الباحث القرآني

وأما تقديمه المال على الولد في كثير من الآي فلأن الولد بعد وجود المال نعمة ومسرة، وعند الفقر وسوء الحال هم ومضرة فهذا من باب تقديم السبب على المسبب، لأن المال سبب تمام النعمة بالولد. وأما قوله: ﴿حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ والبَنِين﴾ فتقديم النساء على البنين بالسبب وتقدم الأموال على البنين بالرتبة. (فائدة في تقديم البنين على الأموال) وأما آية آل عمران فإنها لما كانت في سياق الإخبار بما زين للناس من الشهوات التي آثروها على ما عند الله واستغنوا بها قدم ما تعلق الشهوة به أقوى والنفس إليه أشد سعرا وهو النساء التي فتنتهن أعظم فتن الدنيا وهي القيود التي حالت بين العباد وبين سيرهم إلى الله ثم ذكر البنين المتولدين منهم فالإنسان يشتهي المرأة للذة والولد وكلاهما مقصود له لذاته ثم ذكر شهوة الأموال لأنها تقصد لغيرها فشهوتها شهوة الوسائل، وقدم أشرف أنواعها وهو الذهب ثم الفضة بعده ثم ذكر الشهوة المتعلقة بالحيوان الذي لا يعاشر عشرة النساء والأولاد فالشهوة المتعلقة به دون الشهوة المتعلقة بها وقدم أشرف هذا النوع وهو الخيل فإنها حصون القوم ومعاقلهم وعزهم وشرفهم فقدمها على الأنعام التي هي الإبل والبقر والغنم، ثم ذكر الأنعام وقدمها على الحرث لأن الجمال بها والانتفاع أظهر وأكثر من الحرث كما في قوله تعالى: ﴿وَلَكم فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وحِينَ تَسْرَحُونَ﴾ والانتفاع بها أكثر من الحرب فإنه ينتفع بها ركوبا وأكلا وشربا ولباسا وأمتعة وأسلحة ودواء وقنية إلى غير ذلك من وجوه الانتفاع، وأيضا فصاحبها أعز من صاحب الحرث وأشرف وهذا هو الواقع فإن صاحب الحرث لا بد له من نوع مذلة ولهذا قال بعض السلف وقد رأى سكة ما دخل هذا دار قوم إلا دخلهم الذل فجعل الحرث في آخر المراتب وضعا له في موضعه. * (فصل) الصَّبْر عَن الشَّهْوَة أسهل من الصَّبْر على ما توجبه الشَّهْوَة فَإنَّها إمّا أن توجب ألما وعقوبة، وإمّا أن تقطع لَذَّة أكمل مِنها، وَإمّا أن تضيع وقتا إضاعته حسرة وندامة وَإمّا أن تثلم عرضا توفيره أنْفَع للْعَبد من ثلمه وإمّا أن تذْهب ما لا بَقاؤُهُ خير لَهُ من ذَهابه وَإمّا أن تضع قدرا وجاها قِيامه خير من وضعه وَإمّا أن تسلب نعْمَة بَقاؤُها ألذ وأطيب من قَضاء الشَّهْوَة وَإمّا أن تطرق لوضيع إلَيْك طَرِيقا لم يكن يجدها قبل ذَلِك وَإمّا أن تجلب هما وغما وحزنا وخوفا لا يُقارب لَذَّة الشَّهْوَة وَإمّا أن تنسي علما ذكره ألذ من نيل الشَّهْوَة وَإمّا أن تشمت عدوا وتحزن وليا وَإمّا أن تقطع الطَّرِيق على نعْمَة مقبلة وَإمّا أن تحدث عَيْبا يبْقى صفة لا تَزُول فَإن الأعْمال تورث الصِّفات والأخلاق. * (فائدة) وَأمّا الِاعْتِذارُ بِالقَدَرِ فَهو مُخاصَمَةٌ لِلَّهِ، واحْتِجاجٌ مِنَ العَبْدِ عَلى الرَّبِّ، وحَمْلٌ لِذَنْبِهِ عَلى الأقْدارِ، وهَذا فِعْلُ خُصَماءِ اللَّهِ، كَما قالَ بَعْضُ شُيُوخِهِمْ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ والبَنِينَ والقَناطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ﴾ [آل عمران: ١٤] قالَ: أتَدْرُونَ ما المُرادُ بِهَذِهِ الآيَةِ؟ قالُوا: ما المُرادُ بِها؟ قالَ: إقامَةُ أعْذارِ الخَلِيقَةِ. وَكَذِبَ هَذا الجاهِلُ بِاللَّهِ وكَلامِهِ، وإنَّما المُرادُ بِها التَّزْهِيدُ في هَذا الفانِي الذّاهِبِ، والتَّرْغِيبُ في الباقِي الدّائِمِ، والإزْراءُ بِمَن آثَرَ هَذا المُزَيَّنَ واتَّبَعَهُ، بِمَنزِلَةِ الصَّبِيِّ الَّذِي يُزَيَّنُ لَهُ ما يَلْعَبُ بِهِ، فَيَهُشُّ إلَيْهِ ويَتَحَرَّكُ لَهُ، مَعَ أنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فاعِلَ التَّزْيِينِ، فَلَمْ يَقُلْ زُيِّنّا لِلنّاسِ، واللَّهُ تَعالى يُضِيفُ تَزْيِينَ الدُّنْيا والمَعاصِي إلى الشَّياطِينِ، كَما قالَ تَعالى ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: ٤٣] وقالَ ﴿وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ قَتْلَ أوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ﴾ [الأنعام: ١٣٧] وفي الحَدِيثِ «بُعِثْتُ هادِيًا وداعِيًا، ولَيْسَ إلَيَّ مِنَ الهِدايَةِ شَيْءٌ، وبُعِثَ إبْلِيسُ مُغْوِيًا ومُزَيِّنًا، ولَيْسَ إلَيْهِ مِنَ الضَّلالَةِ شَيْءٌ» ولا يُناقِضُ هَذا قَوْلَهُ تَعالى ﴿كَذَلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ [الأنعام: ١٠٨] فَإنَّ إضافَةَ التَّزْيِينِ إلَيْهِ قَضاءً وقَدَرًا، وإلى الشَّيْطانِ تَسَبُّبًا، مَعَ أنَّهُ تَزْيِينُهُ تَعالى عُقُوبَةٌ لَهم عَلى رُكُونِهِمْ إلى ما زَيَّنَهُ الشَّيْطانُ لَهُمْ، فَمِن عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَها، ومِن ثَوابِ الحَسَنَةِ الحَسَنَةُ بَعْدَها. والمَقْصُودُ أنَّ الِاحْتِجاجَ بِالقَدَرِ مُنافٍ لِلتَّوْبَةِ، ولَيْسَ هو مِنَ الِاعْتِذارِ في شَيْءٍ، وفي بَعْضِ الآثارِ " إنَّ العَبْدَ إذا أذْنَبَ، فَقالَ: يا رَبِّ، هَذا قَضاؤُكَ، وأنْتَ قَدَّرْتَ عَلَيَّ، وأنْتَ حَكَمْتَ عَلَيَّ، وأنْتَ كَتَبْتَ عَلَيَّ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: وأنْتَ عَمِلْتَ، وأنْتَ كَسَبْتَ، وأنْتَ أرَدْتَ واجْتَهَدْتَ، وأنا أُعاقِبُكَ عَلَيْهِ، وإذا قالَ: يا رَبِّ، أنا ظَلَمْتُ، وأنا أخْطَأْتُ، وأنا اعْتَدَيْتُ، وأنا فَعَلْتُ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: وأنا قَدَرْتُ عَلَيْكَ وقَضَيْتُ وكَتَبْتُ، وأنا أغْفِرُ لَكَ، وإذا عَمِلَ حَسَنَةً، فَقالَ: يا رَبِّ أنا عَمِلْتُها، وأنا تَصَدَّقْتُ، وأنا صَلَّيْتُ، وأنا أطْعَمْتُ، يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: وأنا أعَنْتُكَ، وأنا وفَّقْتُكَ، وإذا قالَ: يا رَبِّ أنْتَ أعَنْتَنِي ووَفَّقْتَنِي، وأنْتَ مَنَنْتَ عَلَيَّ، يَقُولُ اللَّهُ: وأنْتَ عَمِلْتَها، وأنْتَ أرَدْتَها، وأنْتَ كَسَبْتَها ". فالِاعْتِذارُ اعْتِذارانِ: اعْتِذارٌ يُنافِي الِاعْتِرافَ، فَذَلِكَ مُنافٍ لِلتَّوْبَةِ، واعْتِذارٌ يُقَرِّرُ الِاعْتِرافَ، فَذَلِكَ مِن تَمامِ التَّوْبَةِ. * (فصل) والمقصود أنه سبحانه جعل الغنى والفقر ابتلاءا وامتحانا للشكر والصبر والصدق والكذب والإخلاص والشرك قال تعالى ﴿لِيَبْلُوَكم في ما آتاكُمْ﴾ وقال تعالى ﴿الم أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا وهم لا يُفْتَنُونَ ولَقَدْ فَتَنّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكاذِبِينَ﴾ وقال تعالى ﴿إنَّما أمْوالُكم وأوْلادُكم فِتْنَةٌ واللَّهُ عِنْدَهُ أجْرٌ عَظِيمٌ﴾ فجعل الدنيا عرضا عاجلا ومتاع غرور وجعل الآخرة دار جزاء وثواب وحف الدنيا بالشهوات وزينها بها كما قال تعالى ﴿زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ والبَنِينَ والقَناطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ والخَيْلِ المُسَوَّمَةِ والأنْعامِ والحَرْثِ ذَلِكَ مَتاعُ الحَياةِ الدُّنْيا واللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المَآبِ﴾ فأخبر سبحانه أن هذا الذي زين به الدنيا من ملاذها وشهواتها وما هو غاية أماني طلابها ومؤثريها على الآخرة وهو سبعة أشياء النساء اللاتي هن أعظم زينتها وشهواتها وأعظمها فتنة، والبنين الذين بهم كمال الرجل وفخره وكرمه وعزه والذهب والفضة اللذين هما مادة الشهوات على اختلاف أجناسها وأنواعها، والخيل المسومة التي هي عز أصحابها وفخرهم وحصونهم وآلة قهرهم لأعدائهم في طلبهم وهربهم، والأنعام التي منها ركوبهم وطعامهم ولباسهم وأثاثهم وأمتعتهم وغير ذلك من مصالحهم والحرث الذي هو مادة قوتهم وقوت أنعامهم ودوابهم وفاكهتهم وأدويتهم وغير ذلك ثم أخبر سبحانه أن ذلك كله متاع الحياة الدنيا ثم شوق عباده إلى متاع الآخرة وأعلمهم أنه خير من هذا المتاع وأبقى فقال ﴿قُلْ أؤُنَبِّئُكم بِخَيْرٍ مِن ذَلِكم لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها وأزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ورِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِالعِبادِ﴾ ثم ذكر سبحانه من يستحق هذا المتاع ومن هم أهله الذين هم أولى به فقال ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إنَّنا آمَنّا فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وقِنا عَذابَ النّارِ الصّابِرِينَ والصّادِقِينَ والقانِتِينَ والمُنْفِقِينَ والمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحارِ﴾ فأخبر سبحانه أن ما أعد لأوليائه المتقين من متاع الآخرة خير من متاع الدنيا وهو نوعان ثواب يتمتعون به وأكبر منه وهو رضوإنه عليهم قال تعالى ﴿اعْلَمُوا أنَّما الحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ ولَهْوٌ وزِينَةٌ وتَفاخُرٌ بَيْنَكم وتَكاثُرٌ في الأمْوالِ والأوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أعْجَبَ الكُفّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطامًا﴾ فأخبر سبحانه عن حقيقة الدنيا بما جعله مشاهدا لأولي البصائر وإنها لعب ولهب تلهو بها النفوس وتلعب بها الأبدان واللعب واللهو لا حقيقة لهما وأنهما مشغلة للنفس مضيعة للوقت يقطع بها الجاهلون فيذهب ضائعا في غير شيء ثم أخبر أنها زينة زينت للعيون وللنفوس فأخذت بالعيون والنفوس استحسانا ومحبة ولو باشرت القلوب معرفة حقيقتها ومآلها ومصيرها لأبغضتها ولآثرت عليها الآخرة ولما آثرتها على الآجل الدائم الذي هو خير وأبقى. قال الإمام حدثنا وكيع حدثنا المسعودى عن عمرو بن مرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي قال: "مالى وللدنيا إنما مثلى ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة في يوم صائف ثم راح وتركها". وفى جامع الترمذي من حديث سهل بن سعد قال قال رسول الله "لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء". قال الترمذي: حديث صحيح. وفى صحيح مسلم من حديث المستورد بن شداد قال رسول الله: "ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع وأشار بالسبابة". وفى الترمذي من حديثه قال: "كنت مع الركب الذين وقفوا مع رسول الله على السخلة الميتة فقال رسول الله أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها قالوا ومن هوإنها ألقوها يا رسول الله قال فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها" وفي الترمذي أيضا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما أو متعلما" والحديثان حسنان قال الإمام أحمد حدثنا هيثم بن خارجة أنبأنا إسماعيل بن عياش بن عبد الله بن دينار النهرانى قال قال عيسى عليه السلام للحواريين بحق أقول لكم إن حلاوة الدنيا مرارة الآخرة وإن مرارة الدنيا حلاوة الآخرة وأن عباد الله ليسوا بالمتنعمين بحق أقول لكم إن شركم عملا عالم يحب الدنيا ويؤثرها على الآخرة إنه لو يستطيع جعل الناس كلهم في عمله مثله. وقال أحمد حدثنا يحيى بن إسحق قال أخبرنى سعيد بن عبد العزيز عن مكحول قال قال عيسى ابن مريم عليه السلام يا معشر الحواريين أيكم يستطيع أن يبنى على موج البحر دارا قالوا يا روح الله ومن يقدر على ذلك قال إياكم والدنيا فلا تتخذوها قرارا وفي كتاب الزهد لأحمد أن عيسى بن مريم عليه السلام كان يقول بحق أقول لكم أن أكل الخبز وشرب الماء العذب ونوما على المزابل مع الكلاب كثير لمن يريد أن يرث الفردوس وفى المسند عنه: "إن الله ضرب طعام ابن آدم مثلا للدنيا وأن قزحه وملحه فلينظر إلى ماذا يصير".
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب