الباحث القرآني

* (فصل: في قِصَرِ الأمَلِ) فَأمّا قِصَرُ الأمَلِ: فَهو العِلْمُ بِقُرْبِ الرَّحِيلِ، وسُرْعَةِ انْقِضاءِ مُدَّةِ الحَياةِ، وهو مِن أنْفَعِ الأُمُورِ لِلْقَلْبِ، فَإنَّهُ يَبْعَثُهُ عَلى مُعاصَفَةِ الأيّامِ، وانْتِهازِ الفُرَصِ الَّتِي تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ، ومُبادَرَةِ طَيِّ صَحائِفِ الأعْمالِ، ويُثِيرُ ساكِنَ عَزَماتِهِ إلى دارِ البَقاءِ، ويَحُثُّهُ عَلى قَضاءِ جِهازِ سَفَرِهِ، وتَدارُكِ الفارِطِ، ويُزَهِّدُهُ في الدُّنْيا، ويُرَغِّبُهُ في الآخِرَةِ، فَيَقُومُ بِقَلْبِهِ إذا داوَمَ مُطالَعَةَ قِصَرِ الأمَلِ شاهِدٌ مِن شَواهِدِ اليَقِينِ، يُرِيدُ فَناءَ الدُّنْيا، وسُرْعَةَ انْقِضائِها، وقِلَّةَ ما بَقِيَ مِنها، وأنَّها قَدْ تَرَحَّلَتْ مُدْبِرَةً، ولَمْ يَبْقَ مِنها إلّا صُبابَةٌ كَصُبابَةِ الإناءِ يَتَصابُّها صاحِبُها، وإنَّها لَمْ يَبْقَ مِنها إلّا كَما بَقِيَ مِن يَوْمٍ صارَتْ شَمْسُهُ عَلى رُءُوسِ الجِبالِ، ويُرِيهِ بَقاءَ الآخِرَةِ ودَوامَها، وأنَّها قَدْ تَرَحَّلَتْ مُقْبِلَةً، وقَدْ جاءَ أشْراطُها وعَلاماتُها، وأنَّهُ مِن لِقائِها كَمُسافِرٍ خَرَجَ صاحِبُهُ يَتَلَقّاهُ، فَكُلٌّ مِنهُما يَسِيرُ إلى الآخَرِ، فَيُوشِكُ أنْ يَلْتَقِيا سَرِيعًا. وَيَكْفِي في قِصَرِ الأمَلِ قَوْلُهُ تَعالى ﴿أفَرَأيْتَ إنْ مَتَّعْناهم سِنِينَ - ثُمَّ جاءَهم ما كانُوا يُوعَدُونَ - ما أغْنى عَنْهم ما كانُوا يُمَتَّعُونَ﴾ [الشعراء: ٢٠٥-٢٠٧] وَقَوْلُهُ تَعالى ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهم كَأنْ لَمْ يَلْبَثُوا إلّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾ [يونس: ٤٥] وَقَوْلُهُ تَعالى ﴿كَأنَّهم يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إلّا عَشِيَّةً أوْ ضُحاها﴾ [النازعات: ٤٦] وَقَوْلُهُ تَعالى ﴿قالُوا لَبِثْنا يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْألِ العادِّينَ - قالَ إنْ لَبِثْتُمْ إلّا قَلِيلًا لَوْ أنَّكم كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [المؤمنون: ١١٣-١١٤] وقَوْلُهُ تَعالى ﴿كَأنَّهم يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إلّا ساعَةً مِن نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إلّا القَوْمُ الفاسِقُونَ﴾ [الأحقاف: ٣٥] وقَوْلُهُ تَعالى ﴿يَتَخافَتُونَ بَيْنَهم إنْ لَبِثْتُمْ إلّا عَشْرًا - نَحْنُ أعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إذْ يَقُولُ أمْثَلُهم طَرِيقَةً إنْ لَبِثْتُمْ إلّا يَوْمًا﴾ [طه: ١٠٣-١٠٤] وخَطَبَ النَّبِيُّ ﷺ أصْحابَهُ يَوْمًا والشَّمْسُ عَلى رُءُوسِ الجِبالِ، فَقالَ «إنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيا فِيما مَضى مِنها إلّا كَما بَقِيَ مِن يَوْمِكم هَذا فِيما مَضى مِنهُ» ومَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِبَعْضِ أصْحابِهِ، وهم يُعالِجُونَ خُصًّا لَهم قَدْ وهى. فَهم يُصْلِحُونَهُ، فَقالَ «ما هَذا؟ قالُوا: خُصٌّ لَنا قَدْ وهى فَنَحْنُ نُعالِجُهُ، فَقالَ: ما أرى الأمْرَ إلّا أعْجَلَ مِن هَذا». وَقِصَرُ الأمَلِ بِناؤُهُ عَلى أمْرَيْنِ: تَيَقُّنِ زَوالِ الدُّنْيا ومُفارَقَتِها، وتَيَقُّنِ لِقاءِ الآخِرَةِ وبَقائِها ودَوامِها، ثُمَّ يُقايِسُ بَيْنَ الأمْرَيْنِ ويُؤْثِرُ أوْلاهُما بِالإيثارِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب