الباحث القرآني

* [فَصْلٌ مَنزِلَةُ الخَوْفِ] وَمِن مَنازِلِ (﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥]) مَنزِلَةُ الخَوْفِ. وَهِيَ مِن أجَلِّ مَنازِلِ الطَّرِيقِ وأنْفَعِها لِلْقَلْبِ، وهي فَرْضٌ عَلى كُلِّ أحَدٍ، قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿فَلا تَخافُوهم وخافُونِ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: ١٧٥] وقالَ تَعالى ﴿وَإيّايَ فارْهَبُونِ﴾ [البقرة: ٤٠] وقالَ ﴿فَلا تَخْشَوُا النّاسَ واخْشَوْنِ﴾ [المائدة: ٤٤] ومَدَحَ أهْلَهُ في كِتابِهِ وأثْنى عَلَيْهِمْ، فَقالَ ﴿إنَّ الَّذِينَ هم مِن خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ﴾ [المؤمنون: ٥٧] إلى قَوْلِهِ ﴿أُولَئِكَ يُسارِعُونَ في الخَيْراتِ وهم لَها سابِقُونَ﴾ [المؤمنون: ٦١] وفي المُسْنَدِ والتِّرْمِذِيِّ «عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالَتْ: قُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ، قَوْلُ اللَّهِ ﴿والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهم وجِلَةٌ﴾ [المؤمنون: ٦٠] أهْوَ الَّذِي يَزْنِي، ويَشْرَبُ الخَمْرَ، ويَسْرِقُ؟ قالَ: لا يا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ، ولَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ ويُصَلِّي ويَتَصَدَّقُ، ويَخافُ أنْ لا يُقْبَلَ مِنهُ» قالَ الحَسَنُ: عَمِلُوا واللَّهِ بِالطّاعاتِ، واجْتَهَدُوا فِيها، وخافُوا أنْ تُرَدَّ عَلَيْهِمْ، إنَّ المُؤْمِنَ جَمَعَ إحْسانًا وخَشْيَةً، والمُنافِقَ جَمَعَ إساءَةً وأمْنًا. و(الوَجَلُ) و(الخَوْفُ) و(الخَشْيَةُ) و(الرَّهْبَةُ) ألْفاظٌ مُتَقارِبَةٌ غَيْرُ مُتَرادِفَةٍ. قالَ أبُو القاسِمِ الجُنَيْدُ: الخَوْفُ تَوَقُّعُ العُقُوبَةِ عَلى مَجارِي الأنْفاسِ. وَقِيلَ: الخَوْفُ اضْطِرابُ القَلْبِ وحَرَكَتُهُ مِن تَذَكُّرِ المَخُوفِ. وَقِيلَ: الخَوْفُ قُوَّةُ العِلْمِ بِمَجارِي الأحْكامِ، وهَذا سَبَبُ الخَوْفِ، لا أنَّهُ نَفْسُهُ وَقِيلَ: الخَوْفُ هَرَبُ القَلْبِ مِن حُلُولِ المَكْرُوهِ عِنْدَ اسْتِشْعارِهِ. و(الخَشْيَةُ) أخَصُّ مِنَ الخَوْفِ، فَإنَّ الخَشْيَةَ لِلْعُلَماءِ بِاللَّهِ، قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ﴾ [فاطر: ٢٨] فَهي خَوْفٌ مَقْرُونٌ بِمَعْرِفَةٍ، وقالَ النَّبِيُّ ﷺ «إنِّي أتْقاكم لِلَّهِ، وأشَدُّكم لَهُ خَشْيَةً». فالخَوْفُ حَرَكَةٌ، والخَشْيَةُ انْجِماعٌ، وانْقِباضٌ وسُكُونٌ، فَإنَّ الَّذِي يَرى العَدُوَّ والسَّيْلَ ونَحْوَ ذَلِكَ لَهُ حالَتانِ: إحْداهُما: حَرَكَةٌ لِلْهَرَبِ مِنهُ، وهي حالَةُ الخَوْفِ. والثّانِيَةُ: سُكُونُهُ وقَرارُهُ في مَكانٍ لا يَصِلُ إلَيْهِ فِيهِ، وهي الخَشْيَةُ، ومِنهُ: انْخَشى الشَّيْءُ، والمُضاعَفُ والمُعْتَلُّ أخَوانِ، كَتَقَضِّي البازِيِّ وتَقَضَّضَ. وَأمّا الرَّهْبَةُ فَهي الإمْعانُ في الهَرَبِ مِنَ المَكْرُوهِ، وهي ضِدُّ الرَّغْبَةِ الَّتِي هي سَفَرُ القَلْبِ في طَلَبِ المَرْغُوبِ فِيهِ. وَبَيْنَ الرَّهَبِ والهَرَبِ تَناسُبٌ في اللَّفْظِ والمَعْنى، يَجْمَعُهُما الِاشْتِقاقُ الأوْسَطُ الَّذِي هو عَقْدُ تَقالِيبِ الكَلِمَةِ عَلى مَعْنًى جامِعٍ. وَأمّا الوَجَلُ فَرَجَفانُ القَلْبِ، وانْصِداعُهُ لِذِكْرِ مَن يُخافُ سُلْطانُهُ وعُقُوبَتُهُ، أوْ لِرُؤْيَتِهِ. وَأمّا الهَيْبَةُ فَخَوْفٌ مُقارِنٌ لِلتَّعْظِيمِ والإجْلالِ، وأكْثَرُ ما يَكُونُ مَعَ المَحَبَّةِ والمَعْرِفَةِ. والإجْلالُ: تَعْظِيمٌ مَقْرُونٌ بِالحُبِّ. فالخَوْفُ لِعامَّةِ المُؤْمِنِينَ، والخَشْيَةُ لِلْعُلَماءِ العارِفِينَ، والهَيْبَةُ لِلْمُحِبِّينَ، والإجْلالُ لِلْمُقَرَّبِينَ، وعَلى قَدْرِ العِلْمِ والمَعْرِفَةِ يَكُونُ الخَوْفُ والخَشْيَةُ، كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ «إنِّي لَأعْلَمُكم بِاللَّهِ، وأشَدُّكم لَهُ خَشْيَةً» وفي رِوايَةٍ " خَوْفًا " وقالَ «لَوْ تَعْلَمُونَ ما أعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا، ولَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، ولَما تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّساءِ عَلى الفُرُشِ ولَخَرَجْتُمْ إلى الصُّعُداتِ تَجْأرُونَ إلى اللَّهِ تَعالى». فَصاحِبُ الخَوْفِ يَلْتَجِئُ إلى الهَرَبِ، والإمْساكِ، وصاحِبُ الخَشْيَةِ يَلْتَجِئُ إلى الِاعْتِصامِ بِالعِلْمِ، ومَثَلُهُما مَثَلُ مَن لا عِلْمَ لَهُ بِالطِّبِّ، ومَثَلُ الطَّبِيبِ الحاذِقِ، فالأوَّلُ يَلْتَجِئُ إلى الحِمْيَةِ والهَرَبِ، والطَّبِيبُ يَلْتَجِئُ إلى مَعْرِفَتِهِ بِالأدْوِيَةِ والأدْواءِ. قالَ أبُو حَفْصٍ: الخَوْفُ سَوْطُ اللَّهِ، يُقَوِّمُ بِهِ الشّارِدِينَ عَنْ بابِهِ، وقالَ: الخَوْفُ سِراجٌ في القَلْبِ، بِهِ يُبْصَرُ ما فِيهِ مِنَ الخَيْرِ والشَّرِّ، وكُلُّ أحَدٍ إذا خِفْتَهُ هَرَبْتَ مِنهُ إلّا اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ، فَإنَّكَ إذْ خِفْتَهُ هَرَبْتَ إلَيْهِ. فالخائِفُ هارِبٌ مِن رَبِّهِ إلى رَبِّهِ. قالَ أبُو سُلَيْمانَ: ما فارَقَ الخَوْفُ قَلْبًا إلّا خَرِبَ، وقالَ إبْراهِيمُ بْنُ سُفْيانَ: إذا سَكَنَ الخَوْفُ القُلُوبَ أحْرَقَ مَواضِعَ الشَّهَواتِ مِنها، وطَرَدَ الدُّنْيا عَنْها، وقالَ ذُو النُّونِ: النّاسُ عَلى الطَّرِيقِ ما لَمْ يَزُلْ عَنْهُمُ الخَوْفُ، فَإذا زالَ عَنْهُمُ الخَوْفُ ضَلُّوا الطَّرِيقَ، وقالَ حاتِمٌ الأصَمُّ: لا تَغْتَرَّ بِمَكانٍ صالِحٍ، فَلا مَكانَ أصْلَحُ مِنَ الجَنَّةِ، ولَقِيَ فِيها آدَمُ ما لَقِيَ، ولا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ العِبادَةِ، فَإنَّ إبْلِيسَ بَعْدَ طُولِ العِبادَةِ لَقِيَ ما لَقِيَ، ولا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ العِلْمِ، فَإنَّ بَلْعامَ بْنَ باعُورا لَقِيَ ما لَقِيَ وكانَ يَعْرِفُ الِاسْمَ الأعْظَمَ، ولا تَغْتَرَّ بِلِقاءِ الصّالِحِينَ ورُؤْيَتِهِمْ، فَلا شَخْصَ أصْلَحُ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ، ولَمْ يَنْتَفِعْ بِلِقائِهِ أعْداؤُهُ والمُنافِقُونَ. والخَوْفُ لَيْسَ مَقْصُودًا لِذاتِهِ، بَلْ هو مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ قَصْدَ الوَسائِلِ، ولِهَذا يَزُولُ بِزَوالِ المَخُوفِ، فَإنَّ أهْلَ الجَنَّةِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ. والخَوْفُ يَتَعَلَّقُ بِالأفْعالِ، والمَحَبَّةُ تَتَعَلَّقُ بِالذّاتِ والصِّفاتِ، ولِهَذا تَتَضاعَفُ مَحَبَّةُ المُؤْمِنِينَ لِرَبِّهِمْ إذا دَخَلُوا دارَ النَّعِيمِ، ولا يَلْحَقُهم فِيها خَوْفٌ، ولِهَذا كانَتْ مَنزِلَةُ المَحَبَّةِ ومَقامُها أعْلى وأرْفَعَ مِن مَنزِلَةِ الخَوْفِ ومَقامِهِ. والخَوْفُ المَحْمُودُ الصّادِقُ: ما حالَ بَيْنَ صاحِبِهِ وبَيْنَ مَحارِمِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، فَإذا تَجاوَزَ ذَلِكَ خِيفَ مِنهُ اليَأْسُ والقُنُوطُ. قالَ أبُو عُثْمانَ: صِدْقُ الخَوْفِ هو الوَرَعُ عَنِ الآثامِ ظاهِرًا وباطِنًا. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ يَقُولُ: الخَوْفُ المَحْمُودُ ما حَجَزَكَ عَنْ مَحارِمِ اللَّهِ. وَقالَ صاحِبُ المَنازِلِ: الخَوْفُ هو الِانْخِلاعُ مِن طُمَأْنِينَةِ الأمْنِ بِمُطالَعَةِ الخَبَرِ. يَعْنِي الخُرُوجَ عَنْ سُكُونِ الأمْنِ بِاسْتِحْضارِ ما أخْبَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الوَعْدِ والوَعِيدِ. قالَ: وهو عَلى ثَلاثِ دَرَجاتٍ، الدَّرَجَةُ الأُولى: الخَوْفُ مِنَ العُقُوبَةِ، وهو الخَوْفُ الَّذِي يَصِحُّ بِهِ الإيمانُ، وهو خَوْفُ العامَّةِ، وهو يَتَوَلَّدُ مِن تَصْدِيقِ الوَعِيدِ، وذِكْرِ الجِنايَةِ، ومُراقَبَةِ العاقِبَةِ. والخَوْفُ مَسْبُوقٌ بِالشُّعُورِ والعِلْمِ، فَمُحالٌ خَوْفُ الإنْسانِ مِمّا لا شُعُورَ لَهُ بِهِ. وَلَهُ مُتَعَلَّقانِ، أحَدُهُما: نَفْسُ المَكْرُوهِ المَحْذُورِ وُقُوعُهُ، والثّانِي: السَّبَبُ والطَّرِيقُ المُفْضِي إلَيْهِ، فَعَلى قَدْرِ شُعُورِهِ بِإفْضاءِ السَّبَبِ إلى المَخُوفِ، وبِقَدْرِ المُخَوِّفِ يَكُونُ خَوْفُهُ، وما نَقَصَ مِن شُعُورِهِ بِأحَدِ هَذَيْنِ نَقَصَ مِن خَوْفِهِ بِحَسَبِهِ. فَمَن لَمْ يَعْتَقِدْ أنَّ سَبَبَ كَذا يُفْضِي إلى مَحْذُورِ كَذا لَمْ يَخَفْ مِن ذَلِكَ السَّبَبِ، ومَنِ اعْتَقَدَ أنَّهُ يُفْضِي إلى مَكْرُوهٍ ما، ولَمْ يَعْرِفْ قَدْرَهُ لَمْ يَخَفْ مِنهُ ذَلِكَ الخَوْفَ، فَإذا عَرَفَ قَدْرَ المُخَوِّفِ، وتَيَقَّنَ إفْضاءَ السَّبَبِ إلَيْهِ حَصَلَ لَهُ الخَوْفُ. هَذا مَعْنى تَوَلُّدِهِ مِن تَصْدِيقِ الوَعِيدِ، وذِكْرِ الجِنايَةِ، ومُراقَبَةِ العاقِبَةِ. وَفِي مُراقَبَةِ العاقِبَةِ: زِيادَةُ اسْتِحْضارِ المُخَوِّفِ، وجَعْلُهُ نُصْبَ عَيْنِهِ، بِحَيْثُ لا يَنْساهُ، فَإنَّهُ وإنْ كانَ عالِمًا بِهِ لَكِنَّ نِسْيانَهُ وعَدَمَ مُراقَبَتِهِ يَحُولُ بَيْنَ القَلْبِ وبَيْنَ الخَوْفِ، فَلِذَلِكَ كانَ الخَوْفُ عَلامَةَ صِحَّةِ الإيمانِ، وتَرَحُّلُهُ مِنَ القَلْبِ عَلامَةُ تَرَحُّلِ الإيمانِ مِنهُ، واللَّهُ أعْلَمُ. * فَصْلٌ. قالَ: الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ: خَوْفُ المَكْرِ في جَرَيانِ الأنْفاسِ المُسْتَغْرِقَةِ في اليَقَظَةِ، المَشُوبَةِ بِالحَلاوَةِ. يُرِيدُ أنَّ مَن حَصَلَتْ لَهُ اليَقَظَةُ بِلا غَفْلَةٍ، واسْتَغْرَقَتْ أنْفاسُهُ فِيها اسْتَحْلى ذَلِكَ، فَإنَّهُ لا أحْلى مِنَ الحُضُورِ في اليَقَظَةِ، فَإنَّهُ يَنْبَغِي أنْ يَخافَ المَكْرَ، وأنْ يُسْلَبَ هَذا الحُضُورَ، واليَقَظَةَ والحَلاوَةَ، فَكَمْ مِن مَغْبُوطٍ بِحالِهِ انْعَكَسَ عَلَيْهِ الحالُ، ورَجَعَ مِن حُسْنِ المُعامَلَةِ إلى قَبِيحِ الأعْمالِ، فَأصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ويَضْرِبُ بِاليَمِينِ عَلى الشِّمالِ؟ بَيْنَما بَدْرُ أحْوالِهِ مُسْتَنِيرًا في لَيالِي التَّمامِ، إذْ أصابَهُ الكُسُوفُ فَدَخَلَ في الظَّلامِ، فَبُدِّلَ بِالأُنْسِ وحْشَةً، وبِالحُضُورِ غَيْبَةً، وبِالإقْبالِ إعْراضًا، وبِالتَّقْرِيبِ إبْعادًا، وبِالجَمْعِ تَفْرِقَةً، كَما قِيلَ: ؎أحْسَنْتَ ظَنَّكَ بِالأيّامِ إذْ حَسُنَتْ ∗∗∗ ولَمْ تَخَفْ سُوءَ ما يَأْتِي بِهِ القَدَرُ ؎وَسالَمَتْكَ اللَّيالِي فاغْتَرَرْتَ بِها ∗∗∗ وعِنْدَ صَفْوِ اللَّيالِي يَحْدُثُ الكَدَرُ قالَ: الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ [دَرَجَةُ الخاصَّةِ] ولَيْسَ في مَقامِ أهْلِ الخُصُوصِ وحْشَةُ الخَوْفِ، إلّا هَيْبَةَ الجَلالِ، وهي أقْصى دَرَجَةٍ يُشارُ إلَيْها في غايَةِ الخَوْفِ. يَعْنِي أنَّ وحْشَةَ الخَوْفِ إنَّما تَكُونُ مَعَ الِانْقِطاعِ والإساءَةِ، وأهْلُ الخُصُوصِ أهْلُ وُصُولٍ إلى اللَّهِ وقُرْبٍ مِنهُ، فَلَيْسَ خَوْفُهم خَوْفَ وحْشَةٍ، كَخَوْفِ المُسِيئِينَ المُنْقَطِعِينَ، لِأنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ مَعَهم بِصِفَةِ الإقْبالِ عَلَيْهِمْ، والمَحَبَّةِ لَهُمْ، وهَذا بِخِلافِ هَيْبَةِ الجَلالِ، فَإنَّها مُتَعَلِّقَةٌ بِذاتِهِ وصِفاتِهِ، وكُلَّما كانَ عَبْدُهُ بِهِ أعْرَفَ وإلَيْهِ أقْرَبَ، كانَتْ هَيْبَتُهُ وإجْلالُهُ في قَلْبِهِ أعْظَمَ، وهي أعْلى مِن دَرَجَةِ خَوْفِ العامَّةِ. قالَ: وهي هَيْبَةٌ تُعارِضُ المُكاشِفَ أوْقاتَ المُناجاةِ، وتَصُونُ المُسامِرَ أحْيانَ المُسامَرَةِ، وتَفْصِمُ المُعايِنَ بِصَدْمَةِ العِزَّةِ. يَعْنِي أنَّ أكْثَرَ ما تَكُونُ الهَيْبَةُ أوْقاتَ المُناجاةِ، وهو وقْتُ تَمَلُّقِ العَبْدِ رَبَّهُ، وتَضَرُّعِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ، واسْتِعْطافِهِ، والثَّناءِ عَلَيْهِ بِآلائِهِ وأسْمائِهِ وأوْصافِهِ، أوْ مُناجاتِهِ بِكَلامِهِ، هَذا هو مُرادُ القَوْمِ بِالمُناجاةِ. وَهَذِهِ المُناجاةُ تُوجِبُ كَشْفَ الغِطاءِ بَيْنَ القَلْبِ وبَيْنَ الرَّبِّ، ورَفْعَ الحِجابِ المانِعِ مِن مُكافَحَةِ القَلْبِ لِأنْوارِ أسْمائِهِ وصِفاتِهِ، وتَجَلِّيها عَلَيْهِ، فَتُعارِضُهُ الهَيْبَةُ في خِلالِ هَذِهِ الأوْقاتِ، فَيَفِيضُ مِن عَنانِ مُناجاتِهِ بِحَسَبِ قُوَّةِ وارِدِها. وَأمّا صَوْنُ المُسامِرِ أحْيانَ المُسامَرَةِ: فالمُسامَرَةُ عِنْدَهُمْ: أخَصُّ مِنَ المُناجاةِ، وهي مُخاطَبَةُ القَلْبِ لِلرَّبِّ خِطابَ المُحِبِّ لِمَحْبُوبِهِ، فَإنْ لَمْ يُقارِنْها هَيْبَةُ جَلالِهِ، أخَذَتْ بِهِ في الِانْبِساطِ والإدْلالِ، فَتَجِيءُ الهَيْبَةُ صائِنَةً لِلْمُسامِرِ في مُسامَرَتِهِ عَنِ انْخِلاعِهِ مِن أدَبِ العُبُودِيَّةِ. وَأمّا فَصْمُها المُعايِنَ بِصَدْمَةِ العِزَّةِ فَإنَّ الفَصْمَ هو القَطْعُ أيْ تَكادُ تَقْتُلُهُ وتَمْحَقُهُ بِصَدْمَةِ عِزَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ بِمَعانِيها الثَّلاثَةِ، وهي عِزَّةُ الِامْتِناعِ، وعِزَّةُ القُوَّةِ والشِّدَّةِ، وعِزَّةُ السُّلْطانِ والقَهْرِ، فَإذا صَدَمَتِ المُعايِنَ كادَتْ تَفْصِمُهُ وتَمْحَقُ أثَرَهُ، إذْ لا يَقُومُ لِعِزَّةِ الرُّبُوبِيَّةِ شَيْءٌ، واللَّهُ أعْلَمُ. * (فصل) يا مغرورا بالأماني لعن إبْلِيس وأهبط من منزل العِزّ بترك سَجْدَة واحِدَة أمر بها، وأخرج آدم من الجنَّة بلقمة تناولها وحجب القاتِل عَنْها بعد أن رَآها عيانًا بملء كف من دم وأمر بقتل الزّانِي أشنع القتلات بإيلاج قدر الأُنْمُلَة فِيما لا يحل وأمر بإيساع الظّهْر سياطا بِكَلِمَة قذف أو بقطرة سكر وأبان عضوا من أعضائك بِثَلاثَة دَراهِم فَلا تأمنه أن يحبسك في النّار بِمَعْصِيَة واحِدَة من مَعاصيه ﴿وَلا يَخافُ عُقْباها﴾ دخلت امْرَأة النّار في هرة وإن الرجل ليَتَكَلَّم بِالكَلِمَةِ لا يلقِي لَها بالا يهوي بها في النّار أبعد ما بَين المشرق والمغْرب وإن الرجل ليعْمَل بِطاعَة الله سِتِّينَ سنة فَإذا كانَ عند المَوْت جار في الوَصِيَّة فيختم لَهُ بِسوء عمله فَيدْخل النّار العُمر بآخره والعَمَل بخاتمته من أحدث قبل السَّلام بَطل ما مضى من صلاته ومن أفطر قبل غرُوب الشَّمْس ذهب صِيامه ضائعا ومن أساءَ في آخر عمره لقي ربه في ذَلِك الوَجْه لَو قدمت لقْمَة وجدتها ولَكِن يُؤْذِيك الشره كم جاءَ الثَّواب يسْعى إلَيْك فَوقف بِالبابِ فَرده بواب سَوف ولَعَلَّ وعَسى كَيفَ الفَلاح بَين إيمان ناقص وأمل زائِد ومرض لا طَبِيب لَهُ ولا عائِد وهوى مستيقظ وعقل راقِد ساهِيا في غمرته عَمها في سكرته سابحا في لجّة جَهله مستوحشا من ربه مستأنسا بخلقه ذكر النّاس فاكهته وقوته وذكر الله حَبسه ومَوته لله مِنهُ جُزْء يسير من ظاهره وقَلبه ويقينه لغيره ؎لا كانَ من سواك فِيهِ بَقِيَّة ∗∗∗ يجد السَّبِيل بها إلَيْهِ العذل
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب