الباحث القرآني

* (فصل) وكل لذة أعقبت ألما أو منعت لذة أكمل منها فليست بلذة في الحقيقة وإن غالطت النفس في الالتذاذ بها فأي لذة لآكل طعام شهي مسموم يقطع أمعاءه عن قريب، وهذه هي لذات الكفار والفساق بعلوهم في الأرض وفسادهم وفرحهم فيها بغير الحق ومرحهم. وذلك مثل لذة العين اتخذوا من دون الله أولياء يحبونهم كحب الله فنالوا بهم مودة بينهم في الحياة الدنيا، ثم استحالت تلك اللذة أعظم ألم وأمره. ومن ذلك لذة العقائد الفاسدة والفرح بها، ولذة غلبة أهل الجور والظلم والعدوان والزنا والسرقة وشرب المسكرات، وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أنه لم يمكنهم من ذلك لخير يريده بهم إنما هو استدراج منه لينيلهم به أعظم الألم قال الله تعالى ﴿أيَحْسَبُونَ أنَّما نُمِدُّهم بِهِ مِن مالٍ وبَنِينَ نُسارِعُ لَهم في الخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ﴾ وقال تعالى ﴿فَلا تُعْجِبْكَ أمْوالُهم ولا أوْلادُهم إنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهم بِها في الحَياةِ الدُّنْيا وتَزْهَقَ أنْفُسُهم وهم كافِرُونَ﴾ وأما اللذة التي لا تعقب ألما في دار القرار ولا توصل إلى لذة هناك فهي لذة باطلة إلا لا منفعة فيها ولا مضرة وزمنها يسير ليس لتمتع النفس بها قدر وهي لا بد أن تشغل عما هو خير وأنفع منها في العاجلة والآجلة وإن لم تشغل عن أصل اللذة في الآخرة وهذا القسم هو الذي عناه النبي ﷺ بقوله "كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته أهله فإنهن من الحق " رواه مسلم. ولهذا كانت لذة اللعب بالدف في العرس جائزة فإنها تعين على النكاح كما تعين لذة الرمي بالقوس وتأديب الفرس على الجهاد وكلاهما محبوب لله فما أعان على حصول محبوبه فهو من الحق ولهذا عد ملاعبة الرجل امرأته من الحق لإعانتها على مقاصد النكاح الذي يحبه الله سبحانه وتعالى، وما لم يعن على محبوب الرب تعالى فهو باطل لا فائدة فيه ولكن إذا لم يكن فيه مضرة راجحة لم يحرم ولم ينه عنه، ولكن إذا صد عن ذكر الله وعن الصلاة صار مكروها بغيضا للرب عز وجل مقيتا عنده إما بأصله وإما بالتجاوز فيه وكل ما صد عن اللذة المطلوبة فهو وبال على صاحبه فإنه لو اشتغل حين مباشرته له بما ينفعه ويجلب له اللذة المطلوبة الباقية لكان خيرا له وأنفع ولما كانت النفوس الضعيفة كنفوس النساء والصبيان لا تنقاد إلى أسباب اللذة العظمى إلا بإعطائها شيئا من لذة اللهو واللعب بحيث لو فطمت عنه كل الفطام طلبت ما هو شر لها منه رخص لها من ذلك فيما لم يرخص فيه لغيرها. وهذا كما دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه على النبي ﷺ وعنده جوار يضربن بالدف فأسكتهن لدخوله وقال " هذا رجل لا يحب الباطل" فأخبر أن ذلك باطل ولم يمنعهن منه لما يترتب لهن عليه من المصلحة الراجحة ويتركن به مفسدة أرجح من مفسدته. وأيضا فيحصل لهم من التألم بتركه مفسدة هي أعظم من مفسدته، فتمكينهم من ذلك من باب الرحمة والشفقة والإحسان، كما مكن النبي ﷺ أبا عمير من اللعب بالعصفور بحضرته، ومكن الجاريتين من الغناء بحضرته، ومكن عائشة رضي الله عنها من النظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، ومكن تلك المرأة أن تضرب على رأسه بالدف ونظائر ذلك. فأين هذا من اتخاذ الشيوخ المشار إليهم المقتدى بهم ذلك دينا وطريقا مع التوسع فيه غاية التوسع بما لا ريب في تحريمه. ونظير هذا إعطاء النبي ﷺ المؤلفة قلوبهم من الزكاة والغنيمة لضعف قلوبهم عن قلوب الراسخين في الإيمان من أصحابه، ولهذا أعطى هؤلاء ومنع هؤلاء، وقال: أكلهم إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغناء والخير. ونظير هذا مزاحه مع من كان يمزح معه من الأعراب والصبيان والنساء تطييبا لقلوبهم واستجلابا لإيمانهم وتفريحا لهم. وفي مراسيل الشعبي أن النبي ﷺ مر على أصحاب الدركلة فقال: "خذوا يا بني أرفدة حتى تعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة" ذكره أبو عبيد وقال الدركلة لعبة العجم فالنبي ﷺ يبذل للنفوس من الأموال والمنافع ما يتألفها به على الحق المأمور به، ويكون المبذول مما يلتذ به الآخذ ويحبه لأن ذلك وسيلة إلى غيره، ولا يفعل ذلك مع من لا يحتاج إليه كالمهاجرين والأنصار، بل يبذل لهم أنواعا أخر من الإحسان إليهم والمنافع في دينهم ودنياهم ولما كان عمر نب الخطاب رضي الله عنه ممن لا يحب هذا الباطل ولا سماعه ولا يحتاج أن يتألف بما يتألف به غيره وليس مأمورا بما أمر به النبي ﷺ من التأليف على الإيمان به وطاعته بكل طريق كان إعراضه عنه كمالا بالنسبة إليه وحال النبي ﷺ رضي الله عنه أكمل.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب