الباحث القرآني
[أقْسامُ النّاسِ بِالنِّسْبَةِ لِما بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ ﷺ]
فَإنَّ النّاسَ قِسْمانِ: أهْلُ الهُدى والبَصائِرِ، الَّذِينَ عَرَفُوا أنَّ الحَقَّ فِيما جاءَ بِهِ الرَّسُولُ ﷺ عَنِ اللَّهِ، وأنَّ كُلَّ ما عارَضَهُ فَشُبُهاتٌ يُشْتَبَهُ عَلى مَن قَلَّ نَصِيبُهُ مِنَ العَقْلِ والسَّمْعِ أمْرُها فَيَظُنُّها شَيْئًا لَهُ حاصِلٌ يَنْتَفِعُ بِهِ وهِيَ: ﴿كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتّى إذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا ووَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ واللَّهُ سَرِيعُ الحِسابِ - أوْ كَظُلُماتٍ في بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إذا أخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها ومَن لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَما لَهُ مِن نُورٍ﴾ [النور: ٣٩-٤٠].
وَهَؤُلاءِ هم أهْلُ الهُدى ودِينِ الحَقِّ أصْحابُ العِلْمِ النّافِعِ والعَمَلِ الصّالِحِ الَّذِينَ صَدَّقُوا الرَّسُولَ ﷺ في أخْبارِهِ ولَمْ يُعارِضُوها بِالشُّبُهاتِ، وأطاعُوهُ في أوامِرِهِ ولَمْ يُضَيِّعُوها بِالشَّهَواتِ، فَلا هم في عَمَلِهِمْ مِن أهْلِ الخَوْضِ الخَرّاصِينَ الَّذِينَ هم في غَمْرَةٍ ساهُونَ، ولا هم في عَمَلِهِمْ مِنَ المُسْتَمْتِعِينَ بِخَلاقِهِمُ الَّذِينَ حَبِطَتْ أعْمالُهم في الدُّنْيا والآخِرَةِ وأُولَئِكَ هُمُ الخاسِرُونَ.
أضاءَ لَهم نُورُ الوَحْيِ المُبِينِ فَرَأوْا في نُورِهِ أهْلَ الظُّلُماتِ في ظُلُماتِ آرائِهِمْ يَعْمَهُونَ، وفي ضَلالَتِهِمْ يَتَهَوَّكُونَ، وفي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ، مُغْتَرِّينَ بِظاهِرِ السَّرابِ، مُمْحِلِينَ مُجْدِبِينَ مِمّا بَعَثَ اللَّهُ تَعالى بِهِ رَسُولَهُ ﷺ مِنَ الحِكْمَةِ وفَصْلِ الخِطابِ، إنْ عِنْدَهم إلّا نُخالَةُ الأفْكارِ وزُبالَةُ الأذْهانِ الَّتِي قَدْ رَضُوا بِها واطْمَأنُّوا إلَيْها وقَدَّمُوها عَلى السُّنَّةِ والقُرْآنِ، إنْ في صُدُورِهِمْ إلّا كِبْرٌ ما هم بِبالِغِيهِ أوْجَبَهُ لَهُمُ اتِّباعُ الهَوى ونَخْوَةُ الشَّيْطانِ وهم لِأجْلِهِ يُجادِلُونَ في آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ.
* [فَصْلٌ القِسْمُ الثّانِي أهْلُ الجَهْلِ والظُّلْمِ]
القِسْمُ الثّانِي: أهْلُ الجَهْلِ والظُّلْمِ الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الجَهْلِ بِما جاءَ بِهِ، والظُّلْمِ بِاتِّباعِ أهْوائِهِمُ، الَّذِينَ قالَ اللَّهُ تَعالى فِيهِمْ: ﴿إنْ يَتَّبِعُونَ إلّا الظَّنَّ وما تَهْوى الأنْفُسُ ولَقَدْ جاءَهم مِن رَبِّهِمُ الهُدى﴾ [النجم: ٢٣].
وَهَؤُلاءِ قِسْمانِ:
أحَدُهُما: الَّذِينَ يَحْسَبُونَ أنَّهم عَلى عِلْمٍ وهُدًى وهم أهْلُ جَهْلٍ وضَلالٍ، فَهَؤُلاءِ أهْلُ الجَهْلِ المُرَكَّبِ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ الحَقَّ ويُعادُونَهُ ويُعادُونَ أهْلَهُ، ويَنْصُرُونَ الباطِلَ ويُوالُونَهُ ويُوالُونَ أهْلَهُ وهم يَحْسَبُونَ أنَّهم عَلى شَيْءٍ ألا إنَّهم هُمُ الكاذِبُونَ، فَهم لِاعْتِقادِهِمُ الشَّيْءَ عَلى خِلافِ ما هو عَلَيْهِ بِمَنزِلَةِ رائِي السَّرابِ الَّذِي يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتّى إذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا، فَهَكَذا هَؤُلاءِ أعْمالُهم وعُلُومُهم بِمَنزِلَةِ السَّرابِ الَّذِي يَخُونُ صاحِبَهُ أحْوَجَ ما هو إلَيْهِ، ولَمْ يَقْتَصِرْ عَلى مُجَرَّدِ الخَيْبَةِ والحِرْمانِ كَما هو حالُ مَن أمَّ السَّرابَ فَلَمْ يَجِدْهُ ماءً بَلِ انْضافَ إلى ذَلِكَ أنَّهُ وجَدَ عِنْدَهُ أحْكَمَ الحاكِمِينَ وأعْدَلَ العادِلِينَ سُبْحانَهُ وتَعالى فَحَسَبَ لَهُ ما عِنْدَهُ
مِنَ العِلْمِ والعَمَلِ، ووَفّاهُ إيّاهُ بِمَثاقِيلِ الذَّرِّ، وقَدِمَ إلى ما عَمِلَ مِن عَمَلٍ يَرْجُو نَفْعَهُ فَجَعَلَهُ هَباءً مَنثُورًا: إذْ لَمْ يَكُنْ خالِصًا لِوَجْهِهِ، ولا عَلى سُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ وصارَتْ تِلْكَ الشُّبُهاتُ الباطِلَةُ الَّتِي كانَ يَظُنُّها عُلُومًا نافِعَةً كَذَلِكَ هَباءً مَنثُورًا، فَصارَتْ أعْمالُهُ وعُلُومُهُ حَسَراتٍ عَلَيْهِ.
والسَّرابُ ما يُرى في الفَلَواتِ المُنْبَسِطَةِ مِن ضَوْءِ الشَّمْسِ وقْتَ الظَّهِيرَةِ يُسَرِّبُ عَلى وجْهِ الأرْضِ كَأنَّهُ ماءٌ يَجْرِي. والقِيعَةُ والقاعُ هُوَ: المُنْبَسِطُ مِنَ الأرْضِ الَّذِي لا جَبَلَ فِيهِ ولا وادٍ فَشَبَّهَ عُلُومَ مَن لَمْ يَأْخُذْ عُلُومَهُ مِنَ الوَحْيِ وأعْمالَهُ، بِسَرابٍ يَراهُ المُسافِرُ في شِدَّةِ الحَرِّ فَيَؤُمُّهُ فَيَخِيبُ ظَنُّهُ ويَجِدُهُ نارًا تَلَظّى، فَهَكَذا عُلُومُ أهْلِ الباطِلِ وأعْمالُهم إذا حُشِرَ النّاسُ واشْتَدَّ بِهِمُ العَطَشُ بَدَتْ لَهم كالسَّرابِ فَيَحْسَبُونَهُ ماءً فَإذا أتَوْهُ وجَدُوا اللَّهَ عِنْدَهُ فَأخَذَتْهم زَبانِيَةُ العَذابِ فَعَتَلُوهم إلى نارِ الجَحِيمِ فَسُقُوا ماءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أمْعاءَهُمْ، وذَلِكَ الماءُ الَّذِي سُقُوهُ هو تِلْكَ العُلُومُ الَّتِي لا تَنْفَعُ. والأعْمالُ الَّتِي كانَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعالى صَيَّرَها اللَّهُ تَعالى حَمِيمًا سَقاهم إيّاهُ كَما أنَّ طَعامَهم مِن ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ ولا يُغْنِي مِن جُوعٍ، وهو تِلْكَ العُلُومُ والأعْمالُ الباطِلَةُ الَّتِي كانَتْ في الدُّنْيا، كَذَلِكَ لا يُسْمِنُ ولا يُغْنِي مِن جُوعٍ، وهَؤُلاءِ هُمُ الَّذِينَ قالَ اللَّهُ تَعالى فِيهِمْ: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكم بِالأخْسَرِينَ أعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهم في الحَياةِ الدُّنْيا وهم يَحْسَبُونَ أنَّهم يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: ١٠٣] وهُمُ الَّذِينَ عَنى بِقَوْلِهِ: ﴿وَقَدِمْنا إلى ما عَمِلُوا مِن عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنثُورًا﴾ [الفرقان: ٢٣] وهُمُ الَّذِينَ عَنى بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أعْمالَهم حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وما هم بِخارِجِينَ مِنَ النّارِ﴾ [البقرة: ١٦٧].
[أصْحابُ الظُّلُماتِ]
والقِسْمُ الثّانِي مِن هَذا الصِّنْفِ: أصْحابُ الظُّلُماتِ وهُمُ المُنْغَمِسُونَ في الجَهْلِ بِحَيْثُ قَدْ أحاطَ بِهِمْ مِن كُلِّ وجْهٍ فَهم بِمَنزِلَةِ الأنْعامِ بَلْ هم أضَلُّ سَبِيلًا، فَهَؤُلاءِ أعْمالُهُمُ - الَّتِي عَمِلُوها عَلى غَيْرِ بَصِيرَةٍ بَلْ بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ واتِّباعِ الآباءِ مِن غَيْرِ نُورٍ " مِنَ " اللَّهِ تَعالى - كَظُلُماتٍ - جَمْعُ ظُلْمَةٍ - وهي ظُلْمَةُ الجَهْلِ، وظُلْمَةُ الكُفْرِ، وظُلْمَةُ الظُّلْمِ واتِّباعِ الهَوى، وظُلْمَةُ الشَّكِّ والرَّيْبِ، وظُلْمَةُ الإعْراضِ عَنِ الحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ تَعالى بِهِ رُسُلَهُ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِمْ، والنُّورُ الَّذِي أنْزَلَهُ مَعَهم لِيُخْرِجَ بِهِ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ، فَإنَّ المُعْرِضَ عَمّا بَعَثَ اللَّهُ تَعالى بِهِ مُحَمَّدًا ﷺ مِنَ الهُدى ودِينِ الحَقِّ يَتَقَلَّبُ في خَمْسِ ظُلُماتٍ، قَوْلُهُ ظُلْمَةٌ، وعَمَلُهُ ظُلْمَةٌ، ومُدْخَلُهُ ظُلْمَةٌ، ومُخْرَجُهُ ظُلْمَةٌ، ومَصِيرُهُ إلى الظُّلْمَةِ، فَقَلْبُهُ مُظْلِمٌ، ووَجْهُهُ مُظْلِمٌ، وكَلامُهُ مُظْلِمٌ، وحالُهُ مُظْلِمَةٌ، وإذا قابَلَتْ بَصِيرَتُهُ الخُفّاشِيَّةُ ما بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا ﷺ مِن النُّورِ جَدَّ في الهَرَبِ مِنهُ وكادَ نُورُهُ يَخْطِفُ بَصَرَهُ فَهَرَبَ إلى ظُلُماتِ الآراءِ الَّتِي هي بِهِ أنْسَبُ وأوْلى كَما قِيلَ.
خَفافِيشُ أعَشاها النَّهارُ بِضَوْئِهِ ووافَقَها قِطَعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمُ فَإذا جاءَ إلى زُبالَةِ الأفْكارِ ونُحاتَةِ الأذْهانِ، جالَ وصالَ، وأبْدى وأعادَ، وقَعْقَعَ وفَرْقَعَ. فَإذا طَلَعَ نُورُ الوَحْيِ وشَمْسُ الرِّسالَةِ، انْحَجَرَ في أحْجِرَةِ الحَشَراتِ.
* [فصل: في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: (فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ. . .) الآيَةَ]
وَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ﴾ [النور: ٤٠]، اللُّجِّيُّ: العَمِيقُ مَنسُوبٌ إلى لُجَّةِ البَحْرِ وهي مُعْظَمُهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يَغْشاهُ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِن فَوْقِهِ سَحابٌ﴾ [النور: ٤٠] تَصْوِيرٌ لِحالِ هَذا المُعْرِضِ عَنْ وحْيِهِ فَشَبَّهَ تَلاطُمَ أمْواجِ الشُّبَهِ والباطِلِ في صَدْرِهِ بِتَلاطُمِ أمْواجِ ذَلِكَ البَحْرِ وأنَّها أمْواجٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ، والضَّمِيرُ الأوَّلُ في قَوْلِهِ: (يَغْشاهُ) راجِعٌ إلى البَحْرِ، والضَّمِيرُ الثّانِي: في قَوْلِهِ: (مِن فَوْقِهِ) عائِدٌ إلى المَوْجِ، ثُمَّ إنْ تِلْكَ الأمْواجَ مُغْشاةٌ بِسَحابٍ، فَهاهُنا ظُلُماتٌ: ظُلْمَةُ البَحْرِ اللُّجِّيِّ، وظُلْمَةُ المَوْجِ الَّذِي فَوْقَهُ، وظُلْمَةُ السَّحابِ: الَّذِي فَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ إذا أخْرَجَ - مَن في هَذا البَحْرِ - يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها.
[مَطْلَبٌ في بَحْثِ كادَ]
واخْتُلِفَ في مَعْنى ذَلِكَ فَقالَ كَثِيرٌ مِنَ النُّحاةِ: هو نَفْيٌ لِمُقارَبَةِ رُؤْيَتِها وهو أبْلَغُ مِن نَفْيِ الرُّؤْيَةِ، فَإنَّهُ قَدْ يُنْفى وُقُوعُ الشَّيْءِ ولا تُنْفى مُقارَبَتُهُ، فَكَأنَّهُ قالَ: لَمْ يُقارِبْ رُؤْيَتَها بِوَجْهٍ.
قالَ هَؤُلاءِ: وكادَ مِن أفْعالِ المُقارَبَةِ لَها حُكْمُ سائِرِ الأفْعالِ في النَّفْيِ والإثْباتِ، فَإذا قِيلَ: كادَ يَفْعَلُ، فَهو إثْباتٌ لِمُقارَبَةِ الفِعْلِ، فَإذا قِيلَ: لَمْ يَكَدْ يَفْعَلُ فَهو نَفْيٌ لِمُقارَبَةِ الفِعْلِ.
وَقالَتْ طائِفَةٌ أُخْرى، بَلْ هَذا دالٌّ عَلى أنَّهُ إنَّما يَراها بَعْدَ جُهْدٍ شَدِيدٍ وفي ذَلِكَ إثْباتُ رُؤْيَتِها بَعْدَ أعْظَمِ العُسْرِ؛ لِأجْلِ تِلْكَ الظُّلُماتِ، قالُوا: لِأنَّ كادَ لَها شَأْنٌ لَيْسَ لِغَيْرِها مِنَ الأفْعالِ فَإنَّها إذا
أثْبَتَتْ نَفَتْ وإذا نَفَتْ أثْبَتَتْ. فَإذا قُلْتَ: ما كِدْتُ أصِلُ إلَيْكَ فَمَعْناهُ: وصَلْتُ إلَيْكَ بَعْدَ الجُهْدِ والشِّدَّةِ فَهَذا إثْباتٌ لِلْوُصُولِ، وإذا قُلْتَ: كادَ زَيْدٌ يَقُومُ فَهي نَفْيٌ لِقِيامِهِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وَأنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ [الجن: ١٩] ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأبْصارِهِمْ. .﴾ [القلم: ٥١] الآيَةَ وأنْشَدَ بَعْضُهم في ذَلِكَ مُلْغِزًا:
؎أنَحْوِيَّ هَذا العَصْرِ ما هي لَفْظَةٌ ∗∗∗ جَرَتْ في لِسانَيْ جُرْهُمٍ وثَمُودِ
؎إذا اسْتُعْمِلَتْ في صُورَةِ النَّفْيِ أُثْبِتَتْ ∗∗∗ وإنْ أُثْبِتَتْ قامَتْ مَقامَ جُحُودِ
وَقالَتْ فِرْقَةٌ ثالِثَةٌ: مِنهم أبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مالِكٍ وغَيْرُهُ: إنَّ اسْتِعْمالَها مُثْبَتَةٌ يَقْتَضِي نَفْيَ خَبَرِها كَقَوْلِكَ: كادَ زَيْدٌ يَقُومُ، واسْتِعْمالُها مَنفِيَّةٌ يَقْتَضِي نَفْيَهُ بِطَرِيقِ الأوْلى فَهي عِنْدُهُ تَنْفِي الخَبَرَ سَواءٌ كانَتْ مَنفِيَّةً أوْ مُثْبَتَةً (فَلَمْ يَكَدْ زَيْدٌ يَقُومُ) أبْلَغُ عِنْدَهُ في النَّفْيِ مِن (لَمْ يَقُمْ)، واحْتَجَّ بِأنَّها إذا نُفِيَتْ وهي مِن أفْعالِ المُقارَبَةِ فَقَدْ نَفَتْ مُقارَبَةَ الفِعْلِ وهو أبْلَغُ مِن نَفْيِهِ، وإذا اسْتُعْمِلَتْ مُثْبِتَةً فَهي تَقْتَضِي مُقارَبَةَ اسْمِها لِخَبَرِها وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى عَدَمِ وُقُوعِهِ واعْتَذَرَ عَنْ مَثْلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَذَبَحُوها وما كادُوا يَفْعَلُونَ. .﴾ [البقرة: ٧١] الآيَةَ.
وَعَنْ مِثْلِ قَوْلِهِ: وصَلْتُ إلَيْكَ وما كِدْتُ أصِلُ. وسَلِمْتُ وما كِدْتُ أسْلَمُ. بِأنَّ هَذا وارِدٌ عَلى كَلامَيْنِ مُتَبايِنَيْنِ أيْ: فَعَلْتُ كَذا بَعْدَ أنْ لَمْ أكُنْ مُقارِبًا لَهُ فالأوَّلُ: يَقْتَضِي وُجُودَ الفِعْلِ، والثّانِي يَقْتَضِي أنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُقارِبًا لَهُ بَلْ كانَ آيِسًا مِنهُ فَهُما كَلامانِ مَقْصُودٌ بِهِما أمْرانِ مُتَغايِرانِ، وذَهَبَتْ فَرِقَّةٌ رابِعَةٌ: إلى الفَرْقِ بَيْنَ ماضِيها ومُسْتَقْبَلِها، فَإذا كانَتْ في الإثْباتِ فَهي لِمُقارَبَةِ الفِعْلِ سَواءٌ كانَتْ بِصِيغَةِ الماضِي أوِ المُسْتَقْبَلِ وإنْ كانَتْ في طَرَفِ النَّفْيِ، فَإنْ كانَتْ بِصِيغَةِ المُسْتَقْبَلِ كانَتْ لِنَفْيِ الفِعْلِ ومُقارَبَتِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَمْ يَكَدْ يَراها﴾، وإنْ كانَتْ بِصِيغَةِ الماضِي فَهي تَقْتَضِي الإثْباتَ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَذَبَحُوها وما كادُوا يَفْعَلُونَ﴾.
فَهَذِهِ أرْبَعَةُ طُرُقٍ لِلنُّحاةِ في هَذِهِ اللَّفْظَةِ، والصَّحِيحُ أنَّها فِعْلٌ يَقْتَضِي المُقارَبَةَ ولَها حُكْمُ سائِرِ الأفْعالِ، ونَفْيُ الخَبَرِ لَمْ يُسْتَفَدْ مِن لَفْظِها ووَضْعِها فَإنَّها لَمْ تُوضَعْ لِنَفْيِهِ، وإنَّما اسْتُفِيدَ مِن لَوازِمِ مَعْناها، فَإنَّها إذا اقْتَضَتْ مُقارَبَةَ الفِعْلِ لَمْ يَكُنْ واقِعًا فَيَكُونُ مَنفِيًّا بِاللُّزُومِ، وأمّا إذا اسْتُعْمِلَتْ مَنفِيَّةً فَإنْ كانَتْ في كَلامٍ واحِدٍ فَهي لِنَفْيِ المُقارَبَةِ كَما إذا قُلْتَ: لا يَكادُ البَطّالُ يُفْلِحُ ولا يَكادُ البَخِيلُ يَسُودُ ولا يَكادُ الجَبانُ يَفْرَحُ ونَحْوَ ذَلِكَ، وإنْ كانَتْ في كَلامَيْنِ اقْتَضَتْ وُقُوعَ الفِعْلِ بَعْدَ أنْ لَمْ يَكُنْ مُقارِبًا كَما قالَ ابْنُ مالِكٍ، فَهَذا التَّحْقِيقُ في أمْرِها والمَقْصُودُ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى ﴿لَمْ يَكَدْ يَراها﴾ إمّا أنْ يَدُلَّ عَلى أنَّهُ لا يُقارِبُ رُؤْيَتَها لِشِدَّةِ الظُّلْمَةِ وهو الأظْهَرُ، فَإذا كانَ لا يُقارِبُ رُؤْيَتَها فَكَيْفَ يَراها.
قالَ ذُو الرُّمَّةِ:
؎إذا غَيَّرَ النّائِي المُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ ∗∗∗ رَسِيسُ الهَوى مِن حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ
أيْ: لَمْ يُقارِبِ البَراحَ وهو الزَّوالُ فَكَيْفَ يَزُولُ، فَشَبَّهَ سُبْحانَهُ أعْمالَهم أوَّلًا في فَواتِ نَفْعِها وحُصُولِ ضَرَرِها عَلَيْهِمْ بِسَرابٍ خَدّاعٍ يَخْدَعُ رائِيِهِ مِن بَعِيدٍ فَإذا جاءَهُ وجَدَ عِنْدَهُ عَكْسَ ما أمَّلَهُ ورَجاهُ، وشَبَّهَها ثانِيًا في ظُلْمَتِها وسَوادِها لِكَوْنِها باطِلَةً خالِيَةً عَنْ نُورِ الإيمانِ بِظُلُماتٍ مُتَراكِمَةٍ في لُجُجِ البَحْرِ المُتَلاطِمِ الأمْواجِ الَّذِي قَدْ غَشِيَهُ السَّحابُ مِن فَوْقِهِ فَيالَهُ تَشْبِيهًا ما أبْدَعَهُ وأشَدَّهُ مُطابَقَةً بِحالِ أهْلِ البِدَعِ والضَّلالِ وحالِ مَن عَبَدَ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلى خِلافِ ما بَعَثَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وأنْزَلَ بِهِ كِتابَهُ.
وَهَذا التَّشْبِيهُ هو تَشْبِيهٌ لِأعْمالِهِمُ الباطِلَةِ بِالمُطابَقَةِ والتَّصْرِيحِ ولِعُلُومِهِمْ وعَقائِدِهِمُ الفاسِدَةِ بِاللُّزُومِ وكُلُّ واحِدٍ مِنَ السَّرابِ والظُّلُماتِ مَثَلٌ لِمَجْمُوعِ عُلُومِهِمْ وأعْمالِهِمْ فَهي سَرابٌ لا حاصِلَ لَها وظُلُماتٌ لا نُورَ فِيها.
وَهَذا عَكْسُ مُثُلِ أعْمالِ المُؤْمِنِ وعُلُومِهِ الَّتِي تَلَقّاها مِن مِشْكاةِ النُّبُوَّةِ فَإنَّها مِثْلُ الغَيْثِ الَّذِي بِهِ حَياةُ البِلادِ والعِبادِ ومِثْلُ النُّورِ الَّذِي بِهِ انْتِفاعُ أهْلِ الدُّنْيا والآخِرَةِ.
وَلِهَذا يَذْكُرُ سُبْحانَهُ وتَعالى هَذَيْنِ المَثَلَيْنِ في القُرْآنِ في غَيْرِ مَوْضِعٍ لِأوْلِيائِهِ وأعْدائِهِ كَما ذَكَرَهُما في سُورَةِ البَقَرَةِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَثَلُهم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نارًا فَلَمّا أضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وتَرَكَهم في ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهم لا يَرْجِعُونَ﴾ [البقرة: ١٧].
وقال في أعلام الموقعين:
ذَكَرَ سُبْحانَهُ لِلْكافِرِينَ مَثَلَيْنِ: مَثَلًا بِالسَّرابِ، ومَثَلًا بِالظُّلُماتِ المُتَراكِمَةِ، وذَلِكَ لِأنَّ المُعْرِضِينَ عَنْ الهُدى والحَقِّ نَوْعانِ:
أحَدُهُما: مَن يَظُنُّ أنَّهُ عَلى شَيْءٍ فَيَتَبَيَّنُ لَهُ عِنْدَ انْكِشافِ الحَقائِقِ خِلافَ ما كانَ يَظُنُّهُ، وهَذِهِ حالُ أهْلِ الجَهْلِ وأهْلِ البِدَعِ والأهْواءِ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أنَّهم عَلى هُدًى وعِلْمٍ، فَإذا انْكَشَفَتْ الحَقائِقُ تَبَيَّنَ لَهم أنَّهم لَمْ يَكُونُوا عَلى شَيْءٍ، وأنَّ عَقائِدَهم وأعْمالَهم الَّتِي تَرَتَّبَتْ عَلَيْها كانَتْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يُرى في عَيْنِ النّاظِرِ ماءً ولا حَقِيقَةَ لَهُ، وهَكَذا الأعْمالُ الَّتِي لِغَيْرِ اللَّهِ وعَلى غَيْرِ أمْرِهِ، يَحْسَبُها العامِلُ نافِعَةً لَهُ ولَيْسَتْ كَذَلِكَ، وهَذِهِ هي الأعْمالُ الَّتِي قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ فِيها: ﴿وَقَدِمْنا إلى ما عَمِلُوا مِن عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنثُورًا﴾ [الفرقان: ٢٣] وتَأمَّلْ جَعْلَ اللَّهِ سُبْحانَهُ السَّرابَ بِالقِيعَةِ - وهي الأرْضُ القَفْرُ الخالِيَةُ مِن البِناءِ والشَّجَرِ والنَّباتِ والعالَمِ - فَمَحَلُّ السَّرابِ أرْضُ قَفْرٍ لا شَيْءَ بِها، والسَّرابُ لا حَقِيقَةَ لَهُ، وذَلِكَ مُطابِقٌ لِأعْمالِهِمْ وقُلُوبِهِمْ الَّتِي أقْفَرَتْ مِن الإيمانِ والهُدى.
وَتَأمَّلْ ما تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً﴾ [النور: ٣٩] والظَّمْآنُ الَّذِي قَدْ اشْتَدَّ عَطَشُهُ فَرَأى السَّرابَ فَظَنَّهُ ماءً فَتَبِعَهُ فَلَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا، بَلْ خانَهُ أحْوَجُ ما كانَ إلَيْهِ، فَكَذَلِكَ هَؤُلاءِ، لَمّا كانَتْ أعْمالُهم عَلى غَيْرِ طاعَةِ الرَّسُولِ، ولِغَيْرِ اللَّهِ جُعِلَتْ كالسَّرابِ، فَرَفَعَتْ لَهم أظْمَأ ما كانُوا وأحْوَجَ ما كانُوا إلَيْها، فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا، ووَجَدُوا اللَّهَ سُبْحانَهُ ثَمَّ؛ فَجازاهم بِأعْمالِهِمْ ووَفّاهم حِسابَهم وفي الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ في حَدِيثِ التَّجَلِّي يَوْمَ القِيامَةِ «ثُمَّ يُؤْتى بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأنَّها السَّرابُ، فَيُقالُ لِلْيَهُودِ: ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ بْنَ اللَّهِ، فَيُقالُ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صاحِبَةٌ ولا ولَدٌ، فَما تُرِيدُونَ؟ قالُوا: نُرِيدُ أنْ تَسْقِيَنا، فَيُقالُ: اشْرَبُوا، فَيَتَساقَطُونَ في جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُقالُ لِلنَّصارى: ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ فَيَقُولُونَ: كُنّا نَعْبُدُ المَسِيحَ بْنَ اللَّهِ، فَيُقالُ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ، لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ صاحِبَةٌ ولا ولَدٌ، فَما تُرِيدُونَ: فَيَقُولُونَ: نُرِيدُ أنْ تَسْقِيَنا، فَيُقالُ لَهُمْ: اشْرَبُوا، فَيَتَساقَطُونَ» وذَكَرَ الحَدِيثَ، وهَذِهِ حالُ كُلِّ صاحِبِ باطِلٍ، فَإنَّهُ يَخُونُهُ باطِلُهُ أحْوَجَ ما كانَ إلَيْهِ، فَإنَّ الباطِلَ لا حَقِيقَةَ لَهُ، وهو كاسْمِهِ باطِلٌ؛ فَإذا كانَ الِاعْتِقادُ غَيْرَ مُطابِقٍ ولا حَقٍّ كانَ مُتَعَلَّقُهُ باطِلًا؛ وكَذَلِكَ إذا كانَتْ غايَةُ العَمَلِ باطِلَةً - كالعَمَلِ لِغَيْرِ اللَّهِ، أوْ عَلى غَيْرِ أمْرِهِ - بَطَلَ العَمَلُ بِبُطْلانِ غايَتِهِ، وتَضَرَّرَ عامِلُهُ بِبُطْلانِهِ، وبِحُصُولِ ضِدِّ ما كانَ يُؤَمِّلُهُ، فَلَمْ يَذْهَبْ عَلَيْهِ عَمَلُهُ واعْتِقادُهُ، لا لَهُ ولا عَلَيْهِ، بَلْ صارَ مُعَذَّبًا بِفَواتِ نَفْعِهِ، وبِحُصُولِ ضِدِّ النَّفْعِ؛ فَلِهَذا قالَ تَعالى: ﴿وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ واللَّهُ سَرِيعُ الحِسابِ﴾ [النور: ٣٩] فَهَذا مَثَلُ الضّالِّ الَّذِي يَحْسَبُ أنَّهُ عَلى هُدًى.
* (فَصْلٌ)
والنَّوْعُ الثّانِي: أصْحابٌ مَثَلُ الظُّلُماتِ المُتَراكِمَةِ، وهم الَّذِينَ عَرَفُوا الحَقَّ والهُدى، وآثَرُوا عَلَيْهِ ظُلُماتِ الباطِلِ والضَّلالِ، فَتَراكَمَتْ عَلَيْهِمْ ظُلْمَةُ الطَّبْعِ وظُلْمَةُ النُّفُوسِ وظُلْمَةُ الجَهْلِ حَيْثُ لَمْ يَعْمَلُوا بِعِلْمِهِمْ فَصارُوا جاهِلِينَ، وظُلْمَةُ اتِّباعِ الغَيِّ والهَوى، فَحالُهم كَحالِ مَن كانَ في بَحْرٍ لُجِّيٍّ لا ساحِلَ لَهُ وقَدْ غَشِيَهُ مَوْجٌ ومِن فَوْقِ ذَلِكَ المَوْجِ مَوْجٌ، ومِن فَوْقِهِ سَحابٌ مُظْلِمٌ، فَهو في ظُلْمَةِ البَحْرِ وظُلْمَةِ المَوْجِ وظُلْمَةِ السَّحابِ، وهَذا نَظِيرُ ما هو فِيهِ مِن الظُّلُماتِ الَّتِي لَمْ يُخْرِجْهُ اللَّهُ مِنها إلى نُورِ الإيمانِ، وهَذانِ المَثَلانِ بِالسَّرابِ الَّذِي ظَنَّهُ مادَّةَ الحَياةِ وهو الماءُ والظُّلُماتُ المُضادَّةُ لِلنُّورِ نَظِيرُ المَثَلَيْنِ اللَّذَيْنِ ضَرَبَهُما اللَّهُ لِلْمُنافِقِينَ والمُؤْمِنِينَ، وهو المَثَلُ المائِيُّ والمَثَلُ النّارِيُّ، وجَعَلَ حَظَّ المُؤْمِنِينَ مِنهُما الحَياةَ والإشْراقَ وحَظَّ المُنافِقِينَ مِنهُما الظُّلْمَةَ المُضادَّةَ لِلنُّورِ والمَوْتَ المُضادَّ لِلْحَياةِ؛ فَكَذَلِكَ الكُفّارُ في هَذَيْنِ المَثَلَيْنِ، حَظُّهم مِن الماءِ السَّرابُ الَّذِي يَغُرُّ النّاظِرَ ولا حَقِيقَةَ لَهُ، وحَظُّهم الظُّلُماتُ المُتَراكِمَةُ، وهَذا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِ حالُ كُلِّ طائِفَةٍ مِن طَوائِفِ الكُفّارِ، وأنَّهم عَدِمُوا مادَّةَ الحَياةِ والإضاءَةِ بِإعْراضِهِمْ عَنْ الوَحْيِ؛ فَيَكُونُ المَثَلانِ صِفَتَيْنِ لِمَوْصُوفٍ واحِدٍ؛ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِ تَنْوِيعُ أحْوالِ الكُفّارِ، وأنَّ أصْحابَ المَثَلِ الأوَّلِ هم الَّذِينَ عَمِلُوا عَلى غَيْرِ عِلْمٍ ولا بَصِيرَةٍ، بَلْ عَلى جَهْلٍ وحُسْنِ ظَنٍّ بِالأسْلافِ، فَكانُوا يَحْسِبُونَ أنَّهم يُحْسِنُونَ صُنْعًا، وأصْحابُ المَثَلِ الثّانِي هم الَّذِينَ اسْتَحَبُّوا الضَّلالَةَ عَلى الهُدى، وآثَرُوا الباطِلَ عَلى الحَقِّ، وعَمُوا عَنْهُ بَعْدَ أنْ أبْصَرُوهُ، وجَحَدُوهُ بَعْدَ أنْ عَرَفُوهُ، فَهَذا حالُ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، والأوَّلُ حالُ الضّالِّينَ؛ وحالُ الطّائِفَتَيْنِ مُخالِفٌ لِحالِ المُنْعَمِ عَلَيْهِمْ المَذْكُورِينَ في قَوْله تَعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ والأرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ المِصْباحُ﴾ [النور: ٣٥] إلى قَوْلِهِ: ﴿لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أحْسَنَ ما عَمِلُوا ويَزِيدَهم مِن فَضْلِهِ واللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ [النور: ٣٨] فَتَضَمَّنَتْ الآياتُ أوْصافَ الفِرَقِ الثَّلاثَةِ: المُنْعَمِ عَلَيْهِمْ وهم أهْلُ النُّورِ، والضّالِّينَ وهم أصْحابُ السَّرابِ، والمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وهم أهْلُ الظُّلُماتِ المُتَراكِمَةِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
فالمَثَلُ الأوَّلُ مِن المَثَلَيْنِ لِأصْحابِ العَمَلِ الباطِلِ الَّذِي لا يَنْفَعُ، والمَثَلُ الثّانِي لِأصْحابِ العِلْمِ الَّذِي لا يَنْفَعُ والِاعْتِقاداتِ الباطِلَةِ، وكِلاهُما مُضادٌّ لِلْهُدى ودِينِ الحَقِّ، ولِهَذا مَثَّلَ حالَ الفَرِيقِ الثّانِي في تَلاطُمِ أمْواجِ الشُّكُوكِ والشُّبُهاتِ والعُلُومِ الفاسِدَةِ في قُلُوبِهِمْ بِتَلاطُمِ أمْواجِ البَحْرِ فِيهِ، وأنَّها أمْواجٌ مُتَراكِمَةٌ مِن فَوْقِها سَحابٌ مُظْلِمٌ، وهَكَذا أمْواجُ الشُّكُوكِ والشُّبَهِ في قُلُوبِهِمْ المُظْلِمَةِ الَّتِي قَدْ تَراكَمَتْ عَلَيْها سُحُبُ الغَيِّ والهَوى والباطِلِ، فَلْيَتَدَبَّرْ اللَّبِيبُ أحْوالَ الفَرِيقَيْنِ، ولْيُطابِقْ بَيْنَهُما وبَيْنَ المَثَلَيْنِ، يَعْرِفْ عَظَمَةَ القُرْآنِ وجَلالَتَهُ، وأنَّهُ تَنْزِيلٌ مِن حَكِيمٍ حَمِيدٍ.
وَأخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّ المُوجِبَ لِذَلِكَ أنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهم نُورًا، بَلْ تَرَكَهم عَلى الظُّلْمَةِ الَّتِي خُلِقُوا فِيها فَلَمْ يُخْرِجْهم مِنها إلى النُّورِ؛ فَإنَّهُ سُبْحانَهُ ولِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهم مِن الظُّلُماتِ إلى النُّورِ وفي المُسْنَدِ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إنّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقَهُ في ظُلْمَةٍ، وألْقى عَلَيْهِمْ مِن نُورِهِ، فَمَن أصابَهُ مِن ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدى، ومَن أخْطَأهُ ضَلَّ» فَلِذَلِكَ أقُولُ: جَفَّ القَلَمُ عَلى عِلْمِ اللَّهِ، فاللَّهُ سُبْحانَهُ خَلَقَ الخَلْقَ في ظُلْمَةٍ، فَمَن أرادَ هِدايَتَهُ جَعَلَ لَهُ نُورًا وُجُودِيًّا يُحْيِي بِهِ قَلْبَهُ ورُوحَهُ كَما يُحْيِي بَدَنَهُ بِالرُّوحِ الَّتِي يَنْفُخُها فِيهِ، فَهُما حَياتانِ: حَياةُ البَدَنِ بِالرُّوحِ، وحَياةُ الرُّوحِ والقَلْبِ بِالنُّورِ، ولِهَذا سَمّى سُبْحانَهُ الوَحْيَ رُوحًا لِتَوَقُّفِ الحَياةِ الحَقِيقِيَّةِ عَلَيْهِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِن أمْرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ﴾ [النحل: ٢] وقالَ: ﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِن أمْرِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ﴾ [غافر: ١٥] وقالَ تَعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أوْحَيْنا إلَيْكَ رُوحًا مِن أمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي ما الكِتابُ ولا الإيمانُ ولَكِنْ جَعَلْناهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَن نَشاءُ مِن عِبادِنا﴾ [الشورى: ٥٢] فَجَعَلَ وحَيَّهُ رُوحًا ونُورًا، فَمَن لَمْ يُحْيِهِ بِهَذا الرُّوحِ فَهو مَيِّتٌ، ومَن لَمْ يَجْعَلْ لَهُ نُورًا مِنهُ فَهو في الظُّلُماتِ ما لَهُ مِن نُورٍ.
{"ayahs_start":39,"ayahs":["وَٱلَّذِینَ كَفَرُوۤا۟ أَعۡمَـٰلُهُمۡ كَسَرَابِۭ بِقِیعَةࣲ یَحۡسَبُهُ ٱلظَّمۡـَٔانُ مَاۤءً حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءَهُۥ لَمۡ یَجِدۡهُ شَیۡـࣰٔا وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُۥ فَوَفَّىٰهُ حِسَابَهُۥۗ وَٱللَّهُ سَرِیعُ ٱلۡحِسَابِ","أَوۡ كَظُلُمَـٰتࣲ فِی بَحۡرࣲ لُّجِّیࣲّ یَغۡشَىٰهُ مَوۡجࣱ مِّن فَوۡقِهِۦ مَوۡجࣱ مِّن فَوۡقِهِۦ سَحَابࣱۚ ظُلُمَـٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ إِذَاۤ أَخۡرَجَ یَدَهُۥ لَمۡ یَكَدۡ یَرَىٰهَاۗ وَمَن لَّمۡ یَجۡعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورࣰا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ"],"ayah":"أَوۡ كَظُلُمَـٰتࣲ فِی بَحۡرࣲ لُّجِّیࣲّ یَغۡشَىٰهُ مَوۡجࣱ مِّن فَوۡقِهِۦ مَوۡجࣱ مِّن فَوۡقِهِۦ سَحَابࣱۚ ظُلُمَـٰتُۢ بَعۡضُهَا فَوۡقَ بَعۡضٍ إِذَاۤ أَخۡرَجَ یَدَهُۥ لَمۡ یَكَدۡ یَرَىٰهَاۗ وَمَن لَّمۡ یَجۡعَلِ ٱللَّهُ لَهُۥ نُورࣰا فَمَا لَهُۥ مِن نُّورٍ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق