الباحث القرآني

* (فائدة) سَمّاهم عِبادَهُ مَعَ ضَلالِهِمْ، لَكِنْ تَسْمِيَةً مُقَيَّدَةً بِالإشارَةِ، وأمّا المُطْلَقَةُ فَلَمْ تَجِئْ إلّا لِأهْلِ النَّوْعِ الثّانِي. وَأمّا النَّوْعُ الثّانِي: فَعُبُودِيَّةُ الطّاعَةِ والمَحَبَّةِ، واتِّباعِ الأوامِرِ، قالَ تَعالى ﴿ياعِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليَوْمَ ولا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ﴾ [الزخرف: ٦٨] وقالَ ﴿فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ﴾ [الزمر: ١٧] وقالَ ﴿وَعِبادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلى الأرْضِ هَوْنًا وإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا﴾ فالخَلْقُ كُلُّهم عَبِيدُ رُبُوبِيَّتِهِ، وأهْلُ طاعَتِهِ ووِلايَتِهِ هم عَبِيدُ إلَهِيَّتِهِ. وَلا يَجِيءُ في القُرْآنِ إضافَةُ العِبادِ إلَيْهِ مُطْلَقًا إلّا لِهَؤُلاءِ. وَأمّا وصْفُ عَبِيدِ رُبُوبِيَّتِهِ بِالعُبُودِيَّةِ فَلا يَأْتِي إلّا عَلى أحَدِ خَمْسَةِ أوْجُهٍ: إمّا مُنْكِرًا، كَقَوْلِهِ ﴿إنْ كُلُّ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ إلّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم: ٩٣] والثّانِي مُعَرَّفًا بِاللّامِ، كَقَوْلِهِ ﴿وَما اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبادِ﴾ [غافر: ٣١]، ﴿إنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العِبادِ﴾ [غافر: ٤٨]. الثّالِثُ: مُقَيَّدًا بِالإشارَةِ أوْ نَحْوِها، كَقَوْلِهِ ﴿أأنْتُمْ أضْلَلْتُمْ عِبادِي هَؤُلاءِ﴾ [الفرقان: ١٧]. الرّابِعُ: أنْ يُذْكَرُوا في عُمُومِ عِبادِهِ، فَيَنْدَرِجُوا مَعَ أهْلِ طاعَتِهِ في الذِّكْرِ، كَقَوْلِهِ ﴿أنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ في ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [الزمر: ٤٦]. الخامِسُ: أنْ يُذْكَرُوا مَوْصُوفِينَ بِفِعْلِهِمْ، كَقَوْلِهِ ﴿قُلْ ياعِبادِيَ الَّذِينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ [الزمر: ٥٣]. وَقَدْ يُقالُ: إنَّما سَمّاهم عِبادَهُ إذْ لَمْ يَقْنَطُوا مِن رَحْمَتِهِ، وأنابُوا إلَيْهِ، واتَّبَعُوا أحْسَنَ ما أُنْزِلَ إلَيْهِمْ مِن رَبِّهِمْ، فَيَكُونُوا مِن عَبِيدِ الإلَهِيَّةِ والطّاعَةِ. * (فصل) قوله سبحانه ﴿وَيوْمَ يَحْشُرُهم وما يَعْبُدُونَ مِن دونِ اللهِ﴾ [الفرقان: ١٧]. عام في كل عابد ومن عبده من دون الله. وأما قوله ﴿فَيَقُولُ أأنْتُمْ أضْلَلْتمْ عِبادِي هؤُلاءِ، أمْ هم ضَلُّوا السَّبِيلَ﴾ [الفرقان: ١٧]. فقال مجاهد، فيما رواه ورقاء عن ابن أبي نجيح - عنه قال: "هذا خطاب لعيسى وعزير، والملائكة" وروى عنه ابن جريج نحوه. وأما عكرمة والضحاك والكلبى، فقالوا: هو عام في الأوثان وعبدتها. ثم يأذن سبحانه لها في الكلام، فيقول: ﴿أأنْتُمْ أضْلَلْتُمْ عِبادي هؤُلاءِ﴾ [الفرقان: ١٧]. قال مقاتل: يقول سبحانه: "أأنتم أمرتموهم بعبادتكم، أم هم ضلوا السبيل؟ أي أم هم أخطأوا الطريق؟ فأجاب المعبودون بما حكى الله عنهم من قولهم: ﴿سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِى لَنا أنْ نَتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِن أوْلِياءَ﴾ [الفرقان: ١٨]. وهذا الجواب إنما يحسن من الملائكة والمسيح وعزير، ومن عبدهم المشركون من أولياء الله. ولهذا قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره: قالت الملائكة وعيسى الذين كان هؤلاء المشركون يعبدونهم من دون الله [تنزيها لك يا ربنا وتبرئة مما أضاف إليك هؤلاء المشركون]. ﴿ما كانَ يَنْبَغِى لَنا أن نتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِن أوْلِياءَ﴾ [الفرقان: ١٨]. نواليهم، بل أنت ولينا من دونهم. وقال ابن عباس ومقاتل "نزهوا الله وعظموه أن يكون معه إله". وفيها قراءتان: أشهرهما - نتخذ - بفتح النون وكسر الخاء، على البناء للفاعل وهي قراءة السبعة. والثانية - نتخذ - بضم النون وفتح الخاء، على البناء للمفعول. وهي قراءة الحسن ويزيد بن القعقاع. وعلى كل واحدة من القراءتين إشكال. فأما قراءة الجمهور، فإن الله سبحانه إنما سألهم: هل أضلوا المشركين بأمرهم إياهم بعبادتهم، أم هم ضلوا السبيل باختيارهم وأهوائهم؟ وكيف يكون هذا الجواب مطابقا للسؤال؟ فإنه لم يسألهم: هل اتخذتم من دونى من أولياء؟ حتى يقولوا: ﴿ما كانَ يَنْبَغِى لَنا أنْ نَتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِن أوْلِياءَ﴾ [الفرقان: ١٨]. وإنما سألهم هل أمرتم عبادى هؤلاء بالشرك، أم هم أشركوا من قبل أنفسهم؟ فالجواب المطابق أن يقولوا: لم نأمرهم بالشرك، وإنما هم آثروه وارتضوه أو لم نأمرهم بعبادتنا، كما قال في الآية الأخرى عنهم: ﴿تَبَرَّأْنا إلَيْكَ ما كانُوا إيّانا يَعْبُدُونَ﴾ [القصص: ١٣]. فلما رأى أصحاب القراءة الأخرى ذلك فروا إلى بناء الفعل للمفعول. وقالوا: الجواب يصح على ذلك، ويطابق. إذ المعنى: ليس يصلح لنا أن نعبد ونتخذ آلهة، فكيف نأمرهم بما لا يصلح لنا، ولا يحسن منا؟ ولكن لزم هؤلاء من الإشكال أمر آخر، وهو قوله: ﴿مِن أوْلِياءَ﴾ [الفرقان: ١٨]. فإن زيادة (مِن) لا يحسن إلا مع قصد العموم، كما تقول: ما قام من رجل. وما ضربت من رجل. فأما إذا كان النفي واردا على شيء مخصوص فإنه لا يحسن زيادة (مِن) فيه، وهم إنما نفوا عن أنفسهم ما نسب إليهم من دعوى المشركين: أنهم أمروهم بالشرك. فنفوا عن أنفسهم ذلك بأنه لا تحسن منهم، ولا يليق بهم أن يعبدوا، فكيف ندعو عبادك إلى أن يعبدونا؟ فكان الواجب على هذا: أن تقرأ: ﴿ما كانَ يَنْبَغِى لَنا أنْ نَتَّخِذَ أوْلِياءَ مِن دُونِكَ أو مِن دُونِكَ أوْلِياءَ﴾. فأجاب أصحاب القراءة الأولى بوجوه: أحدها: أن المعنى: ما كان ينبغي لنا أن نعبد غيرك، ونتخذ غيرك وليا ومعبودا فكيف ندعو أحدا إلى عبادتنا؟ أي إذا كنا نحن لا نعبد غيرك، فكيف ندعو أحدا إلى أن عبادتنا؟ أي إذا كنا نحن لا نعبد غيرك، فكيف ندعو أحدا إلى أن يعبدنا؟ والمعنى: أنهم إذا كانوا لا يرون لأنفسهم عبادة الله تعالى، فكيف يدعون غيرهم إلى عبادتهم؟ وهذا جواب الفراء. وقال الجرجانى: هذا بالتدريج يصير جوابا للسؤال الظاهر، وهو أن من عبد شيئا فقد تولاه، وإذا تولاه العابد صار المعبود وليا للعابد، يدل على هذا قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهم جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلمَلاَئِكَةِ أهؤُلاءِ إيّاكَمْ كانُوا يَعْبُدُونَ؟ * قالُوا سُبْحانَكَ أنْتَ ولِيُّنا مِن دُونِهمْ﴾ [سبأ: ٤٠-٤١]. فدل على أن العابد يصير وليا للمعبود. ويصير المعنى كأنهم قالوا: ما كان ينبغي لنا أن نأمر غيرنا باتخاذنا أولياء، وأن نتخذ من دونك وليا يعبدنا. وهذا بسط لقول ابن عباس في هذه الآية. قال: يقولون: ما توليناهم، ولا أحببنا عبادتهم. قال: ويحتمل أن يكون قولهم: ﴿ما كانَ يَنْبَغِى لَنا أنْ نَتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِن أوْلِياءَ﴾ [الفرقان: ١٨]. أن يريدوا معشر العبيد، لا أنفسهم: أي نحن وهم عبيدك، ولا ينبغي لعبيدك أن يتخذوا من دونك أولياء ولكنهم أضافوا ذلك إلى أنفسهم تواضعا منهم. كما يقول الرجل لمن أتى منكرا: ما كان ينبغي لي أن أفعل مثل هذا: أي أنت مثلى عبد محاسب، فإذا لم يحسن من مثلى أن يفعل هذا لم يحسن منك أيضًا. قال: ولهذا الإشكال قرأ من قرأ نُتَخذَ بضم النون. وهذه القراءة أقرب في التأويل. لكن قال الزّجّاج: هذه القراءة خطأ، لأنك تقول: ما اتخذت من أحد وليًا، ولا يجوز ما اتخذت أحدا من ولي لأن "من" إنما دخلت لأنها تنفي واحدا من معنى جميع، تقول: ما من أحد قائما، وما من رجل محبا لما يضره، ولا يجوز: ما رجل من محب لما يضره. قال: ولا وجه عندنا لهذا ألبتة، ولو جاز هذا لجاز في: ﴿فَما مِنكم مِن أحَدٍ عَنْهُ حاجِزَينَ﴾ [الحاقة: ٤٧]. ما أحد عنه من حاجزين. فلو لم تدخل "من" لصحت هذه القراءة. قال صاحب النظم: الِعلة في سقوط هذه القراءة: أن "مِن" لا تدخل إلا على مفعول لا مفعول دونه: فإذا كان قبل المفعول مفعول سواه لم يحسن دخول "من" كقوله: ﴿ما كانَ لله أنْ يَتَّخِذَ مِن ولَدٍ﴾ [مريم: ٣٥]. فقوله "من ولد" لا مفعول دونه سواه، ولو قال: ما كان لله أن يتخذ أحدا من ولد، لم يحسن فيه دخول "من" لأن فعل الاتخاذ مشغول بأحد. وصحح آخرون هذه القراءة لفظا ومعنى، وأجروها على قواعد العربية. قالوا وقد قرأ بها من لا يرتاب في فصاحته. فقرأ بها زيد بن ثابت، وأبو الدرداء وأبو جعفر، ومجاهد، ونصر بن علقمة، ومكحول، وزيد بن على، وأبو رجاء، والحسن، وحفص بن حُميد، ومحمد بن على، على خلاف عن بعض هؤلاء ذكر ذلك أبو الفتح ابن جنى. ثم وجهها بأن يكون "من أولياء" في موضع الحال: أي ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أولياء. ودخلت "من" زائدة لمكان النفي. كقولك اتخذت زيدا وكيلا، فإذا نفيت قلت: ما اتخذت زيدا من وكيل. وكذلك أعطيته درهما وما أعطيته من درهم. وهذا في المفعول فيه. قلت: يعني أن زيادتها مع الحال، كزيادتها مع المفعول. ونظير ذلك أن تقول: ما ينبغي لي أن أخدمك متثاقلا، فإذا أكدت، قلت: من متثاقل. فإن قيل: فقد صحت القراءتان لفظا ومعنى، فأيهما أحسن؟ قلت: قراءة الجمهور أحسن وأبلغ في المعنى المقصود والبراءة مما لا يليق بهم، فإنهم على قراءة الضم: يكونون قد نفوا حسن اتخاذ المشركين لهم أولياء، وعلى قراءة الجمهور: يكونون قد أخبروا أنهم لا يليق بهم، ولا يحسن منهم أن يتخذوا وليا من دونه، بل أنت وحدك ولينا ومعبودنا، فإذا لم يحسن بنا أن نشرك بك شيئا، فكيف يليق بنا أن ندعو عبادك إلى أن يعبدونا من دونك؟ وهذا المعنى أجل من الأول وأكبر، فتأمله. والمقصود: أنه على القراءتين: فهذا الجواب من الملائكة ومن عبد من دون الله من أوليائه. وأما كونه من الأصنام فليس بظاهر. وقد يقال: إن الله سبحانه أنطقها بذلك، تكذيبا لهم، وردا عليهم، وبراءة منهم كقوله: ﴿إذْ تَبَرّاَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا﴾ [البقرة: ١٦٦]. وفي الآية الأخرى ﴿تَبَرَّأْنا إلَيْكَ ما كانُوا إيّانا يَعُبُدُونَ﴾ [القصص: ٦٣]. ثم ذكر المعبودون سبب ترك العابدين الإيمان بالله تعالى: بقولهم: ﴿وَلكِنْ مَتَّعْتَهم وآباءهم حَتّى نَسُوا الذِّكُرَ وكانْوا قَوْمًا بُورًا﴾ [الفرقان: ١٨]. قال ابن عباس: أطلت لهم العمر، وأفضلت عليهم ووسعت لهم في الرزق. وقال الفراء: ولكنك متعتهم بالأموال والأولاد، حتى نسوا ذكرك، وكانوا قوما بورا: أي هلكى فاسدين، قد غلب عليهم الشقاء والخذلان. والبوار: الهلاك والفساد، يقال: بارت السلعة، وبارت المرأة، إذا كسدت ولم يحصل لها من يتزوجها. قال قتادة: والله ما نسي قوم ذكر الله عز وجل إلا باروا وفسدوا. والمعنى: ما أضللناهم ولكنهم ضلوا. قال الله تعالى ﴿فَقَدْ كَذَّبُوكم بَما تَقُولْونَ﴾ [الفرقان: ١٩]. أي كذبكم المعبودون بقولكم فيهم: إنهم آلهة، وإنهم شركاء، أو بما تقولون إنهم أمروكم بعبادتهم، ودعوكم إليها. وقيل: الخطاب للمؤمنين في الدنيا: أي فقد كذبكم أيها المؤمنون هؤلاء المشركون بما تقولونه، مما جاء به محمد صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن الله من التوحيد والإيمان والأول أظهر، وعليه يدل السياق. ومن قرأها - آخر الحروف - فالمعنى، فقد كذبوكم بقولهم، ثم قال: ﴿فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا ولا نَصْرًا﴾ [الفرقان: ١٩]. إخبارا عن حالهم يومئذ، وأنهم لا يستطيعون صرف العذاب عن أنفسهم، ولا نصرها من الله. قال ابن زيد: ينادي مناد يوم القيامة، حين يجمع الخلائق: يقول: من عبد من دون الله، لا ينصر اليوم من عبده، والعابد لا ينصر إلهه: ﴿بَلْ هُمُ اليَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ﴾ [الصافات: ٢٦]. فهذا حال عباد الشيطان يوم لقاء الرحمن، فوا سوء حالهم حين امتيازهم عن المؤمنين إذا سمعوا النداء. ﴿وامْتازُوا اليَوْمَ أيُّها المُجْرِمُونَ ألَمْ أعْهَدْ إٍلَيْكم يا بَنِي آدَمَ أنْ لاَ تَعْبُدُوا الشّيْطانَ إنّهُ لَكم عَدُو مُبِينٌ وأنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ولَقَدْ أضَلَّ مِنكم جبِلا كَثِيرًا أفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾ [يس: ٥٩-٦٢].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب