الباحث القرآني

«وَسُئِلَ ﷺ عَنْ قَوْله تَعالى: ﴿والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهم وجِلَةٌ﴾ فَقالَ: هم الَّذِينَ يَصُومُونَ ويُصَلُّونَ ويَتَصَدَّقُونَ ويَخافُونَ أنْ لا يُقْبَلَ مِنهُمْ». وَفِي المُسْنَدِ والتِّرْمِذِيِّ «عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالَتْ: قُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ، قَوْلُ اللَّهِ ﴿والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهم وجِلَةٌ﴾ أهْوَ الَّذِي يَزْنِي، ويَشْرَبُ الخَمْرَ، ويَسْرِقُ؟ قالَ: لا يا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ، ولَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ ويُصَلِّي ويَتَصَدَّقُ، ويَخافُ أنْ لا يُقْبَلَ مِنهُ» قالَ الحَسَنُ: عَمِلُوا واللَّهِ بِالطّاعاتِ، واجْتَهَدُوا فِيها، وخافُوا أنْ تُرَدَّ عَلَيْهِمْ، إنَّ المُؤْمِنَ جَمَعَ إحْسانًا وخَشْيَةً، والمُنافِقَ جَمَعَ إساءَةً وأمْنًا. * [فَصْلٌ الخَوْفُ يُثْمِرُ الوَرَعَ] الخَوْفُ يُثْمِرُ الوَرَعَ والِاسْتِعانَةَ وقِصَرَ الأمَلِ. وقُوَّةُ الإيمانِ بِاللِّقاءِ تُثْمِرُ الزُّهْدَ. والمَعْرِفَةُ تُثْمِرُ المَحَبَّةَ والخَوْفَ والرَّجاءَ. والقَناعَةُ تُثْمِرُ الرِّضاءَ. والذِّكْرُ يُثْمِرُ حَياةَ القَلْبِ. والإيمانُ بِالقَدْرِ يُثْمِرُ التَّوَكُّلَ. ودَوامُ تَأمُّلِ الأسْماءِ والصِّفاتِ يُثْمِرُ المَعْرِفَةَ. والوَرَعُ يُثْمِرُ الزُّهْدَ أيْضًا. والتَّوْبَةُ تُثْمِرُ المَحَبَّةَ أيْضًا، ودَوامُ الذِّكْرِ يُثْمِرُها. والرِّضا يُثْمِرُ الشُّكْرَ. والعَزِيمَةُ والصَّبْرُ يُثْمِرانِ جَمِيعَ الأحْوالِ والمَقاماتِ. والإخْلاصُ والصِّدْقُ كُلٌّ مِنهُما يُثْمِرُ الآخَرَ ويَقْتَضِيهِ. والمَعْرِفَةُ تُثْمِرُ الخُلُقَ. والفِكْرُ يُثْمِرُ العَزِيمَةَ. والمُراقَبَةُ تُثْمِرُ عِمارَةَ الوَقْتِ، وحِفْظَ الأيّامِ والحَياءَ، والخَشْيَةَ والإنابَةَ. وَإماتَةُ النَّفْسِ وإذْلالُها وكَسْرُها يُوجِبُ حَياةَ القَلْبِ وعِزَّهُ وجَبْرَهُ. وَمَعْرِفَةُ النَّفْسِ ومَقْتُها يُوجِبُ الحَياءَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، واسْتِكْثارَ ما مِنهُ، واسْتِقْلالَ ما مِنكَ مِنَ الطّاعاتِ. وَمَحْوَ أثَرِ الدَّعْوى مِنَ القَلْبِ واللِّسانِ وصِحَّةُ البَصِيرَةِ تُثْمِرُ اليَقِينَ. وَحَسَنُ التَّأمُّلِ لِما تَرى وتَسْمَعُ مِنَ الآياتِ المَشْهُودَةِ والمَتْلُوَّةِ يُثْمِرُ صِحَّةَ البَصِيرَةِ. وَمِلاكُ ذَلِكَ كُلِّهِ: أمْرانِ: أحَدُهُما: أنَّ تَنْقُلَ قَلْبَكَ مِن وطَنِ الدُّنْيا فَتُسْكِنَهُ في وطَنِ الآخِرَةِ، ثُمَّ تُقْبِلَ بِهِ كُلِّهِ عَلى مَعانِي القُرْآنِ واسْتِجْلائِها وتَدَبُّرِها، وفَهْمِ ما يُرادُ مِنهُ وما نَزَلْ لِأجْلِهِ، وأخْذِ نَصِيبِكَ وحَظِّكَ مِن كُلِّ آيَةٍ مِن آياتِهِ، وتُنْزِلَها عَلى داءِ قَلْبِكَ. فَهَذِهِ طَرِيقٌ مُخْتَصَرَةٌ قَرِيبَةٌ سَهْلَةٌ. مُوَصِّلَةٌ إلى الرَّفِيقِ الأعْلى. آمِنَةٌ لا يَلْحَقُ سالِكَها خَوْفٌ ولا عَطَبٌ، ولا جَوْعٌ ولا عَطَشٌ، ولا فِيها آفَةٌ مِن آفاتِ سائِرِ الطَّرِيقِ ألْبَتَّةَ. وعَلَيْها مِنَ اللَّهِ حارِسٌ وحافِظٌ يَكْلَأُ السّالِكِينَ فِيها ويَحْمِيهِمْ، ويَدْفَعُ عَنْهم. ولا يَعْرِفُ قَدْرَ هَذِهِ الطَّرِيقِ إلّا مِن عَرَفَ طُرُقَ النّاسِ وغَوائِلَها وآفاتِها وقُطّاعَها. واللَّهُ المُسْتَعانُ. * [فَصْلٌ: الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ مِن دَرَجاتِ الإخْلاصِ: الخَجَلُ مِنَ العَمَلِ مَعَ بَذْلِ المَجْهُودِ] قالَ صاحِبُ " المَنازِلِ ": الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ: الخَجَلُ مِنَ العَمَلِ مَعَ بَذْلِ المَجْهُودِ، وتَوْفِيرِ الجُهْدِ بِالِاحْتِماءِ مِنَ الشُّهُودِ، ورُؤْيَةِ العَمَلِ في نُورِ التَّوْفِيقِ مِن عَيْنِ الجُودِ. هَذِهِ ثَلاثَةُ أُمُورِ " خَجَلُهُ " مِن عَمَلِهِ، وهو شِدَّةُ حَيائِهِ مِنَ اللَّهِ؛ إذْ لَمْ يَرَ ذَلِكَ العَمَلَ صالِحًا لَهُ، مَعَ بَذْلِ مَجْهُودِهِ فِيهِ. قالَ تَعالى: ﴿والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهم وجِلَةٌ أنَّهم إلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ﴾ [المؤمنون: ٦٠]. قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هُوَ الرَّجُلُ يَصُومُ، ويُصَلِّي، ويَتَصَدَّقُ، ويَخافُ أنْ لا يُقْبَلَ مِنهُ». وَقالَ بَعْضُهُمْ: إنِّي لَأُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ فَأقُومُ عَنْهُما بِمَنزِلَةِ السّارِقِ أوِ الزّانِي، الَّذِي يَراهُ النّاسُ، حَياءً مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. فالمُؤْمِنُ: جَمَعَ إحْسانًا في مَخافَةٍ وسُوءَ ظَنٍّ بِنَفْسِهِ. والمَغْرُورُ: حَسَنُ الظَّنِّ بِنَفْسِهِ مَعَ إساءَتِهِ. الثّانِي: تَوْفِيرُ الجُهْدِ بِاحْتِمائِهِ مِنَ الشُّهُودِ، أيْ يَأْتِي بِجُهْدِ الطّاقَةِ في تَصْحِيحِ العَمَلِ، مُحْتَمِيًا عَنْ شُهُودِهِ مِنكَ وبِكَ. الثّالِثُ: أنْ تَحْتَمِيَ بِنُورِ التَّوْفِيقِ الَّذِي يُنَوِّرُ اللَّهُ بِهِ بَصِيرَةَ العَبْدِ. فَتَرى في ضَوْءِ ذَلِكَ النُّورِ أنَّ عَمَلَكَ مِن عَيْنِ جُودِهِ لا بِكَ، ولا مِنكَ. فَقَدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الدَّرَجَةُ عَلى خَمْسَةِ أشْياءَ: عَمَلٌ، واجْتِهادٌ فِيهِ، وخَجَلٌ، وحَياءٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وصِيانَةٌ عَنْ شُهُودِهِ مِنكَ، ورُؤْيَتُهُ مِن عَيْنِ جُودِ اللَّهِ سُبْحانَهُ ومِنهُ. * [فَصْلٌ: الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ مِن دَرَجاتِ الخُلُقِ: تَحْسِينُ خُلُقِكَ مَعَ الحَقِّ] قالَ الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ: تَحْسِينُ خُلُقِكَ مَعَ الحَقِّ. وتَحْسِينُهُ مِنكَ: أنْ تَعْلَمَ أنَّ كُلَّ ما يَأْتِي مِنكَ يُوجِبُ عُذْرًا، وأنَّ كُلَّ ما يَأْتِي مِنَ الحَقِّ يُوجِبُ شُكْرًا، وأنْ لا تَرى لَهُ مِنَ الوَفاءِ بُدًّا. هَذِهِ الدَّرَجَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلى قاعِدَتَيْنِ. إحْداهُما: أنْ تَعْلَمَ أنَّكَ ناقِصٌ. وكُلُّ ما يَأْتِي مِنَ النّاقِصِ ناقِصٌ. فَهو يُوجِبُ اعْتِذارَهُ مِنهُ لا مَحالَةَ. فَعَلى العَبْدِ أنْ يَتَعَذَّرَ إلى رَبِّهِ مِن كُلِّ ما يَأْتِي بِهِ مِن خَيْرٍ وشَرٍّ. أمّا الشَّرُّ: فَظاهِرٌ. وأمّا الخَيْرُ: فَيَعْتَذِرُ مِن نُقْصانِهِ. ولا يَراهُ صالِحًا لِرَبِّهِ. فَهُوَ - مَعَ إحْسانِهِ - مُعْتَذِرٌ في إحْسانِهِ. ولِذَلِكَ مَدَحَ اللَّهُ أوْلِياءَهُ بِالوَجَلِ مِنهُ مَعَ إحْسانِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهم وجِلَةٌ﴾ [المؤمنون: ٦٠] وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هُوَ الرَّجُلُ يَصُومُ، ويَتَصَدَّقُ. ويَخافُ أنْ لا يُقْبَلَ مِنهُ» فَإذا خافَ فَهو بِالِاعْتِذارِ أوْلى. والحامِلُ لَهُ عَلى هَذا الِاعْتِذارِ أمْرانِ: أحَدُهُما: شُهُودُ تَقْصِيرِهِ ونُقْصانِهِ. والثّانِي: صِدْقُ مَحَبَّتِهِ. فَإنَّ المُحِبَّ الصّادِقَ يَتَقَرَّبُ إلى مَحْبُوبِهِ بِغايَةِ إمْكانِهِ. وَهُوَ مُعْتَذِرٌ إلَيْهِ، مُسْتَحْيٍ مِنهُ: أنْ يُواجِهَهُ بِما واجَهَهُ بِهِ. وَهُوَ يَرى أنَّ قَدْرَهُ فَوْقَهُ وأجَلُّ مِنهُ. وهَذا مُشاهَدٌ في مَحَبَّةِ المَخْلُوقِينَ. القاعِدَةُ الثّانِيَةُ: اسْتِعْظامُ كُلِّ ما يَصْدُرُ مِنهُ سُبْحانَهُ إلَيْكَ، والِاعْتِرافُ بِأنَّهُ يُوجِبُ الشُّكْرَ عَلَيْكَ، وأنَّكَ عاجِزٌ عَنْ شُكْرِهِ. ولا يَتَبَيَّنُ هَذا إلّا في المَحَبَّةِ الصّادِقَةِ. فَإنَّ المُحِبَّ يَسْتَكْثِرُ مِن مَحْبُوبِهِ كُلَّ ما يَنالُهُ. فَإذا ذَكَرَهُ بِشَيْءٍ وأعْطاهُ إيّاهُ: كانَ سُرُورُهُ بِذِكْرِهِ لَهُ، وتَأْهِيلِهِ لِعَطائِهِ: أعْظَمَ عِنْدَهُ مِن سُرُورِهِ بِذَلِكَ العَطاءِ بَلْ يَغِيبُ بِسُرُورِهِ بِذِكْرِهِ لَهُ عَنْ سُرُورِهِ بِالعَطِيَّةِ. وإنْ كانَ المُحِبُّ يَسُرُّهُ ذِكْرُ مَحْبُوبِهِ لَهُ، وإنْ نالَهُ بِمَساءَةٍ. كَما قالَ القائِلُ: ؎لَئِنْ ساءَنِي أنْ نِلْتَنِي بِمُساءَةٍ ∗∗∗ لَقَدْ سَرَّنِي أنِّي خَطَرْتُ بِبالِكا فَكَيْفَ إذا نالَهُ مَحْبُوبُهُ بِمَسَرَّةٍ - وإنْ دَقَّتْ - فَإنَّهُ لا يَراها إلّا جَلِيلَةً خَطِيرَةً. فَكَيْفَ هَذا مَعَ الرَّبِّ تَعالى الَّذِي لا يَأْتِي أبَدًا إلّا بِالخَيْرِ؟ ويَسْتَحِيلُ خِلافُ ذَلِكَ في حَقِّهِ. كَما يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ خِلافُ كَمالِهِ. وَقَدْ أفْصَحَ أعْرَفُ الخَلْقِ بِرَبِّهِ عَنْ هَذا بِقَوْلِهِ: «والشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ» أيْ لا يُضافُ إلَيْكَ. ولا يُنْسَبُ إلَيْكَ. ولا يَصْدُرُ مِنكَ. فَإنَّ أسْماءَهُ كُلَّها حُسْنى، وصِفاتِهِ كُلَّها كَمالٌ، وأفْعالَهُ كُلَّها فَضْلٌ وعَدْلٌ، وحِكْمَةٌ ورَحْمَةٌ ومَصْلَحَةٌ. فَبِأيِّ وجْهٍ يُنْسَبُ الشَّرُّ إلَيْهِ سُبْحانَهُ وتَعالى؟ فَكُلُّ ما يَأْتِي مِنهُ فَلَهُ عَلَيْهِ الحَمْدُ والشُّكْرُ. ولَهُ فِيهِ النِّعْمَةُ والفَضْلُ. قَوْلُهُ: وأنْ لا يَرى مِنَ الوَفاءِ بُدًّا. يَعْنِي: أنَّ مُعامَلَتَكَ لِلْحَقِّ سُبْحانَهُ بِمُقْتَضى الِاعْتِذارِ مِن كُلِّ ما مِنكَ، والشُّكْرِ عَلى ما مِنهُ - عَقْدٌ مَعَ اللَّهِ تَعالى لازِمٌ لَكَ أبَدًا، لا تَرى مِنَ الوَفاءِ بِهِ بُدًّا. فَلَيْسَ ذَلِكَ بِأمْرٍ عارِضٍ، وحالٍ يُحَوَّلُ. بَلْ عَقْدٌ لازِمٌ عَلَيْكَ الوَفاءُ بِهِ إلى يَوْمِ القِيامَةِ. * [فَصْلٌ: الرَّجاءُ والأمانِيُّ] وَمِمّا يَنْبَغِي أنَّ مَن رَجا شَيْئًا اسْتَلْزَمَ رَجاؤُهُ ثَلاثَةَ أُمُورٍ: أحَدُها: مَحَبَّةُ ما يَرْجُوهُ. الثّانِي: خَوْفُهُ مِن فَواتِهِ. الثّالِثُ: سَعْيُهُ في تَحْصِيلِهِ بِحَسْبِ الإمْكانِ. وَأمّا رَجاءٌ لا يُقارِنُهُ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ فَهو مِن بابِ الأمانِيِّ، والرَّجاءُ شَيْءٌ والأمانِيُّ شَيْءٌ آخَرُ، فَكُلُّ راجٍ خائِفٌ، والسّائِرُ عَلى الطَّرِيقِ إذا خافَ أسْرَعَ السَّيْرَ مَخافَةَ الفَواتِ. وَفِي جامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَن خافَ أدْلَجَ، ومَن أدْلَجَ بَلَغَ المَنزِلَ، ألا إنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غالِيَةٌ، ألا إنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الجَنَّةُ». وَهُوَ سُبْحانَهُ كَما جَعَلَ الرَّجاءَ لِأهْلِ الأعْمالِ الصّالِحَةِ، فَكَذَلِكَ جَعَلَ الخَوْفَ لِأهْلِ الأعْمالِ الصّالِحَةِ، فَعُلِمَ أنَّ الرَّجاءَ والخَوْفَ النّافِعَ ما اقْتَرَنَ بِهِ العَمَلُ. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ هم مِن خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ - والَّذِينَ هم بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ - والَّذِينَ هم بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ - والَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهم وجِلَةٌ أنَّهم إلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ - أُولَئِكَ يُسارِعُونَ في الخَيْراتِ وهم لَها سابِقُونَ﴾ [المؤمنون: ٥٧-٦١]. وَقَدْ رَوى التِّرْمِذِيُّ في جامِعِهِ عَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قالَتْ: سَألْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ فَقُلْتُ: أهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الخَمْرَ، ويَزْنُونَ، ويَسْرِقُونَ، فَقالَ: «لا يا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ، ولَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ ويُصَلُّونَ ويَتَصَدَّقُونَ، ويَخافُونَ أنْ لا يُتَقَبَّلَ مِنهُمْ، أُولَئِكَ يُسارِعُونَ في الخَيْراتِ». وقَدْ رُوِيَ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ أيْضًا. واللَّهُ سُبْحانَهُ وصَفَ أهْلَ السَّعادَةِ بِالإحْسانِ مَعَ الخَوْفِ، ووَصَفَ الأشْقِياءَ بِالإساءَةِ مَعَ الأمْنِ. خَوْفُ الصَّحابَةِ مِنَ اللَّهِ. مَن تَأمَّلَ أحْوالَ الصَّحابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - وجَدَهم في غايَةِ العَمَلِ مَعَ غايَةِ الخَوْفِ، ونَحْنُ جَمِيعًا بَيْنَ التَّقْصِيرِ، بَلِ التَّفْرِيطِ والأمْنِ، فَهَذا الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: ودِدْتُ أنِّي شَعْرَةٌ في جَنْبِ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ، ذَكَرَهُ أحْمَدُ عَنْهُ. وَذَكَرَ عَنْهُ أيْضًا أنَّهُ كانَ يَمْسِكُ بِلِسانِهِ ويَقُولُ: هَذا الَّذِي أوْرَدَنِي المَوارِدَ، وكانَ يَبْكِي كَثِيرًا، ويَقُولُ: ابْكُوا، فَإنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَباكُوا. وَكانَ إذا قامَ إلى الصَّلاةِ كَأنَّهُ عُودٌ مِن خَشْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. وَأتى بِطائِرٍ فَقَلَبَهُ ثُمَّ قالَ: ما صِيدَ مِن صَيْدٍ، ولا قُطِعَتْ شَجَرَةٌ مِن شَجَرَةٍ، إلّا بِما ضَيَّعَتْ مِنَ التَّسْبِيحِ، فَلَمّا احْتَضَرَ، قالَ لِعائِشَةَ: يا بُنَيَّةُ، إنِّي أصَبْتُ مِن مالِ المُسْلِمِينَ هَذِهِ العَباءَةَ وهَذِهِ الحِلابَ وهَذا العَبْدَ، فَأسْرِعِي بِهِ إلى ابْنِ الخَطّابِ، وقالَ: واللَّهِ لَوَدِدْتُ أنِّي كُنْتُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ تُؤْكَلُ وتُعْضَدُ. وَقالَ قَتادَةُ: بَلَغَنِي أنَّ أبا بَكْرٍ قالَ: لَيْتَنِي خُضْرَةٌ تَأْكُلُنِي الدَّوابُّ. وَهَذا عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ قَرَأ سُورَةَ الطُّورِ إلى أنْ بَلَغَ: ﴿إنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ﴾ [الطور: ٧٧] فَبَكى واشْتَدَّ بُكاؤُهُ حَتّى مَرِضَ وعادُوهُ. وَقالَ لِابْنِهِ وهو في المَوْتِ: ويْحَكَ ضَعْ خَدِّي عَلى الأرْضِ عَساهُ أنْ يَرْحَمَنِي، ثُمَّ قالَ: ويْلُ أُمِّي، إنْ لَمْ يَغْفِرْ لِي (ثَلاثًا)، ثُمَّ قُضِيَ. وَكانَ يَمُرُّ بِالآيَةِ في وِرْدِهِ بِاللَّيْلِ فَتُخِيفُهُ، فَيَبْقى في البَيْتِ أيّامًا يُعادُ، يَحْسَبُونَهُ مَرِيضًا، وكانَ في وجْهِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَطّانِ أسْوَدانِ مِنَ البُكاءِ. وَقالَ لَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، مَصَّرَ اللَّهُ بِكَ الأمْصارَ، وفَتَحَ بِكَ الفُتُوحَ، وفَعَلَ، فَقالَ: ودِدْتُ أنِّي أنْجُو لا أجْرَ ولا وِزْرَ. وَهَذا عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كانَ إذا وقَفَ عَلى القَبْرِ يَبْكِي حَتّى تُبَلَّ لِحْيَتُهُ، وقالَ: لَوْ أنَّنِي بَيْنَ الجَنَّةِ والنّارِ لا أدْرِي إلى أيَّتِهِما يُؤْمَرُ بِي، لاخْتَرْتُ أنْ أكُونَ رَمادًا قَبْلَ أنْ أعْلَمَ إلى أيَّتِهِما أصِيرُ. وَهَذا عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وبُكاؤُهُ وخَوْفُهُ، وكانَ يَشْتَدُّ خَوْفُهُ مِنِ اثْنَتَيْنِ: طُولِ الأمَلِ، واتِّباعِ الهَوى، قالَ: فَأمّا طُولُ الأمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ، وأمّا اتِّباعُ الهَوى فَيَصُدُّ عَنِ الحَقِّ، ألا وإنَّ الدُّنْيا قَدْ ولَّتْ مُدَبِّرَةً، والآخِرَةَ مُقْبِلَةٌ، ولِكُلِّ واحِدَةٍ بَنُونُ، فَكُونُوا مِن أبْناءِ الآخِرَةِ، ولا تَكُونُوا مِن أبْناءِ الدُّنْيا، فَإنَّ اليَوْمَ عَمَلٌ ولا حِسابٌ، وغَدًا حِسابٌ ولا عَمَلٌ. وَهَذا أبُو الدَّرْداءِ كانَ يَقُولُ: إنَّ أشَدَّ ما أخافُ عَلى نَفْسِي يَوْمَ القِيامَةِ أنْ يُقالَ لِي: يا أبا الدَّرْداءِ، قَدْ عَلِمْتَ، فَكَيْفَ عَمِلْتَ فِيما عَلِمْتَ؟ وكانَ يَقُولُ: لَوْ تَعْلَمُونَ ما أنْتُمْ لاقُونَ بَعْدَ المَوْتِ لَما أكَلْتُمْ طَعامًا عَلى شَهْوَةٍ، ولا شَرِبْتُمْ شَرابًا عَلى شَهْوَةٍ، ولا دَخَلْتُمْ بَيْتًا تَسْتَظِلُّونَ فِيهِ، ولَخَرَجْتُمْ إلى الصُّعُداتِ تَضْرِبُونَ صُدُورَكُمْ، وتَبْكُونَ عَلى أنْفُسِكُمْ، ولَوَدِدْتُ أنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ ثُمَّ تُؤْكَلُ. وَكانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبّاسٍ أسْفَلُ عَيْنَيْهِ مِثْلُ الشِّراكِ البالِي مِنَ الدُّمُوعِ. وَكانَ أبُو ذَرٍّ يَقُولُ: يا لَيْتَنِي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ، ووَدِدْتُ أنِّي لَمْ أُخْلَقْ وعُرِضَتْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ، فَقالَ: ما عِنْدَنا عَنْزٌ نَحْلِبُها وحُمُرٌ نَنْقُلُ عَلَيْها، ومُحَرَّرٌ يَخْدِمُنا، وفَضْلُ عَباءَةٍ، وإنِّي أخافُ الحِسابَ فِيها. وَقَرَأ تَمِيمٌ الدّارِيُّ لَيْلَةً سُورَةَ الجاثِيَةِ، فَلَمّا أتى عَلى هَذِهِ الآيَةِ ﴿أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أنْ نَجْعَلَهم كالَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ [الجاثية: ٢١] جَعَلَ يُرَدِّدُها ويَبْكِي حَتّى أصْبَحَ. وَقالَ أبُو عُبَيْدَةَ عامِرُ بْنُ الجَرّاحِ: ودِدْتُ أنِّي كَبْشٌ فَذَبَحَنِي أهْلِي، وأكَلُوا لَحْمِي وحَسُوا مَرَقِي. وهَذا بابٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهُ. قالَ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ: بابُ خَوْفِ المُؤْمِنِ أنْ يُحْبَطَ عَمَلُهُ وهو لا يَشْعُرُ. وَقالَ إبْراهِيمُ التَّيْمِيُّ: ما عَرَضْتُ قَوْلِي عَلى عَمَلِي إلّا خَشِيتُ أنْ أكُونَ مُكَذِّبًا. وَقالَ ابْنُ أبِي مُلَيْكَةَ: أدْرَكْتُ ثَلاثِينَ مِن أصْحابِ النَّبِيِّ ﷺ كُلُّهم يَخافُ النِّفاقَ عَلى نَفْسِهِ، ما مِنهم أحَدٌ يَقُولُ: إنَّهُ عَلى إيمانِ جِبْرِيلَ ومِيكائِيلَ. وَيُذْكَرُ عَنِ الحَسَنِ: ما خافَهُ إلّا مُؤْمِنٌ، ولا أمِنَهُ إلّا مُنافِقٌ. وَكانَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ يَقُولُ لِحُذَيْفَةَ: أنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ سَمّانِي لَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، يَعْنِي في المُنافِقِينَ، فَيَقُولُ: لا، ولا أُزَكِّي بَعْدَكَ أحَدًا. فَسَمِعْتُ شَيْخَنا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: لَيْسَ مُرادُهُ لا أُبْرِئُ غَيْرَكَ مِنَ النِّفاقِ، بَلِ المُرادُ لا أفْتَحُ عَلى نَفْسِي هَذا البابَ، فَكُلُّ مَن سَألَنِي هَلْ سَمّانِي لَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأُزَكِّيهِ. قُلْتُ: وقَرِيبٌ مِن هَذا «قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ لِلَّذِي سَألَهُ أنْ يَدْعُوَ لَهُ أنْ يَكُونَ مِنَ السَّبْعِينَ ألْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسابٍ: سَبَقَكَ بِها عُكاشَةُ». وَلَمْ يُرِدْ أنَّ عُكاشَةَ وحْدَهُ أحَقُّ بِذَلِكَ مِمَّنْ عَداهُ مِنَ الصَّحابَةِ، ولَكِنْ لَوْ دَعا لَقامَ آخَرُ وآخَرُ وانْفَتَحَ البابُ، ورُبَّما قامَ مَن لَمْ يَسْتَحِقَّ أنْ يَكُونَ مِنهُمْ، فَكانَ الإمْساكُ أوْلى، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب