الباحث القرآني

* [فَصْلٌ العَزْمُ] فَإذا اسْتَحْكَمَ قَصْدُهُ صارَ عَزْمًا جازِمًا، مُسْتَلْزِمًا لِلشُّرُوعِ في السَّفَرِ، مَقْرُونًا بِالتَّوَكُّلِ عَلى اللَّهِ، قالَ تَعالى ﴿فَإذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ﴾ [آل عمران: ١٥٩]. والعَزْمُ: هو القَصْدُ الجازِمُ المُتَّصِلُ بِالفِعْلِ، ولِذَلِكَ قِيلَ: إنَّهُ أوَّلُ الشُّرُوعِ في الحَرَكَةِ لِطَلَبِ المَقْصُودِ، وأنَّ التَّحْقِيقَ: أنَّ الشُّرُوعَ في الحَرَكَةِ ناشِئٌ عَنِ العَزْمِ، لا أنَّهُ هو نَفْسُهُ، ولَكِنْ لَمّا اتَّصَلَ بِهِ مِن غَيْرِ فَصْلٍ ظَنَّ أنَّهُ هو. وَحَقِيقَتُهُ: هو اسْتِجْماعُ قُوى الإرادَةِ عَلى الفِعْلِ. والعَزْمُ نَوْعانِ، أحَدُهُما: عَزْمُ المُرِيدِ عَلى الدُّخُولِ في الطَّرِيقِ، وهو مِنَ البِداياتِ، والثّانِي: عَزْمٌ في حالِ السَّيْرِ مَعَهُ، وهو أخَصُّ مِن هَذا، وهو مِنَ المَقاماتِ، وسَنَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شاءَ اللَّهُ. وَفِي هَذِهِ المَنزِلَةِ يَحْتاجُ السّالِكُ إلى تَمْيِيزِ ما لَهُ مِمّا عَلَيْهِ، لِيَسْتَصْحِبَ ما لَهُ ويُؤَدِّيَ ما عَلَيْهِ، وهو المُحاسَبَةُ وهي قَبْلَ التَّوْبَةِ في المَرْتَبَةِ، فَإنَّهُ إذا عَرَفَ ما لَهُ وما عَلَيْهِ أخَذَ في أداءِ ما عَلَيْهِ، والخُرُوجِ مِنهُ، وهو التَّوْبَةُ. وَصاحِبُ المَنازِلِ قَدَّمَ التَّوْبَةَ عَلى المُحاسَبَةِ، ووَجْهُ هَذا أنَّهُ رَأى التَّوْبَةَ أوَّلَ مَنازِلِ السّائِرِ بَعْدَ يَقَظَتِهِ، ولا تَتِمُّ التَّوْبَةُ إلّا بِالمُحاسَبَةِ، فالمُحاسَبَةُ تَكْمِيلُ مَقامِ التَّوْبَةِ، فالمُرادُ بِالمُحاسَبَةِ الِاسْتِمْرارَ عَلى حِفْظِ التَّوْبَةِ، حَتّى لا يَخْرُجَ عَنْها، وكَأنَّهُ وفاءٌ بِعَقْدِ التَّوْبَةِ. واعْلَمْ أنَّ تَرْتِيبَ هَذِهِ المَقاماتِ لَيْسَ بِاعْتِبارِ أنَّ السّالِكَ يَقْطَعُ المَقامَ ويُفارِقُهُ ويَنْتَقِلُ إلى الثّانِي، كَمَنازِلِ السَّيْرِ الحِسِّيِّ، هَذا مُحالٌ، ألا تَرى أنَّ اليَقَظَةَ مَعَهُ في كُلِّ مَقامٍ لا تُفارِقُهُ، وكَذَلِكَ البَصِيرَةُ والإرادَةُ والعَزْمُ وكَذَلِكَ التَّوْبَةُ فَإنَّها كَما أنَّها مِن أوَّلِ المَقاماتِ فَهي آخِرُها أيْضًا، بَلْ هي في كُلِّ مَقامٍ مُسْتَصْحَبَةٌ، ولِهَذا جَعَلَها اللَّهُ تَعالى آخِرَ مَقاماتِ خاصَّتِهِ، فَقالَ تَعالى في غَزْوَةِ تَبُوكَ، وهي آخِرُ الغَزَواتِ الَّتِي قَطَعُوا فِيها الأوْدِيَةَ والبِداياتِ والأحْوالَ والنِّهاياتِ ﴿لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلى النَّبِيِّ والمُهاجِرِينَ والأنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في ساعَةِ العُسْرَةِ مِن بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنهم ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ١١٧] فَجَعَلَ التَّوْبَةَ أوَّلَ أمْرِهِمْ وآخِرَهُ، وقالَ في سُورَةِ أجَلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّتِي هي آخَرُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ ﴿إذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والفَتْحُ - ورَأيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ في دِينِ اللَّهِ أفْواجًا - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واسْتَغْفِرْهُ - إنَّهُ كانَ تَوّابًا﴾ [النصر: ١-٣]. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ ما صَلّى صَلاةً بَعْدَ إذْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ السُّورَةُ إلّا قالَ في رُكُوعِهِ وسُجُودِهِ: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنا وبِحَمْدِكَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، يَتَأوَّلُ القُرْآنَ» فالتَّوْبَةُ هي نِهايَةُ كُلِّ سالِكٍ وكُلِّ ولِيٍّ لِلَّهِ، وهي الغايَةُ الَّتِي يَجْرِي إلَيْها العارِفُونَ بِاللَّهِ وعُبُودِيَّتِهِ، وما يَنْبَغِي لَهُ، قالَ تَعالى ﴿إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ عَلى السَّماواتِ والأرْضِ والجِبالِ فَأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنها وحَمَلَها الإنْسانُ إنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا - لِيُعَذِّبَ اللَّهُ المُنافِقِينَ والمُنافِقاتِ والمُشْرِكِينَ والمُشْرِكاتِ ويَتُوبَ اللَّهُ عَلى المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: ٧٢-٧٣] فَجَعَلَ سُبْحانَهُ التَّوْبَةَ غايَةَ كُلِّ مُؤْمِنٍ ومُؤْمِنَةٍ. وَكَذَلِكَ الصَّبْرُ فَإنَّهُ لا يَنْفَكُّ عَنْهُ في مَقامٍ مِنَ المَقاماتِ. وَإنَّما هَذا التَّرْتِيبُ تَرْتِيبُ المَشْرُوطِ المُتَوَقِّفِ عَلى شَرْطِهِ المُصاحِبِ لَهُ. وَمِثالُ ذَلِكَ: أنَّ الرِّضا مُتَرَتِّبٌ عَلى الصَّبْرِ لِتَوَقُّفِ الرِّضا عَلَيْهِ، واسْتِحالَةِ ثُبُوتِهِ بِدُونِهِ، فَإذا قِيلَ: إنَّ مَقامَ الرِّضا أوْ حالَهُ عَلى الخِلافِ بَيْنَهم هَلْ هو مَقامٌ أوْ حالٌ؟ بَعْدَ مَقامِ الصَّبْرِ لا يَعْنِي بِهِ أنَّهُ يُفارِقُ الصَّبْرَ ويَنْتَقِلُ إلى الرِّضا وإنَّما يَعْنِي أنَّهُ لا يَحْصُلُ لَهُ مَقامُ الرِّضا حَتّى يَتَقَدَّمَ لَهُ قَبْلَهُ مَقامُ الصَّبْرِ، فافْهَمْ هَذا التَّرْتِيبَ في مَقاماتِ العُبُودِيَّةِ. وَإذا كانَ كَذَلِكَ عَلِمْتَ أنَّ القَصْدَ والعَزْمَ مُتَقَدِّمٌ عَلى سائِرِ المَنازِلِ فَلا وجْهَ لِتَأْخِيرِهِ، وعَلِمْتَ بِذَلِكَ أنَّ المُحاسَبَةَ مُتَقَدِّمَةٌ عَلى التَّوْبَةِ بِالرُّتْبَةِ أيْضًا، فَإنَّهُ إذا حاسَبَ العَبْدُ نَفْسَهُ خَرَجَ مِمّا عَلَيْهِ، وهي حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ، وأنَّ مَنزِلَةَ التَّوَكُّلِ قَبْلَ مَنزِلَةِ الإنابَةِ، لِأنَّهُ يَتَوَكَّلُ في حُصُولِها، فالتَّوَكُّلُ وسِيلَةٌ، والإنابَةُ غايَةٌ، وأنَّ مَقامَ التَّوْحِيدِ أوْلى المَقاماتِ أنْ يُبْدَأ بِهِ، كَما أنَّهُ أوَّلُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ كُلِّهِمْ، قالَ النَّبِيُّ ﷺ لِمُعاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إلى اليَمَنِ «فَلْيَكُنْ أوَّلَ ما تَدْعُوهم إلَيْهِ شَهادَةُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ» وفي رِوايَةٍ " إلى أنْ يَعْرِفُوا اللَّهَ " ولِأنَّهُ لا يَصِحُّ مَقامٌ مِنَ المَقاماتِ، ولا حالٌ مِنَ الأحْوالِ إلّا بِهِ، فَلا وجْهَ لِجَعْلِهِ آخِرَ المَقاماتِ، وهو مِفْتاحُ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، وأوَّلُ فَرْضٍ فَرَضَهُ اللَّهُ عَلى العِبادِ، وما عَدا هَذا مِنَ الأقْوالِ فَخَطَأٌ، كَقَوْلِ مَن يَقُولُ: أوَّلُ الفُرُوضِ النَّظَرُ، أوِ القَصْدُ إلى النَّظَرِ، أوِ المَعْرِفَةُ، أوِ الشَّكُّ الَّذِي يُوجِبُ النَّظَرَ. وَكُلُّ هَذِهِ الأقْوالِ خَطَأٌ، بَلْ أوَّلُ الواجِباتِ مِفْتاحُ دَعْوَةِ المُرْسَلِينَ كُلِّهِمْ، وهو أوَّلُ ما دَعا إلَيْهِ فاتِحُهم نُوحٌ، فَقالَ ﴿ياقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكم مِن إلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: ٥٩] وهو أوَّلُ ما دَعا إلَيْهِ خاتِمُهم مُحَمَّدٌ ﷺ. وَلِأرْبابِ السُّلُوكِ اخْتِلافٌ كَثِيرٌ في عَدَدِ المَقاماتِ وتَرْتِيبِها، كُلٌّ يَصِفُ مَنازِلَ سِيَرِهِ، وحالَ سُلُوكِهِ، ولَهُمُ اخْتِلافٌ في بَعْضِ مَنازِلِ السَّيْرِ هَلْ هي مِن قِسْمِ الأحْوالِ؟ والفَرْقُ بَيْنَهُما: أنَّ المَقاماتِ كَسَبِيَّةٌ، والأحْوالَ وهْبِيَّةٌ، ومِنهم مَن يَقُولُ: الأحْوالُ مِن نَتائِجِ المَقاماتِ، والمَقاماتُ نَتائِجُ الأعْمالِ، فَكُلُّ مَن كانَ أصْلَحَ عَمَلًا كانَ أعْلى مَقامًا، وكُلُّ مَن كانَ أعْلى مَقامًا كانَ أعْظَمَ حالًا. فَمِمّا اخْتَلَفُوا فِيهِ الرِّضا هَلْ هو حالٌ، أوْ مَقامٌ؟ فِيهِ خِلافٌ بَيْنِ الخُراسانِيِّينَ والعِراقِيِّينَ. وَحَكَمَ بَيْنَهم بَعْضُ الشُّيُوخِ، فَقالَ: إنْ حَصَلَ بِكَسْبٍ فَهو مَقامٌ، وإلّا فَهو حالٌ. والصَّحِيحُ في هَذا أنَّ الوارِداتِ والمُنازَلاتِ لَها أسْماءٌ بِاعْتِبارِ أحْوالِها، فَتَكُونُ لَوامِعَ وبِوارِقَ ولَوائِحَ عِنْدَ أوَّلِ ظُهُورِها وبُدُوِّها، كَما يَلْمَعُ البارِقُ ويَلُوحُ عَنْ بُعْدٍ، فَإذا نازَلَتْهُ وباشَرَها فَهي أحْوالٌ، فَإذا تَمَكَّنَتْ مِنهُ وثَبَتَتْ لَهُ مِن غَيْرِ انْتِقالٍ فَهي مَقاماتٌ، وهي لَوامِعُ ولَوائِحُ في أوَّلِها، وأحْوالٌ في أوْسَطِها، ومَقاماتٌ في نِهاياتِها، فالَّذِي كانَ بارِقًا هو بِعَيْنِهِ الحالُ، والَّذِي كانَ حالًا هو بِعَيْنِهِ المَقامُ، وهَذِهِ الأسْماءُ لَهُ بِاعْتِبارِ تَعَلُّقِهِ بِالقَلْبِ، وظُهُورِهِ لَهُ، وثَباتِهِ فِيهِ. وَقَدْ يَنْسَلِخُ السّالِكُ مِن مَقامِهِ كَما يَنْسَلِخُ مِنَ الثَّوْبِ، ويَنْزِلُ إلى ما دُونَهُ، ثُمَّ قَدْ يَعُودُ إلَيْهِ، وقَدْ لا يَعُودُ. وَمِنَ المَقاماتِ ما يَكُونُ جامِعًا لِمَقامَيْنِ. وَمِنها ما يَكُونُ جامِعًا لِأكْثَرَ مِن ذَلِكَ. وَمِنها ما يَنْدَرِجُ فِيهِ جَمِيعُ المَقاماتِ، فَلا يَسْتَحِقُّ صاحِبُهُ اسْمَهُ إلّا عِنْدَ اسْتِجْماعِ جَمِيعِ المَقاماتِ فِيهِ. فالتَّوْبَةُ جامِعَةٌ لِمَقامِ المُحاسَبَةِ ومَقامِ الخَوْفِ، لا يُتَصَوَّرُ وُجُودُها بِدُونِهِما. والتَّوَكُّلُ جامِعٌ لِمَقامِ التَّفْوِيضِ والِاسْتِعانَةِ والرِّضى، لا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ بِدُونِها. والرَّجاءُ جامِعٌ لِمَقامِ الخَوْفِ والإرادَةِ. والخَوْفُ جامِعٌ لِمَقامِ الرَّجاءِ والإرادَةِ. والإنابَةُ جامِعَةٌ لِمَقامِ المَحَبَّةِ والخَشْيَةِ، لا يَكُونُ العَبْدُ مُنِيبًا إلّا بِاجْتِماعِهِما. والإخْباتُ لَهُ جامِعٌ لِمَقامِ المَحَبَّةِ والذُّلِّ والخُضُوعِ، لا يَكْمُلُ أحَدُها بِدُونِ الآخَرِ إخْباتًا. والزُّهْدُ جامِعٌ لِمَقامِ الرَّغْبَةِ والرَّهْبَةِ، لا يَكُونُ زاهِدًا مَن لَمْ يَرْغَبْ فِيما يَرْجُو نَفْعَهُ، ويَرْهَبْ مِمّا يَخافُ ضَرَرَهُ. وَمَقامُ المَحَبَّةِ جامِعٌ لِمَقامِ المَعْرِفَةِ والخَوْفِ والرَّجاءِ والإرادَةِ، فالمَحَبَّةُ مَعْنًى يَلْتَئِمُ مِن هَذِهِ الأرْبَعَةِ، وبِها تَحَقُّقُها. وَمَقامُ الخَشْيَةِ جامِعٌ لِمَقامِ المَعْرِفَةِ بِاللَّهِ، والمَعْرِفَةِ بِحَقِّ عُبُودِيَّتِهِ، فَمَتى عَرَفَ اللَّهَ وعَرَفَ حَقَّهُ اشْتَدَّتْ خَشْيَتُهُ لَهُ، كَما قالَ تَعالى ﴿إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ﴾ [فاطر: ٢٨] فالعُلَماءُ بِهِ وبِأمْرِهِ هم أهْلُ خَشْيَتِهِ، قالَ النَّبِيُّ ﷺ «أنا أعْلَمُكم بِاللَّهِ وأشَدُّكم لَهُ خَشْيَةً». وَمَقامُ الهَيْبَةِ جامِعٌ لِمَقامِ المَحَبَّةِ والإجْلالِ والتَّعْظِيمِ. وَمَقامُ الشُّكْرِ جامِعٌ لِجَمِيعِ مَقاماتِ الإيمانِ، ولِذَلِكَ كانَ أرْفَعَها وأعْلاها، وهو فَوْقَ الرِّضا وهو يَتَضَمَّنُ الصَّبْرَ مِن غَيْرِ عَكْسٍ، ويَتَضَمَّنُ التَّوَكُّلَ والإنابَةَ والحُبَّ والإخْباتَ والخُشُوعَ والرَّجاءَ فَجَمِيعُ المَقاماتِ مُنْدَرِجَةٌ فِيهِ، لا يَسْتَحِقُّ صاحِبُهُ اسْمَهُ عَلى الإطْلاقِ إلّا بِاسْتِجْماعِ المَقاماتِ لَهُ، ولِهَذا كانَ الإيمانُ نِصْفَيْنِ: نِصْفُ صَبْرٍ، ونِصْفُ شُكْرٍ، والصَّبْرُ داخِلٌ في الشُّكْرِ، فَرَجِعَ الإيمانُ كُلُّهُ شُكْرًا، والشّاكِرُونَ هم أقَلُّ العِبادِ، كَما قالَ تَعالى ﴿وَقَلِيلٌ مِن عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ: ١٣]. وَمَقامُ الحَياءِ جامِعٌ لِمَقامِ المَعْرِفَةِ والمُراقَبَةِ. وَمَقامُ الأُنْسِ جامِعٌ لِمَقامِ الحُبِّ مَعَ القُرْبِ، فَلَوْ كانَ المُحِبُّ بَعِيدًا مِن مَحْبُوبِهِ لَمْ يَأْنَسْ بِهِ، ولَوْ كانَ قَرِيبًا مِن رَجُلٍ ولَمْ يُحِبَّهُ لَمْ يَأْنَسْ بِهِ، حَتّى يَجْتَمِعَ لَهُ حُبُّهُ مَعَ القُرْبِ مِنهُ. وَمَقامُ الصِّدْقِ جامِعٌ لِلْإخْلاصِ والعَزْمِ، فَبِاجْتِماعِهِما يَصِحُّ لَهُ مَقامُ الصِّدْقِ. وَمَقامُ المُراقَبَةِ جامِعٌ لِلْمَعْرِفَةِ مَعَ الخَشْيَةِ، فَبِحَسَبِهِما يَصِحُّ مَقامُ المُراقَبَةِ. وَمَقامُ الطُّمَأْنِينَةِ جامِعٌ لِلْإنابَةِ والتَّوَكُّلِ، والتَّفْوِيضِ والرِّضى والتَّسْلِيمِ، فَهو مَعْنًى مُلْتَئِمٌ مِن هَذِهِ الأُمُورِ، إذا اجْتَمَعَتْ صارَ صاحِبُها صاحِبَ طُمَأْنِينَةٍ، وما نَقَصَ مِنها نَقَصَ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ. وَكَذَلِكَ الرَّغْبَةُ والرَّهْبَةُ كُلٌّ مِنهُما مُلْتَئِمٌ مِنَ الرَّجاءِ والخَوْفِ، والرَّجاءُ عَلى الرَّغْبَةِ أغْلَبُ، والخَوْفُ عَلى الرَّهْبَةِ أغْلَبُ. وَكُلُّ مَقامٍ مِن هَذِهِ المَقاماتِ فالسّالِكُونَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ نَوْعانِ: أبْرارٌ، ومُقَرَّبُونَ، فالأبْرارُ في أذْيالِهِ، والمُقَرَّبُونَ في ذُرْوَةِ سَنامِهِ، وهَكَذا مَراتِبُ الإيمانِ جَمِيعُها، وكُلٌّ مِنَ النَّوْعَيْنِ لا يُحْصِي تَفاوُتَهُمْ، وتَفاضُلَ دَرَجاتِهِمْ إلّا اللَّهُ. وَتَقْسِيمُهم ثَلاثَةُ أقْسامٍ عامٌّ، وخاصٌّ، وخاصٌّ خاصٌّ إنَّما نَشَأ مِن جَعْلِ الفَناءِ غايَةَ الطَّرِيقِ، وعِلْمِ القَوْمِ الَّذِي شَمَّرُوا إلَيْهِ، وسَنَذْكُرُ ما في ذَلِكَ، وأقْسامُ الفَناءِ مَحْمُودِهِ ومَذْمُومِهِ، فاضِلِهِ ومَفْضُولِهِ، فَإنَّ إشارَةَ القَوْمِ إلَيْهِ، إنْ شاءَ اللَّهُ، ومَدارَهم عَلَيْهِ. عَلى أنَّ التَّرْتِيبَ الَّذِي يُشِيرُ إلَيْهِ كُلُّ مُرَتِّبٍ لِلْمَنازِلِ لا يَخْلُو عَنْ تَحَكُّمٍ، ودَعْوى مِن غَيْرِ مُطابَقَةٍ، فَإنَّ العَبْدَ إذا التَزَمَ عَقْدَ الإسْلامِ، ودَخَلَ فِيهِ كُلِّهِ، فَقَدِ التَزَمَ لَوازِمَهُ الظّاهِرَةَ والباطِنَةَ، ومَقاماتِهِ وأحْوالَهُ، ولَهُ في كُلِّ عَقْدٍ مِن عُقُودِهِ وواجِبٍ مِن واجِباتِهِ أحْوالٌ ومَقاماتٌ، لا يَكُونُ مُوَفِّيًا لِذَلِكَ العَقْدِ والواجِبِ إلّا بِها، وكُلَّما وفّى واجِبًا أشْرَفَ عَلى واجِبٍ آخَرَ بَعْدَهُ، وكُلَّما قَطَعَ مَنزِلَةً اسْتَقْبَلَ أُخْرى. وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ أعْلى المَقاماتِ والأحْوالِ في أوَّلِ بِدايَةِ سَيْرِهِ، فَيَنْفَتِحُ عَلَيْهِ مِن حالِ المَحَبَّةِ والرِّضا والأُنْسِ والطُّمَأْنِينَةِ ما لَمْ يَحْصُلْ بَعْدُ لِسالِكٍ في نِهايَتِهِ، ويَحْتاجُ هَذا السّالِكُ في نِهايَتِهِ إلى أُمُورٍ مِنَ البَصِيرَةِ، والتَّوْبَةِ، والمُحاسَبَةِ أعْظَمَ مِن حاجَةِ صاحِبِ البِدايَةِ إلَيْها، فَلَيْسَ في ذَلِكَ تَرْتِيبٌ كُلِّيٌّ لازِمٌ لِلسُّلُوكِ. وَقَدْ ذَكَرْنا أنَّ التَّوْبَةَ الَّتِي جَعَلُوها مِن أوَّلِ المَقاماتِ هي غايَةُ العارِفِينَ، ونِهايَةُ أوْلِياءِ اللَّهِ المُقَرَّبِينَ، ولا رَيْبَ أنَّ حاجَتَهم إلى المُحاسَبَةِ في نِهايَتِهِمْ، فَوْقَ حاجَتِهِمْ إلَيْها في بِدايَتِهِمْ. التُّسْتَرِيِّ، وأبِي طالِبٍ المَكِّيِّ، والجُنَيْدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وأبِي عُثْمانَ النَّيْسابُورِيِّ، ويَحْيى بْنِ مُعاذٍ الرّازِيِّ وأرْفَعِ مِن هَؤُلاءِ طَبَقَةً، مِثْلَ أبِي سُلَيْمانَ الدّارانِيِّ، وعَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الَّذِي كانَ يُقالُ لَهُ حَكِيمُ الأُمَّةِ وأضْرابِهِما، فَإنَّهم تَكَلَّمُوا عَلى أعْمالِ القُلُوبِ، وعَلى الأحْوالِ كَلامًا مُفَصَّلًا جامِعًا مُبَيِّنًا مُطْلَقًا مِن غَيْرِ تَرْتِيبٍ، ولا حَصْرٍ لِلْمَقاماتِ بِعَدَدٍ مَعْلُومٍ، فَإنَّهم كانُوا أجَلَّ مَن هَذا، وهَمُّهم أعْلى وأشْرَفُ، إنَّما هم حائِمُونَ عَلى اقْتِباسِ الحِكْمَةِ والمَعْرِفَةِ، وطَهارَةِ القُلُوبِ، وزَكاةِ النُّفُوسِ، وتَصْحِيحِ المُعامَلَةِ، ولِهَذا كَلامُهم قَلِيلٌ فِيهِ البَرَكَةُ، وكَلامُ المُتَأخِّرِينَ كَثِيرٌ طَوِيلٌ قَلِيلُ البِرْكَةِ. وَلَكِنْ لا بُدَّ مِن مُخاطَبَةِ أهْلِ الزَّمانِ بِاصْطِلاحِهِمْ، إذْ لا قُوَّةَ لَهم لِلتَّشْمِيرِ إلى تَلَقِّي
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب