الباحث القرآني
تلك كلمة يقولها فلا يعول عليها ورجعة يسألها فلا يجاب إليها.
وتأمل قوله أولا ﴿رَبِّ﴾ استغاث بربه ثم التفت إلى الملائكة الذين أمروا بإحضاره بين يدي ربه تبارك وتعالى فقال (ارجعون)
ثم ذكر سبب سؤال الرجعة وهو أن يستقبل العمل الصالح فيما ترك خلفه من ماله وجاهه وسلطانه وقوته وأسبابه فيقال له (كلا) لا سبيل لك إلى الرجعى وقد عمرت ما يتذكر فيه من تذكر.
ولما كان شأن الكريم الرحيم أن يجيب من استغاث وأن يفسح له في المهلة ليتذكر ما فاته أخبر سبحانه أن سؤال هذا المفرط الرجعة كلمة هو قائلها لا حقيقة تحتها، وأن سجيته وطبيعته تأبى أن تعمل صالحا لو أجيب، وإنما ذلك شيء يقوله بلسانه وأنه لو رد لعاد لما نهي عنه، وأنه من الكاذبين، فحكمه أحكم الحاكمين وعزته وعلمه وحمده يأبى إجابته إلى ما سأل، فإنه لا فائدة في ذلك.
ولو رد لكانت حالته الثانية مثل حالته الأولى كما قال تعالى ﴿وَلَوْ تَرى إذْ وُقِفُوا عَلى النّارِ فَقالُوا يالَيْتَنا نُرَدُّ ولا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ونَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ (٢٧) بَلْ بَدا لَهم ما كانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ولَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وإنَّهم لَكاذِبُونَ (٢٨)﴾.
* [فصل: أقسام الدور]
الأمر الثالث: أن اللّه سبحانه جعل الدور ثلاثا: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وجعل لكل دار أحكاما تختص بها، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان والأرواح تبعا لها، ولهذا جعل أحكامه الشرعية مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح وإن أضمرت النفوس خلافه، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبعا لها، فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا فتألمت بألمها والتذت براحتها وكانت هي التي باشرت أسباب النعيم والعذاب تبعت الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها، والأرواح حينئذ هي التي تباشر العذاب والنعيم، فالأبدان هنا ظاهرة، والأرواح خفية.
والأبدان كالقبور لها، والأرواح هناك ظاهرة، والأبدان خفية في قبورها، تجري أحكام البرزخ على الأرواح فتسري إلى أبدانها نعيما أو عذابا، كما تجري أحكام الدنيا على الأبدان فتسري إلى أرواحها نعيما أو عذابا، فأحط بهذا الموضع علما وأعرفه كما ينبغي يزيل عنك كل إشكال يورد عليك من داخل وخارج.
وقد أرانا اللّه سبحانه بلطفه ورحمته وهدايته من ذلك أنموذجا في الدنيا من حال النائم، فإن ما ينعم به أو يعذب في نومه يجري على روحه أصلا والبدن تبع له، وقد يقوى حتى يؤثر في البدن تأثيرا مشاهدا، فيرى النائم في نومه أنه ضرب فيصبح وأثر الضرب في جسمه، ويرى أنه قد أكل أو شرب فيستيقظ وهو يجد أثر الطعام والشراب في فيه، ويذهب عنه الجوع والظمأ.
وأعجب من ذلك أنك ترى النائم يقوم في نومه ويضرب ويبطش ويدافع كأنه يقظان وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك، وذلك أن الحكم لما جرى على الروح استعانت بالبدن من خارجه، ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحس، فإذا كانت الروح تتألم وتنعم ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع فهكذا في البرزخ بل أعظم، فإن تجرد الروح هنالك أكمل وأقوى، وهي متعلقة ببدنها لم تنقطع عنه كل الانقطاع، فإذا كان يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم والعذاب في «١» الأرواح والأجساد ظاهرا باديا أصلا.
ومتى أعطيت هذا الموضع حقه تبين لك أن ما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه وضيقه وسعته وضمه، وكونه حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة، مطابق للعقل، وأنه حق لا مرية فيه، وأن من أشكل عليه ذلك فمن سوء فهمه وقلة علمه أتى كما قيل:
؎وكم من عائب قولا صحيحا ∗∗∗ وآفته من الفهم السقيم
وأعجب من ذلك أنك تجد النائم في فراش واحد، وهذا روحه في النعيم ويستيقظ وأثر النعيم على بدنه، وهذا روحه في العذاب ويستيقظ وأثر العذاب على بدنه، وليس عند أحدهما خبر بما عند الآخر، فأمر البرزخ أعجب من ذلك.
الأمر الرابع: أن اللّه سبحانه جعل أمر الآخرة وما كان متصلا بها غيبا وحجبها عن إدراك المكلفين في هذه الدار، وذلك من كمال حكمته، وليتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم، فأول ذلك أن الملائكة تنزل على المحتضر وتجلس قريبا منه ويشاهدهم عيانا ويتحدثون عنده، ومعهم الأكفان والحنوط، إما من الجنة، وإما من النار، ويؤمنون على دعاء الحاضرين بالخير والشر، وقد يسلمون على المحتضر، ويرد عليهم تارة بلفظة، وتارة بإشارته، وتارة بقلبه، حيث لا يتمكن من نطق ولا إشارة. وقد سمع بعض المحتضرين يقول: أهلا وسهلا ومرحبا بهذه الوجوه.
وأخبرني شيخنا عن بعض المحتضرين، فلا أدري أشاهده وأخبره عنه أنه سمع وهو يقول: عليك السلام هاهنا فأجلس، وعليك السلام هاهنا فاجلس.
وقصة خبر النساج رحمه اللّه مشهورة حيث قال عند الموت: اصبر عافاك اللّه، فإن ما أمرت به لا يفوت، وما أمرت به يفوت، ثم استدعى بماء فتوضأ وصلى ثم قال: امض لما أمرت به، ومات.
وذكر ابن أبي الدنيا أن عمر بن عبد العزيز لما كان في يومه الذي مات فيه قال: أجلسوني، فأجلسوه فقال: أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ثلاث مرات، ولكن لا إله إلا اللّه، ثم رفع رأسه فأحط النظر، فقالوا: إنك لتنظر نظرا شديدا يا أمير المؤمنين، فقال: إني لأرى حضرة ما هم بأنس ولا جن، ثم قبض.
وقال مسلمة بن عبد الملك: لما احتضر عمر بْن عَبْدِ العَزِيزِ، كنا عنده في قبة، فأومأ إلينا: أن اخرجوا، فخرجنا، فقعدنا حول القبة، وبقي عنده وصيف، فسمعناه يقرأ هَذِهِ الآية: ﴿تِلْكَ الدّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأرْضِ ولا فَسادًا والعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص آية: ٨٣]
ما أنتم بإنس ولا جان، ثُمَّ خرج الوصيف، فأومأ إلينا أن ادخلوا فدخلنا، فَإذا هو قد قبض.
وقال فضالة بن ديار: حضرت محمد بن واسع وقد سجى للموت، فجعل يقول: مرحبا بملائكة ربي ولا حول ولا قوة إلا باللّه، وشممت رائحة طيب لم أشم قط أطيب منها، ثم شخص ببصره، فمات.
والآثار في ذلك أكثر من أن تحصر.
وأبلغ وأكفى من ذلك كله قول اللّه عز وجل: ﴿فَلَوْلا إذا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ. وأنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ. ونَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ مِنكم ولكِنْ لا تُبْصِرُونَ﴾
أي أقرب إليه بملائكتنا ورسلنا ولكنكم لا ترون، فهذا أول الأمر وهو غير مرئي لنا ولا مشاهد وهو في هذه الدار.
ثم يمد الملك يده إلى الروح فيقبضها ويخاطبها، والحاضرون لا يرونه ولا يسمعونه، ثم تخرج فيخرج لها نور مثل شعاع الشمس، ورائحة أطيب من رائحة المسك، والحاضرون لا يرون ذلك ولا يشمونه. ثم تصعد بين سماطين من الملائكة والحاضرون لا يرونهم. ثم تأتي الروح فتشاهد غسل البدن وتكفينه وحمله وتقول: قدموني قدموني، أو إلى أين تذهبون بي، ولا يسمع الناس ذلك، فإذا وضع في لحده وسوي عليه التراب لم يحجب التراب الملائكة عن الوصول إليه، بل لو نقر له حجر فأودع فيه وختم عليه بالرصاص لم يمنع وصول الملائكة إليه، فإن هذه الأجسام الكثيفة لا تمنع خرق الأرواح لها، بل الجن لا يمنعها ذلك، بل قد جعل اللّه سبحانه الحجارة والتراب للملائكة بمنزلة الهواء للطير، واتساع القبر وانفساحه للروح بالذات والبدن تبعا، فيكون البدن في لحد أضيق من ذراع، وقد فسح له مد بصره تبعا لروحه.
وأما عصرة القبر حتى تختلف بعض أجزاء الموتى فلا يرده حس ولا عقل ولا فطرة، ولو قدر أن أحدا نبش عن ميت فوجد أضلاعه كما هي لم تختلف لم يمنع أن تكون قد عادت إلى حالها بعد العصرة، فليس مع الزنادقة والملاحدة إلا مجرد تكذيب الرسول.
ولقد أخبر بعض الصادقين أنه حفر ثلاثة أقبر، فلما فرغ منها، اضطجع ليستريح، فرأى فيما يرى النائم ملكين نزلا، فوقفا على أحد الأقبر، فقال أحدهما لصاحبه: اكتب فرسخا في فرسخ، ثم وقف على الثاني فقال: اكتب ميلا في ميل، ثم وقف على الثالث، فقال اكتب فترا في فتر، ثم انتبه فجي ء برجل غريب لا يؤبه له فدفن في القبر الأول، ثم جي ء برجل آخر فدفن في الثاني، ثم جي ء بامرأة مترفة من وجوه البلد حولها ناس كثير فدفنت في القبر الضيق الذي سمعه يقول: فترا في فتر، والفتر ما بين الإبهام والسبابة.
* [فصل: عذاب القبر وعذاب البرزخ]
الأمر التاسع: أنه ينبغي أن يعلم أن عذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ ونعيمه وهو ما بين الدنيا والآخرة وقال تعالى: ﴿ومِن ورائِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾
» وهذا البرزخ يشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة، وسمى عذاب القبر ونعيمه أنه روضة أو حفرة نار باعتبار غالب الخلق، فالمصلوب والحرق والغرق وأكيل السباع والطيور له من عذاب البرزخ ونعيمه قسطه الذي تقتضيه أعماله وإن تنوعت أسباب النعيم والعذاب وكيفياتهما، فقد ظن بعض الأوائل أنه إذا حرق جسده بالنار وصار رمادا وذرى بعضه في البحر وبعضه في البر في يوم شديد الريح أنه ينجو من ذلك فأوصى بنيه أن يفعلوا به ذلك، فأمر اللّه البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال: قم، فإذا هو قائم بين يدي اللّه، فسأله ما حملك على ما فعلت؟ فقال: خشيتك يا رب وأنت أعلم، فما تلافاه أن رحمه، فلم يفت عذاب البرزخ ونعيمه لهذه الأجزاء التي صارت في هذه الحال حتى لو عاق الميت على رءوس الأشجار في مهاب الرياح لأصاب جسده من عذاب البرزخ حظه ونصيبه، ولو دفن الرجل الصالح في أتون من النار لأصاب جسده من نعيم البرزخ وروحه ونصيبه وحظه، فيجعل اللّه النار على هذا بردا وسلاما، والهواء على ذلك نارا أو سموما، فعناصر العالم وموارده منقادة لربها وفاطرها وخالقها، يصرفها كيف يشاء، ولا يستعصي عليه منها شيء أراده بل هي طوع مشيئته مذللة منقادة لقدرته، ومن أنكر هذا فقد جحد رب العالمين وكفر به وأنكر ربوبيته.
{"ayahs_start":99,"ayahs":["حَتَّىٰۤ إِذَا جَاۤءَ أَحَدَهُمُ ٱلۡمَوۡتُ قَالَ رَبِّ ٱرۡجِعُونِ","لَعَلِّیۤ أَعۡمَلُ صَـٰلِحࣰا فِیمَا تَرَكۡتُۚ كَلَّاۤۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَاۤىِٕلُهَاۖ وَمِن وَرَاۤىِٕهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ یَوۡمِ یُبۡعَثُونَ"],"ayah":"لَعَلِّیۤ أَعۡمَلُ صَـٰلِحࣰا فِیمَا تَرَكۡتُۚ كَلَّاۤۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَاۤىِٕلُهَاۖ وَمِن وَرَاۤىِٕهِم بَرۡزَخٌ إِلَىٰ یَوۡمِ یُبۡعَثُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق