الباحث القرآني

* (فائدة) عشر حقائق لا تتعلق إلا بمعدوم: الشرط وجزاؤه والأمر والنهي والدعاء والوعد والوعيد والترجي والتمني والإباحة. * [فَصْلٌ: مَنزِلَةُ الثِّقَةِ بِاللَّهِ تَعالى] وَمِن مَنازِلِ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مَنزِلَةُ الثِّقَةِ بِاللَّهِ تَعالى. قالَ صاحِبُ " المَنازِلِ ": الثِّقَةُ: سَوادُ عَيْنِ التَّوَكُّلِ. ونُقْطَةُ دائِرَةِ التَّفْوِيضِ. وسُوَيْداءُ قَلْبِ التَّسْلِيمِ. وَصَدَّرَ البابَ بِقَوْلِهِ تَعالى لِأُمِّ مُوسى: ﴿فَإذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَألْقِيهِ في اليَمِّ ولا تَخافِي ولا تَحْزَنِي﴾ [القصص: ٧]. فَإنَّ فِعْلَها هَذا هو عَيْنُ ثِقَتِها بِاللَّهِ تَعالى، إذْ لَوْلا كَمالُ ثِقَتِها بِرَبِّها لَما ألْقَتْ بِوَلَدِها وفِلْذَةِ كَبِدِها في تَيّارِ الماءِ، تَتَلاعَبُ بِهِ أمْواجُهُ، وجَرْياتُهُ إلى حَيْثُ يَنْتَهِي أوْ يَقِفُ. وَمُرادُهُ: أنَّ الثِّقَةَ خُلاصَةُ التَّوَكُّلِ ولُبُّهُ، كَما أنَّ سَوادَ العَيْنِ: أشْرَفُ ما في العَيْنِ. وَأشارَ بِأنَّهُ نُقْطَةُ دائِرَةِ التَّفْوِيضِ إلى أنَّ مَدارَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وهو في وسَطِهِ كَحالِ النُّقْطَةِ مِنَ الدّائِرَةِ. فَإنَّ النُّقْطَةَ هي المُرَكَّزُ الَّذِي عَلَيْهِ اسْتِدارَةُ المُحِيطِ، ونِسْبَةُ جِهاتِ المُحِيطِ إلَيْها نِسْبَةٌ واحِدَةٌ، وكُلُّ جُزْءٍ مِن أجْزاءِ المُحِيطِ مُقابِلٌ لَها. كَذَلِكَ الثِّقَةُ هي النُّقْطَةُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْها التَّفْوِيضُ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: سُوَيْداءُ قَلْبِ التَّسْلِيمِ. فَإنَّ القَلْبَ أشْرَفُ ما فِيهِ سُوَيْداؤُهُ، وهي المُهْجَةُ الَّتِي تَكُونُ بِها الحَياةُ، وهي في وسَطِهِ. فَلَوْ كانَ التَّفْوِيضُ قَلْبًا لَكانَتِ الثِّقَةُ سُوَيْداءَهُ. ولَوْ كانَ عَيْنًا لَكانَتْ سَوادَها. ولَوْ كانَ دائِرَةً لَكانَتْ نُقْطَتَها. وَقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ يُفَسِّرُ التَّوَكُّلَ بِالثِّقَةِ. ويَجْعَلُهُ حَقِيقَتَها. ومِنهم مَن يُفَسِّرُهُ بِالتَّفْوِيضِ. ومِنهم مَن يُفَسِّرُهُ بِالتَّسْلِيمِ. فَعَلِمْتُ أنَّ مَقامَ التَّوَكُّلِ يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ. فَكَأنَّ الثِّقَةَ عِنْدَ الشَّيْخِ هي رُوحٌ، والتَّوَكُّلَ كالبَدَنِ الحامِلِ لَها، ونِسْبَتَها إلى التَّوَكُّلِ كَنِسْبَةِ الإحْسانِ إلى الإيمانِ. واللَّهُ أعْلَمُ. * [فَصْلٌ: دَرَجاتُ الثِّقَةِ بِاللَّهِ تَعالى] قالَ: وهي عَلى ثَلاثِ دَرَجاتٍ: الدَّرَجَةُ الأُولى: دَرَجَةُ الإياسِ. وَهُوَ إياسُ العَبْدِ عَنْ مُقاوَماتِ الأحْكامِ. لِيَقْعُدَ عَنْ مُنازَعَةِ الأقْسامِ، لِيَتَخَلَّصَ مِن قِحَةِ الإقْدامِ. يَعْنِي أنَّ الواثِقَ بِاللَّهِ لِاعْتِقادِهِ: أنَّ اللَّهَ تَعالى إذا حَكَمَ بِحُكْمٍ وقَضى أمْرًا. فَلا مَرَدَّ لِقَضائِهِ. ولا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ. فَمَن حَكَمَ اللَّهُ لَهُ بِحُكْمٍ، وقَسَمَ لَهُ بِنَصِيبٍ مِنَ الرِّزْقِ، أوِ الطّاعَةِ أوِ الحالِ، أوِ العِلْمِ أوْ غَيْرِهِ: فَلا بُدَّ مِن حُصُولِهِ لَهُ. ومَن لَمْ يَقْسِمْ لَهُ ذَلِكَ: فَلا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهِ ألْبَتَّةَ. كَما لا سَبِيلَ لَهُ إلى الطَّيَرانِ إلى السَّماءِ، وحَمْلِ الجِبالِ - فَبِهَذا القَدْرِ يَقْعُدُ عَنْ مُنازَعَةِ الأقْسامِ. فَما كانَ لَهُ مِنها فَسَوْفَ يَأْتِيهِ عَلى ضَعْفِهِ، وما لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنها فَلَنْ يَنالَهُ بِقُوَّتِهِ. والفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِهِ: مُقاوَمَةُ الأحْكامِ ومُنازَعَةُ الأقْسامِ، أنَّ مُقاوَمَةَ الأحْكامِ: أنْ تَتَعَلَّقَ إرادَتُهُ بِعَيْنِ ما في حُكْمِ اللَّهِ وقَضائِهِ. فَإذا تَعَلَّقَتْ إرادَتُهُ بِذَلِكَ جاذَبَ الخَلْقَ الأقْسامَ ونازَعَهم فِيها. وَقَوْلُهُ: يَتَخَلَّصُ مِن قِحَةِ الإقْدامِ؛ أيْ يَتَخَلَّصُ بِالثِّقَةِ بِاللَّهِ مِن هَذِهِ القِحَةِ والجُرْأةِ عَلى إقْدامِهِ عَلى ما لَمْ يَحْكم لَهُ بِهِ ولا قَسَمَ لَهُ. واللَّهُ سُبْحانَهُ أعْلَمُ. * [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ دَرَجَةُ الأمْنِ] قالَ: الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ: دَرَجَةُ الأمْنِ. وهو أمْنُ العَبْدِ مِن فَوْتِ المَقْدُورِ. وانْتِقاضِ المَسْطُورِ. فَيَظْفَرُ بِرَوْحِ الرِّضا، وإلّا فَبِعَيْنِ اليَقِينِ. وإلّا فَبِلُطْفِ الصَّبْرِ. يَقُولُ: مَن حَصَلَ لَهُ الإياسُ المَذْكُورُ حَصَلَ لَهُ الأمْنُ. وذَلِكَ: أنَّ مِن تَحَقَّقَ بِمُعَرَّفَةِ اللَّهِ، وأنَّ ما قَضاهُ اللَّهُ فَلا مَرَدَّ لَهُ ألْبَتَّةَ: أمِنَ مِن فَوْتِ نَصِيبِهِ الَّذِي قَسَمَهُ اللَّهُ لَهُ. وأمِنَ أيْضًا مِن نُقْصانِ ما كَتَبَهُ اللَّهُ لَهُ، وسَطَّرَهُ في الكِتابِ المَسْطُورِ. فَيَظْفَرُ بِرَوْحِ الرِّضا، أيْ بِراحَتِهِ ولَذَّتِهِ ونَعِيمِهِ؛ لِأنَّ صاحِبَ الرِّضا في راحَةٍ ولَذَّةٍ وسُرُورٍ. كَما في حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «إنَّ اللَّهَ - بِعَدْلِهِ وقِسْطِهِ - جَعَلَ الرَّوْحَ والفَرَحَ في اليَقِينِ والرِّضا. وجَعَلَ الهَمَّ والحَزَنَ في الشَّكِّ والسُّخْطِ». فَإنْ لَمْ يَقْدِرِ العَبْدُ عَلى رَوْحِ الرِّضا ظَفِرَ بِعَيْنِ اليَقِينِ؛ وهو قُوَّةُ الإيمانِ، ومُباشَرَتُهُ لِلْقَلْبِ. بِحَيْثُ لا يَبْقى بَيْنَهُ وبَيْنَ العِيانِ إلّا كَشْفُ الحِجابِ المانِعِ مِن مُكافَحَةِ البَصَرِ. فَإنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ هَذا المَقامُ حَصَلَ عَلى لُطْفِ الصَّبْرِ وما فِيهِ مِن حُسْنِ العاقِبَةِ. كَما في الأثَرِ المَعْرُوفِ: إنِ اسْتَطَعْتَ أنْ تَعْمَلَ لِلَّهِ بِالرِّضا مَعَ اليَقِينِ فافْعَلْ. فَإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَإنَّ في الصَّبْرِ عَلى ما تَكْرَهُ النَّفْسُ خَيْرًا كَثِيرًا. * [فَصْلٌ الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ مُعايَنَةُ أزَلِيَّةِ الحَقِّ] قالَ: الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ: مُعايَنَةُ أزَلِيَّةِ الحَقِّ. لِيَتَخَلَّصَ مِن مِحَنِ القُصُودِ، وتَكالِيفِ الحِماياتِ، والتَّعْرِيجِ عَلى مَدارِجِ الوَسائِلِ. قَوْلُهُ: مُعايَنَةُ أزَلِيَّةِ الحَقِّ؛ أيْ مَتى شَهِدَ قَلْبُهُ تَفَرُّدَ الرَّبِّ سُبْحانَهُ وتَعالى بِالأزَلِيَّةِ، غابَ بِها عَنِ الطَّلَبِ، لِتَيَقُّنِهِ فَراغَ الرَّبِّ تَعالى مِنَ المَقادِيرِ، وسَبْقَ الأزَلِ بِها، وثُبُوتِ حُكْمِها هُناكَ. فَيَتَخَلَّصُ مِنَ المِحَنِ الَّتِي تُعْرَضُ لَهُ دُونَ المَقْصُودِ. ويَتَخَلَّصُ أيْضًا مِن تَعْرِيجِهِ والتِفاتِهِ، وحَبْسِ مَطِيَّتِهِ عَلى طُرُقِ الأسْبابِ الَّتِي يَتَوَسَّلُ بِها إلى المَطالِبِ. وَهَذا لَيْسَ عَلى إطْلاقِهِ. فَإنَّ مَدارِجَ الوَسائِلِ قِسْمانِ: وسائِلُ مُوصِلَةٌ إلى عَيْنِ الرِّضا. فالتَّعْرِيجُ عَلى مَدارِجِها - مَعْرِفَةً وعَمَلًا وحالًا وإيثارًا - هو مَحْضُ العُبُودِيَّةِ. ولَكِنْ لا يَجْعَلُ تَعْرِيجَهُ كُلَّهُ عَلى مَدارِجِها. بِحَيْثُ يَنْسى بِها الغايَةَ الَّتِي هي وسائِلُ إلَيْها. وَأمّا تَخَلُّصُهُ مِن تَكالِيفِ الحِماياتِ فَهو تَخَلُّصُهُ مِن طَلَبِ ما حَماهُ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قَدَرًا. فَلا يَتَكَلَّفُ طَلَبَهُ وقَدْ حُمِي عَنْهُ. وَوَجْهٌ آخَرُ: وهو أنْ يَتَخَلَّصَ بِمُشاهَدَةِ سَبْقِ الأزَلِيَّةِ مِن تَكالِيفِ احْتِرازاتِهِ، وشَدَّةِ احْتِمائِهِ مِنَ المَكارِهِ، لِعِلْمِهِ بِسَبْقِ الأزَلِ بِما كُتِبَ لَهُ مِنها. فَلا فائِدَةَ في تَكَلُّفِ الِاحْتِماءِ. نَعَمْ، يَحْتَمِي مِمّا نُهِيَ عَنْهُ، وما لا يَنْفَعُهُ في طَرِيقِهِ. ولا يُعِينُهُ عَلى الوُصُولِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب