الباحث القرآني

* (لطيفة) قوله تَعالى ﴿وَأحْسِنْ كَما أحسن الله إلَيْك﴾ لا ريب أنه لا يقدر أحد أن يحسن بِقدر ما أحسن الله إلَيْهِ، وإنَّما أُرِيد بِهِ أصل الإحْسان لا قَدْره. * (فائدة) العارِف لا يَأْمر النّاس بترك الدُّنْيا فَإنَّهُم لا يقدرُونَ على تَركها ولَكِن يَأْمُرهُم بترك الذُّنُوب مَعَ إقامتهم على دنياهم فَترك الدُّنْيا فَضِيلَة وترك الذُّنُوب فَرِيضَة فَكيف يُؤمر بالفضيلة من لم يقم الفَرِيضَة فَإن صَعب عَلَيْهِم ترك الذُّنُوب فاجتهد أن تحبب الله إلَيْهِم بِذكر آلائه وإنعامه وإحسانه وصفات كَماله ونعوت جَلاله فَإن القُلُوب مفطورة على محبته فَإذا تعلّقت بحبه هان عَلَيْها ترك الذُّنُوب والاستقلال مِنها والإصرار عَلَيْها. وَقد قالَ يحيى بن معاذ طلب العاقِل للدنيا خير من ترك الجاهِل لَها العارِف يَدْعُو النّاس إلى الله من دنياهم فتسهل عَلَيْهِم الإجابَة والزاهد يَدعُوهُم إلى الله بترك الدُّنْيا فتشق عَلَيْهِم الإجابَة فَإن الفِطام عَن الثدي الَّذِي ما عقل الإنْسان نَفسه إلّا وهو يرتضع مِنهُ شَدِيد ولَكِن بِخَير من المرضعات أزكاهن وأفضلهن فَإن للبن تَأْثِيرا في طبيعة المرتضع ورضاع المَرْأة الحمقى يعود بحمق الوَلَد وأنفع الرضاعَة ما كانَ من المجاعة فَإن قويت على مرارَة الفِطام وإلّا فارتضع بِقدر فَإن من البشم ما يقتل. * (فصل) المطلب الأعْلى مَوْقُوف حُصُوله على همة عالية ونِيَّة صَحِيحَة فَمن فقدهما تعذّر عَلَيْهِ الوُصُول إلَيْهِ فَإن الهمة إذا كانَت عالية تعلّقت بِهِ وحده دون غَيره، وإذا كانَت النِّيَّة صَحِيحَة سلك العَبْد الطَّرِيق الموصلة إلَيْهِ فالنية تفرد لَهُ الطَّرِيق والهمة تفرد لَهُ المَطْلُوب فَإذا توَحد مَطْلُوبه والطَّرِيق الموصلة إلَيْهِ كانَ الوُصُول غايَته. وَإذا كانَت همته سافلة تعلّقت بالسفليات ولم تتعلّق بالمطلب الأعْلى، وإذا كانَت النِّيَّة غير صَحِيحَة كانَت طَرِيقه غير موصلة إلَيْهِ فمدار الشَّأْن على همة العَبْد ونِيَّته وهما مَطْلُوبه. وَلا يتم لَهُ إلّا بترك ثَلاثَة أشْياء العوائد والرسوم والأوضاع الَّتِي أحدثها النّاس. الثّانِي هجر العَوائِق الَّتِي تعوقه عَن إفْراد مَطْلُوبه وطَرِيقه وقطعها. الثّالِث قطع علائق القلب الَّتِي تحول بَينه وبَين تَجْرِيد التَّعَلُّق بالمطلوب. والفرق بينها أن العَوائِق هي الحَوادِث الخارجية، والعلائق هي التعلقات القلبية بالمباحات ونَحْوها. وأصل ذَلِك ترك الفضول الَّتِي تشغل عَن المَقْصُود من الطَّعام والشراب والمنام والخلطة، فَيَأْخُذ من ذَلِك ما يُعينهُ على طلبه ويرفض مِنهُ ما يقطعهُ عَنهُ أو يضعف طلبه والله المُسْتَعان. * (موعظة) وخطب النبي ﷺ أصحابه يومًا، فلما كانت الشمس على روؤس الجبال وذلك عند الغروب قال: «إنه لم يبقى من الدنيا فيما مضى إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه» فليتأمل العاقل الناصح لنفسه هذا الحديث، وليعلم أي شيء حصل له من هذا الوقت الذي قد بقي في الدنيا بأسرها، ليعلم أنه في غرور وأضغاث أحلام، وأنه قد باع سعادة الأبد والنعيم المقيم بحظ خسيس لا يساوي شيئًا، ولو طلب الله تعالى والدار الآخرة لأعطاه ذلك الحظ موفورًا وأكمل منه. كما في بعض الآثار: ابن آدم بع الدنيا بالآخرة تربحهما جميعًا، ولا تبع الآخرة بالدنيا تخسرهما جميعًا. وقال بعض السلف: "ابن آدم انت محتاج إلى نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، إن بدأت بنصيبك من الدنيا أضعت نصيبك من الآخرة وكنت من نصيب الدنيا على خطر، وإن بدأت بنصيبك من الآخرة فزت بنصيبك من الدنيا فانتظمته انتظامًا" وكان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول في خطبته: أيها الناس، إنكم لم تخلقوا عبثًا، ولم تتركوا سدى. وإن لكم معادًا يجمعكم الله عز وجل فيه للحكم فيكم، والفصل بينكم، فخاب وشقي عبد أخرجه الله عز وجل من رحمته التي وسعت كل شيء، وجنته التي عرضها السماوات والأرض. وإنما يكون الأمان غدًا لمن خاف الله تعالى واتقى، وباع قليلًا بكثير، وفانيًا بباق، وشقاوة بسعادة. ألا ترون أنكم في أصلاب الهالكين، وسيخلفه بعدكم الباقون؟ ألا ترون أنكم في كل يوم تشيعون غاديًا رائحًا إلى الله قد قضى نحبه، وانقطع أمله، فتضعونه في بطن صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وواجه الحساب؟ والمقصود أن الله عز وجل قد أمد العبد في هذه المدة اليسيرة بالجنود والعدد والأمداد، وبين له بماذا يحرز نفسه من عدوه، وبماذا يفتك نفسه إذا أسر. (نصيحة) هَلُمَّ إلى الدُّخُول على الله ومجاورته في دار السَّلام بِلا نصب ولا تَعب ولا عناء، بل من أقرب الطّرق وأسهلها وذَلِكَ أنَّك في وقت بَين وقْتَيْنِ، وهو في الحَقِيقَة عمرك وهو وقتك الحاضِر بَين ما مضى وما يسْتَقْبل، فالَّذِي مضى تصلحه بِالتَّوْبَةِ والندم والِاسْتِغْفار وذَلِكَ شَيْء لا تَعب عَلَيْك فِيهِ ولا نصب ولا معاناة، عمل شاق إنَّما هو عمل قلب وتمتنع فِيما يسْتَقْبل من الذُّنُوب وامتناعك ترك وراحة لَيْسَ هو عملا بالجوارح يشق عَلَيْك معاناته وإنَّما هو عزم ونِيَّة جازمة تريح بدنك وقلبك وسرك فَما مضى تصلحه بِالتَّوْبَةِ، وما يسْتَقْبل تصلحه بالامتناع والعزم والنِّيَّة، ولَيْسَ للجوارح في هذَيْن نصب ولا تَعب ولَكِن الشَّأْن في عمرك وهو وقتك الَّذِي بَين الوَقْتَيْنِ فَإن أضعته أضعت سعادتك ونجاتك وإن حفظته مَعَ إصْلاح الوَقْتَيْنِ اللَّذين قبله وبعده بِما ذكرت نجوت وفزت بالراحة واللذة والنَّعِيم، وحفظه أشق من إصْلاح ما قبله وما بعده، فَإن حفظه أن تلْزم نَفسك بِما هو أولى بها وأنفع لَها وأعظم تحصيلا لسعادتها، وفي هَذا تفاوت النّاس أعظم تفاوت فَهي والله أيامك الخالية الَّتِي تجمع فِيها الزّاد لمعادك، إمّا إلى الجنَّة إمّا إلى النّار، فَإن اتَّخذت إلَيْها سَبِيلا إلى رَبك بلغت السَّعادَة العُظْمى والفوز الأكْبَر في هَذِه المدَّة اليَسِيرَة الَّتِي لا نِسْبَة لَها إلى الأبَد، وإن آثرت الشَّهَوات والراحات واللَّهْو واللعب انْقَضتْ عَنْك بِسُرْعَة وأعقبتك الألَم العَظِيم الدّائِم الَّذِي مقاساته ومعاناته أشق وأصعب وأدوم من معاناة الصَّبْر عَن محارم الله والصَّبْر على طاعَته ومُخالفَة الهوى لأجله.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب