الباحث القرآني

الرِّبا نَوْعانِ: جَلِيٌّ وخَفِيٌّ، فالجَلِيُّ حُرِّمَ لِما فِيهِ مِن الضَّرَرِ العَظِيمِ، والخَفِيُّ حُرِّمَ؛ لِأنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلى الجَلِيِّ؛ فَتَحْرِيمُ الأوَّلِ قَصْدًا، وتَحْرِيمُ الثّانِي وسِيلَةً: فَأمّا الجَلِيُّ فَرِبا النَّسِيئَةِ، وهو الَّذِي كانُوا يَفْعَلُونَهُ في الجاهِلِيَّةِ، مِثْلُ أنْ يُؤَخِّرَ دَيْنَهُ ويَزِيدَهُ في المالِ، وكُلَّما أخَّرَهُ زادَ في المالِ، حَتّى تَصِيرَ المِائَةُ عِنْدَهُ آلافًا مُؤَلَّفَةً؛ وفي الغالِبِ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلّا مُعْدَمٌ مُحْتاجٌ؛ فَإذا رَأى أنَّ المُسْتَحِقَّ يُؤَخِّرُ مُطالَبَتَهُ ويَصْبِرُ عَلَيْهِ بِزِيادَةٍ يَبْذُلُها لَهُ تَكَلَّفَ بَذْلَها لِيَفْتَدِيَ مِن أسْرِ المُطالَبَةِ والحَبْسِ، ويُدافِعَ مِن وقْتٍ إلى وقْتٍ، فَيَشْتَدُّ ضَرَرُهُ، وتَعْظُمُ مُصِيبَتُهُ، ويَعْلُوهُ الدَّيْنُ حَتّى يَسْتَغْرِقَ جَمِيعَ مَوْجُودِهِ، فَيَرْبُو المالُ عَلى المُحْتاجِ مِن غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُلُ لَهُ، ويَزِيدُ مالُ المُرابِي مِن غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُلُ مِنهُ لِأخِيهِ، فَيَأْكُلُ مالَ أخِيهِ بِالباطِلِ، ويَحْصُلُ أخُوهُ عَلى غايَةِ الضَّرَرِ، فَمِن رَحْمَةِ أرْحَمِ الرّاحِمِينَ وحِكْمَتِهِ وإحْسانِهِ إلى خَلْقِهِ أنْ حَرَّمَ الرِّبا، ولَعَنَ آكِلَهُ ومُؤَكِّلَهُ وكاتِبَهُ وشاهِدَيْهِ، وآذَنَ مَن لَمْ يَدَعْهُ بِحَرْبِهِ وحَرْبِ رَسُولِهِ، ولَمْ يَجِئْ مِثْلُ هَذا الوَعِيدِ في كَبِيرَةٍ غَيْرَهُ، ولِهَذا كانَ مِن أكْبَرِ الكَبائِرِ، وسُئِلَ الإمامُ أحْمَدُ عَنْ الرِّبا الَّذِي لا شَكَّ فِيهِ فَقالَ: هو أنْ يَكُونَ لَهُ دَيْنٌ فَيَقُولُ لَهُ: أتَقْضِي أمْ تُرْبِي؟ فَإنْ لَمْ يَقْضِهِ زادَهُ في المالِ وزادَهُ هَذا في الأجَلِ؛ وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ الرِّبا ضِدَّ الصَّدَقَةِ، فالمُرابِي ضِدُّ المُتَصَدِّقِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا ويُرْبِي الصَّدَقاتِ﴾ [البقرة: ٢٧٦] وقالَ: ﴿وَما آتَيْتُمْ مِن رِبًا لِيَرْبُوَ في أمْوالِ النّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وما آتَيْتُمْ مِن زَكاةٍ تُرِيدُونَ وجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ﴾ [الروم: ٣٩] وقالَ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أضْعافًا مُضاعَفَةً واتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ (١٣٠) واتَّقُوا النّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١)﴾ ثُمَّ ذَكَرَ الجَنَّةَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ في السَّرّاءِ والضَّرّاءِ، وهَؤُلاءِ ضِدُّ المُرابِينَ، فَنَهى سُبْحانَهُ عَنْ الرِّبا الَّذِي هو ظُلْمٌ لِلنّاسِ، وأمَرَ بِالصَّدَقَةِ الَّتِي هي إحْسانٌ إلَيْهِمْ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إنّما الرِّبا في النَّسِيئَةِ» ومِثْلُ هَذا يُرادُ بِهِ حَصْرُ الكَمالِ وأنَّ الرِّبا الكامِلَ إنّما هو في النَّسِيئَةِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وجِلَتْ قُلُوبُهم وإذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهم إيمانًا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: ٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال: ٤] وكَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " إنّما العالِمُ الَّذِي يَخْشى اللَّهَ ". وَأمّا رِبا الفَضْلِ فَتَحْرِيمُهُ مِن بابِ سَدِّ الذَّرائِعِ، كَما صَرَّحَ بِهِ في حَدِيثِ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ ﷺ: «لا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ؛ فَإنِّي أخافُ عَلَيْكم الرِّمّا» والرِّمّا هو الرِّبا، فَمَنَعَهم مِن رِبا الفَضْلِ لِما يَخافُهُ عَلَيْهِمْ مِن رِبا النَّسِيئَةِ، وذَلِكَ أنَّهم إذا باعُوا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، ولا يُفْعَلُ هَذا إلّا لِلتَّفاوُتِ الَّذِي بَيْنَ النَّوْعَيْنِ - إمّا في الجَوْدَةِ، وإمّا في السِّكَّةِ، وإمّا في الثِّقَلِ والخِفَّةِ، وغَيْرِ ذَلِكَ - تَدَرَّجُوا بِالرِّبْحِ المُعَجَّلِ فِيها إلى الرِّبْحِ المُؤَخَّرِ، وهو عَيْنُ رِبا النَّسِيئَةِ، وهَذِهِ ذَرِيعَةٌ قَرِيبَةٌ جِدًّا؛ فَمِن حِكْمَةِ الشّارِعِ أنْ سَدَّ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الذَّرِيعَةَ، ومَنَعَهم مِن بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ نَقْدًا ونَسِيئَةً؛ فَهَذِهِ حِكْمَةٌ مَعْقُولَةٌ مُطابِقَةٌ لِلْعُقُولِ، وهي تَسُدُّ عَلَيْهِمْ بابَ المَفْسَدَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب