِهِ مرتبَة أخرى ﴿وَتَواصَوْا بِالحَقِّ﴾ وصّى بِهِ بَعضهم بَعْضًا تَعْلِيما وإرشادا فَهَذِهِ مرتبَة ثالِثَة وتَواصَوْا بِالصبرِ صَبَرُوا على الحق ووصى بَعضهم بَعْضًا بِالصبرِ عَلَيْهِ والثبات فَهَذِهِ مرتبَة رابِعَة وهذانهاية الكَمال فَإن الكَمال أن يكون الشَّخْص كامِلا في نَفسه مكملا لغيره وكماله بأصلاح قوتيه العلمية والعملية فصلاح القُوَّة العلمية بالإيمان وصَلاح القُوَّة العملية بِعَمَل الصّالِحات وتكميله غَيره بتعليمه إياه وصَبره عَلَيْهِ وتوصيته بِالصبرِ على العلم والعَمَل فَهَذِهِ السُّورَة على اختصارها هي من أجْمَعْ سور القُرْآن للخير بحذافيره والحَمْد لله الَّذِي جعل كِتابه كافِيا عَن كل ما سواهُ شافيا من كل داء هاديا إلى كل خير.
الوَجْه السّابِع والثَّلاثُونَ أنه سُبْحانَهُ ذكر فَضله ومنته على أنبيائه ورُسُله وأوليائه وعباده بِما آتاهُم من العلم فَذكر نعْمَته على خاتم أنبيائه ورُسُله بقوله ﴿وَأنزل الله عَلَيْك الكتاب والحكمَة وعلمك ما لم تكن تعلم وكانَ فضل الله عَلَيْك عَظِيما﴾
وَقد تقدّمت هَذِه الآية وقالَ في يُوسُف ﴿وَلما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكَذَلِكَ تجزى المُحْسِنِينَ﴾ وقالَ في كليمه مُوسى ﴿وَلما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكَذَلِكَ نجزي المُحْسِنِينَ﴾
وَلما كانَ الَّذِي آتاهُ مُوسى من ذَلِك أمرا عَظِيما خصّه بِهِ على غَيره ولا يثبت لَهُ إلّا الأقوياء أولو العَزْم هيأه لَهُ بعد أن بلغ أشده واستوى يَعْنِي ثمّ كملت قوته، وقالَ في حق المَسِيح ﴿ياعِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعَلى والِدَتِكَ إذْ أيَّدْتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ تُكَلِّمُ النّاسَ في المَهْدِ وكَهْلًا وإذْ عَلَّمْتُكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ والتَّوْراةَ والإنْجِيلَ﴾
وَقالَ في حَقه ﴿ويعلمه الكتاب والحكمَة والتوراة والإنجيل﴾ فَجعل تَعْلِيمه مِمّا بشر بِهِ أمهِ وأقر عينها بِهِ.
وَقالَ في حق داوُد ﴿وَآتَيْناهُ الحِكْمَة وفصل الخطاب﴾
وَقالَ في حق الخضر صاحب مُوسى وفتاه ﴿فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رَحْمَة من عندنا وعلمناه من لدنا علما﴾
فَذكر من نعمه عَلَيْهِ تَعْلِيمه وما آتاهُ من رَحمته.
وَقالَ تَعالى يذكر نعْمَته على داوُد وسليمان وداوُد وسليمان ﴿إذْ يَحْكُمانِ في الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ وكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وكُلًّا آتَيْنا حُكْمًا وعِلْمًا ... (٧٩)﴾
فَذكر النَّبِيين الكريمين وأثْنى عَلَيْهِما بالحكم والعلم وخص بفهم القَضِيَّة أحدهما وقد ذكرت الحكمَيْنِ الداوودي والسليماني ووجههما ومن صار من الأئمة إلى هَذا ومن صار إلى هَذا وترجيح الحكم السُّلَيْمانِي من عدَّة وُجُوه وموافقته للْقِياس وقواعد الشَّرْع في كتاب الِاجْتِهاد والتقليد.
وَقالَ تَعالى في سورة الأنعام ﴿قُلْ مَن أنْزَلَ الكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُورًا وهُدًى لِلنّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وتُخْفُونَ كَثِيرًا وعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ ولا آباؤُكم قُلِ اللَّهُ ... (٩١)﴾
يَعْنِي الَّذِي أنزله جعل سُبْحانَهُ تعليمهم ما لم يعلمُوا هم ولا آباؤهم دَلِيلا على صِحَة النُّبُوَّة والرسالة إذْ لا ينال هَذا العلم إلّا من جِهَة الرُّسُل فَكيف يَقُولُونَ ﴿ما أنزل الله على بشر من شَيْء﴾ وهَذا من فضل العلم وشرفه وأنه دَلِيل على صِحَة النُّبُوَّة والرسالة والله المُوفق للرشاد وقالَ تَعالى ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلى المُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِن أنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ وإنْ كانُوا مِن قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤)﴾
وَقالَ تَعالى في سورة الجمعة ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ في الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنهم يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ وإنْ كانُوا مِن قَبْلُ لَفي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وآخَرِينَ مِنهم لَمّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وهو العَزِيزُ الحَكِيمُ (٣) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ (٤)﴾
يَعْنِي وبعث في آخَرين مِنهُم لما يلْحقُوا بهم.
وَقد اخْتلف في هَذا اللحاق المَنفِيّ فَقيل هو اللحاق في الزَّمان أي يتَأخَّر زمانهم عَنْهُم وقيل هو اللحاق في الفضل والسبق وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فامتن عَلَيْهِم سُبْحانَهُ بأن علمهمْ بعد الجَهْل وهداهم بعد الضَّلالَة ويالها من منَّة عَظِيمَة فاتَت المنن وجلت أن يقدر العباد لَها على ثمن.
الوَجْه الثّامِن والثَّلاثُونَ أن أول سُورَة أنزلها الله في كِتابه سُورَة القَلَم فَذكر فِيها ما من بِهِ على الإنسان من تَعْلِيمه ما لم يعلم فَذكر فِيها فَضله بتعليمه وتفضيله الإنْسان بِما علمه إياه وذَلِكَ يدل على شرف التَّعْلِيم والعلم فَقالَ تَعالى ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الإنْسانَ مِن عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ ورَبُّكَ الأكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الإنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥)﴾
فافْتتحَ السُّورَة بالأمر بِالقِراءَةِ الناشئة عَن العلم وذكر خلقه خُصُوصا وعموما فَقالَ ﴿الَّذِي خلق خلق الإنْسان من علق اقْرَأ ورَبك الأكرم﴾ وخص الإنسان من بَين المَخْلُوقات لما أودعه من عجائبه وآياته الدّالَّة على ربوبيته وقدرته وعلمه وحكمته وكَمال رَحمته وأنه لا إلَه غَيره ولا رب سواهُ، وذكر هُنا مبدا خلقه من علق لكَون العلقَة مبدأ الأطوار الَّتِي انْتَقَلت إليها النُّطْفَة فَهي مبدأ تعلق التخليق، ثمَّ أعاد الأمر بِالقِراءَةِ مخبرا عَن نَفسه بِأنَّهُ الأكرم وهو الأفعل من الكَرم وهو كَثْرَة الخَيْر ولا احْدُ أولى بذلك مِنهُ سُبْحانَهُ فَإن الخَيْر كُله بيدَيْهِ والخَيْر كُله مِنهُ والنعَم كلها هو موليها، والكمال كُله والمجد كُله لَهُ فَهو الأكرم حَقًا، ثمَّ ذكر تَعْلِيمه عُمُوما وخصوصا فَقالَ ﴿الَّذِي علم بالقلم﴾ فَهَذا يدْخل فِيهِ تَعْلِيم المَلائِكَة والنّاس ثمَّ ذكر تَعْلِيم الإنسان خُصُوصا فَقالَ ﴿علم الإنْسان ما لم يعلم﴾
فاشتملت هَذِه الكَلِمات على أنه معطي الموجودات كلها بِجَمِيعِ أقسامها فإن الوُجُود لَهُ مَراتِب أربعة:
أحداها مرتبتها الخارجية المَدْلُول عَلَيْها بقوله خلق المرتبَة الثّانِيَة الذهنية المَدْلُول عَلَيْها بقوله ﴿علم الإنْسان ما لم يعلم﴾ المرتبَة الثّالِثَة والرّابِعَة اللفظية والخطية فالخطية مُصَرح بها في قَوْله ﴿الَّذِي علم بالقلم﴾ واللفظية من لَوازِم التَّعْلِيم بالقلم فَإن الكِتابَة فرع النُّطْق والنطق فرع التَّصَوُّر، فاشتملت هَذِه الكَلِمات على مَراتِب الوُجُود كلها وأنه سُبْحانَهُ هو معطيها بخلقه وتعليمه فَهو الخالِق المعلم وكل شَيْء في الخارِج فبخلقه وجد وكل علم في الذِّهْن فبتعليمه حصل، وكل لفظ في اللِّسان أوْ خطّ في البنان فبإقداره وخلقه وتعليمه، وهَذا من آيات قدرته وبراهين حكمته لا إلَه إلّا هو الرَّحْمَن الرَّحِيم والمَقْصُود أنه سُبْحانَهُ تعرف إلى عباده بِما علمهمْ إيّاه بِحِكْمَتِهِ من الخط واللَّفْظ والمعْنى فَكانَ العلم أحد الأدلة الدّالَّة عَلَيْهِ بل من أعظمها وأظهرها وكفى بِهَذا شرفا وفضلا لَهُ.
الوَجْه التّاسِع والثَّلاثُونَ أنه سُبْحانَهُ سمى الحجَّة العلمية سُلْطانا قالَ ابْن عَبّاس رضى الله عَنهُ كل سُلْطان في القُرْآن فَهو حجَّة وهَذا كَقوله تَعالى: ﴿قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا سُبْحانَهُ هو الغَنِيُّ لَهُ ما في السَّماواتِ وما في الأرْضِ إنْ عِنْدَكم مِن سُلْطانٍ بِهَذا أتَقُولُونَ عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨)﴾
يَعْنِي ما عنْدكم من حجَّة بِما قُلْتُمْ أن هو إلا قَول على الله بِلا علم وقالَ تَعالى ﴿إن هي إلّا أسماء سميتموها أنْتُم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سُلْطان﴾
يَعْنِي ما أنزل بها حجَّة ولا برهانا بل هي من تِلْقاء أنفسكم وآبائكم وقالَ تَعالى ﴿أم لكم سُلْطان مُبين فَأتوا بِكِتابِكم إن كُنْتُم صادِقين﴾
يَعْنِي حجَّة واضِحَة فأتوا بها إن كُنْتُم صادِقين في دعواكم إلّا موضعا واحِدًا اخْتلف فِيهِ وهو قَوْله ﴿ما أغْنى عني ماليه هلك عني سلطانيه﴾
فَقيل المُراد بِهِ القُدْرَة والملك أي ذهب عني مالِي وملكي فَلا مال لي ولا سُلْطان.
وَقيل هو على بابه أي انْقَطَعت حجتي وبَطلَت فَلا حجَّة لي.
والمَقْصُود أن الله سُبْحانَهُ سمى علم الحجَّة سُلْطانا لأنها توجب تسلط صاحبها واقتداره فَلهُ بها سُلْطان على الجاهِلين بل سُلْطان العلم أعظم من سُلْطان اليَد، ولِهَذا ينقاد النّاس للحجة ما لا ينقادون لليد، فإن الحجَّة تنقاد لَها القُلُوب، وأما اليَد فَإنَّما ينقاد لَها البدن، فالحجة تأسر القلب وتقوده وتذل المُخالف وإن أظهر العناد والمكابرة فقلبه خاضع لَها ذليل مقهور تَحت سلطانها بل سُلْطان الجاه إن لم يكن مَعَه علم يساس بِهِ فَهو بِمَنزِلَة سُلْطان السباع والأسود ونَحْوها قدرَة بِلا علم ولا رَحْمَة بِخِلاف سُلْطان الحجَّة فَإنَّهُ قدرَة بِعلم ورَحْمَة وحِكْمَة، ومن لم يكن لَهُ اقتدار في علمه فَهو إما لضعف حجَّته وسلطانه، وإما لقهر سُلْطان اليَد والسيف لَهُ، وإلا فالحجة ناصرة نَفسها ظاهِرَة على الباطِل قاهرة لَهُ.
الوَجْه الأربعون أن الله تَعالى وصف أهل النّار بِالجَهْلِ وأخْبَر أنه سد عليهم طرق العلم فَقالَ تَعالى حِكايَة عَنْهُم ﴿وَقالُوا لَوْ كُنّا نَسْمَعُ أوْ نَعْقِلُ ما كُنّا في أصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأصْحابِ السَّعِيرِ (١١)﴾
فَأخْبرُوا أنهم كانُوا لا يسمعُونَ ولا يعْقلُونَ، والسمع والعقل هما أصل العلم وبِهِما ينال وقالَ تَعالى ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الجِنِّ والإنْسِ لَهم قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ولَهم أعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ولَهم آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولَئِكَ كالأنْعامِ بَلْ هم أضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الغافِلُونَ (١٧٩)﴾
فأخبر سُبْحانَهُ أنهم لم يحصل لَهُم علم من جِهَة من جِهات العلم الثَّلاث وهِي العقل والسمع والبَصَر، كَما قالَ في مَوضِع آخر ﴿صم بكم عمي فهم لا يعْقلُونَ﴾ وقالَ تَعالى في سورة الحج ﴿أفَلَمْ يَسِيرُوا في الأرْضِ فَتَكُونَ لَهم قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإنَّها لا تَعْمى الأبْصارُ ولَكِنْ تَعْمى القُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ (٤٦)﴾
وَقالَ تَعالى ﴿وَجَعَلْنا لَهم سَمْعًا وأبْصارًا وأفْئِدَةً فَما أغْنى عَنْهم سَمْعُهم ولا أبْصارُهم ولا أفْئِدَتُهم مِن شَيْءٍ إذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (٢٦)﴾
فقد وصف أهل الشَّقاء كَما ترى بِعَدَمِ العلم، وشبههم بالأنعام تارَة، وتارَة بالحمار الَّذِي يحمل الأسفار، وتارَة جعلهم أضل من الأنعام، وتارَة جعلهم شَرّ الدَّوابّ عِنْده، وتارَة جعلهم أمواتا غير أحياء، وتارَة أخبر أنهم في ظلمات الجَهْل والضلال، وتارَة أخبر أن على قُلُوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا وعَلى أبصارهم غشاوة، وهَذا كُله يدل على قبح الجَهْل وذم أهله وبغضه لَهُم، كَما أنه يحب أهل العلم ويمدحهم ويثني عَلَيْهِم كَما تقدم والله المُسْتَعان.
الوَجْه الحادِي والأربعون ما في الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث مُعاوِيَة رضى الله عَنهُ قالَ سَمِعت رَسُول الله يَقُول "من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه في الدّين"
وَهَذا يدل على أن من لم يفقهه في دينه لم يرد بِهِ خيرا كَما أن من أراد بِهِ خيرا فقهه في دينه، ومن فقهه في دينه فقد أراد بِهِ خيرا إذا أريد بالفقه العلم المستلزم للْعَمَل وأما أن أريد بِهِ مُجَرّد العلم فَلا يدل على أن من فقه في الدّين فقد أريد بِهِ خيرا فَإن الفِقْه حِينَئِذٍ يكون شرطا لإرادة الخَيْر وعَلى الأول يكون مُوجبا والله أعْلَم.
* (فصل)
تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآيَةُ الكَرِيمَةُ إثْباتَ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ، والرَّدَّ عَلى جَمِيعِ هَذِهِ الطَّوائِفِ، والشَّهادَةَ بِبُطْلانِ أقْوالِهِمْ ومَذاهِبِهِمْ، وهَذا إنَّما يَتَبَيَّنُ بَعْدَ فَهْمِ الآيَةِ بِبَيانِ ما تَضَمَّنَتْهُ مِنَ المَعارِفِ الإلَهِيَّةِ، والحَقائِقِ الإيمانِيَّةِ.
فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآيَةُ: أجَلَّ شَهادَةٍ، وأعْظَمَها، وأعْدَلَها، وأصْدَقَها، مِن أجَلِّ شاهِدٍ، بِأجَلِّ مَشْهُودٍ بِهِ، وعِباراتُ السَّلَفِ في " شَهِدَ " تَدُورُ عَلى الحُكْمِ والقَضاءِ، والإعْلامِ والبَيانِ، والإخْبارِ، قالَ مُجاهِدٌ: حَكَمَ، وقَضى، وقالَ الزَّجّاجُ: بَيَّنَ، وقالَتْ طائِفَةٌ: أعْلَمَ وأخْبَرَ، وهَذِهِ الأقْوالُ كُلُّها حَقٌّ لا تَنافِيَ بَيْنَها فَإنَّ الشَّهادَةَ تَتَضَمَّنُ كَلامَ الشّاهِدِ وخَبَرَهُ، وقَوْلَهُ، وتَتَضَمَّنُ إعْلامَهُ، وإخْبارَهُ وبَيانَهُ، فَلَها أرْبَعُ مَراتِبَ، فَأوَّلُ مَراتِبِها: عِلْمٌ، ومَعْرِفَةٌ، واعْتِقادٌ لِصِحَّةِ المَشْهُودِ بِهِ، وثُبُوتِهِ، وثانِيها: تَكَلُّمُهُ بِذَلِكَ، ونُطْقُهُ بِهِ، وإنْ لَمْ يُعْلِمْ بِهِ غَيْرَهُ، بَلْ يَتَكَلَّمُ بِهِ مَعَ نَفْسِهِ ويَذْكُرُها، ويَنْطِقُ بِها أوْ يَكْتُبُها، وثالِثُها: أنْ يُعْلِمَ غَيْرَهُ بِما شَهِدَ بِهِ، ويُخْبِرَهُ بِهِ، ويُبَيِّنَهُ لَهُ، ورابِعُها: أنْ يُلْزِمَهُ بِمَضْمُونِها ويَأْمُرَهُ بِهِ.
فَشَهادَةُ اللَّهِ سُبْحانَهُ لِنَفْسِهِ بِالوَحْدانِيَّةِ، والقِيامِ بِالقِسْطِ: تَضَمَّنَتْ هَذِهِ المَراتِبَ الأرْبَعَةَ: عِلْمَ اللَّهِ سُبْحانَهُ بِذَلِكَ، وتَكَلُّمَهُ بِهِ، وإعْلامَهُ، وإخْبارَهُ لِخَلْقِهِ بِهِ، وأمْرَهم وإلْزامَهم بِهِ.
أمّا مَرْتَبَةُ العِلْمِ: فَإنَّ الشَّهادَةَ بِالحَقِّ تَتَضَمَّنُها ضَرُورَةً، وإلّا كانَ الشّاهِدُ شاهِدًا بِما لا عِلْمَ لَهُ بِهِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إلّا مَن شَهِدَ بِالحَقِّ وهم يَعْلَمُونَ﴾ [الزخرف: ٨٦] وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «عَلى مِثْلِها فاشْهَدْ وأشارَ إلى الشَّمْسِ».
وَأمّا مَرْتَبَةُ التَّكَلُّمِ والخَبَرِ: فَمَن تَكَلَّمَ بِشَيْءٍ وأخْبَرَ بِهِ فَقَدْ شَهِدَ بِهِ، وإنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِالشَّهادَةِ، قالَ تَعالى: ﴿قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذا فَإنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ﴾ [الأنعام: ١٥٠] وقالَ تَعالى: ﴿وَجَعَلُوا المَلائِكَةَ الَّذِينَ هم عِبادُ الرَّحْمَنِ إناثًا أشَهِدُوا خَلْقَهم سَتُكْتَبُ شَهادَتُهم ويُسْألُونَ﴾ [الزخرف: ١٩].
فَجَعَلَ ذَلِكَ مِنهم شَهادَةً، وإنْ لَمْ يَتَلَفَّظُوا بِلَفْظِ الشَّهادَةِ، ولَمْ يُؤَدُّوها عِنْدَ غَيْرِهِمْ، قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «عَدَلَتْ شَهادَةُ الزُّورِ الإشْراكَ بِاللَّهِ» وشَهادَةُ الزُّورِ هي قَوْلُ الزُّورِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿واجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ [الحج: ٣٠] وعِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «عَدَلَتْ شَهادَةُ الزُّورِ الإشْراكَ بِاللَّهِ» فَسَمّى قَوْلَ الزُّورِ شَهادَةً، وسَمّى اللَّهُ تَعالى إقْرارَ العَبْدِ عَلى نَفْسِهِ شَهادَةً، قالَ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلى أنْفُسِكُمْ﴾ [النساء: ١٣٥] فَشَهادَةُ المَرْءِ عَلى نَفْسِهِ: هي إقْرارُهُ عَلى نَفْسِهِ، وفي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ في قِصَّةِ ماعِزٍ الأسْلَمِيِّ: «فَلَمّا شَهِدَ عَلى نَفْسِهِ أرْبَعَ مَرّاتٍ رَجَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ»، وقالَ تَعالى: ﴿قالُوا شَهِدْنا عَلى أنْفُسِنا وغَرَّتْهُمُ الحَياةُ الدُّنْيا وشَهِدُوا عَلى أنْفُسِهِمْ أنَّهم كانُوا كافِرِينَ﴾ [الأنعام: ١٣٠].
وَهَذا - وأضْعافُهُ - يَدُلُّ عَلى أنَّ الشّاهِدَ عِنْدَ الحاكِمِ وغَيْرِهِ: لا يُشْتَرَطُ في قَبُولِ شَهادَتِهِ أنْ يَتَلَفَّظَ بِلَفْظِ الشَّهادَةِ، كَما هو مَذْهَبُ مالِكٍ، وأهْلِ المَدِينَةِ، وظاهِرُ كَلامِ أحْمَدَ، ولا يُعْرَفُ عَنْ أحَدٍ مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ اشْتِراطُ ذَلِكَ، وقَدْ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ شَهِدَ عِنْدِي رِجالٌ مَرْضِيُّونَ - وأرْضاهم عِنْدِي عُمَرُ - «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ نَهى عَنِ الصَّلاةِ بَعْدَ الصُّبْحِ، حَتّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وبَعْدَ العَصْرِ حَتّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ»، ومَعْلُومٌ أنَّهم لَمْ يَتَلَفَّظُوا بِلَفْظِ الشَّهادَةِ، والعَشَرَةُ الَّذِينَ شَهِدَ لَهم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالجَنَّةِ، لَمْ يَتَلَفَّظْ في شَهادَتِهِ لَهم بِلَفْظِ الشَّهادَةِ، بَلْ قالَ: «أبُو بَكْرٍ في الجَنَّةِ، وعُمَرُ في الجَنَّةِ، وعُثْمانُ في الجَنَّةِ، وعَلِيٌّ في الجَنَّةِ» الحَدِيثَ.
وَأجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّ الكافِرَ إذا قالَ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَقَدْ دَخَلَ في الإسْلامِ، وشَهِدَ شَهادَةَ الحَقِّ، ولَمْ يَتَوَقَّفْ إسْلامُهُ عَلى لَفْظِ الشَّهادَةِ وأنَّهُ قَدْ دَخَلَ في قَوْلِهِ: «حَتّى يَشْهَدُوا أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ» وفي لَفْظٍ آخَرَ: «حَتّى يَقُولُوا لا إلَهَ إلّا اللَّهُ» فَدَلَّ عَلى أنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِمْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ شَهادَةٌ مِنهُمْ، وهَذا أكْثَرُ مِن أنْ تُذْكَرَ شَواهِدُهُ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ، فَلَيْسَ مَعَ مَنِ اشْتَرَطَ لَفَظَ الشَّهادَةِ، دَلِيلٌ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
* فَصْلٌ
وَأمّا مَرْتَبَةُ الإعْلامِ والإخْبارِ، فَنَوْعانِ: إعْلامٌ بِالقَوْلِ، وإعْلامٌ بِالفِعْلِ، وهَذا شَأْنُ كُلِّ مُعْلِمٍ لِغَيْرِهِ بِأمْرٍ: تارَةً يُعْلِمُهُ بِقَوْلِهِ، وتارَةً بِفِعْلِهِ، ولِهَذا كانَ مَن جَعَلَ دارًا مَسْجِدًا، وفَتَحَ بابَها لِكُلِّ مَن دَخَلَ إلَيْها، وأذَّنَ بِالصَّلاةِ فِيها: مُعْلِمًا أنَّها وقْفٌ، وإنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ، وكَذَلِكَ مَن وُجِدَ مُتَقَرِّبًا إلى غَيْرِهِ بِأنْواعِ المَسارِ: مُعْلِمًا لَهُ ولِغَيْرِهِ أنَّهُ يُحِبُّهُ، وإنْ لَمْ يَتَلَفَّظْ بِقَوْلِهِ، وكَذَلِكَ بِالعَكْسِ، وكَذَلِكَ شَهادَةُ الرَّبِّ جَلَّ جَلالُهُ وبَيانُهُ وإعْلامُهُ، يَكُونُ بِقَوْلِهِ تارَةً، وبِفِعْلِهِ تارَةً أُخْرى، فالقَوْلُ: هو ما أرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ، وأنْزَلَ بِهِ كُتُبَهُ، ومِمّا قَدْ عُلِمَ بِالِاضْطِرارِ: أنَّ جَمِيعَ الرُّسُلِ أخْبَرُوا عَنِ اللَّهِ: أنَّهُ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِأنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو وأخْبَرَ بِذَلِكَ، وأمَرَ عِبادَهُ أنْ يَشْهَدُوا بِهِ، وشَهادَتُهُ سُبْحانَهُ أنْ لا إلَهَ إلّا هو مَعْلُومَةٌ مِن جِهَةِ كُلِّ مَن بَلَّغَ عَنْهُ كَلامَهُ.
وَأمّا بَيانُهُ وإعْلامُهُ بِفِعْلِهِ: فَهو ما تَضَمَّنَهُ خَبَرُهُ تَعالى عَنِ الأدِلَّةِ الدّالَّةِ عَلى وحْدانِيَّتِهِ الَّتِي تُعْلَمُ دَلالَتُها بِالعَقْلِ والفِطْرَةِ، وهَذا أيْضًا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهادَةِ، كَما يُسْتَعْمَلُ فِيهِ لَفْظُ الدَّلالَةِ، والإرْشادِ والبَيانِ، فَإنَّ الدَّلِيلَ يُبَيِّنُ المَدْلُولَ عَلَيْهِ ويُظْهِرُهُ، كَما يُبَيِّنُهُ الشّاهِدُ والمُخْبِرُ، بَلْ قَدْ يَكُونُ البَيانُ بِالفِعْلِ أظْهَرَ وأبْلَغَ، وقَدْ يُسَمّى شاهِدُ الحالِ نُطْقًا وقَوْلًا وكَلامًا، لِقِيامِهِ مَقامَهُ، وأدائِهِ مُؤَدّاهُ، كَما قِيلَ:
؎وَقالَتْ لَهُ العَيْنانِ سَمْعًا وطاعَةً ∗∗∗ وحَدَّرَتا بِالدُّرِّ لَمّا يُثْقَبِ
وَقالَ الآخَرُ:
؎شَكا إلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرى ∗∗∗ صَبْرًا جَمِيلًا فَكِلانا مُبْتَلى
وَقالَ الآخَرُ:
؎امْتَلَأ الحَوْضُ وقالَ قَطْنِي ∗∗∗ مَهْلًا رُوَيْدًا قَدْ مَلَأْتَ بَطْنِي
وَيُسَمّى هَذا شَهادَةً أيْضًا، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ﴾ [التوبة: ١٧] فَهَذِهِ شَهادَةٌ مِنهم عَلى أنْفُسِهِمْ بِما يَفْعَلُونَ مِن أعْمالِ الكُفْرِ وأقْوالِهِ، فَهي شَهادَةٌ بِكُفْرِهِمْ، وهم شاهِدُونَ عَلى أنْفُسِهِمْ بِما شَهِدَتْ بِهِ.
والمَقْصُودُ: أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ يَشْهَدُ بِما جَعَلَ آياتِهِ المَخْلُوقَةَ دالَّةً عَلَيْهِ، فَإنَّ دَلالَتَها إنَّما هي بِخَلْقِهِ وجَعْلِهِ، ويَشْهَدُ بِآياتِهِ القَوْلِيَّةِ الكَلامِيَّةِ المُطابِقَةِ لِما شَهِدَتْ بِهِ آياتُهُ الخَلْقيَّةُ، فَتَتَطابَقُ شَهادَةُ القَوْلِ وشَهادَةُ الفِعْلِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهم أنَّهُ الحَقُّ﴾ [فصلت: ٥٣]، أيْ أنَّ القُرْآنَ حَقٌّ، فَأخْبَرَ أنَّهُ يَدُلُّ بِآياتِهِ الأُفُقِيَّةِ والنَّفْسِيَّةِ عَلى صِدْقِ آياتِهِ القَوْلِيَّةِ الكَلامِيَّةِ، وهَذِهِ الشَّهادَةُ الفِعْلِيَّةُ قَدْ ذَكَرَها غَيْرُ واحِدٍ مِن أئِمَّةِ العَرَبِيَّةِ والتَّفْسِيرِ، قالَ ابْنُ كَيْسانَ: شَهِدَ اللَّهُ بِتَدْبِيرِهِ العَجِيبِ وأُمُورِهِ المُحْكَمَةِ عِنْدَ خَلْقِهِ: أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو.
* فَصْلٌ
وَأمّا المَرْتَبَةُ الرّابِعَةُ - وهي الأمْرُ بِذَلِكَ والإلْزامُ بِهِ، وإنْ كانَ مُجَرَّدُ الشَّهادَةِ لا يَسْتَلْزِمُهُ، لَكِنِ الشَّهادَةُ في هَذا المَوْضِعِ تَدُلُّ عَلَيْهِ وتَتَضَمَّنُهُ - فَإنَّهُ سُبْحانَهُ شَهِدَ بِهِ شَهادَةَ مَن حَكَمَ بِهِ، وقَضى وأمَرَ، وألْزَمَ عِبادَهَ بِهِ، كَما قالَ تَعالى ﴿وَقَضى رَبُّكَ ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ﴾ [الإسراء: ٢٣] وقالَ تَعالى: ﴿وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إنَّما هو إلَهٌ واحِدٌ﴾ [النحل: ٥١] وقالَ تَعالى: ﴿وَما أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: ٥]، وقالَ تَعالى: ﴿لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ﴾ [الإسراء: ٢٢]، وقالَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ﴾ [القصص: ٨٨] والقُرْآنُ كُلُّهُ شاهِدٌ بِذَلِكَ.
وَوَجْهُ اسْتِلْزامِ شَهادَتِهِ سُبْحانَهُ لِذَلِكَ: أنَّهُ إذا شَهِدَ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ، فَقَدْ أخْبَرَ، وبَيَّنَ وأعْلَمَ، وحَكَمَ وقَضى: أنَّ ما سِواهُ لَيْسَ بِإلَهٍ، وأنَّ إلَهِيَّةَ ما سِواهُ أبْطَلُ الباطِلِ، وإثْباتَها أظْلَمُ الظُّلْمِ، فَلا يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ سِواهُ، كَما لا تَصْلُحُ الإلَهِيَّةُ لِغَيْرِهِ، وذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الأمْرَ بِاتِّخاذِهِ وحْدَهُ إلَهًا، والنَّهْيَ عَنِ اتِّخاذِ غَيْرِهِ مَعَها إلَهًا، وهَذا يَفْهَمُهُ المُخاطَبُ مِن هَذا النَّفْيِ والإثْباتِ، كَما إذا رَأيْتَ رَجُلًا يَسْتَفْتِي أوْ يَسْتَشْهِدُ، أوْ يَسْتَطِبُّ مَن لَيْسَ أهْلًا لِذَلِكَ، ويَدَعُ مَن هو أهْلٌ لَهُ، فَتَقُولُ: هَذا لَيْسَ بِمُفْتٍ ولا شاهِدٍ ولا طَبِيبٍ، المُفْتِي فُلانٌ، والشّاهِدُ فُلانٌ، والطَّبِيبُ فُلانٌ، فَإنَّ هَذا أمْرٌ مِنكَ ونَهْيٌ.
وَأيْضًا فَإنَّ الأدِلَّةَ قَدْ دَلَّتْ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ وحْدَهُ المُسْتَحِقُّ لِلْعِبادَةِ، فَإذا أخْبَرَ أنَّهُ هو وحْدَهُ المُسْتَحِقُّ لِلْعِبادَةِ، تَضَمَّنَ هَذا الإخْبارُ: أمْرَ العِبادِ وإلْزامَهم بِأداءِ ما يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ تَعالى عَلَيْهِمْ، وأنَّ القِيامَ بِذَلِكَ هو خالِصُ حَقِّهِ عَلَيْهِمْ، فَإذا شَهِدَ سُبْحانَهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو تَضَمَّنَتْ شَهادَتُهُ الأمْرَ والإلْزامَ بِتَوْحِيدِهِ.
وَأيْضًا فَلَفْظُ الحُكْمِ والقَضاءِ يُسْتَعْمَلُ في الجُمَلِ الخَبَرِيَّةِ، فَيُقالُ لِلْجُمْلَةِ الخَبَرِيَّةِ قَضِيَّةٌ وحُكْمٌ وقَدْ حَكَمَ فِيها بِكَيْتَ وكَيْتَ، قالَ تَعالى: ﴿ألا إنَّهم مِن إفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ولَدَ اللَّهُ وإنَّهم لَكاذِبُونَ أاصْطَفى البَناتِ عَلى البَنِينَ ما لَكم كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [الصافات: ١٥١] فَجَعَلَ هَذا الإخْبارَ المُجَرَّدَ مِنهم حُكْمًا، وقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: ﴿أفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كالمُجْرِمِينَ ما لَكم كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [القلم: ٣٥] لَكِنَّ هَذا حُكْمٌ لا إلْزامَ مَعَهُ، والحُكْمُ والقَضاءُ بِأنَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ: مُتَضَمِّنٌ لِلْإلْزامِ، واللَّهُ سُبْحانَهُ أعْلَمُ.
* [فَصْلٌ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعالى " قائِمًا بِالقِسْطِ]
* فَصْلٌ
وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿قائِمًا بِالقِسْطِ﴾ [آل عمران: ١٨]
" القِسْطِ ": هو العَدْلُ، فَشَهِدَ اللَّهُ سُبْحانَهُ: أنَّهُ قائِمٌ بِالعَدْلِ في تَوْحِيدِهِ، وبِالوَحْدانِيَّةِ في عَدْلِهِ، والتَّوْحِيدُ والعَدْلُ هُما جِماعُ صِفاتِ الكَمالِ، فَإنَّ التَّوْحِيدَ يَتَضَمَّنُ تَفَرُّدَهُ سُبْحانَهُ بِالكَمالِ والجَلالِ والمَجْدِ والتَّعْظِيمِ الَّذِي لا يَنْبَغِي لِأحَدٍ سِواهُ، والعَدْلُ يَتَضَمَّنُ وُقُوعَ أفْعالِهِ كُلِّها عَلى السَّدادِ والصَّوابِ ومُوافَقَةِ الحِكْمَةِ.
فَهَذا تَوْحِيدُ الرُّسُلِ وعَدْلُهُمْ: إثْباتُ الصِّفاتِ، والأمْرُ بِعِبادَةِ اللَّهِ وحْدَهُ لا شَرِيكَ
لَهُ، وإثْباتُ القَدَرِ والحِكَمِ، والغاياتِ المَطْلُوبَةِ المَحْمُودَةِ بِفِعْلِهِ وأمْرِهِ، لا تَوْحِيدَ الجَهْمِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ والقَدَرِيَّةِ، الَّذِي هو إنْكارُ الصِّفاتِ وحَقائِقِ الأسْماءِ الحُسْنى، وعَدْلُهُمْ، الَّذِي هُوَ: التَّكْذِيبُ بِالقَدَرِ، أوْ نَفْيُ الحِكَمِ والغاياتِ والعَواقِبِ الحَمِيدَةِ الَّتِي يَفْعَلُ اللَّهُ لِأجْلِها ويَأْمُرُ، وقِيامُهُ سُبْحانَهُ بِالقِسْطِ في شَهادَتِهِ يَتَضَمَّنُ أُمُورًا.
أحَدَها: أنَّهُ قائِمٌ بِالقِسْطِ في هَذِهِ الشَّهادَةِ الَّتِي هي أعْدَلُ شَهادَةٍ عَلى الإطْلاقِ، وإنْكارُها وجُحُودُها أعْظَمُ الظُّلْمِ عَلى الإطْلاقِ، فَلا أعْدَلَ مِنَ التَّوْحِيدِ ولا أظْلَمَ مِنَ الشِّرْكِ، فَهو سُبْحانَهُ قائِمٌ بِالعَدْلِ في هَذِهِ الشَّهادَةِ قَوْلًا وفِعْلًا، حَيْثُ شَهِدَ بِها، وأخْبَرَ وأعْلَمَ عِبادَهُ، وبَيَّنَ لَهم تَحْقِيقَها وصِحَّتَها، وألْزَمَهم بِمُقْتَضاها، وحَكَمَ بِهِ، وجَعَلَ الثَّوابَ والعِقابَ عَلَيْها، وجَعَلَ الأمْرَ والنَّهْيَ مِن حُقُوقِها وواجِباتِها، فالدِّينُ كُلُّهُ مِن حُقُوقِها، والثَّوابُ كُلُّهُ عَلَيْها، والعِقابُ كُلُّهُ عَلى تَرْكِها.
وَهَذا هو العَدْلُ الَّذِي قامَ بِهِ الرَّبُّ تَعالى في هَذِهِ الشَّهادَةِ، فَأوامِرُهُ كُلُّها تَكْمِيلٌ لَها، وأمْرٌ بِأداءِ حُقُوقِها، ونَواهِيهِ كُلُّها صِيانَةٌ لَها عَمّا يَهْضِمُها ويُضادُّها، وثَوابُهُ كُلُّهُ عَلَيْها، وعِقابُهُ كُلُّهُ عَلى تَرْكِها، وتَرْكِ حُقُوقِها، وخَلْقُهُ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما كانَ بِها ولِأجْلِها، وهي الحَقُّ الَّذِي خُلِقَتْ بِهِ، وضِدُّها هو الباطِلُ والعَبَثُ الَّذِي نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ، وأخْبَرَ: أنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ بِهِ السَّماواتِ والأرْضَ، قالَ تَعالى - رَدًّا عَلى المُشْرِكِينَ المُنْكِرِينَ لِهَذِهِ الشَّهادَةِ - ﴿وَما خَلَقْنا السَّماءَ والأرْضَ وما بَيْنَهُما باطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ﴾ [ص: ٢٧]
وَقالَ تَعالى: ﴿حم تَنْزِيلُ الكِتابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ - ما خَلَقْنا السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما إلّا بِالحَقِّ وأجَلٍ مُسَمًّى والَّذِينَ كَفَرُوا عَمّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ﴾ [الأحقاف: ١-٣]
وَقالَ: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً والقَمَرَ نُورًا وقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ والحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إلّا بِالحَقِّ﴾ [يونس: ٥]
وَقالَ ﴿أوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في أنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما إلّا بِالحَقِّ وأجَلٍ مُسَمًّى وإنَّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ﴾ [الروم: ٨] وقالَ: ﴿وَما خَلَقْنا السَّماواتِ والأرْضَ وما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إلّا بِالحَقِّ﴾ [الدخان: ٣٨] وهَذا كَثِيرٌ في القُرْآنِ، والحَقُّ الَّذِي خُلِقَتْ بِهِ السَّماواتُ والأرْضُ ولِأجْلِهِ: هو التَّوْحِيدُ، وحُقُوقُهُ مِنَ الأمْرِ والنَّهْيِ، والثَّوابِ والعِقابِ، فالشَّرْعُ والقَدَرُ، والخَلْقُ والأمْرُ، والثَّوابُ والعِقابُ قائِمٌ بِالعَدْلِ، والتَّوْحِيدُ صادِرٌ عَنْهُما، وهَذا هو الصِّراطُ المُسْتَقِيمُ الَّذِي عَلَيْهِ الرَّبُّ سُبْحانَهُ وتَعالى، قالَ تَعالى - حِكايَةً عَنْ نَبِيِّهِ هُودٍ - ﴿إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلى اللَّهِ رَبِّي ورَبِّكم ما مِن دابَّةٍ إلّا هو آخِذٌ بِناصِيَتِها إنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [هود: ٥٦] فَهو سُبْحانَهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ في قَوْلِهِ وفِعْلِهِ، فَهو يَقُولُ الحَقَّ، ويَفْعَلُ العَدْلَ ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وهو السَّمِيعُ العَلِيمُ - واللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وهو يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ [الأحزاب: ١١٥-٤].
فالصِّراطُ المُسْتَقِيمُ - الَّذِي عَلَيْهِ رَبُّنا تَبارَكَ وتَعالى -: هو مُقْتَضى التَّوْحِيدِ والعَدْلِ، قالَ تَعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أحَدُهُما أبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وهو كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هو ومَن يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وهو عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [النحل: ٧٦] فَهَذا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِنَفْسِهِ ولِلصَّنَمِ، فَهو سُبْحانَهُ الَّذِي يَأْمُرُ بِالعَدْلِ، وهو عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، والصَّنَمُ مَثَلُ العَبْدِ الَّذِي هو كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ، أيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ.
والمَقْصُودُ: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿قائِمًا بِالقِسْطِ﴾ [آل عمران: ١٨] هو كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [هود: ٥٦] وقَوْلُهُ ﴿قائِمًا بِالقِسْطِ﴾ [آل عمران: ١٨] نُصِبَ عَلى الحالِ، وفِيهِ وجْهانِ، أحَدُهُما: أنَّهُ حالٌ مِنَ الفاعِلِ في " شَهِدَ اللَّهُ " والعامِلُ فِيها الفِعْلُ، والمَعْنى عَلى هَذا: شَهِدَ اللَّهُ حالَ قِيامِهِ بِالقِسْطِ: أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ، والثّانِي: أنَّهُ حالٌ مِن قَوْلِهِ " هو " والعامِلُ فِيها مَعْنى النَّفْيِ، أيْ لا إلَهَ إلّا هُوَ، حالَ كَوْنِهِ قائِمًا بِالقِسْطِ، وبَيْنَ التَّقْدِيرَيْنِ فَرْقٌ ظاهِرٌ، فَإنَّ التَّقْدِيرَ الأوَّلَ: يَتَضَمَّنُ أنَّ المَعْنى: " شَهِدَ اللَّهُ " مُتَكَلِّمًا بِالعَدْلِ، مُخْبِرًا بِهِ، آمِرًا بِهِ، فاعِلًا لَهُ، مُجازِيًا بِهِ - أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ، فَإنَّ العَدْلَ يَكُونُ في القَوْلِ والفِعْلِ، والمُقْسِطُ هو العادِلُ في قَوْلِهِ وفِعْلِهِ، فَشَهِدَ اللَّهُ قائِمًا بِالعَدْلِ - قَوْلًا وفِعْلًا - أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ، وفي ذَلِكَ تَحْقِيقٌ لِكَوْنِ هَذِهِ الشَّهادَةِ شَهادَةَ عَدْلٍ وقِسْطٍ، وهي أعْدَلُ شَهادَةٍ، كَما أنَّ المَشْهُودَ بِهِ أعْدَلُ شَيْءٍ، وأصَحُّهُ وأحَقُّهُ، وذَكَرَ ابْنُ السّائِبِ وغَيْرُهُ في سَبَبِ نُزُولِ الآيَةِ ما يَشْهَدُ بِذَلِكَ، وهو «أنَّ حَبْرَيْنِ مِن أحْبارِ الشّامِ قَدِما عَلى النَّبِيِّ ﷺ، فَلَمّا أبْصَرا المَدِينَةَ قالَ أحَدُهُما لِصاحِبِهِ: ما أشْبَهَ هَذِهِ المَدِينَةِ بِمَدِينَةِ النَّبِيِّ الَّذِي يَخْرُجُ في آخِرِ الزَّمانِ، فَلَمّا دَخَلا عَلى النَّبِيِّ ﷺ قالا لَهُ: أنْتَ مُحَمَّدٌ؟ قالَ: نَعَمْ، وأحْمَدُ؟ قالَ: نَعَمْ، قالا: نَسْألُكَ عَنْ شَهادَةٍ، فَإنْ أخْبَرَتْنا بِها آمَنّا بِكَ، قالَ: سَلانِي، قالا: أخْبِرْنا عَنْ أعْظَمِ شَهادَةٍ في كِتابِ اللَّهِ فَنَزَلَتْ: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ﴾ [آل عمران: ١٨]- الآيَةَ» وإذا كانَ القِيامُ بِالقِسْطِ يَكُونُ في القَوْلِ والفِعْلِ كانَ المَعْنى: أنَّهُ كانَ سُبْحانَهُ يَشْهَدُ وهو قائِمٌ بِالعَدْلِ عالِمٌ بِهِ، لا بِالظُّلْمِ، فَإنَّ هَذِهِ الشَّهادَةَ تَضَمَّنَتْ قَوْلًا وعَمَلًا، فَإنَّها تَضَمَّنَتْ: أنَّهُ هو الَّذِي يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ وحْدَهُ دُونَ غَيْرِهِ، وأنَّ الَّذِينَ عَبَدُوهُ وحْدَهُ: هُمُ المُفْلِحُونَ السُّعَداءُ، وأنَّ الَّذِينَ أشْرَكُوا بِهِ غَيْرَهُ هُمُ الضّالُّونَ الأشْقِياءُ، فَإذا شَهِدَ قائِمًا بِالعَدْلِ - المُتَضَمِّنِ جَزاءَ المُخْلِصِينَ بِالجَنَّةِ، وجَزاءَ المُشْرِكِينَ بِالنّارِ -: كانَ هَذا مِن تَمامِ مُوجَبِ الشَّهادَةِ وتَحْقِيقِها، وكانَ قَوْلُهُ ﴿قائِمًا بِالقِسْطِ﴾ [آل عمران: ١٨] تَنْبِيهًا عَلى جَزاءِ الشّاهِدِ بِها والجاحِدِ لَها، واللَّهُ أعْلَمُ.
* (فَصْلٌ)
وَأمّا التَّقْدِيرُ الثّانِي - وهو أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: " قائِمًا " حالًا مِمّا بَعْدَ إلّا - فالمَعْنى: أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو قائِمًا بِالعَدْلِ، فَهو وحْدَهُ المُسْتَحِقُّ الإلَهِيَّةَ، مَعَ كَوْنِهِ قائِمًا بِالقِسْطِ، قالَ شَيْخُنا: وهَذا التَّقْدِيرُ أرْجَحُ، فَإنَّهُ يَتَضَمَّنُ: أنَّ المَلائِكَةَ وأُولِي العِلْمِ يَشْهَدُونَ لَهُ بِأنَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ، وأنَّهُ قائِمٌ بِالقِسْطِ.
قُلْتُ: مُرادُهُ أنَّهُ إذا كانَ قَوْلُهُ ﴿قائِمًا بِالقِسْطِ﴾ [آل عمران: ١٨] حالًا مِنَ المَشْهُودِ بِهِ، فَهو كالصِّفَةِ لَهُ، فَإنَّ الحالَ صِفَةٌ في المَعْنى لِصاحِبِها، فَإذا وقَعَتِ الشَّهادَةُ عَلى ذِي الحالِ وصاحِبِها كانَ كِلاهُما مَشْهُودًا بِهِ، فَيَكُونُ المَلائِكَةُ وأُولُو العِلْمِ قَدْ شَهِدُوا بِأنَّهُ قائِمٌ بِالقِسْطِ، كَما شَهِدُوا بِأنَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ، والتَّقْدِيرُ الأوَّلُ لا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ، فَإنَّهُ إذا كانَ التَّقْدِيرُ: شَهِدَ اللَّهُ - قائِمًا بِالقِسْطِ - أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو والمَلائِكَةَ وأُولُو العِلْمِ يَشْهَدُونَ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هُوَ: كانَ القِيامُ بِالقِسْطِ حالًا مِنِ اسْمِ اللَّهِ وحْدَهُ.
وَأيْضًا فَكَوْنُهُ قائِمًا بِالقِسْطِ فِيما شَهِدَ بِهِ أبْلَغُ مِن كَوْنِهِ حالًا مِن مُجَرَّدِ الشَّهادَةِ.
فَإنْ قِيلَ: فَإذا كانَ حالًا مِن " هو " فَهَلّا اقْتَرَنَ بِهِ؟ ولِمَ فُصِلَ بَيْنَ صاحِبِ الحالِ وبَيْنَها بِالمَعْطُوفِ، فَجاءَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ صاحِبِ الحالِ وبَيْنَها؟
قُلْتُ: فائِدَتُهُ ظاهِرَةٌ، فَإنَّهُ لَوْ قالَ: شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو قائِمًا بِالقِسْطِ والمَلائِكَةُ وأُولُو العِلْمِ؛ لَأُوهِمَ عَطْفُ المَلائِكَةِ وأُولِي العِلْمِ عَلى الضَّمِيرِ في قَوْلِهِ ﴿قائِمًا بِالقِسْطِ﴾ [آل عمران: ١٨] ولا يَحْسُنُ العَطْفُ لِأجْلِ الفَصْلِ، ولَيْسَ المَعْنى عَلى ذَلِكَ قَطْعًا، وإنَّما المَعْنى عَلى خِلافِهِ، وهو أنَّ قِيامَهُ بِالقِسْطِ مُخْتَصٌّ بِهِ، كَما أنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالإلَهِيَّةِ، فَهو وحْدَهُ الإلَهُ المَعْبُودُ المُسْتَحِقُّ العِبادَةَ، وهو وحْدَهُ المُجازِي المُثِيبُ المُعاقِبُ بِالعَدْلِ.
قَوْلُهُ: " لا إلَهَ إلّا هو "، ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أنَّهُ قالَ: الأُولى وصْفٌ وتَوْحِيدٌ، والثّانِيَةُ: رَسْمٌ وتَعْلِيمٌ، أيْ قُولُوا: لا إلَهَ إلّا هُوَ، ومَعْنى هَذا: أنَّ الأُولى تَضَمَّنَتْ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ شَهِدَ بِها وأخْبَرَ بِها، والتّالِي لِلْقُرْآنِ إنَّما يُخْبِرُ عَنْ شَهادَتِهِ هُوَ، ولَيْسَ في ذَلِكَ شَهادَةٌ مِنَ التّالِي نَفْسِهِ، فَأعادَ سُبْحانَهُ ذِكْرَها مُجَرَّدَةً لِيَقُولَها التّالِي، فَيَكُونَ شاهِدًا هو أيْضًا.
وَأيْضًا فالأُولى: خَبَرٌ عَنِ الشَّهادَةِ بِالتَّوْحِيدِ، والثّانِيَةُ: خَبَرٌ عَنْ نَفْسِ التَّوْحِيدِ، وخَتَمَ بِقَوْلِهِ: ﴿العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [آل عمران: ١٨] فَتَضَمَّنَتِ الآيَةُ تَوْحِيدَهُ وعَدْلَهُ، وعِزَّتَهُ وحِكْمَتَهُ، فالتَّوْحِيدُ: يَتَضَمَّنُ ثُبُوتَ صِفاتِ كَمالِهِ، ونُعُوتِ جَلالِهِ، وعَدَمَ المُماثِلِ لَهُ فِيها وعِبادَتَهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، والعَدْلُ يَتَضَمَّنُ وضْعَهُ الأشْياءَ مَوْضِعَها، وتَنْزِيلَها مَنازِلَها، وأنَّهُ لَمْ يَخُصَّ شَيْئًا مِنها إلّا بِمُخَصِّصٍ اقْتَضى ذَلِكَ، وأنَّهُ لا يُعاقِبُ مَن لا يَسْتَحِقُّ العُقُوبَةَ، ولا يَمْنَعُ مَن يَسْتَحِقُّ العَطاءَ، وإنْ كانَ هو الَّذِي جَعَلَهُ مُسْتَحِقًّا، والعِزَّةُ تَتَضَمَّنُ كَمالَ قُدْرَتِهِ وقُوَّتِهِ وقَهْرِهِ، والحِكْمَةُ تَتَضَمَّنُ كَمالَ عِلْمِهِ، وخِبْرَتِهِ، وأنَّهُ أمَرَ ونَهى، وخَلَقَ وقَدَّرَ، لِما لَهُ في ذَلِكَ مِنَ الحِكَمِ والغاياتِ الحَمِيدَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْها كَمالَ الحَمْدِ.
فاسْمُهُ العَزِيزُ يَتَضَمَّنُ المُلْكَ، واسْمُهُ الحَكِيمُ يَتَضَمَّنُ الحَمْدَ، وأوَّلُ الآيَةِ يَتَضَمَّنُ التَّوْحِيدَ، وذَلِكَ حَقِيقَةُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ، وهو عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وذَلِكَ أفْضَلُ ما قالَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ والنَّبِيُّونَ مِن قَبْلِهِ، والحَكِيمُ الَّذِي إذا أمَرَ بِأمْرٍ كانَ حَسَنًا في نَفْسِهِ وإذا نَهى عَنْ شَيْءٍ كانَ قَبِيحًا في نَفْسِهِ، وإذا أخْبَرَ بِخَبَرٍ كانَ صِدْقًا، وإذا فَعَلَ فِعْلًا كانَ صَوابًا، وإذا أرادَ شَيْئًا كانَ أوْلى بِالإرادَةِ مِن غَيْرِهِ، وهَذا الوَصْفُ عَلى الكَمالِ لا يَكُونُ إلّا لِلَّهِ وحْدَهُ.
فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الآيَةُ وهَذِهِ الشَّهادَةُ: الدَّلالَةَ عَلى وحْدانِيَّتِهِ المُنافِيَةِ لِلشِّرْكِ، وعَدْلِهُ المُنافِي لِلظُّلْمِ، وعِزَّتِهِ المُنافِيَةِ لِلْعَجْزِ، وحِكْمَتِهِ المُنافِيَةِ لِلْجَهْلِ والعَيْبِ، فَفِيها الشَّهادَةُ لَهُ بِالتَّوْحِيدِ، والعَدْلِ، والقُدْرَةِ والعِلْمِ والحِكْمَةِ، ولِهَذا كانَتْ أعْظَمَ شَهادَةٍ.
وَلا يَقُومُ لِهَذِهِ الشَّهادَةِ عَلى وجْهِها مِن جَمِيعِ الطَّوائِفِ إلّا أهْلُ السُّنَّةِ، وسائِرُ طَوائِفِ أهْلِ البِدَعِ لا يَقُومُونَ بِها، فالفَلاسِفَةُ أشَدُّ النّاسِ إنْكارًا وجُحُودًا لِمَضْمُونِها، مِن أوَّلِها إلى آخِرِها، وطَوائِفُ الِاتِّحادِيَّةِ: هم أبْعَدُ خَلْقِ اللَّهِ عَنْها مِن كُلِّ وجْهٍ، وطائِفَةُ الجَهْمِيَّةِ تُنْكِرُ حَقِيقَتَها مِن وُجُوهٍ:
مِنها: أنَّ الإلَهَ هو الَّذِي تَأْلَهُهُ القُلُوبُ، مَحَبَّةً لَهُ، واشْتِياقًا إلَيْهِ، وإنابَةً، وعِنْدَهُمْ: أنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ ولا يُحَبُّ.
وَمِنها: أنَّ الشَّهادَةَ كَلامُهُ وخَبَرُهُ عَمّا شَهِدَ بِهِ، وهو عِنْدَهم لا يَقُولُ ولا يَتَكَلَّمُ، ولا يَشْهَدُ ولا يُخْبِرُ.
وَمِنها: أنَّها تَتَضَمَّنُ مُبايَنَتَهُ لِخَلْقِهِ بِذاتِهِ وصِفاتِهِ، وعِنْدَ فِرَعَوْنِيِّهِمْ: أنَّهُ لا يُبايِنُ الخَلْقَ ولا يُحايِثُهُمْ، ولَيْسَ فَوْقَ العَرْشِ إلَهٌ يُعْبَدُ، ولا رَبٌّ يُصَلّى لَهُ ويُسْجَدُ.
وَعِنْدَ حُلُولِيَّتِهِمْ: أنَّهُ حالٌّ في كُلِّ مَكانٍ بِذاتِهِ، حَتّى في الأمْكِنَةِ الَّتِي يُسْتَحْيى مِن ذِكْرِها، فَهَؤُلاءِ مُثْبِتَةُ الجَهْمِيَّةِ، وأُولَئِكَ نُفاتُهم.
وَمِنها: أنَّ قِيامَهُ بِالقِسْطِ في أفْعالِهِ وأقْوالِهِ، وعِنْدَهُمْ: أنَّهُ لَمْ يَقُمْ ولا يَقُومُ بِهِ فِعْلٌ ولا قَوْلٌ ألْبَتَّةَ، وأنَّ قَوْلَهُ: مَخْلُوقٌ مِن بَعْضِ المَخْلُوقاتِ، وفِعْلَهُ هو المَفْعُولُ المُنْفَصِلُ، وأمّا أنْ يَكُونَ لَهُ فِعْلٌ يَكُونُ بِهِ فاعِلًا حَقِيقَةً: فَلا.
وَمِنها: أنَّ القِسْطَ عِنْدَهم لا حَقِيقَةَ لَهُ، بَلْ كُلُّ مُمْكِنٍ فَهو قِسْطٌ، ولَيْسَ في مَقْدُورِهِ ما يَكُونُ ظُلْمًا وقِسْطًا، بَلِ الظُّلْمُ عِنْدَهم هو المُحالُ المُمْتَنِعُ لِذاتِهِ، والقِسْطُ هو المُمْكِنُ، فَنَزَّهَ اللَّهُ سُبْحانَهُ نَفْسَهُ - عَلى قَوْلِهِمْ - عَنِ المُحالِ المُمْتَنِعِ لِذاتِهِ الَّذِي لا يَدْخُلُ تَحْتَ القُدْرَةِ.
وَمِنها: أنَّ العِزَّةَ هي القُوَّةُ والقُدْرَةُ، وعِنْدَهم لا يَقُومُ بِهِ صِفَةٌ، ولا لَهُ صِفَةٌ وقُدْرَةٌ تُسَمّى قُدْرَةً وقُوَّةً.
وَمِنها: أنَّ الحِكْمَةَ هي الغايَةُ الَّتِي يَفْعَلُ لِأجْلِها، وتَكُونُ هي المَطْلُوبَةَ بِالفِعْلِ، ويَكُونُ وُجُودُها أوْلى مِن عَدَمِها، وهَذا عِنْدَهم مُمْتَنِعٌ في حَقِّهِ سُبْحانَهُ، فَلا يَفْعَلُ لِحِكْمَةٍ ولا غايَةٍ، بَلْ لا غايَةَ لِفِعْلِهِ ولا أمْرِهِ، وما ثَمَّ إلّا مَحْضُ المَشِيئَةِ المُجَرَّدَةِ عَنِ الحِكْمَةِ والتَّعْلِيلِ.
وَمِنها: أنَّ الإلَهَ هو الَّذِي لَهُ الأسْماءُ الحُسْنى، والصِّفاتُ العُلى، وهو الَّذِي يَفْعَلُ بِقُدْرَتِهِ ومَشِيئَتِهِ وحِكْمَتِهِ، وهو المَوْصُوفُ بِالصِّفاتِ والأفْعالِ، المُسَمّى بِالأسْماءِ الَّتِي قامَتْ بِها حَقائِقُها ومَعانِيها، وهَذا لا يُثْبِتُهُ عَلى الحَقِيقَةِ إلّا أتْباعُ الرُّسُلِ، وهم أهْلُ العَدْلِ والتَّوْحِيدِ.
* [فَصْلٌ مَزاعِمُ الجَهْمِيَّةِ والمُعْتَزِلَةِ]
* فَصْلٌ
فالجَهْمِيَّةُ والمُعْتَزِلَةُ: تَزْعُمُ أنَّ ذاتَهُ لا تُحِبُّ، ووَجْهَهُ لا يُرى، ولا يُلْتَذُّ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ، ولا تَشْتاقُ القُلُوبُ إلَيْهِ، فَهم في الحَقِيقَةِ مُنْكِرُونَ الإلَهِيَّةَ.
والقَدَرِيَّةُ: تُنْكِرُ دُخُولَ أفْعالِ المَلائِكَةِ والجِنِّ والإنْسِ وسائِرِ الحَيَوانِ تَحْتَ قُدْرَتِهِ ومَشِيئَتِهِ وخَلْقِهِ، فَهم مُنْكِرُونَ في الحَقِيقَةِ لِكَمالِ عِزِّهِ ومُلْكِهِ.
والجَبْرِيَّةُ: تُنْكِرُ حِكْمَتَهُ، وأنْ يَكُونَ لَهُ في أفْعالِهِ وأوامِرِهِ غايَةٌ يَفْعَلُ ويَأْمُرُ لِأجْلِها، فَهم مُنْكِرُونَ في الحَقِيقَةِ لِحِكْمَتِهِ وحَمْدِهِ.
وَأتْباعُ ابْنِ سِينا، والنَّصِيرِ الطُّوسِيِّ وفُرُوخِهِما: يُنْكِرُونَ أنْ يَكُونَ ماهِيَّةٌ غَيْرَ الوُجُودِ المُطْلَقِ، وأنْ يَكُونَ لَهُ وصْفٌ ثُبُوتِيٌّ زائِدٌ عَلى ماهِيَّةِ الوُجُودِ، فَهم في الحَقِيقَةِ مُنْكِرُونَ لِذاتِهِ وصِفاتِهِ وأفْعالِهِ، لا يَتَحاشَوْنَ مِن ذَلِكَ.
والِاتِّحادِيَّةُ: أدْهى وأمَرُّ، فَإنَّهم رَفَعُوا القَواعِدَ مِنَ الأصْلِ، وقالُوا: ما ثَمَّ وُجُودُ خالِقٍ ووُجُودُ مَخْلُوقٍ، بَلِ الخَلْقُ المُشَبَّهُ هو عَيْنُ الحَقِّ المُنَزَّهِ، كُلُّ ذَلِكَ مِن عَيْنٍ واحِدَةٍ، بَلْ هو العَيْنُ الواحِدَةُ.
فَهَذِهِ الشَّهادَةُ العَظِيمَةُ: كُلُّ هَؤُلاءِ هم بِها غَيْرُ قائِمِينَ، وهي مُتَضَمِّنَةٌ لِإبْطالِ ما هم عَلَيْهِ ورَدَّهُ، كَما تَضَمَّنَتْ إبْطالَ ما عَلَيْهِ المُشْرِكُونَ ورَدَّهُ، وهي مُبْطِلَةٌ لِقَوْلِ طائِفَتَيِ الشِّرْكِ والتَّعْطِيلِ، ولا يَقُومُ بِهَذِهِ الشَّهادَةِ إلّا أهْلُ الإثْباتِ الَّذِينَ يُثْبِتُونَ لِلَّهِ ما أثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الأسْماءِ والصِّفاتِ، ويَنْفُونَ عَنْهُ مُماثَلَةَ المَخْلُوقاتِ، ويَعْبُدُونَهُ وحْدَهُ لا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا.
* [فَصْلٌ شَهادَتُهُ سُبْحانَهُ تَتَضَمَّنُ بَيانَهُ لِلْعِبادِ ودَلالَتَهم وتَعْرِيفَهم بِما شَهِدَ بِهِ]
* فَصْلٌ
وَإذا كانَتْ شَهادَتُهُ سُبْحانَهُ تَتَضَمَّنُ بَيانَهُ لِلْعِبادِ، ودَلالَتَهم وتَعْرِيفَهم بِما شَهِدَ بِهِ، وإلّا فَلَوْ شَهِدَ شَهادَةً لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنَ العِلْمِ بِها: لَمْ يَنْتَفِعُوا، ولَمْ يُقِمْ عَلَيْهِمْ بِها الحُجَّةَ، كَما أنَّ الشّاهِدَ مِنَ العِبادِ إذا كانَتْ عِنْدَهُ شَهادَةٌ ولَمْ يُبَيِّنْها، بَلْ كَتَمَها، لَمْ يَنْتَفِعْ بِها أحَدٌ، ولَمْ تَقُمْ بِها حُجَّةٌ، وإذا كانَ لا يَنْتَفِعُ بِها إلّا بِبَيانِها، فَهو سُبْحانَهُ قَدْ بَيَّنَها غايَةَ البَيانِ بِطُرُقٍ ثَلاثَةٍ: السَّمْعِ، والبَصَرِ، والعَقْلِ.
أمّا السَّمْعُ: فَبِسَمْعِ آياتِهِ المَتْلُوَّةِ القَوْلِيَّةِ المُتَضَمِّنَةِ لِإثْباتِ صِفاتِ كَمالِهِ ونُعُوتِ جَلالِهِ، وعُلُوِّهِ عَلى عَرْشِهِ فَوْقَ سَبْعِ سَماواتِهِ، وتَكَلُّمِهِ بِكُتُبِهِ، وتَكْلِيمِهِ لِمَن شاءَ مِن عِبادِهِ تَكَلُّمًا وتَكْلِيمًا، حَقِيقَةً لا مَجازًا.
وَفِي هَذا إبْطالٌ لِقَوْلِ مَن قالَ: إنَّهُ لَمْ يُرِدْ مِن عِبادِهِ ما دَلَّتْ عَلَيْهِ آياتُهُ السَّمْعِيَّةُ مِن إثْباتِ مَعانِيها وحَقائِقِها الَّتِي وُضِعَتْ لَها ألْفاظُها، فَإنَّ هَذا ضِدُّ البَيانِ والإعْلامِ، ويَعُودُ عَلى مَقْصُودِ الشَّهادَةِ بِالإبْطالِ والكِتْمانِ، وقَدْ ذَمَّ اللَّهُ مَن كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ، وأخْبَرَ أنَّهُ مِن أظْلَمِ الظّالِمِينَ، فَإذا كانَتْ عِنْدَ العَبْدِ شَهادَةٌ مِنَ اللَّهِ تُحَقِّقُ ما جاءَ بِهِ رَسُولُهُ مِن أعْلامِ نُبُوَّتِهِ، وتَوْحِيدِ الرُّسُلِ، وأنَّ إبْراهِيمَ وأهْلَ بَيْتِهِ كانُوا عَلى الإسْلامِ كُلُّهُمْ، وكَتَمَ هَذِهِ الشَّهادَةَ؛ كانَ مِن أظْلَمِ الظّالِمِينَ - كَما فَعَلَهُ أعْداءُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ اليَهُودِ، الَّذِينَ كانُوا يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أبْناءَهم - فَكَيْفَ يُظَنُّ بِاللَّهِ سُبْحانَهُ أنَّهُ كَتَمَ شَهادَةَ الحَقِّ الَّتِي يَشْهَدُ بِها الجَهْمِيَّةُ والمُعْتَزِلَةُ والمُعَطِّلَةُ، ولا يَشْهَدُ بِها لِنَفْسِهِ، ثُمَّ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِما يُضادُّها ويُناقِضُها، ولا يُجامِعُها بِوَجْهٍ ما؟ سُبْحانَكَ هَذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ! فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ شَهِدَ لِنَفْسِهِ بِأنَّهُ اسْتَوى عَلى العَرْشِ، وبِأنَّهُ القاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ، وبِأنَّ مَلائِكَتَهُ يَخافُونَهُ مِن فَوْقِهِمْ، وأنَّ المَلائِكَةَ تَعْرُجُ إلَيْهِ بِالأمْرِ، وتَنْزِلُ مِن عِنْدِهِ بِهِ، وأنَّ العَمَلَ الصّالِحَ يَصْعَدُ إلَيْهِ، وأنَّهُ يَأْتِي ويَجِيءُ، ويَتَكَلَّمُ، ويَرْضى ويَغْضَبُ، ويُحِبُّ ويَكْرَهُ، ويَتَأذّى، ويَفْرَحُ ويَضْحَكُ، وأنَّهُ يَسْمَعُ ويُبْصِرُ، وأنَّهُ يَراهُ المُؤْمِنُونَ بِأبْصارِهِمْ يَوْمَ لِقائِهِ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا شَهِدَ بِهِ لِنَفْسِهِ، وشَهِدَ لَهُ بِهِ رُسُلُهُ، وشَهِدَتْ لَهُ الجَهْمِيَّةُ بِضِدِّ ذَلِكَ، وقالُوا: شَهادَتُنا أصَحُّ، وأعْدَلُ مِن شَهادَةِ النُّصُوصِ، فَإنَّ النُّصُوصَ تَضَمَّنَتْ كِتْمانَ الحَقِّ وإظْهارَ خِلافِهِ.
فَشَهادَةُ الرَّبِّ تَعالى: تُكَذِّبُ هَؤُلاءِ أشَدَّ التَّكْذِيبِ، وتَتَضَمَّنُ أنَّ الَّذِي شَهِدَ بِهِ قَدْ بَيَّنَهُ وأوْضَحَهُ وأظْهَرَهُ، حَتّى جَعَلَهُ في أعْلى مَراتِبِ الظُّهُورِ والبَيانِ، وأنَّهُ لَوْ كانَ الحَقُّ فِيما يَقُولُهُ المُعَطِّلَةُ والجَهْمِيَّةُ لَمْ يَكُنِ العِبادُ قَدِ انْتَفَعُوا بِما شَهِدَ بِهِ سُبْحانَهُ، فَإنَّ الحَقَّ في نَفْسِ الأمْرِ - عِنْدَهم - لَمْ يَشْهَدْ بِهِ لِنَفْسِهِ، والَّذِي شَهِدَ بِهِ لِنَفْسِهِ، وأظْهَرَهُ وأوْضَحَهُ: فَلَيْسَ بِحَقٍّ، ولا يَجُوزُ أنْ يُسْتَفادَ مِنهُ الحَقُّ واليَقِينُ.
وَأمّا آياتُهُ العِيانِيَّةُ الخَلْقِيَّةُ، والنَّظَرُ فِيها والِاسْتِدْلالُ بِها: فَإنَّها تَدُلُّ عَلى ما تَدُلُّ عَلَيْهِ آياتُهُ القَوْلِيَّةُ السَّمْعِيَّةُ، وآياتُ الرَّبِّ: هي دَلائِلُهُ وبَراهِينُهُ الَّتِي بِها يَعْرِفُهُ العِبادُ، وبِها يَعْرِفُونَ أسْماءَهُ وصِفاتِهِ، وتَوْحِيدَهُ، وأمْرَهُ ونَهْيَهُ، فالرُّسُلُ تُخْبِرُ عَنْهُ بِكَلامِهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ، وهو آياتُهُ القَوْلِيَّةُ، ويَسْتَدِلُّونَ عَلى ذَلِكَ بِمَفْعُولاتِهِ الَّتِي تَشْهَدُ عَلى صِحَّةِ ذَلِكَ، وهي آياتُهُ العِيانِيَّةُ، والعَقْلُ يَجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ وهَذِهِ، فَيَجْزِمُ بِصِحَّةِ ما جاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، فَتَتَّفِقُ شَهادَةُ السَّمْعِ والبَصَرِ والعَقْلِ والفِطْرَةِ، وهو سُبْحانَهُ - لِكَمالِ عَدْلِهِ ورَحْمَتِهِ، وإحْسانِهِ وحِكْمَتِهِ، ومَحَبَّتِهِ لِلْعُذْرِ، وإقامَتِهِ لِلْحُجَّةِ - لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا مِنَ الأنْبِياءِ إلّا ومَعَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلى صِدْقِهِ فِيما أخْبَرَ بِهِ، قالَ تَعالى: ﴿لَقَدْ أرْسَلْنا رُسُلَنا بِالبَيِّناتِ وأنْزَلْنا مَعَهُمُ الكِتابَ والمِيزانَ لِيَقُومَ النّاسُ بِالقِسْطِ﴾ [الحديد: ٢٥] وقالَ تَعالى: ﴿وَما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ إلّا رِجالًا نُوحِي إلَيْهِمْ فاسْألُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالبَيِّناتِ والزُّبُرِ﴾ [النحل: ٤٣] وقالَ تَعالى: ﴿قَدْ جاءَكم رُسُلٌ مِن قَبْلِي بِالبَيِّناتِ وبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهم إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِن قَبْلِكَ جاءُوا بِالبَيِّناتِ والزُّبُرِ والكِتابِ المُنِيرِ﴾ [آل عمران: ١٨٣] وقالَ تَعالى: ﴿وَإنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِن قَبْلِكَ﴾ [فاطر: ٤] وقالَ تَعالى: ﴿وَإنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جاءَتْهم رُسُلُهم بِالبَيِّناتِ وبِالزُّبُرِ وبِالكِتابِ المُنِيرِ﴾ [فاطر: ٢٥].
حَتّى إنَّ مِن أخْفى آياتِ الرُّسُلِ آياتُ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، حَتّى قالَ لَهُ قَوْمُهُ ﴿ياهُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ﴾ [هود: ٥٣] ومَعَ هَذا فَبَيِّنَتُهُ مِن أظْهَرِ البَيِّناتِ، وقَدْ أشارَ إلَيْها بِقَوْلِهِ: ﴿إنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ واشْهَدُوا أنِّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونَ - إنِّي تَوَكَّلْتُ عَلى اللَّهِ رَبِّي ورَبِّكم ما مِن دابَّةٍ إلّا هو آخِذٌ بِناصِيَتِها إنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [هود: ٥٤-٥٦]، فَهَذا مِن أعْظَمِ الآياتِ: أنَّ رَجُلًا واحِدًا يُخاطِبُ أُمَّةً عَظِيمَةً بِهَذا الخِطابِ، غَيْرَ جَزِعٍ ولا فَزِعٍ، ولا خَوّارٍ، بَلْ واثِقٌ مِمّا قالَهُ جازِمٌ بِهِ، قَدْ أشْهَدَ اللَّهَ أوَّلًا عَلى بَراءَتِهِ مِن دِينِهِمْ، ومِمّا هم عَلَيْهِ إشْهادَ واثِقٍ بِهِ، مُعْتَمِدٍ عَلَيْهِ، مُعْلِمٍ لِقَوْمِهِ: أنَّهُ ولِيُّهُ وناصِرُهُ، وأنَّهُ غَيْرُ مُسَلِّطِهِمْ عَلَيْهِ.
ثُمَّ أشْهَدَهم - إشْهادَ مُجاهِرٍ لَهم بِالمُخالَفَةِ -: أنَّهُ بَرِيءٌ مِن دِينِهِمْ وآلِهَتِهِمْ، الَّتِي يُوالُونَ عَلَيْها ويُعادُونَ، ويَبْذُلُونَ دِماءَهم وأمْوالَهم في نُصْرَتِها.
ثُمَّ أكَّدَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِالِاسْتِهانَةِ بِهِمْ، واحْتِقارِهِمْ وازْدِرائِهِمْ، وأنَّهم لَوْ يَجْتَمِعُونَ كُلُّهم عَلى كَيْدِهِ، وشِفاءِ غَيْظِهِمْ مِنهُ، ثُمَّ يُعالِجُونَهُ ولا يُمْهِلُونَهُ، وفي ضِمْنِ ذَلِكَ: أنَّهم أضْعَفُ وأعْجَزُ وأقَلُّ مِن ذَلِكَ، وأنَّكم لَوْ رُمْتُمُوهُ لانْقَلَبْتُمْ بِغَيْظِكم مَكْبُوتِينَ مَخْذُولِينَ.
ثُمَّ قَرَّرَ دَعْوَتَهُ أحَسَنَ تَقْرِيرٍ، وبَيَّنَ أنَّ رَبَّهُ تَعالى ورَبَّهُمْ، الَّذِي نَواصِيهِمْ بِيَدِهِ: هو ولِيُّهُ ووَكِيلُهُ، القائِمُ بِنَصْرِهِ وتَأْيِيدِهِ، وأنَّهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ، فَلا يَخْذُلُ مَن تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وآمَنَ بِهِ، ولا يُشْمِتُ بِهِ أعْداءَهُ، ولا يَكُونُ مَعَهم عَلَيْهِ، فَإنَّ صِراطَهُ المُسْتَقِيمَ الَّذِي هو عَلَيْهِ - في قَوْلِهِ وفِعْلِهِ - يَمْنَعُ ذَلِكَ ويَأْباهُ.
وَتَحْتَ هَذا الخِطابِ أنَّ مِن صِراطِهِ المُسْتَقِيمِ أنْ يَنْتَقِمَ مِمَّنْ خَرَجَ عَنْهُ وعَمِلَ بِخِلافِهِ، ويُنْزِلَ بِهِ بِأْسَهُ، فَإنَّ الصِّراطَ المُسْتَقِيمَ هو العَدْلُ الَّذِي عَلَيْهِ الرَّبُّ تَعالى، ومِنهُ انْتِقامُهُ مِن أهْلِ الشِّرْكِ والإجْرامِ، ونَصْرُهُ أوْلِياءَهُ ورُسُلَهُ عَلى أعْدائِهِمْ، وأنَّهُ يَذْهَبُ بِهِمْ، ويَسْتَخْلِفُ قَوْمًا غَيْرَهُمْ، ولا يَضُرُّهُ ذَلِكَ شَيْئًا، وأنَّهُ القائِمُ سُبْحانَهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حِفْظًا ورِعايَةً وتَدْبِيرًا وإحْصاءً.
فَأيُّ آيَةٍ وبُرْهانٍ ودَلِيلٍ أحْسَنُ مِن آياتِ الأنْبِياءِ وبَراهِينِهِمْ وأدِلَّتِهِمْ؟ وهي شَهادَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ لَهُمْ، بَيَّنَها لِعِبادِهِ غايَةَ البَيانِ، وأظْهَرَها لَهم غايَةَ الإظْهارِ بِقَوْلِهِ وفِعْلِهِ، وفي الصَّحِيحِ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ: «ما مِن نَبِيٍّ مِنَ الأنْبِياءِ إلّا وقَدْ أُوتِيَ مِنَ الآياتِ ما آمَنَ عَلى مِثْلِهِ البَشَرُ، وإنَّما كانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وحْيًا أوْحاهُ اللَّهُ إلَيَّ، فَأرْجُو أنْ أكُونَ أكْثَرَهم تابِعًا يَوْمَ القِيامَةِ».
وَمِن أسْمائِهِ تَعالى المُؤْمِنُ وهو - في أحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ - المُصَدِّقُ الَّذِي يُصَدِّقُ الصّادِقِينَ بِما يُقِيمُ لَهم مِن شَواهِدِ صِدْقِهِمْ، فَهو الَّذِي صَدَّقَ رُسُلَهُ وأنْبِياءَهُ فِيما بَلَّغُوا عَنْهُ، وشَهِدَ لَهم بِأنَّهم صادِقُونَ بِالدَّلائِلِ الَّتِي دَلَّ بِها عَلى صِدْقِهِمْ قَضاءً وخَلْقًا، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ أخْبَرَ - وخَبَرُهُ الصِّدْقُ، وقَوْلُهُ الحَقُّ - أنَّهُ لابُدَّ أنْ يَرى العِبادُ مِنَ الآياتِ الأُفُقِيَّةِ والنَّفْسِيَّةِ ما يُبَيِّنُ لَهم أنَّ الوَحْيَ الَّذِي بَلَّغَتْهُ رُسُلُهُ حَقٌّ، فَقالَ تَعالى ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا في الآفاقِ وفي أنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهم أنَّهُ الحَقُّ﴾ [فصلت: ٥٣] أيِ القُرْآنُ، فَإنَّهُ هو المُتَقَدِّمُ في قَوْلِهِ: ﴿قُلْ أرَأيْتُمْ إنْ كانَ مِن عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ﴾ [فصلت: ٥٢] ثُمَّ قالَ: ﴿أوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: ٥٣] فَشَهِدَ سُبْحانَهُ لِرَسُولِهِ بِقَوْلِهِ: أنَّ ما جاءَ بِهِ حَقٌّ، ووَعَدَهُ أنْ يُرِيَ العِبادَ مِن آياتِهِ الفِعْلِيَّةِ الخَلْقَيَّةِ ما يَشْهَدُ بِذَلِكَ أيْضًا، ثُمَّ ذَكَرَ ما هو أعْظَمُ مِن ذَلِكَ وأجَلُّ، وهو شَهادَتُهُ سُبْحانَهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، فَإنَّ مِن أسْمائِهِ الشَّهِيدَ الَّذِي لا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ، ولا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ في الأرْضِ ولا في السَّماءِ، بَلْ هو مُطَّلِعٌ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُشاهِدٌ لَهُ، عَلِيمٌ بِتَفاصِيلِهِ، وهَذا اسْتِدْلالٌ بِأسْمائِهِ وصِفاتِهِ، والأوَّلُ اسْتِدْلالٌ بِقَوْلِهِ وكَلِماتِهِ، والِاسْتِدْلالُ بِالآياتِ الأُفُقِيَّةِ والنَّفْسِيَّةِ اسْتِدْلالٌ بِأفْعالِهِ ومَخْلُوقاتِهِ.
فَإنْ قُلْتَ: قَدْ فَهِمْتُ الِاسْتِدْلالَ بِكَلِماتِهِ والِاسْتِدْلالَ بِمَخْلُوقاتِهِ، فَبَيِّنْ لِي كَيْفِيَّةَ الِاسْتِدْلالِ بِأسْمائِهِ وصِفاتِهِ، فَإنَّ ذَلِكَ أمْرٌ لا عَهْدَ لَنا بِهِ في تَخاطُبِنا وكُتُبِنا.
قُلْتُ: أجَلْ! هو لَعَمْرُ اللَّهِ كَما ذَكَرْتَ، وشَأْنُهُ أجَلُّ وأعْلى، فَإنَّ الرَّبَّ تَعالى هو المَدْلُولُ عَلَيْهِ، وآياتُهُ هي الدَّلِيلُ والبُرْهانُ.
فاعْلَمْ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ في الحَقِيقَةِ هو الدّالُّ عَلى نَفْسِهِ بِآياتِهِ، فَهو الدَّلِيلُ لِعِبادِهِ في الحَقِيقَةِ بِما نَصَبَهُ لَهم مِنَ الدَّلالاتِ والآياتِ، وقَدْ أوْدَعَ في الفِطَرِ الَّتِي لَمْ تَتَنَجَّسْ بِالتَّعْطِيلِ والجُحُودِ: أنَّهُ سُبْحانَهُ الكامِلُ في أسْمائِهِ وصِفاتِهِ، وأنَّهُ المَوْصُوفُ بِكُلِّ كَمالٍ، المُنَزَّهُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ ونَقْصٍ، فالكَمالُ كُلُّهُ، والجَمالُ والجَلالُ والبَهاءُ، والعِزَّةُ والعَظَمَةُ والكِبْرِياءُ: كُلُّهُ مِن لَوازِمِ ذاتِهِ، يَسْتَحِيلُ أنْ يَكُونَ عَلى غَيْرِ ذَلِكَ، فالحَياةُ كُلُّها لَهُ، والعِلْمُ كُلُّهُ لَهُ، والقُدْرَةُ كُلُّها لَهُ، والسَّمْعُ والبَصَرُ والإرادَةُ، والمَشِيئَةُ والرَّحْمَةُ والغِنى، والجُودُ والإحْسانُ والبِرُّ، كُلُّهُ خاصُّ لَهُ قائِمٌ بِهِ، وما خَفِيَ عَلى الخَلْقِ مِن كَمالِهِ أعْظَمُ وأعْظَمُ مِمّا عَرَفُوهُ مِنهُ، بَلْ لا نِسْبَةَ لِما عَرَفُوهُ مِن ذَلِكَ إلى ما لَمْ يَعْرِفُوهُ.
وَمِن كَمالِهِ المُقَدَّسِ: اطِّلاعُهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، وشَهادَتُهُ عَلَيْهِ، بِحَيْثُ لا يَغِيبُ عَنْهُ وجْهٌ مِن وُجُوهِ تَفاصِيلِهِ، ولا ذَرَّةٌ مِن ذَرّاتِهِ، باطِنًا وظاهِرًا، ومَن هَذا شَأْنُهُ: كَيْفَ يَلِيقُ بِالعِبادِ أنْ يُشْرِكُوا بِهِ، وأنْ يَعْبُدُوا مَعَهُ غَيْرَهُ؟ وأنْ يَجْعَلُوا مَعَهُ إلَهًا آخَرَ؟ وكَيْفَ يَلِيقُ بِكَمالِهِ أنْ يُقِرَّ مَن يَكْذِبُ عَلَيْهِ أعْظَمَ الكَذِبِ، ويُخْبِرُ عَنْهُ بِخِلافِ ما الأمْرُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَنْصُرُهُ عَلى ذَلِكَ ويُؤَيِّدُهُ، ويُعْلِي كَلِمَتَهُ، ويَرْفَعُ شَأْنَهُ، ويُجِيبُ دَعْوَتَهُ، ويُهْلِكُ عَدُوَّهُ، ويُظْهِرُ عَلى يَدَيْهِ مِنَ الآياتِ والبَراهِينِ والأدِلَّةِ ما تَعْجِزُ عَنْ مِثْلِهِ قُوى البَشَرِ، وهو - مَعَ ذَلِكَ - كاذِبٌ عَلَيْهِ مُفْتَرٍ، ساعٍ في الأرْضِ بِالفَسادِ؟
وَمَعْلُومٌ أنَّ شَهادَتَهُ سُبْحانَهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، وقُدْرَتَهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ، وحِكْمَتُهُ وعِزَّتُهُ وكَمالُهُ المُقَدَّسُ يَأْبى ذَلِكَ كُلَّ الإباءِ، ومَن ظَنَّ ذَلِكَ بِهِ، وجَوَّزَهُ عَلَيْهِ؛ فَهو مِن أبْعَدِ الخَلْقِ مِن مَعْرِفَتِهِ، وإنْ عُرِفَ مِنهُ بَعْضُ صِفاتِهِ، كَصِفَةِ القُدْرَةِ وصِفَةِ المَشِيئَةِ.
والقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِن هَذِهِ الطَّرِيقِ، وهي طَرِيقُ الخاصَّةِ، بَلْ خاصَّةُ الخاصَّةِ هم الَّذِينَ يَسْتَدِلُّونَ بِاللَّهِ عَلى أفْعالِهِ، وما يَلِيقُ بِهِ أنْ يَفْعَلَهُ وما لا يَفْعَلُهُ.
وَإذا تَدَبَّرْتَ القُرْآنَ رَأيْتَهُ يُنادِي عَلى ذَلِكَ، فَيُبْدِيهِ ويُعِيدُهُ لِمَن لَهُ فَهْمٌ وقَلْبٌ واعٍ عَنِ اللَّهِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الأقاوِيلِ لَأخَذْنا مِنهُ بِاليَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنهُ الوَتِينَ فَما مِنكم مِن أحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ﴾ [الحاقة: ٤٤] أفَلا تَراهُ كَيْفَ يُخْبِرُ سُبْحانَهُ: أنَّ كَمالَهُ وحِكْمَتَهُ وقُدْرَتَهُ تَأْبى أنْ يُقِرَّ مَن تَقَوَّلَ عَلَيْهِ بَعْضَ الأقاوِيلِ؟ بَلْ لابُدَّ أنْ يَجْعَلَهُ عِبْرَةً لِعِبادِهِ، كَما جَرَتْ بِذَلِكَ سُنَّتُهُ في المُتَقَوِّلِينَ عَلَيْهِ، وقالَ تَعالى: ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلى اللَّهِ كَذِبًا فَإنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ﴾ [الشورى: ٢٤] هاهُنا انْتَهى جَوابُ الشَّرْطِ، ثُمَّ أخْبَرَ خَبَرًا جازِمًا غَيْرَ مُعَلَّقٍ: أنَّهُ ﴿يَمْحُ اللَّهُ الباطِلَ ويُحِقُّ الحَقَّ﴾ [الشورى: ٢٤] وقالَ تَعالى: ﴿وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إذْ قالُوا ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٩١] فَأخْبَرَ أنَّ مَن نَفى عَنْهُ الإرْسالَ والكَلامَ لَمْ يُقَدِّرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ، ولا عَرَفَهُ كَما يَنْبَغِي، ولا عَظَّمَهُ كَما يَسْتَحِقُّ، فَكَيْفَ مَن ظَنَّ أنَّهُ يَنْصُرُ الكاذِبَ المُفْتَرِيَ عَلَيْهِ ويُؤَيِّدُهُ؟ ويُظْهِرُ عَلى يَدَيْهِ الآياتِ والأدِلَّةَ؟ وهَذا في القُرْآنِ كَثِيرٌ جِدًّا، يُسْتَدَلُّ بِكَمالِهِ المُقَدَّسِ، وأوْصافِهِ وجَلالِهِ عَلى صِدْقِ رُسُلِهِ، وعَلى وعْدِهِ ووَعِيدِهِ، ويَدْعُو عِبادَهُ إلى ذَلِكَ، كَما يُسْتَدَلُّ بِأسْمائِهِ وصِفاتِهِ عَلى وحْدانِيَّتِهِ، وعَلى بُطْلانِ الشِّرْكِ، كَما في قَوْلِهِ: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هو عالِمُ الغَيْبِ والشَّهادَةِ هو الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ - هو اللَّهُ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هو المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [الحشر: ٢٢-٢٣]، وأضْعافُ أضْعافِ ذَلِكَ في القُرْآنِ.
وَيَسْتَدِلُّ سُبْحانَهُ بِأسْمائِهِ وصِفاتِهِ عَلى بُطْلانِ ما نُسِبَ إلَيْهِ مِنَ الأحْكامِ والشَّرائِعِ الباطِلَةِ، وأنَّ كَمالَهُ المُقَدَّسَ يَمْنَعُ مِن شَرْعِها، كَقَوْلِهِ: ﴿وَإذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وجَدْنا عَلَيْها آباءَنا واللَّهُ أمَرَنا بِها قُلْ إنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ أتَقُولُونَ عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: ٢٨]، وقَوْلِهِ عَقِيبَ ما نَهى عَنْهُ وحَرَّمَهُ مِنَ الشِّرْكِ والظُّلْمِ والفَواحِشِ والقَوْلِ عَلَيْهِ بِلا عَلَمٍ ﴿كُلُّ ذَلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾ [الإسراء: ٣٨] فَأعْلَمَكَ أنَّ ما كانَ سَيِّئُهُ في نَفْسِهِ فَهو يَكْرَهُهُ، وكَمالُهُ يَأْبى أنْ يَجْعَلَهُ شَرْعًا لَهُ ودِينًا، فَهو سُبْحانَهُ يَدُلُّ عِبادَهُ بِأسْمائِهِ وصِفاتِهِ عَلى ما يَفْعَلُهُ ويَأْمُرُ بِهِ، وما يُحِبُّهُ ويَبْغَضُهُ، ويُثِيبُ عَلَيْهِ ويُعاقِبُ عَلَيْهِ، ولَكِنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَ لا يَصِلُ إلَيْها إلّا خاصَّةُ الخاصَّةِ، فَلِذَلِكَ كانَتْ طَرِيقَةُ الجُمْهُورِ الدَّلالاتِ بِالآياتِ المُشاهَدَةِ، فَإنَّها أوْسَعُ وأسْهَلُ تَناوُلًا، واللَّهُ سُبْحانَهُ يُفَضِّلُ بَعْضَ خَلْقِهِ عَلى بَعْضٍ، ويَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَن يَشاءُ، وهو العَلِيمُ الحَكِيمُ.
فالقُرْآنُ العَظِيمُ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ ما لَمْ يَجْتَمِعْ في غَيْرِهِ، فَإنَّهُ هو الدَّعْوَةُ والحُجَّةُ، وهو الدَّلِيلُ والمَدْلُولُ عَلَيْهِ، وهو الشّاهِدُ والمَشْهُودُ لَهُ، وهو الحُكْمُ والدَّلِيلُ، وهو الدَّعْوى والبَيِّنَةُ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ ويَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنهُ﴾ [هود: ١٧] أيْ مِن رَبِّهِ، وهو القُرْآنُ، وقالَ تَعالى لِمَن طَلَبَ آيَةً تَدُلُّ عَلى صِدْقِ رَسُولِهِ: ﴿أوَلَمْ يَكْفِهِمْ أنّا أنْزَلْنا عَلَيْكَ الكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إنَّ في ذَلِكَ لَرَحْمَةً وذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ - قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وبَيْنَكم شَهِيدًا يَعْلَمُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ والَّذِينَ آمَنُوا بِالباطِلِ وكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ﴾ [العنكبوت: ٥١-٥٢]، فَأخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّ الكِتابَ الَّذِي أنْزَلَهُ عَلى رَسُولِهِ يَكْفِي عَنْ كُلِّ آيَةٍ، فَفِيهِ الحُجَّةُ والدَّلالَةُ عَلى أنَّهُ مِنَ اللَّهِ، وأنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ أرْسَلَ بِهِ رَسُولَهُ وفِيهِ بَيانُ ما يُوجِبُ لِمَنِ اتَّبَعَهُ السَّعادَةَ، ويُنْجِيهِ مِنَ العَذابِ، ثُمَّ قالَ: ﴿قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وبَيْنَكم شَهِيدًا يَعْلَمُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [العنكبوت: ٥٢] فَإذا كانَ اللَّهُ سُبْحانَهُ عالِمًا بِجَمِيعِ الأشْياءِ؛ كانَتْ شَهادَتُهُ أصْدَقَ شَهادَةٍ وأعْدَلَها، فَإنَّها شَهادَةٌ بِعِلْمٍ تامٍّ، مُحِيطٍ بِالمَشْهُودِ بِهِ، فَيَكُونُ الشّاهِدُ بِهِ أعْدَلَ الشُّهَداءِ وأصْدَقَهُمْ، وهو سُبْحانَهُ يَذْكُرُ عِلْمَهُ عِنْدَ شَهادَتِهِ، وقُدْرَتَهُ ومُلْكَهُ عِنْدَ مُجازاتِهِ، وحِكْمَتَهُ عِنْدَ خَلْقِهِ وأمْرِهِ، ورَحْمَتَهُ عِنْدَ ذِكْرِ إرْسالِ رَسُولِهِ، وحِلْمَهُ عِنْدَ ذِكْرِ ذُنُوبِ عِبادِهِ ومَعاصِيهِمْ، وسَمْعَهُ عِنْدَ ذِكْرِ دُعائِهِمْ، ومَسْألَتَهُ وعِزَّتَهُ وعِلْمَهُ عِنْدَ قَضائِهِ وقَدَرِهِ.
فَتَأمَّلْ وُرُودَ أسْمائِهِ الحُسْنى في كِتابِهِ، وارْتِباطَها بِالخَلْقِ والأمْرِ، والثَّوابِ والعِقابِ.
* [فَصْلٌ الِاسْتِشْهادُ عَلى الرِّسالَةِ بِشَهادَةِ اللَّهِ لَهُ]
* فَصْلٌ
وَمِن هَذا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وبَيْنَكم ومَن عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ﴾ [الرعد: ٤٣]
فاسْتَشْهَدَ عَلى رِسالَتِهِ بِشَهادَةِ اللَّهِ لَهُ، ولابُدَّ
أنَّ تُعْلَمَ هَذِهِ الشَّهادَةُ، وتَقُومَ بِها الحُجَّةُ عَلى المُكَذِّبِينَ لَهُ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿قُلْ أيُّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وبَيْنَكُمْ﴾ [الأنعام: ١٩]
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أنْزَلَ إلَيْكَ أنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ والمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [النساء: ١٦٦]
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿يس - والقُرْآنِ الحَكِيمِ - إنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ [يس: ١-٣]
وَقَوْلُهُ: ﴿تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالحَقِّ وإنَّكَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ﴾ [البقرة: ٢٥٢] وقَوْلُهُ: ﴿واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ﴾ [المنافقون: ١]
وَقَوْلُهُ: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ﴾ [الفتح: ٢٩]
فَهَذا كُلُّهُ شَهادَةٌ مِنهُ لِرَسُولِهِ، قَدْ أظْهَرَها وبَيَّنَها، وبَيَّنَ صِحَّتَها غايَةَ البَيانِ، بِحَيْثُ قَطَعَ العُذْرَ بَيْنَهُ وبَيْنَ عِبادِهِ، وأقامَ الحُجَّةَ عَلَيْهِمْ، فَكَوْنُهُ سُبْحانَهُ شاهِدًا لِرَسُولِهِ: مَعْلُومٌ بِسائِرِ أنْواعِ الأدِلَّةِ: عَقْلِيِّها ونَقْلِيِّها وفِطْرِيِّها وضَرُورِيِّها ونَظَرِيِّها.
وَمَن نَظَرَ في ذَلِكَ وتَأمَّلَهُ؛ عَلِمَ أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ شَهِدَ لِرَسُولِهِ أصْدَقَ الشَّهادَةِ، وأعْدَلَها وأظْهَرَها، وصَدَّقَهُ بِسائِرِ أنْواعِ التَّصْدِيقِ: بِقَوْلِهِ الَّذِي أقامَ البَراهِينَ عَلى صِدْقِهِ فِيهِ، وبِفِعْلِهِ وإقْرارِهِ، وبِما فَطَرَ عَلَيْهِ عِبادَهُ: مِنَ الإقْرارِ بِكَمالِهِ، وتَنْزِيهِهِ عَنِ القَبائِحِ، وعَمّا لا يَلِيقُ بِهِ، وفي كُلِّ وقْتٍ يُحْدِثُ مِنَ الآياتِ الدّالَّةِ عَلى صِدْقِ رَسُولِهِ ما يُقِيمُ بِهِ الحُجَّةَ، ويُزِيلُ بِهِ العُذْرَ، ويَحْكُمُ لَهُ ولِأتْباعِهِ بِما وعَدَهم بِهِ مِنَ العِزِّ والنَّجاةِ والظَّفَرِ والتَّأْيِيدِ، ويَحْكُمُ عَلى أعْدائِهِ ومُكَذِّبِيهِ بِما تَوَعَّدَهم بِهِ: مِنَ الخِزْيِ والنَّكالِ والعُقُوباتِ المُعَجَّلَةِ، الدّالَّةِ عَلى تَحْقِيقِ العُقُوباتِ المُؤَجَّلَةِ ﴿هُوَ الَّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى ودِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلى الدِّينِ كُلِّهِ وكَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [الفتح: ٢٨] فَيُظْهِرُهُ ظُهُورَيْنِ: ظُهُورًا بِالحُجَّةِ، والبَيانِ، والدَّلالَةِ، وظُهُورًا بِالنَّصْرِ والظَّفَرِ والغَلَبَةِ، والتَّأْيِيدِ، حَتّى يُظْهِرَهُ عَلى مُخالِفِيهِ، ويَكُونَ مْنُصُورًا.
وَقَوْلُهُ ﴿لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أنْزَلَ إلَيْكَ أنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ والمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ﴾ [النساء: ١٦٦] فَما فِيهِ مِنَ الخَبَرِ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ الَّذِي لا يَعْمَلُهُ غَيْرُهُ: مِن أعْظَمِ الشَّهادَةِ بِأنَّهُ هو الَّذِي أنْزَلَهُ، كَما قالَ في الآيَةِ الأُخْرى ﴿أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِن دُونِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ - فَإنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكم فاعْلَمُوا أنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وأنْ لا إلَهَ إلّا هو فَهَلْ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [هود: ١٣-١٤]
وَلَيْسَ المُرادُ مُجَرَّدَ الإخْبارِ بِأنَّهُ أنْزَلَهُ - وهو مَعْلُومٌ لَهُ، كَما يَعْلَمُ سائِرَ الأشْياءِ، فَإنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَعْلُومٌ لَهُ مِن حَقٍّ وباطِلٍ - وإنَّما المَعْنى: أنْزَلَهُ مُشْتَمِلًا عَلى عِلْمِهِ، فَنُزُولُهُ مُشْتَمِلًا عَلى عِلْمِهِ هو آيَةُ كَوْنِهِ مِن عِنْدِهِ، وأنَّهُ حَقٌّ وصِدْقٌ، ونَظِيرُ هَذا قَوْلُهُ: ﴿قُلْ أنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الفرقان: ٦] ذَكَرَ ذَلِكَ سُبْحانَهُ تَكْذِيبًا ورَدًّا عَلى مَن قالَ: افْتَراهُ.
* [فَصْلٌ مِن شَهادَتِهِ سُبْحانَهُ ما أوْدَعَهُ في قُلُوبِ العِبادِ مِنَ التَّصْدِيقِ الجازِمِ بِكَلامِهِ ووَحْيِهِ]
* فَصْلٌ
وَمِن شَهادَتِهِ أيْضًا: ما أوْدَعَهُ في قُلُوبِ عِبادِهِ: مِنَ التَّصْدِيقِ الجازِمِ، واليَقِينِ الثّابِتِ، والطُّمَأْنِينَةِ بِكَلامِهِ ووَحْيِهِ، فَإنَّ العادَةَ تُحِيلُ حُصُولَ ذَلِكَ بِما هو مِن أعْظَمِ الكَذِبِ، والِافْتِراءِ عَلى رَبِّ العالَمِينَ، والإخْبارِ عَنْهُ بِخِلافِ ما هو عَلَيْهِ مِن أسْمائِهِ وصِفاتِهِ، بَلْ ذَلِكَ يُوقِعُ أعْظَمَ الرَّيْبِ والشَّكِّ، وتَدْفَعُهُ الفِطَرُ والعُقُولُ السَّلِيمَةُ، كَما تَدْفَعُ الفِطَرُ - الَّتِي فُطِرَ عَلَيْها الحَيَوانُ - الأغْذِيَةَ الخَبِيثَةَ الضّارَّةَ الَّتِي لا تُغَذِّي، كالأبْوالِ والأنْتانِ، فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ فَطَرَ القُلُوبَ عَلى قَبُولِ الحَقِّ والِانْقِيادِ لَهُ، والطُّمَأْنِينَةِ بِهِ، والسُّكُونِ إلَيْهِ ومَحَبَّتِهِ، وفَطَرَها عَلى بُغْضِ الكَذِبِ والباطِلِ، والنُّفُورِ عَنْهُ، والرِّيبَةِ بِهِ، وعَدَمِ السُّكُونِ إلَيْهِ، ولَوْ بَقِيَتِ الفِطَرُ عَلى حالِها لَما آثَرَتْ عَلى الحَقِّ سِواهُ، ولَما سَكَنَتْ إلّا إلَيْهِ، ولا اطْمَأنَّتْ إلّا بِهِ، ولا أحَبَّتْ غَيْرَهُ، ولِهَذا نَدَبَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ عِبادَهُ إلى تَدَبُّرِ القُرْآنِ، فَإنَّ كُلَّ مَن تَدَبَّرَهُ أوْجَبَ لَهُ تَدَبُّرُهُ عِلْمًا ضَرُورِيًا ويَقِينًا جازِمًا: أنَّهُ حَقٌّ وصِدْقٌ، بَلْ أحَقُّ كُلَّ الحَقِّ، وأصْدَقُ كُلَّ صِدْقٍ، وأنَّ الَّذِي جاءَ بِهِ أصْدَقُ خَلْقِ اللَّهِ، وأبَرُّهُمْ، وأكْمَلُهم عِلْمًا وعَمَلًا، ومَعْرِفَةً، كَما قالَ تَعالى: ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ ولَوْ كانَ مِن عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢] وقالَ تَعالى: ﴿أفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ أمْ عَلى قُلُوبٍ أقْفالُها﴾ [محمد: ٢٤] فَلَوْ رُفِعَتِ الأقْفالُ عَنِ القُلُوبِ لَباشَرَتْها حَقائِقُ القُرْآنِ، واسْتَنارَتْ فِيها مَصابِيحُ الإيمانِ، وعَلِمْتَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا يَكُونُ عِنْدَها كَسائِرِ الأُمُورِ الوِجْدانِيَّةِ - مِنَ الفَرَحِ، والألَمِ، والحُبِّ، والخَوْفِ - أنَّهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ، تَكَلَّمَ بِهِ حَقًّا، وبَلَّغَهُ رَسُولُهُ جِبْرِيلُ عَنْهُ إلى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، فَهَذا الشّاهِدُ في القَلْبِ مِن أعْظَمِ الشَّواهِدِ، وبِهِ احْتَجَّ هِرَقْلُ عَلى أبِي سُفْيانَ حَيْثُ قالَ لَهُ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أحَدٌ مِنهم سَخْطَةً لِدِينِهِ، بَعْدَ أنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَقالَ: لا، فَقالَ لَهُ: وكَذَلِكَ الإيمانُ إذا خالَطَتْ حَلاوَتُهُ بِشاشَةَ القُلُوبِ لا يَسْخَطُهُ أحَدٌ، وقَدْ أشارَ اللَّهُ تَعالى إلى هَذا المَعْنى في قَوْلِهِ: ﴿بَلْ هو آياتٌ بَيِّناتٌ في صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ﴾ [العنكبوت: ٤٩] وقَوْلِهِ: ﴿وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أنَّهُ الحَقُّ مِن رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ﴾ [الحج: ٥٤] وقَوْلِهِ ﴿وَيَرى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ هو الحَقَّ﴾ [سبأ: ٦] وقَوْلِهِ: ﴿أفَمَن يَعْلَمُ أنَّما أُنْزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحَقُّ كَمَن هو أعْمى﴾ [الرعد: ١٩] وقَوْلِهِ: ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ قُلْ إنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشاءُ ويَهْدِي إلَيْهِ مَن أنابَ﴾ [الرعد: ٢٧] يَعْنِي: أنَّ الآيَةَ الَّتِي يَقْتَرِحُونَها لا تُوجِبُ هِدايَةً، بَلِ اللَّهُ هو الَّذِي يَهْدِي ويُضِلُّ، ثُمَّ نَبَّهَهم عَلى أعْظَمِ آيَةٍ وأجَلِّها، وهِيَ: طُمَأْنِينَةُ قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ بِذِكْرِهِ الَّذِي أنْزَلَهُ، فَقالَ: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهم بِذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد: ٢٨] أيْ بِكِتابِهِ وكَلامِهِ: ﴿ألا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ﴾ [الرعد: ٢٨] فَطُمَأْنِينَةُ القُلُوبِ الصَّحِيحَةِ، والفِطَرِ السَّلِيمَةِ بِهِ، وسُكُونُها إلَيْهِ مِن أعْظَمِ الآياتِ؛ إذْ يَسْتَحِيلُ في العادَةِ أنْ تَطْمَئِنَّ القُلُوبُ وتَسْكُنَ إلى الكَذِبِ والِافْتِراءِ والباطِلِ.
فَإنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ سُبْحانَهُ شَهادَةَ رُسُلِهِ مَعَ المَلائِكَةِ، فَيَقُولُ: شَهِدَ اللَّهُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا هو والمَلائِكَةُ والرُّسُلُ، وهم أعْظَمُ شَهادَةً مِن أُولِي العِلْمِ؟
قِيلَ: في ذَلِكَ عِدَّةُ فَوائِدَ.
إحْداها: أنَّ أُولِي العِلْمِ أعَمُّ مِنَ الرُّسُلِ والأنْبِياءِ فَيَدْخُلُونَ هم وأتْباعُهم.
وَثانِيها: أنَّ في ذِكْرِ أُولِي العِلْمِ في هَذِهِ الشَّهادَةِ، وتَعْلِيقِها بِهِمْ: ما يَدُلُّ عَلى أنَّها مِن مُوجِباتِ العِلْمِ ومُقْتَضَياتِهِ، وأنَّ مَن كانَ مِن أُولِي العِلْمِ فَإنَّهُ يَشْهَدُ بِهَذِهِ الشَّهادَةِ، كَما يُقالُ: إذا طَلَعَ الهِلالُ واتَّضَحَ، فَإنَّ كُلَّ مَن كانَ مِن أهْلِ النَّظَرِ يَراهُ، وإذا فاحَتْ رائِحَةٌ ظاهِرَةٌ، فَكُلُّ مَن كانَ مِن أهْلِ الشَّمِّ يَشَمُّ هَذِهِ الرّائِحَةَ، قالَ تَعالى: ﴿وَبُرِّزَتِ الجَحِيمُ لِمَن يَرى﴾ [النازعات: ٣٦] أيْ كُلُّ مَن لَهُ رُؤْيَةٌ يَراها حِينَئِذٍ عِيانًا، فَفي هَذا بَيانٌ أنَّ مَن لَمْ يَشْهَدْ لَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ بِهَذِهِ الشَّهادَةِ فَهو مِن أعْظَمِ الجُهّالِ، وإنْ عَلِمَ مِن أُمُورِ الدُّنْيا ما لَمْ يَعْلَمْهُ غَيْرُهُ، فَهو مِن أُولِي الجَهْلِ، لا مِن أُولِي العِلْمِ، وقَدْ بَيَّنّا أنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِهَذِهِ الشَّهادَةِ، ويُؤَدِّيها عَلى وجْهِها إلّا اتْباعُ الرُّسُلِ أهْلُ الإثْباتِ، فَهم أُولُو العِلْمِ، وسائِرُ مَن عَداهم أُولُو الجَهْلِ، وإنْ وسَّعُوا القَوْلَ وأكْثَرُوا الجِدالَ.
وَمِنها: الشَّهادَةُ مِنَ اللَّهِ سُبْحانَهُ لِأهْلِ هَذِهِ الشَّهادَةِ أنَّهم أُولُو العِلْمِ، فَشَهادَتُهُ لَهم أعْدَلُ وأصْدَقُ مِن شَهادَةِ الجَهْمِيَّةِ والمُعَطِّلَةِ والفِرْعَوْنِيَّةِ لَهم بِأنَّهم جُهّالٌ، وأنَّهم حَشَوِيَّةٌ، وأنَّهم مُشَبِّهَةٌ، وأنَّهم مُجَسِّمَةٌ ونَوابِتُ ونَواصِبُ، فَكَفاهم أصْدَقُ الصّادِقِينَ لَهم بِأنَّهم مِن أُولِي العِلْمِ إذْ شَهِدُوا لَهُ بِحَقِيقَةِ ما شَهِدَ بِهِ لِنَفْسِهِ، مِن غَيْرِ تَحْرِيفٍ ولا تَعْطِيلٍ، وأثْبَتُوا لَهُ حَقِيقَةَ هَذِهِ الشَّهادَةِ ومَضْمُونَها، وخُصُومُهم نَفَوْا عَنْهُ حَقائِقَها، وأثْبَتُوا لَهُ ألْفاظَها ومَجازاتِها.
* [فَصْلٌ: ضِمْنُ الشَّهادَةِ الإلَهِيَّةِ الثَّناءُ عَلى أهْلِ العِلْمِ الشّاهِدِينَ بِها وتَعْدِيلِهِمْ]
وَفِي ضِمْنِ هَذِهِ الشَّهادَةِ الإلَهِيَّةِ الثَّناءُ عَلى أهْلِ العِلْمِ الشّاهِدِينَ بِها وتَعْدِيلِهِمْ. فَإنَّهُ سُبْحانَهُ قَرَنَ شَهادَتَهم بِشَهادَتِهِ وشَهادَةِ مَلائِكَتِهِ، واسْتَشْهَدَ بِهِمْ - جَلَّ وعَلا - عَلى أجَلٍ مَشْهُودٍ بِهِ، وجَعَلَهم حُجَّةً عَلى مَن أنْكَرَ هَذِهِ الشَّهادَةَ، كَما يَحْتَجُّ بِالبَيِّنَةِ عَلى مَن أنْكَرَ الحَقَّ، فالحُجَّةُ قامَتْ بِالرُّسُلِ عَلى الخَلْقِ، وهَؤُلاءِ نُوّابُ الرُّسُلِ وخُلَفاؤُهم في إقامَةِ حُجَجِ اللَّهِ عَلى العِبادِ.
* [فَصْلٌ: تَفْسِيرُ شَهادَةِ أُولِي العِلْمِ]
وَقَدْ فُسِّرَتْ شَهادَةُ أُولِي العِلْمِ بِالإقْرارِ، وفُسِّرَتْ بِالتَّبْيِينِ والإظْهارِ.
والصَّحِيحُ: أنَّها تَتَضَمَّنُ الأمْرَيْنِ، فَشَهادَتُهم إقْرارٌ، وإظْهارٌ، وإعْلامٌ، وهم شُهَداءُ اللَّهِ عَلى النّاسِ يَوْمَ القِيامَةِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً وسَطًا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكم شَهِيدًا﴾ [البقرة: ١٤٣]
وَقالَ تَعالى: ﴿هُوَ سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وفي هَذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكم وتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ﴾ [الحج: ٧٨]
فَأخْبَرَ: أنَّهُ جَعَلَهم عُدُولًا خِيارًا، ونَوَّهَ بِذِكْرِهِمْ قَبْلَ أنْ يُوجِدَهُمْ، لِما سَبَقَ في عِلْمِهِ مِنَ اتِّخاذِهِ لَهم شُهَداءً يَشْهَدُونَ عَلى الأُمَمِ يَوْمَ القِيامَةِ، فَمَن لَمْ يَقُمْ بِهَذِهِ الشَّهادَةِ - عِلْمًا وعَمَلًا، ومَعْرِفَةً وإقْرارًا، ودَعْوَةً وتَعْلِيمًا، وإرْشادًا - فَلَيْسَ مِن شُهَداءِ اللَّهِ، واللَّهُ المُسْتَعانُ.
{"ayah":"شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُۥ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةُ وَأُو۟لُوا۟ ٱلۡعِلۡمِ قَاۤىِٕمَۢا بِٱلۡقِسۡطِۚ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق