الباحث القرآني

* [فَصْلٌ تَعْرِيفُ المُرادِ] قالَ صاحِبُ " المَنازِلِ ": بابُ المُرادِ. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَما كُنْتَ تَرْجُو أنْ يُلْقى إلَيْكَ الكِتابُ إلّا رَحْمَةً مِن رَبِّكَ﴾ أكْثَرُ المُتَكَلِّمِينَ في هَذا العِلْمِ جَعَلُوا المُرِيدَ والمُرادَ اثْنَيْنِ. وجَعَلُوا مَقامَ المُرادِ فَوْقَ مَقامِ المُرِيدِ وإنَّما أشارُوا بِاسْمِ المُرادِ إلى الضَّنائِنِ الَّذِينَ ورَدَ فِيهِمُ الخَبَرُ. قُلْتُ: وجْهُ اسْتِشْهادِهِ بِالآيَةِ: أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ ألْقى إلى رَسُولِهِ كِتابَهُ، وخَصَّهُ بِكَرامَتِهِ. وأهَّلَهُ لِرِسالَتِهِ ونُبُوَّتِهِ. مِن غَيْرِ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنهُ عَلى رَجاءٍ، أوْ نالَهُ بِكَسْبٍ، أوْ تَوَسَّلَ إلَيْهِ بِعَمَلٍ، بَلْ هو أمْرٌ أُرِيدَ بِهِ. فَهو المُرادُ حَقِيقَةً. وَقَوْلُهُ: إنْ أكْثَرَهم جَعَلُوا المُرِيدَ والمُرادَ اثْنَيْنِ فَهو تَعَرُّضٌ إلى أنَّ مِنهم مَنِ اكْتَفى عَنْ ذِكْرِ مَقامِ المُرادِ بِمَنزِلَةِ الإرادَةِ لِأنَّ صاحِبَها مُرِيدٌ مُرادٌ. وَقَدْ مَثَّلَ لِلْمُرِيدِ والمُرادِ بِقَوْمٍ بَعَثَ إلَيْهِمْ سُلْطانُهم يَسْتَدْعِيهِمْ إلى حَضْرَتِهِ مِن بِلادٍ نائِيَةٍ، وأرْسَلَ إلَيْهِمْ بِالأدِلَّةِ والأمْوالِ، والمَراكِبِ وأنْواعِ الزّادِ. وأمَرَهم بِأنْ يَتَجَشَّمُوا إلَيْهِ قَطْعَ السُّبُلِ والمَفاوِزِ. وأنْ يَجْتَهِدُوا في المَسِيرِ حَتّى يَلْحَقُوا بِهِ. وبَعَثَ خَيْلًا لَهُ ومَمالِيكَ إلى طائِفَةٍ مِنهم. فَقالَ: احْمِلُوهم عَلى هَذِهِ الخَيْلِ الَّتِي تَسْبِقُ الرِّكابَ. واخْدُمُوهم في طَرِيقِهِمْ. ولا تَدَعُوهم يُعانُونَ مُؤْنَةَ الشَّدِّ والرَّبْطِ، بَلْ إذا نَزَلُوا فَأرِيحُوهم. ثُمَّ احْمِلُوهم حَتّى تُقَدِّمُوهم عَلَيَّ. فَلَمْ يَجِدْ هَؤُلاءِ مِن مُجاهَدَةِ السَّيْرِ، ومُكابَدَتِهِ، ووَعْثاءِ السَّفَرِ ما وجَدَهُ غَيْرُهم. وَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ: المُرِيدُ يَنْتَقِلُ مِن مَنزِلَةِ الإرادَةِ إلى أنْ يَصِيرَ مُرادًا فَكانَ مُحِبًّا. فَصارَ مَحْبُوبًا. فَكُلُّ مُرِيدٍ صادِقٍ نِهايَةُ أمْرِهِ أنْ يَكُونَ مُرادًا. وأكْثَرُهم عَلى هَذا. وَصاحِبُ " المَنازِلِ " كَأنَّ عِنْدَهُ المُرادَ هو المَجْذُوبُ، والمُرِيدَ هو السّالِكُ عَلى طَرِيقِ الجادَّةِ. [دَرَجاتُ المُرادِ] * [فَصْلٌ: الدَّرَجَةُ الأُولى أنْ يَعْصِمَ العَبْدَ] قالَ: ولِلْمُرادِ ثَلاثُ دَرَجاتٍ: الأُولى: أنْ يَعْصِمَ العَبْدَ. وهو مُسْتَشْرِفٌ لِلْجَفاءِ، اضْطِرارًا بِتَنْغِيصِ الشَّهَواتِ، وتَعْوِيقِ المَلاذِ، وسَدِّ مَسالِكِ المَعاطِبِ عَلَيْهِ إكْراهًا. يَعْنِي: أنَّ العَبْدَ إذا اسْتَشْرَفَتْ نَفْسُهُ لِلْجَفاءِ بَيْنَهُ وبَيْنَ سَيِّدِهِ - بِمُوافَقَةِ شَهَواتِهِ - عَصَمَهُ سَيِّدُهُ اضْطِرارًا، بِأنْ يُنَغِّصَ عَلَيْهِ الشَّهَواتِ. فَلا تَصْفُو لَهُ ألْبَتَّةَ. بَلْ لا يَنالُ ما يَنالُ مِنها إلّا مَشُوبًا بِأنْواعِ التَّنْغِيصِ، الَّذِي رُبَّما أرْبى عَلى لَذَّتِها واسْتَهْلَكَها، بِحَيْثُ تَكُونُ اللَّذَّةُ في جَنْبِ التَّنْغِيصِ كالخِلْسَةِ والغَفْوَةِ، وكَذَلِكَ يَعُوقُ المَلاذَ عَلَيْهِ بِأنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وبَيْنَها، حَتّى لا يَرْكَنَ إلَيْها، ولا يَطْمَئِنَّ إلَيْها ويُساكِنَها. فَيَحُولَ بَيْنَهُ وبَيْنَ أسْبابِها. فَإنْ هُيِّئَتْ لَهُ قُيِّضَ لَهُ مُدافِعٌ يَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَ اسْتِيفائِها، فَيَقُولُ: مِن أيْنَ دُهِيتَ؟ وإنَّما هي عَيْنُ العِنايَةِ والحَمِيَّةِ والصِّيانَةِ. وَكَذَلِكَ يَسُدُّ عَنْهُ طُرُقَ المَعاصِي. فَإنَّها طُرُقُ المَعاطِبِ. وإنْ كانَ كارِهًا، عِنايَةً بِهِ، وصِيانَةً لَهُ. * [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ أنْ يَضَعَ عَنِ العَبْدِ عَوارِضَ النَّقْصِ] قالَ: الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ: أنْ يَضَعَ عَنِ العَبْدِ عَوارِضَ النَّقْصِ ويُعافِيَهُ مِن سِمَةِ اللّائِمَةِ. ويُمَلِّكَهُ عَواقِبَ الهَفَواتِ. كَما فَعَلَ بِسُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَ قَتَلَ الخَيْلَ فَحَمَلَهُ عَلى الرِّيحِ الرُّخاءِ. فَأغْناهُ عَنِ الخَيْلِ. وفَعَلَ بِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَ ألْقى الألْواحَ وأخَذَ بِرَأْسِ أخِيهِ. ولَمْ يَعْتِبْ عَلَيْهِ كَما عَتَبَ عَلى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، ونُوحٍ، وداوُدَ، ويُونُسَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ. والفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّرَجَةِ والَّتِي قَبْلَها: أنَّ في الَّتِي قَبْلَها مَنعًا مِن مُواقَعَةِ أسْبابِ الجَفاءِ اضْطِرارًا. وَفِي هَذِهِ: إذا عَرَضَتْ لَهُ أسْبابُ النَّقِيصَةِ، الَّتِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْها اللّائِمَةَ، لَمْ يَعْتِبْهُ عَلَيْها ولَمْ يَلُمْهُ. وَهَذا نَوْعٌ مِنَ الدَّلالِ. وصاحِبُهُ مِن ضَنائِنِ اللَّهِ وأحْبابِهِ. فَإنَّ الحَبِيبَ يُسامِحُ بِما لا يُسامِحُ بِهِ سِواهُ. لِأنَّ المَحَبَّةَ أكْبَرُ شُفَعائِهِ. وإذا هَفا هَفْوَةً مَلَّكَهُ عاقِبَتَها، بِأنْ جَعَلَها سَبَبًا لِرِفْعَتِهِ، وعُلُوِّ دَرَجَتِهِ. فَيَجْعَلَ تِلْكَ الهَفْوَةَ سَبَبًا لِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ. وذُلٍّ خاصٍّ، وانْكِسارٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، وأعْمالٍ صالِحَةٍ تَزِيدُ في قُرْبِهِ مِنهُ أضْعافَ ما كانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الهَفْوَةِ. فَتَكُونُ تِلْكَ الهَفْوَةُ أنْفَعَ لَهُ مِن حَسَناتٍ كَثِيرَةٍ. وهَذا مِن عَلاماتِ اعْتِناءِ اللَّهِ بِالعَبْدِ، وكَوْنِهِ مِن أحْبابِهِ وحِزْبِهِ. وَقَدِ اسْتَشْهَدَ الشَّيْخُ بِقِصَّةِ سُلَيْمانَ عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَ ألْهَتْهُ الخَيْلُ عَنْ صَلاةِ العَصْرِ. فَأخَذَتْهُ الغَضْبَةُ لِلَّهِ والحَمِيَّةُ. فَحَمَلَتْهُ عَلى أنْ مَسَحَ عَراقِيبَها وأعْناقَها بِالسَّيْفِ. وأتْلَفَ مالًا شَغَلَهُ عَنِ اللَّهِ في اللَّهِ. فَعَوَّضَهُ اللَّهُ مِنهُ: أنْ حَمَلَهُ عَلى مَتْنِ الرِّيحِ. فَمَلَّكَهُ اللَّهُ تَعالى عاقِبَةَ هَذِهِ الهَفْوَةِ. وجَعَلَها سَبَبًا لِنَيْلِ تِلْكَ المَنزِلَةِ الرَّفِيعَةِ. واسْتَشْهَدَ بِقِصَّةِ مُوسى ﷺ، حِينَ ألْقى الألْواحَ - وفِيها كَلامُ اللَّهِ - عَنْ رَأْسِهِ، وكَسَرَها، وجَرَّ بِلِحْيَةِ أخِيهِ. وهو نَبِيٌّ مِثْلُهُ، ولَمْ يُعاتِبْهُ اللَّهُ عَلى ذَلِكَ، كَما عَتَبَ عَلى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ في أكْلِ لُقْمَةٍ مِنَ الشَّجَرَةِ، وعَلى نُوحٍ في ابْنِهِ حِينَ سَألَ رَبَّهُ أنْ يُنْجِيَهُ. وعَلى داوُدَ في شَأْنِ امْرَأةِ أُورْيا. وَعَلى يُونُسَ في شَأْنِ المُغاضَبَةِ. وَسَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: وكَذَلِكَ لَطَمَ مُوسى عَيْنَ مَلَكِ المَوْتِ فَفَقَأها. ولَمْ يَعْتِبْ عَلَيْهِ رَبُّهُ. وفي لَيْلَةِ الإسْراءِ عاتَبَ رَبَّهُ في النَّبِيِّ ﷺ. إذْ رَفَعَهُ فَوْقَهُ، ورَفَعَ صَوْتَهُ بِذَلِكَ. ولَمْ يَعْتِبْهُ اللَّهُ عَلى ذَلِكَ. قالَ: لِأنَّ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - قامَ تِلْكَ المَقاماتِ العَظِيمَةِ الَّتِي أوْجَبَتْ لَهُ هَذا الدِّلالَ. فَإنَّهُ قاوَمَ فِرْعَوْنَ أكْبَرَ أعْداءِ اللَّهِ تَعالى. وتَصَدّى لَهُ ولِقَوْمِهِ. وعالَجَ بَنِي إسْرائِيلَ أشَدَّ المُعالَجَةِ. وجاهَدَ في اللَّهِ أعْداءَ اللَّهِ أشَدَّ الجِهادِ. وكانَ شَدِيدَ الغَضَبِ لِرَبِّهِ، فاحْتَمَلَ لَهُ ما لَمْ يَحْتَمِلْهُ لِغَيْرِهِ. وَذُو النُّونِ لَمّا لَمْ يَكُنْ في هَذا المَقامِ: سَجَنَهُ في بَطْنِ الحُوتِ مِن غَضَبِهِ، وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدَرًا. * [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ اجْتِباءُ الحَقِّ عَبْدَهُ] قالَ: الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ: اجْتِباءُ الحَقِّ عَبْدَهُ. واسْتِخْلاصُهُ إيّاهُ بِخالِصَتِهِ. كَما ابْتَدَأ مُوسى، وقَدْ خَرَجَ يَقْتَبِسُ نارًا، فاصْطَنَعَهُ لِنَفْسِهِ. وأبْقى مِنهُ رَسْمًا مُعارًا. قُلْتُ: الِاجْتِباءُ الِاصْطِفاءُ، والإيثارُ. والتَّخْصِيصُ. وهو افْتِعالُ مِن جَبَيْتُ الشَّيْءَ: إذا حُزْتَهُ وأحْرَزْتَهُ إلَيْكَ. كَجِبايَةِ المالِ وغَيْرِهِ. والِاصْطِناعُ أيْضًا الِاصْطِفاءُ، والِاخْتِيارُ، يَعْنِي أنَّهُ اصْطَفى مُوسى واسْتَخْلَصَهُ لِنَفْسِهِ. وجَعَلَهُ خالِصًا لَهُ مِن غَيْرِ سَبَبٍ كانَ مِن مُوسى، ولا وسِيلَةٍ. فَإنَّهُ خَرَجَ لِيَقْتَبِسَ النّارَ. فَرَجَعَ وهو كَلِيمُ الواحِدِ القَهّارِ. وأكْرَمُ الخَلْقِ عَلَيْهِ، ابْتِداءً مِنهُ سُبْحانَهُ، مِن غَيْرِ سابِقَةِ اسْتِحْقاقٍ، ولا تَقَدُّمِ وسِيلَةٍ. وفي مِثْلِ هَذا قِيلَ: ؎أيُّها العَبْدُ، كُنْ لِما لَسْتَ تَرْجُو ∗∗∗ مِن صَلاحٍ أرْجى لِما أنْتَ راجِي ؎إنَّ مُوسى أتى لِيَقْبِسَ نارًا ∗∗∗ مِن ضِياءٍ رَآهُ واللَيْلُ داجِي ؎فانْثَنى راجِعًا، وقَدْ كَلَّمَهُ اللَّ ∗∗∗ هُ، وناجاهُ وهْوَ خَيْرُ مُناجِي وَقَوْلُهُ: وأبْقى مِنهُ رَسْمًا مُعارًا. يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِالرَّسْمِ: البَقِيَّةَ الَّتِي تَقَدَّمَ بِها عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ ﷺ. ورُفِعَ فَوْقَهُ بِدَرَجاتٍ لِأجْلِ بَقائِها مِنهُ. وَيُحْتَمَلُ - وهو الأظْهَرُ - أنَّهُ أخَذَهُ مِن نَفْسِهِ، واصْطَنَعَهُ لِنَفْسِهِ. واخْتارَهُ مِن بَيْنِ العالَمِينَ. وخَصَّهُ بِكَلامِهِ، ولَمْ يُبْقِ لَهُ مِن نَفْسِهِ إلّا رَسْمًا مُجَرَّدًا يَصْحَبُ بِهِ الخَلْقَ، وتَجْرِي عَلَيْهِ فِيهِ أحْكامُ البَشَرِيَّةِ. إتْمامًا لِحِكْمَتِهِ، وإظْهارًا لِقُدْرَتِهِ. فَهو عارِيَةٌ مَعَهُ. فَإذا قَضى ما عَلَيْهِ: اسْتَرَدَّ ذَلِكَ الرَّسْمَ. وجَعَلَهُ مِن مالِهِ. فَتَكَمَّلَتْ إذْ ذاكَ مَرْتَبَةُ الِاجْتِباءِ. ظاهِرًا وباطِنًا، حَقِيقَةً ورَسْمًا، ورَجَعَتِ العارِيَةُ إلى مالِكِها الحَقِّ، الَّذِي يُرْجَعُ إلَيْهِ الأمْرُ كُلُّهُ. فَكَما ابْتَدَأتْ مِنهُ عادَتْ إلَيْهِ. وَمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: كانَ في مَظْهَرِ الجَلالِ، ولِهَذا كانَتْ شَرِيعَتُهُ شَرِيعَةَ جَلالٍ وقَهْرٍ. أُمِرُوا بِقَتْلِ نُفُوسِهِمْ، وحُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، وذَواتُ الظُّفُرِ وغَيْرُها مِنَ الطَّيِّباتِ، وحُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الغَنائِمُ. وعُجِّلَ لَهم مِنَ العُقُوباتِ ما عُجِّلَ وحُمِّلُوا مِنَ الآصارِ والأغْلالِ، ما لَمْ يَحْمِلْهُ غَيْرُهم. وَكانَ مُوسى ﷺ مَن أعْظَمِ خَلْقِ اللَّهِ هَيْبَةً ووَقارًا. وأشَدِّهِمْ بَأْسًا وغَضَبًا لِلَّهِ، وبَطْشًا بِأعْداءِ اللَّهِ، وكانَ لا يُسْتَطاعُ النَّظَرُ إلَيْهِ. وَعِيسى ﷺ: كانَ في مَظْهَرِ الجَمالِ. وكانَتْ شَرِيعَتُهُ شَرِيعَةَ فَضْلٍ وإحْسانٍ. وكانَ لا يُقاتِلُ، ولا يُحارِبُ. ولَيْسَ في شَرِيعَتِهِ قِتالٌ ألْبَتَّةَ. والنَّصارى يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ دِينُهُمُ القِتالَ. وهم بِهِ عُصاةٌ لِشَرْعِهِ. فَإنَّ الإنْجِيلَ يَأْمُرُهم فِيهِ: أنَّ مِن لَطَمَكَ عَلى خَدِّكَ الأيْمَنِ، فَأدِرْ لَهُ خَدَّكَ الأيْسَرَ. ومَن نازَعَكَ ثَوْبَكَ. فَأعْطِهِ رِداءَكَ. ومَن سَخَّرَكَ مِيلًا. فامْشِ مَعَهُ مِيلَيْنِ. ونَحْوَ هَذا. ولَيْسَ في شَرِيعَتِهِمْ مَشَقَّةٌ، ولا آصارٌ، ولا أغْلالٌ، وإنَّما النَّصارى ابْتَدَعُوا تِلْكَ الرَّهْبانِيَّةَ مِن قِبَلِ أنْفُسِهِمْ. ولَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِمْ. وَأمّا نَبِيُّنا ﷺ: فَكانَ في مَظْهَرِ الكَمالِ، الجامِعِ لِتِلْكَ القُوَّةِ والعَدْلِ، والشِّدَّةِ في اللَّهِ. وهَذا اللِّينِ والرَّأْفَةِ والرَّحْمَةِ. وشَرِيعَتُهُ أكْمَلُ الشَّرائِعِ. فَهو نَبِيُّ الكَمالِ، وشَرِيعَتُهُ شَرِيعَةُ الكَمالِ. وأُمَّتُهُ أكْمَلُ الأُمَمِ. وأحْوالُهم ومَقاماتُهم أكْمَلُ الأحْوالِ والمَقاماتِ. ولِذَلِكَ تَأْتِي شَرِيعَتُهُ بِالعَدْلِ إيجابًا لَهُ وفَرْضًا. وبِالفَضْلِ نَدْبًا إلَيْهِ واسْتِحْبابًا. وبِالشِّدَّةِ في مَوْضِعِ الشِّدَّةِ. وبِاللِّينِ في مَوْضِعِ اللِّينِ. وَوُضِعَ السَّيْفُ مَوْضِعَهُ. ووُضِعَ النَّدى مَوْضِعَهُ. فَ يَذْكُرَ الظُّلْمَ. ويُحَرِّمَهُ. والعَدْلَ ويُوجِبُهُ. والفَضْلَ ويَنْدُبُ إلَيْهِ في بَعْضِ آياتٍ. كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها﴾ فَهَذا عَدْلٌ ﴿فَمَن عَفا وأصْلَحَ فَأجْرُهُ عَلى اللَّهِ﴾ فَهَذا فَضْلٌ ﴿إنَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ﴾ فَهَذا تَحْرِيمٌ لِلظُّلْمِ. وَقَوْلِهِ: ﴿وَإنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ فَهَذا إيجابٌ لِلْعَدْلِ، وتَحْرِيمٌ لِلظُّلْمِ ﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهو خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ﴾ نَدَبَ إلى الفَضْلِ. وَقَوْلِهِ: ﴿وَإنْ تُبْتُمْ فَلَكم رُؤُسُ أمْوالِكم لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ﴾ تَحْرِيمٌ لِلظُّلْمِ. ﴿وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ﴾ عَدْلٌ. ﴿وَأنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكم إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ فَضْلٌ. وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ ما حَرَّمَ عَلى أُمَّتِهِ صِيانَةً وحِمْيَةً. حَرَّمَ عَلَيْهِمْ كُلَّ خَبِيثٍ وضارٍّ، وأباحَ لَهم كُلُّ طَيِّبٍ ونافِعٍ. فَتَحْرِيمُهُ عَلَيْهِمْ رَحْمَةٌ، وعَلى مَن قَبْلَهم لَمْ يَخْلُ مِن عُقُوبَةٍ. وَهَداهم لِما ضَلَّتْ عَنْهُ الأُمَمُ قَبْلَهم. ووَهَبَ لَهم مِن عِلْمِهِ وحِلْمِهِ. وَجَعَلَهم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ. وكَمَّلَ لَهم مِنَ المَحاسِنِ ما فَرَّقَهُ في الأُمَمِ قَبْلَهم. كَما كَمَّلَ نَبِيَّهم ﷺ مِنَ المَحاسِنِ بِما فَرَّقَهُ في الأنْبِياءِ قَبْلَهُ. وَكَمَّلَ في كِتابِهِ مِنَ المَحاسِنِ بِما فَرَّقَها في الكُتُبِ قَبْلَهُ. وكَذَلِكَ في شَرِيعَتِهِ. فَهَؤُلاءِ الضَّنائِنُ وهُمُ المُجْتَبُونَ الأخْيارُ. كَما قالَ تَعالى ﴿هُوَ اجْتَباكم وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨]. وجَعَلَهم شُهَداءَ عَلى النّاسِ. فَأقامَهم في ذَلِكَ مَقامَ الأنْبِياءِ الشّاهِدِينَ عَلى أُمَمِهِمْ. وَتَفْصِيلُ تَفْضِيلِ هَذِهِ الأُمَّةِ وخَصائِصِها يَسْتَدْعِي سِفْرًا. بَلْ أسْفارًا. وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ. واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب