الباحث القرآني
أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ اجْتَباهُمْ، والِاجْتِباءُ كالِاصْطِفاءِ، وهو افْتِعالٌ مِن " اجْتَبى الشَّيْءَ يَجْتَبِيه " إذا ضَمَّهُ إلَيْهِ وحازَهُ إلى نَفْسِهِ، فَهم المُجْتَبُونَ الَّذِينَ اجْتَباهم اللَّهُ إلَيْهِ وجَعَلَهم أهْلَهُ وخاصَّتَهُ وصَفْوَتَهُ مِن خَلْقِهِ بَعْدَ النَّبِيِّينَ والمُرْسَلِينَ، ولِهَذا أمَرَهم تَعالى أنْ يُجاهِدُوا فِيهِ حَقَّ جِهادِهِ، فَيَبْذُلُوا لَهُ أنْفُسَهُمْ، ويُفْرِدُوهُ بِالمَحَبَّةِ والعُبُودِيَّةِ، ويَخْتارُوهُ وحْدَهُ إلَهًا مَعْبُودًا مَحْبُوبًا عَلى كُلِّ ما سِواهُ كَما اخْتارَهم عَلى مَن سِواهُمْ، فَيَتَّخِذُونَهُ وحْدَهُ إلَهَهم ومَعْبُودَهم الَّذِي يَتَقَرَّبُونَ إلَيْهِ بِألْسِنَتِهِمْ وجَوارِحِهِمْ وقُلُوبِهِمْ ومَحَبَّتِهِمْ، وإرادَتِهِمْ، فَيُؤْثِرُونَهُ في كُلِّ حالٍ عَلى مَن سِواهُ، كَما اتَّخَذَهم عَبِيدَهُ، وأوْلِياءَهُ، وأحِبّاءَهُ وآثَرَهم بِذَلِكَ عَلى مَن سِواهُمْ، ثُمَّ أخْبَرَهم تَعالى أنْ يَسَّرَ عَلَيْهِمْ دِينَهُ غايَةَ التَّيْسِيرِ، ولَمْ يَجْعَلْ عَلَيْهِمْ فِيهِ مِن حَرَجٍ ألْبَتَّةَ لِكَمالِ مَحَبَّتِهِ لَهم ورَأْفَتِهِ ورَحْمَتِهِ وحَنانِهِ بِهِمْ، ثُمَّ أمَرَهم بِلُزُومِ مِلَّةَ إمامِ الحُنَفاءِ أبِيهِمْ إبْراهِيمَ، وهي إفْرادُهُ تَعالى وحْدَهُ بِالعُبُودِيَّةِ والتَّعْظِيمِ والحُبِّ والخَوْفِ والرَّجاءِ والتَّوَكُّلِ والإنابَةِ والتَّفْوِيضِ والِاسْتِسْلامِ؛ فَيَكُونُ تَعَلُّقُ ذَلِكَ مِن قُلُوبِهِمْ بِهِ وحْدَهُ لا بِغَيْرِهِ، ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ نَوَّهَ بِهِمْ وسَمّاهم كَذَلِكَ بَعْدَ أنْ أوْجَدَهم اعْتِناءً بِهِمْ ورِفْعَةً لِشَأْنِهِمْ، وإعْلاءً لِقَدْرِهِمْ.
ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِيُشْهِدَ عَلَيْهِمْ رَسُولُهُ ويَشْهَدُوا هم عَلى النّاسِ؛ فَيَكُونُونَ مَشْهُودًا لَهم بِشَهادَةِ الرَّسُولِ شاهِدِينَ عَلى الأُمَمِ بِقِيامِ حُجَّةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، فَكانَ هَذا التَّنْوِيهُ، وإشارَةُ الذِّكْرِ لِهَذَيْنِ الأمْرَيْنِ الجَلِيلَيْنِ ولِهاتَيْنِ الحِكْمَتَيْنِ العَظِيمَتَيْنِ.
والمَقْصُودُ أنَّهم إذا كانُوا بِهَذِهِ المَنزِلَةِ عِنْدَهُ تَعالى فَمِن المُحالِ أنْ يَحْرِمَهم كُلَّهم الصَّوابَ في مَسْألَةٍ فَيُفْتِي فِيها بَعْضُهم بِالخَطَأِ، ولا يُفْتِي فِيها غَيْرُهُ بِالصَّوابِ، ويَظْفَرُ فِيها بِالهُدى مِن بَعْدِهِمْ، واللَّهُ المُسْتَعانُ.
* (فائدة)
قوله ﴿مِلَّةَ﴾ مَنصُوب على إضْمار فعل أي اتبعُوا والزموا ﴿مِلَّة أبيكم﴾ ودلّ على المَحْذُوف ما تقدم من قَوْله ﴿وَجاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ﴾
وَهَذا هو الَّذِي يُقال لَهُ الإغراء.
وَقيل مَنصُوب انتصاب المصادر، والعامِل فِيهِ مَضْمُون ما تقدم قبله وكانَ رَسُول الله ﷺ يُوصي أصْحابه إذا أصْبحُوا إذا أمْسوا أن يَقُولُوا "أصْبَحْنا على فطْرَة الإسْلام وكلمَة الإخْلاص ودين نَبينا مُحَمَّد وملة أبينا إبْراهِيم حَنِيفا مُسلما وما كانَ من المُشْركين"
وَتَأمل هَذِه الألْفاظ كَيفَ جعل الفطْرَة لِلْإسْلامِ فَإنَّهُ فطْرَة الله الَّتِي فطر النّاس عَلَيْها، وكلمَة الإخْلاص هي شَهادَة أن لا إلَه إلّا الله، والملَّة لإبْراهِيم فَإنَّهُ صاحب الملَّة وهِي التَّوْحِيد وعبادَة الله تَعالى وحده لا شريك لَهُ، ومحبته فَوق كل محبَّة، والدّين للنَّبِي ﷺ وهو دينه الكامِل وشرعه التّام الجامِع لذَلِك كُله وسَماهُ سُبْحانَهُ إمامًا وأمة وقانتا وحنيفا قالَ تَعالى ﴿وَإذ ابْتَلى إبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأتَمَّهُنَّ قالَ إنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إمامًا قالَ ومِن ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ﴾.
* (فائدة)
قوله تعالى: ﴿هُوَ سَمّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وفي هَذا﴾
أي الله سماكم من قبل القرآن وفي القرآن، فسبقت تسمية الحق سبحانه لهم مسلمين قبل إسلامهم وقبل وجودهم.
قوله تعالى: ﴿واعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هو مَوْلاكم فَنِعْمَ المَوْلى ونِعْمَ النَّصِيرُ﴾
أيْ مَتى اعْتَصَمْتُمْ بِهِ تَوَلّاكُمْ، ونَصَرَكم عَلى أنْفُسِكم وعَلى الشَّيْطانِ، وهُما العَدُوّانِ اللَّذانِ لا يُفارِقانِ العَبْدَ، وعَداوَتُهُما أضَرُّ مِن عَداوَةِ العَدُوِّ الخارِجِ، فالنَّصْرُ عَلى هَذا العَدُوِّ أهَمُّ، والعَبْدُ إلَيْهِ أحْوَجُ، وكَمالُ النُّصْرَةِ عَلى العَدُوِّ بِحَسَبِ كَمالِ الِاعْتِصامِ بِاللَّهِ.
* (فصل)
أمَرَهم الله أنْ يُجاهِدُوا فِيهِ حَقَّ جِهادِهِ، كَما أمَرَهم أنْ يَتَّقُوهُ حَقَّ تُقاتِهِ، وكَما أنَّ حَقَّ تُقاتِهِ أنْ يُطاعَ فَلا يُعْصى، ويُذْكَرَ فَلا يُنْسى، ويُشْكَرَ فَلا يُكْفَرُ، فَحَقُّ جِهادِهِ أنْ يُجاهِدَ العَبْدُ نَفْسَهُ لِيُسْلِمَ قَلْبَهُ ولِسانَهُ وجَوارِحَهُ لِلَّهِ، فَيَكُونُ كُلُّهُ لِلَّهِ وبِاللَّهِ لا لِنَفْسِهِ ولا بِنَفْسِهِ، ويُجاهِدُ شَيْطانَهُ بِتَكْذِيبِ وعْدِهِ، ومَعْصِيَةِ أمْرِهِ، وارْتِكابِ نَهْيِهِ، فَإنَّهُ يَعِدُ الأمانِيَّ ويُمَنِّي الغُرُورَ، ويَعِدُ الفَقْرَ ويَأْمُرُ بِالفَحْشاءِ،
وَيَنْهى عَنِ التُّقى والهُدى والعِفَّةِ والصَّبْرِ، وأخْلاقِ الإيمانِ كُلِّها، فَجاهِدْهُ بِتَكْذِيبِ وعْدِهِ، ومَعْصِيَةِ أمْرِهِ، فَيَنْشَأُ لَهُ مِن هَذَيْنِ الجِهادَيْنِ قُوَّةٌ وسُلْطانٌ، وعُدَّةٌ يُجاهِدُ بِها أعْداءَ اللَّهِ في الخارِجِ بِقَلْبِهِ ولِسانِهِ ويَدِهِ ومالِهِ؛ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هي العُلْيا.
واخْتَلَفَتْ عِباراتُ السَّلَفِ في حَقِّ الجِهادِ:
فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو اسْتِفْراغُ الطّاقَةِ فِيهِ، وألّا يَخافَ في اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ. وقالَ مقاتل: اعْمَلُوا لِلَّهِ حَقَّ عَمَلِهِ، واعْبُدُوهُ حَقَّ عِبادَتِهِ.
وَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ: هو مُجاهَدَةُ النَّفْسِ والهَوى. ولَمْ يُصِبْ مَن قالَ: إنَّ الآيَتَيْنِ مَنسُوخَتانِ، لِظَنِّهِ أنَّهُما تَضَمَّنَتا الأمْرَ بِما لا يُطاقُ، وحَقُّ تُقاتِهِ وحَقُّ جِهادِهِ: هو ما يُطِيقُهُ كُلُّ عَبْدٍ في نَفْسِهِ، وذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ أحْوالِ المُكَلَّفِينَ في القُدْرَةِ والعَجْزِ والعِلْمِ والجَهْلِ. فَحَقُّ التَّقْوى وحَقُّ الجِهادِ بِالنِّسْبَةِ إلى القادِرِ المُتَمَكِّنِ العالِمِ شَيْءٌ، وبِالنِّسْبَةِ إلى العاجِزِ الجاهِلِ الضَّعِيفِ شَيْءٌ، وتَأمَّلْ كَيْفَ عَقَّبَ الأمْرَ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿هُوَ اجْتَباكم وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨]
والحَرَجُ: الضِّيقُ، بَلْ جَعَلَهُ واسِعًا يَسَعُ كُلَّ أحَدٍ، كَما جَعَلَ رِزْقَهُ يَسَعُ كُلَّ حَيٍّ، وكَلَّفَ العَبْدَ بِما يَسَعُهُ العَبْدُ، ورَزَقَ العَبْدَ ما يَسَعُ العَبْدَ، فَهو يَسَعُ تَكْلِيفَهُ ويَسَعُهُ رِزْقُهُ، وما جَعَلَ عَلى عَبْدِهِ في الدِّينِ مِن حَرَجٍ بِوَجْهٍ ما، قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «بُعِثْتُ بِالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» أيْ: بِالمِلَّةِ، فَهي حَنِيفِيَّةٌ في التَّوْحِيدِ، سَمْحَةٌ في العَمَلِ.
وَقَدْ وسَّعَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلى عِبادِهِ غايَةَ التَّوْسِعَةِ في دِينِهِ ورِزْقِهِ وعَفْوِهِ ومَغْفِرَتِهِ، وبَسَطَ عَلَيْهِمُ التَّوْبَةَ ما دامَتِ الرُّوحُ في الجَسَدِ، وفَتَحَ لَهم بابًا لَها لا يُغْلِقُهُ عَنْهم إلى أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مَغْرِبِها، وجَعَلَ لِكُلِّ سَيِّئَةٍ كَفّارَةً تُكَفِّرُها مِن تَوْبَةٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ حَسَنَةٍ ماحِيَةٍ أوْ مُصِيبَةٍ مُكَفِّرَةٍ، وجَعَلَ بِكُلِّ ما حَرَّمَ عَلَيْهِمْ عِوَضًا مِنَ الحَلالِ أنْفَعَ لَهم مِنهُ وأطْيَبَ وألَذَّ، فَيَقُومُ مَقامَهُ لِيَسْتَغْنِيَ العَبْدُ عَنِ الحَرامِ، ويَسَعُهُ الحَلالُ فَلا يَضِيقُ عَنْهُ، وجَعَلَ لِكُلِّ عُسْرٍ يَمْتَحِنُهم بِهِ يُسْرًا قَبْلَهُ ويُسْرًا بَعْدَهُ، " فَلَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ "، فَإذا كانَ هَذا شَأْنُهُ سُبْحانَهُ مَعَ عِبادِهِ فَكَيْفَ يُكَلِّفُهم ما لا يَسَعُهُمْ، فَضْلًا عَمّا لا يُطِيقُونَهُ ولا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ.
* (فصل آخر)
إنَّ العَبْدَ كُلَّما كانَ إلى اللَّهِ أقْرَبَ كانَ جِهادُهُ في اللَّهِ أعْظَمَ. قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿وَجاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ﴾ [الحج: ٧٨].
وَتَأمَّلْ أحْوالَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأصْحابِهِ. فَإنَّهم كانُوا كُلَّما تَرَقَّوْا مِنَ القُرْبِ في مَقامٍ: عَظُمَ جِهادُهم واجْتِهادُهُمْ: لا كَما ظَنَّهُ بَعْضُ المَلاحِدَةِ المُنْتَسِبِينَ إلى الطَّرِيقِ، حَيْثُ قالَ: القُرْبُ الحَقِيقِيُّ تَنَقُّلُ العَبْدِ مِنَ الأحْوالِ الظّاهِرَةِ إلى الأعْمالِ الباطِنَةِ. ويُرِيحُ الجَسَدَ والجَوارِحَ مِن كَدِّ العَمَلِ.
وَهَؤُلاءِ أعْظَمُ كُفْرًا وإلْحادًا. حَيْثُ عَطَّلُوا العُبُودِيَّةَ. وظَنُّوا أنَّهُمُ اسْتَغْنَوْا عَنْها بِما حَصَلَ لَهم مِنَ الخَيالاتِ الباطِلَةِ، الَّتِي هي مِن أمانِيِّ النَّفْسِ، وخِدَعِ الشَّيْطانِ. وكَأنَّ قائِلَهم إنَّما عَنى نَفْسَهُ، وذَوِي مَذْهَبِهِ بِقَوْلِهِ:
؎رَضُوا بِالأمانِيِّ وابْتَلُوا بِحُظُوظِهِمْ ∗∗∗ وخاضُوا بِحارَ الحُبِّ دَعْوى فَما ابْتَلُّوا
؎فَهم في السُّرى لَمْ يَبْرَحُوا مِن مَكانِهِمْ ∗∗∗ وما ظَعَنُوا في السَّيْرِ عَنْهُ وقَدْ كَلُّوا
وَقَدْ صَرَّحَ أهْلُ الِاسْتِقامَةِ، وأئِمَّةُ الطَّرِيقِ: بِكُفْرِ هَؤُلاءِ. فَأخْرَجُوهم مِنَ الإسْلامِ. وقالُوا: لَوْ وصَلَ العَبْدُ مِنَ القُرْبِ إلى أعْلى مَقامٍ يَنالُهُ العَبْدُ لَما سَقَطَ عَنْهُ مِنَ التَّكْلِيفِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ. أيْ ما دامَ قادِرًا عَلَيْهِ.
وَهَؤُلاءِ يَظُنُّونَ: أنَّهم يَسْتَغْنُونَ بِهَذِهِ الحَقِيقَةِ عَنْ ظاهِرِ الشَّرِيعَةِ.
وَأجْمَعَتْ هَذِهِ الطّائِفَةُ عَلى أنَّ هَذا كُفْرٌ وإلْحادٌ. وصَرَّحُوا بِأنَّ كُلَّ حَقِيقَةٍ لا تَتْبَعُها شَرِيعَةٌ فَهي كُفْرٌ.
قالَ سَرِيٌّ السَّقَطِيُّ: مَنِ ادَّعى باطِنَ الحَقِيقَةِ يَنْقُضُها ظاهِرُ حُكْمٍ: فَهو غالِطٌ. وقالَ سَيِّدُ الطّائِفَةِ الجُنَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ: عِلْمُنا هَذا مُتَشَبِّكٌ بِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. وقالَ إبْراهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّصْرابادِيُّ: أصْلُ هَذا المَذْهَبِ: مُلازَمَةُ الكِتابِ والسُّنَّةِ، وتَرْكُ الأهْواءِ والبِدَعِ. والتَّمَسُّكُ بِالأئِمَّةِ، والِاقْتِداءُ بِالسَّلَفِ، وتَرْكُ ما أحْدَثَهُ الآخِرُونَ، والمُقامُ عَلى ما سَلَكَ الأوَّلُونَ. .
وَسُئِلَ إسْماعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ: ما الَّذِي لا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنهُ؟ فَقالَ: مُلازَمَةُ العُبُودِيَّةِ عَلى السُّنَّةِ، ودَوامُ المُراقَبَةِ. وسُئِلَ: ما التَّصَوُّفُ؟ فَقالَ: الصَّبْرُ تَحْتَ الأمْرِ والنَّهْيِ. .
وَقالَ أحْمَدُ بْنُ أبِي الحَوارِيِّ: مَن عَمِلَ بِلا اتِّباعِ سُنَّةٍ فَباطِلٌ عَمَلُهُ.
وَقالَ الشِّبْلِيُّ يَوْمًا - ومَدَّ يَدَهُ إلى ثَوْبِهِ - لَوْلا أنَّهُ عارِيَةٌ لَمَزَّقْتُهُ. فَقِيلَ لَهُ: رُؤْيَتُكَ في تِلْكَ الغَلَبَةِ ثِيابَكَ، وأنَّها عارِيَةٌ؟ فَقالَ: نَعَمْ أرْبابُ الحَقائِقِ مَحْفُوظٌ عَلَيْهِمْ في كُلِّ الأوْقاتِ الشَّرِيعَةُ. .
وَقالَ أبُو يَزِيدَ البَسْطامِيُّ: لَوْ نَظَرْتُمْ إلى رَجُلٍ أُعْطِيَ مِنَ الكَراماتِ حَتّى يَرْتَفِعَ في الهَواءِ فَلا تَغْتَرُّوا بِهِ، حَتّى تَنْظُرُوا: كَيْفَ تَجِدُونَهُ عِنْدَ الأمْرِ والنَّهْيِ، وحِفْظِ الحُدُودِ والشَّرِيعَةِ.
وَقالَ عَبْدُ اللَّهِ الخَيّاطُ: النّاسُ قَبْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كانُوا مَعَ ما يَقَعُ في قُلُوبِهِمْ. فَجاءَ النَّبِيُّ ﷺ، فَرَدَّهم مِنَ القَلْبِ إلى الدِّينِ والشَّرِيعَةِ.
وَلَمّا حَضَرَتْ أبا عُثْمانَ الحِيرِيَّ الوَفاةُ: مَزَّقَ ابْنُهُ أبُو بَكْرٍ قَمِيصَهُ. فَفَتَحَ أبُو عُثْمانَ عَيْنَيْهِ، وقالَ: يا بُنَيَّ خِلافُ السُّنَّةِ في الظّاهِرِ مِن رِياءِ الباطِنِ في القَلْبِ.
وَمِن كَلامِ ابْنِ عُثْمانَ هَذا: أسْلَمُ الطُّرُقِ مِنَ الِاغْتِرارِ: طَرِيقُ السَّلَفِ، ولُزُومُ الشَّرِيعَةِ. .
وَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُبارَكٍ: لا يَظْهَرُ عَلى أحَدٍ شَيْءٌ مِن نُورِ الإيمانِ إلّا بِاتِّباعِ السُّنَّةِ، ومُجانَبَةِ البِدْعَةِ.
وَكُلُّ مَوْضِعٍ تَرى فِيهِ اجْتِهادًا ظاهِرًا بِلا نُورٍ. فاعْلَمْ أنَّ ثَمَّ بِدْعَةً خَفِيَّةً.
وَقالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الزَمِ السَّوادَ عَلى البَياضِ - حَدَّثَنا وأخْبَرَنا - إنْ أرَدْتَ أنْ تَفْلَحَ.
وَلَقَدْ كانَ ساداتُ الطّائِفَةِ أشَدَّ ما كانُوا اجْتِهادًا في آخِرِ أعْمارِهِمْ.
قالَ القُشَيْرِيُّ: سَمِعْتُ أبا عَلِيٍّ الدَّقّاقَ يَقُولُ: رُئِيَ في يَدِ الجُنَيْدِ سُبْحَةٌ. فَقِيلَ لَهُ: أنْتَ مَعَ شَرَفِكَ تَأْخُذُ بِيَدِكَ سُبْحَةً؟ فَقالَ: طَرِيقٌ وصَلْتُ بِهِ إلى رَبِّي تَبارَكَ وتَعالى لا أُفارِقُهُ أبَدًا. .
وَقالَ إسْماعِيلُ بْنُ نُجَيْدٍ: كانَ الجُنَيْدُ يَجِيءُ كُلَّ يَوْمٍ إلى السُّوقِ، فَيَفْتَحُ بابَ حانُوتِهِ. فَيَدْخُلُهُ ويُسْبِلُ السِّتْرَ، ويُصَلِّي أرْبَعَمِائَةِ رَكْعَةٍ ثُمَّ يَرْجِعُ إلى بَيْتِهِ. ودَخَلَ عَلَيْهِ ابْنُ عَطاءٍ - وهو في النَّزْعِ - فَسَلَّمَ عَلَيْهِ. فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ. ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ بَعْدَ ساعَةٍ. فَقالَ: اعْذِرْنِي. فَإنِّي كُنْتُ في وِرْدِي. ثُمَّ حَوَّلَ وجْهَهُ إلى القِبْلَةِ. وكَبَّرَ، وماتَ.
وَقالَ أبُو سَعِيدِ بْنُ الأعْرابِيِّ: سَمِعْتُ أبا بَكْرٍ العَطّارَ يَقُولُ: حَضَرْتُ أبا القاسِمِ الجُنَيْدَ - أنا وجَماعَةٌ مِن أصْحابِنا - فَكانَ قاعِدًا يُصَلِّي، ويَثْنِي رِجْلَهُ إذا أرادَ أنْ يَسْجُدَ. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتّى خَرَجَتِ الرُّوحُ مِن رِجْلَيْهِ.
فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ حَرَكَتُها، وكانَتا قَدْ تَوَرَّمَتا.
فَقالَ لَهُ بَعْضُ أصْحابِهِ: ما هَذا يا أبا القاسِمِ؟
فَقالَ: هَذِهِ نِعَمُ اللَّهِ. اللَّهُ أكْبَرُ. فَلَمّا فَرَغَ مِن صَلاتِهِ، قالَ لَهُ أبُو مُحَمَّدٍ الجَرِيرِيُّ: يا أبا القاسِمِ، لَوِ اضْطَجَعْتَ. فَقالَ: يا أبا مُحَمَّدٍ، هَذا وقْتٌ يُؤْخَذُ فِيهِ؟ اللَّهُ أكْبَرُ. فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ حالُهُ حَتّى ماتَ.
وَدَخَلَ عَلَيْهِ شابٌّ - وهو في مَرَضِهِ الَّذِي ماتَ فِيهِ. وقَدْ تَوَرَّمَ وجْهُهُ. وبَيْنَ يَدَيْهِ مِخَدَّةٌ يُصَلِّي إلَيْها - فَقالَ: وفي هَذِهِ السّاعَةِ لا تَتْرُكُ الصَّلاةَ؟ فَلَمّا سَلَّمَ دَعاهُ، وقالَ: شَيْءٌ وصَلْتُ بِهِ إلى اللَّهِ، فَلا أدَعُهُ. وماتَ بَعْدَ ساعَةٍ. رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
وَقالَ أبُو مُحَمَّدٍ الجَرِيرِيُّ: كُنْتُ واقِفًا عَلى رَأْسِ الجُنَيْدِ في وقْتِ وفاتِهِ. وكانَ يَوْمَ جُمُعَةٍ، ويَوْمَ نَيْرُوزٍ. وهو يَقْرَأُ القُرْآنَ. فَقُلْتُ لَهُ: يا أبا القاسِمِ، ارْفُقْ بِنَفْسِكَ، فَقالَ: يا أبا مُحَمَّدٍ، أرَأيْتَ أحَدًا أحْوَجَ إلَيْهِ مِنِّي، في مِثْلِ هَذا الوَقْتِ، وهو ذا تُطْوى صَحِيفَتِي؟
وَقالَ أبُو بَكْرٍ العَطَوِيُّ: كُنْتُ عِنْدَ الجُنَيْدِ حِينَ ماتَ. فَخَتَمَ القُرْآنَ. ثُمَّ ابْتَدَأ في خَتْمَةٍ أُخْرى. فَقَرَأ مِنَ البَقَرَةِ سَبْعِينَ آيَةً. ثُمَّ ماتَ.
وَقالَ مُحَمَّدُ بْنُ إبْراهِيمَ: رَأيْتُ الجُنَيْدَ في النَّوْمِ. فَقُلْتُ: ما فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ فَقالَ: طاحَتْ تِلْكَ الإشاراتُ، وغابَتْ تِلْكَ العِباراتُ، وفَنِيَتْ تِلْكَ العُلُومُ، ونَفِدَتْ تِلْكَ الرُّسُومُ. وما نَفَعَنا إلّا رَكَعاتٌ كُنّا نَرْكَعُها في الأسْحارِ.
وَتَذاكَرُوا بَيْنَ يَدَيْهِ أهْلَ المَعْرِفَةِ، وما اسْتَهانُوا بِهِ مِنَ الأوْرادِ والعِباداتِ بَعْدَما وصَلُوا إلَيْهِ؟ فَقالَ الجُنَيْدُ: العِبادَةُ عَلى العارِفِينَ أحْسَنُ مِنَ التِّيجانِ عَلى رُءُوسِ المُلُوكِ.
وَقالَ: الطُّرقُ كُلُّها مَسْدُودَةٌ عَلى الخَلْقِ، إلّا مَنِ اقْتَفى أثَرَ الرَّسُولِ ﷺ. واتَّبَعَ سُنَّتَهُ، ولَزِمَ طَرِيقَتَهُ. فَإنَّ طُرُقَ الخَيْراتِ كُلَّها مَفْتُوحَةٌ عَلَيْهِ. وقالَ: مَن ظَنَّ أنَّهُ يَصِلُ بِبَذْلِ المَجْهُودِ فَمُتَعَنٍّ. ومَن ظَنَّ أنَّهُ يَصِلُ بِغَيْرِ بَذْلِ المَجْهُودِ فَمُتَمَنٍّ.
وَقالَ أبُو نُعَيْمٍ: سَمِعْتُ أبِي يَقُولُ: سَمِعْتُ أحْمَدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ هانِئٍ يَقُولُ: سَألْتُ الجُنَيْدَ، ما عَلامَةُ الإيمانِ؟ فَقالَ: عَلامَتُهُ طاعَةُ مَن آمَنَتْ بِهِ، والعَمَلُ بِما يُحِبُّهُ ويَرْضاهُ، وتَرْكُ التَّشاغُلِ عَنْهُ بِما يَنْقَضِي ويَزُولُ.
فَرَحْمَةُ اللَّهِ عَلى أبِي القاسِمِ الجُنَيْدِ ورَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ما أتْبَعُهُ لِسُنَّةِ الرَّسُولِ ﷺ. وما أقْفاهُ لِطَرِيقَةِ أصْحابِهِ.
وَهَذا بابٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهُ جِدًّا.
يَدُلُّكَ عَلى أنَّ أهْلَ الِاسْتِقامَةِ في نِهاياتِهِمْ: أشَدُّ اجْتِهادًا مِنهم في بِداياتِهِمْ، بَلْ كانَ اجْتِهادُهم في البِدايَةِ في عَمَلٍ مَخْصُوصٍ. فَصارَ اجْتِهادُهم في النِّهايَةِ: الطّاعَةَ المُطْلَقَةَ. وصارَتْ إرادَتُهم دائِرَةً مَعَها. فَتُضْعِفُ الِاجْتِهادَ في المَعْنى المُعَيَّنِ. لِأنَّهُ كانَ مَقْسُومًا بَيْنَهُ وبَيْنَ غَيْرِهِ.
وَلا تَضَعُ إلى قَوْلِ مُلْحِدٍ قاطِعٍ لِلطَّرِيقِ في قالَبِ عارِفٍ، يَقُولُ: إنَّ مَنزِلَةَ القُرْبِ تَنْقِلُ العَبْدَ مِنَ الأعْمالِ الظّاهِرَةِ إلى الأعْمالِ الباطِنَةِ. وتَحْمِلُ عَلى الِاسْتِهانَةِ بِالطّاعاتِ الظّاهِرَةِ، وتُرِيحُهُ مِن كَدِّ القِيامِ بِها.
* [فَصْلٌ: في مَراتِبُ الجِهادِ]
إذا عُرِفَ هَذا فالجِهادُ أرْبَعُ مَراتِبَ: جِهادُ النَّفْسِ، وجِهادُ الشَّيْطانِ، وجِهادُ الكُفّارِ، وجِهادُ المُنافِقِينَ.
فَجِهادُ النَّفْسِ أرْبَعُ مَراتِبَ أيْضًا:
إحْداها: أنْ يُجاهِدَها عَلى تَعَلُّمِ الهُدى ودِينِ الحَقِّ الَّذِي لا فَلاحَ لَها ولا سَعادَةَ في مَعاشِها ومَعادِها إلّا بِهِ، ومَتى فاتَها عِلْمُهُ شَقِيَتْ في الدّارَيْنِ.
الثّانِيَةُ: أنْ يُجاهِدَها عَلى العَمَلِ بِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ، وإلّا فَمُجَرَّدُ العِلْمِ بِلا عَمَلٍ إنْ لَمْ يَضُرَّها لَمْ يَنْفَعْها.
الثّالِثَةُ: أنْ يُجاهِدَها عَلى الدَّعْوَةِ إلَيْهِ، وتَعْلِيمِهِ مَن لا يَعْلَمُهُ، وإلّا كانَ مِنَ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الهُدى والبَيِّناتِ، ولا يَنْفَعُهُ عِلْمُهُ، ولا يُنْجِيهِ مِن عَذابِ اللَّهِ.
الرّابِعَةُ: أنْ يُجاهِدَها عَلى الصَّبْرِ عَلى مَشاقِّ الدَّعْوَةِ إلى اللَّهِ وأذى الخَلْقِ، ويَتَحَمَّلُ ذَلِكَ كُلَّهُ لِلَّهِ. فَإذا اسْتَكْمَلَ هَذِهِ المَراتِبَ الأرْبَعَ صارَ مِنَ الرَّبّانِيِّينَ، فَإنَّ السَّلَفَ مُجْمِعُونَ عَلى أنَّ العالِمَ لا يَسْتَحِقُّ أنْ يُسَمّى رَبّانِيًّا حَتّى يَعْرِفَ الحَقَّ ويَعْمَلَ بِهِ ويُعَلِّمَهُ، فَمَن عَلِمَ وعَمِلَ وعَلَّمَ فَذاكَ يُدْعى عَظِيمًا في مَلَكُوتِ السَّماواتِ.
* [فَصْلٌ: في مَراتِبُ جِهادِ الشَّيْطانِ]
وَأمّا جِهادُ الشَّيْطانِ فَمَرْتَبَتانِ، إحْداهُما: جِهادُهُ عَلى دَفْعِ ما يُلْقِي إلى العَبْدِ مِنَ الشُّبُهاتِ والشُّكُوكِ القادِحَةِ في الإيمانِ.
الثّانِيَةُ: جِهادُهُ عَلى دَفْعِ ما يُلْقِي إلَيْهِ مِنَ الإراداتِ الفاسِدَةِ والشَّهَواتِ، فالجِهادُ الأوَّلُ يَكُونُ بَعْدَهُ اليَقِينُ.
والثّانِي: يَكُونُ بَعْدَهُ الصَّبْرُ. قالَ تَعالى: ﴿وَجَعَلْنا مِنهم أئِمَّةً يَهْدُونَ بِأمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: ٢٤]
فَأخْبَرَ أنَّ إمامَةَ الدِّينِ إنَّما تُنالُ بِالصَّبْرِ واليَقِينِ، فالصَّبْرُ يَدْفَعُ الشَّهَواتِ والإراداتِ الفاسِدَةَ، واليَقِينُ يَدْفَعُ الشُّكُوكَ والشُّبُهاتِ.
* [فَصْلٌ: في مَراتِبُ جِهادِ الكُفّارِ والمُنافِقِينَ]
وَأمّا جِهادُ الكُفّارِ والمُنافِقِينَ فَأرْبَعُ مَراتِبَ: بِالقَلْبِ، واللِّسانِ، والمالِ، والنَّفْسِ، وجِهادُ الكُفّارِ أخَصُّ بِاليَدِ، وجِهادُ المُنافِقِينَ أخَصُّ بِاللِّسانِ.
* [فَصْلٌ: في جِهادُ أرْبابِ الظُّلْمِ والبِدَعِ والمُنْكَراتِ]
وَأمّا جِهادُ أرْبابِ الظُّلْمِ والبِدَعِ والمُنْكَراتِ فَثَلاثُ مَراتِبَ، الأُولى: بِاليَدِ إذا قَدَرَ، فَإنْ عَجَزَ انْتَقَلَ إلى اللِّسانِ، فَإنْ عَجَزَ جاهَدَ بِقَلْبِهِ، فَهَذِهِ ثَلاثَةَ عَشَرَ مَرْتَبَةً مِنَ الجِهادِ، و«مَن ماتَ ولَمْ يَغْزُ ولَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالغَزْوِ ماتَ عَلى شُعْبَةٍ مِنَ النِّفاقِ».
* [فَصْلٌ: في شَرْطُ الجِهادِ]
وَلا يَتِمُّ الجِهادُ إلّا بِالهِجْرَةِ، ولا الهِجْرَةُ والجِهادُ إلّا بِالإيمانِ، والرّاجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ هُمُ الَّذِينَ قامُوا بِهَذِهِ الثَّلاثَةِ. قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هاجَرُوا وجاهَدُوا في سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ٢١٨].
وَكَما أنَّ الإيمانَ فَرْضٌ عَلى كُلِّ أحَدٍ فَفَرْضٌ عَلَيْهِ هِجْرَتانِ في كُلِّ وقْتٍ: هِجْرَةٌ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ بِالتَّوْحِيدِ والإخْلاصِ والإنابَةِ والتَّوَكُّلِ والخَوْفِ والرَّجاءِ والمَحَبَّةِ والتَّوْبَةِ، وهِجْرَةٌ إلى رَسُولِهِ بِالمُتابَعَةِ والِانْقِيادِ لِأمْرِهِ، والتَّصْدِيقِ بِخَبَرِهِ، وتَقْدِيمِ أمْرِهِ وخَبَرِهِ عَلى أمْرِ غَيْرِهِ وخَبَرِهِ: «فَمَن كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ ومَن كانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيا يُصِيبُها أوِ امْرَأةٍ يَتَزَوَّجُها فَهِجْرَتُهُ إلى ما هاجَرَ إلَيْهِ». وفَرَضَ عَلَيْهِ جِهادَ نَفْسِهِ في ذاتِ اللَّهِ، وجِهادَ شَيْطانِهِ، فَهَذا كُلُّهُ فَرْضُ عَيْنٍ لا يَنُوبُ فِيهِ أحَدٌ عَنْ أحَدٍ.
وَأمّا جِهادُ الكُفّارِ والمُنافِقِينَ فَقَدْ يُكْتَفى فِيهِ بِبَعْضِ الأُمَّةِ إذا حَصَلَ مِنهم مَقْصُودُ الجِهادِ.
* [فَصْلٌ: الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ اجْتِباءُ الحَقِّ عَبْدَهُ]
قالَ: الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ: اجْتِباءُ الحَقِّ عَبْدَهُ. واسْتِخْلاصُهُ إيّاهُ بِخالِصَتِهِ. كَما ابْتَدَأ مُوسى، وقَدْ خَرَجَ يَقْتَبِسُ نارًا، فاصْطَنَعَهُ لِنَفْسِهِ. وأبْقى مِنهُ رَسْمًا مُعارًا.
قُلْتُ: الِاجْتِباءُ الِاصْطِفاءُ، والإيثارُ. والتَّخْصِيصُ. وهو افْتِعالُ مِن جَبَيْتُ الشَّيْءَ: إذا حُزْتَهُ وأحْرَزْتَهُ إلَيْكَ. كَجِبايَةِ المالِ وغَيْرِهِ.
والِاصْطِناعُ أيْضًا الِاصْطِفاءُ، والِاخْتِيارُ، يَعْنِي أنَّهُ اصْطَفى مُوسى واسْتَخْلَصَهُ لِنَفْسِهِ.
وَجَعَلَهُ خالِصًا لَهُ مِن غَيْرِ سَبَبٍ كانَ مِن مُوسى، ولا وسِيلَةٍ. فَإنَّهُ خَرَجَ لِيَقْتَبِسَ النّارَ. فَرَجَعَ وهو كَلِيمُ الواحِدِ القَهّارِ. وأكْرَمُ الخَلْقِ عَلَيْهِ، ابْتِداءً مِنهُ سُبْحانَهُ، مِن غَيْرِ سابِقَةِ اسْتِحْقاقٍ، ولا تَقَدُّمِ وسِيلَةٍ. وفي مِثْلِ هَذا قِيلَ:
؎أيُّها العَبْدُ، كُنْ لِما لَسْتَ تَرْجُو ∗∗∗ مِن صَلاحٍ أرْجى لِما أنْتَ راجِي
؎إنَّ مُوسى أتى لِيَقْبِسَ نارًا ∗∗∗ مِن ضِياءٍ رَآهُ واللَيْلُ داجِي
؎فانْثَنى راجِعًا، وقَدْ كَلَّمَهُ اللَّ ∗∗∗ هُ، وناجاهُ وهْوَ خَيْرُ مُناجِي
وَقَوْلُهُ: وأبْقى مِنهُ رَسْمًا مُعارًا.
يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ بِالرَّسْمِ: البَقِيَّةَ الَّتِي تَقَدَّمَ بِها عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ ﷺ. ورُفِعَ فَوْقَهُ بِدَرَجاتٍ لِأجْلِ بَقائِها مِنهُ.
وَيُحْتَمَلُ - وهو الأظْهَرُ - أنَّهُ أخَذَهُ مِن نَفْسِهِ، واصْطَنَعَهُ لِنَفْسِهِ. واخْتارَهُ مِن بَيْنِ العالَمِينَ. وخَصَّهُ بِكَلامِهِ، ولَمْ يُبْقِ لَهُ مِن نَفْسِهِ إلّا رَسْمًا مُجَرَّدًا يَصْحَبُ بِهِ الخَلْقَ، وتَجْرِي عَلَيْهِ فِيهِ أحْكامُ البَشَرِيَّةِ. إتْمامًا لِحِكْمَتِهِ، وإظْهارًا لِقُدْرَتِهِ. فَهو عارِيَةٌ مَعَهُ. فَإذا قَضى ما عَلَيْهِ: اسْتَرَدَّ ذَلِكَ الرَّسْمَ. وجَعَلَهُ مِن مالِهِ. فَتَكَمَّلَتْ إذْ ذاكَ مَرْتَبَةُ الِاجْتِباءِ. ظاهِرًا وباطِنًا، حَقِيقَةً ورَسْمًا، ورَجَعَتِ العارِيَةُ إلى مالِكِها الحَقِّ، الَّذِي يُرْجَعُ إلَيْهِ الأمْرُ كُلُّهُ. فَكَما ابْتَدَأتْ مِنهُ عادَتْ إلَيْهِ.
وَمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ: كانَ في مَظْهَرِ الجَلالِ، ولِهَذا كانَتْ شَرِيعَتُهُ شَرِيعَةَ جَلالٍ وقَهْرٍ. أُمِرُوا بِقَتْلِ نُفُوسِهِمْ، وحُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ، وذَواتُ الظُّفُرِ وغَيْرُها مِنَ الطَّيِّباتِ، وحُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الغَنائِمُ. وعُجِّلَ لَهم مِنَ العُقُوباتِ ما عُجِّلَ وحُمِّلُوا مِنَ الآصارِ والأغْلالِ، ما لَمْ يَحْمِلْهُ غَيْرُهم.
وَكانَ مُوسى ﷺ مَن أعْظَمِ خَلْقِ اللَّهِ هَيْبَةً ووَقارًا. وأشَدِّهِمْ بَأْسًا وغَضَبًا لِلَّهِ، وبَطْشًا بِأعْداءِ اللَّهِ، وكانَ لا يُسْتَطاعُ النَّظَرُ إلَيْهِ.
وَعِيسى ﷺ: كانَ في مَظْهَرِ الجَمالِ. وكانَتْ شَرِيعَتُهُ شَرِيعَةَ فَضْلٍ وإحْسانٍ. وكانَ لا يُقاتِلُ، ولا يُحارِبُ. ولَيْسَ في شَرِيعَتِهِ قِتالٌ ألْبَتَّةَ. والنَّصارى يُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ دِينُهُمُ القِتالَ. وهم بِهِ عُصاةٌ لِشَرْعِهِ. فَإنَّ الإنْجِيلَ يَأْمُرُهم فِيهِ: أنَّ مِن لَطَمَكَ عَلى خَدِّكَ الأيْمَنِ، فَأدِرْ لَهُ خَدَّكَ الأيْسَرَ. ومَن نازَعَكَ ثَوْبَكَ. فَأعْطِهِ رِداءَكَ. ومَن سَخَّرَكَ مِيلًا. فامْشِ مَعَهُ مِيلَيْنِ. ونَحْوَ هَذا. ولَيْسَ في شَرِيعَتِهِمْ مَشَقَّةٌ، ولا آصارٌ، ولا أغْلالٌ، وإنَّما النَّصارى ابْتَدَعُوا تِلْكَ الرَّهْبانِيَّةَ مِن قِبَلِ أنْفُسِهِمْ. ولَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِمْ.
وَأمّا نَبِيُّنا ﷺ: فَكانَ في مَظْهَرِ الكَمالِ، الجامِعِ لِتِلْكَ القُوَّةِ والعَدْلِ، والشِّدَّةِ في اللَّهِ. وهَذا اللِّينِ والرَّأْفَةِ والرَّحْمَةِ. وشَرِيعَتُهُ أكْمَلُ الشَّرائِعِ. فَهو نَبِيُّ الكَمالِ، وشَرِيعَتُهُ شَرِيعَةُ الكَمالِ. وأُمَّتُهُ أكْمَلُ الأُمَمِ. وأحْوالُهم ومَقاماتُهم أكْمَلُ الأحْوالِ والمَقاماتِ.
وَلِذَلِكَ تَأْتِي شَرِيعَتُهُ بِالعَدْلِ إيجابًا لَهُ وفَرْضًا. وبِالفَضْلِ نَدْبًا إلَيْهِ واسْتِحْبابًا. وبِالشِّدَّةِ في مَوْضِعِ الشِّدَّةِ. وبِاللِّينِ في مَوْضِعِ اللِّينِ. ووُضِعَ السَّيْفُ مَوْضِعَهُ. ووُضِعَ النَّدى مَوْضِعَهُ. فَيَذْكُرَ الظُّلْمَ. ويُحَرِّمَهُ. والعَدْلَ ويُوجِبُهُ. والفَضْلَ ويَنْدُبُ إلَيْهِ في بَعْضِ آياتٍ.
كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها﴾ [الشورى: ٤٠] فَهَذا عَدْلٌ ﴿فَمَن عَفا وأصْلَحَ فَأجْرُهُ عَلى اللَّهِ﴾ [الشورى: ٤٠] فَهَذا فَضْلٌ ﴿إنَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمِينَ﴾ [الشورى: ٤٠] فَهَذا تَحْرِيمٌ لِلظُّلْمِ. وقَوْلِهِ: ﴿وَإنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦] فَهَذا إيجابٌ لِلْعَدْلِ، وتَحْرِيمٌ لِلظُّلْمِ ﴿وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهو خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ﴾ [النحل: ١٢٦] نَدَبَ إلى الفَضْلِ. وقَوْلِهِ: ﴿وَإنْ تُبْتُمْ فَلَكم رُؤُسُ أمْوالِكم لا تَظْلِمُونَ ولا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٧٩] تَحْرِيمٌ لِلظُّلْمِ. ﴿وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ﴾ [البقرة: ٢٨٠] عَدْلٌ. ﴿وَأنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكم إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٢٨٠] فَضْلٌ.
وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ ما حَرَّمَ عَلى أُمَّتِهِ صِيانَةً وحِمْيَةً.
حَرَّمَ عَلَيْهِمْ كُلَّ خَبِيثٍ وضارٍّ، وأباحَ لَهم كُلُّ طَيِّبٍ ونافِعٍ. فَتَحْرِيمُهُ عَلَيْهِمْ رَحْمَةٌ، وعَلى مَن قَبْلَهم لَمْ يَخْلُ مِن عُقُوبَةٍ. وهَداهم لِما ضَلَّتْ عَنْهُ الأُمَمُ قَبْلَهم. ووَهَبَ لَهم مِن عِلْمِهِ وحِلْمِهِ. وجَعَلَهم خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ. وكَمَّلَ لَهم مِنَ المَحاسِنِ ما فَرَّقَهُ في الأُمَمِ قَبْلَهم. كَما كَمَّلَ نَبِيَّهم ﷺ مِنَ المَحاسِنِ بِما فَرَّقَهُ في الأنْبِياءِ قَبْلَهُ. وكَمَّلَ في كِتابِهِ مِنَ المَحاسِنِ بِما فَرَّقَها في الكُتُبِ قَبْلَهُ. وكَذَلِكَ في شَرِيعَتِهِ.
فَهَؤُلاءِ الضَّنائِنُ وهُمُ المُجْتَبُونَ الأخْيارُ. كَما قالَ تَعالى ﴿هُوَ اجْتَباكم وما جَعَلَ عَلَيْكم في الدِّينِ مِن حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨]. وجَعَلَهم شُهَداءَ عَلى النّاسِ. فَأقامَهم في ذَلِكَ مَقامَ الأنْبِياءِ الشّاهِدِينَ عَلى أُمَمِهِمْ.
وَتَفْصِيلُ تَفْضِيلِ هَذِهِ الأُمَّةِ وخَصائِصِها يَسْتَدْعِي سِفْرًا. بَلْ أسْفارًا. وذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ. واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ.
{"ayah":"وَجَـٰهِدُوا۟ فِی ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۦۚ هُوَ ٱجۡتَبَىٰكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَیۡكُمۡ فِی ٱلدِّینِ مِنۡ حَرَجࣲۚ مِّلَّةَ أَبِیكُمۡ إِبۡرَ ٰهِیمَۚ هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِینَ مِن قَبۡلُ وَفِی هَـٰذَا لِیَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِیدًا عَلَیۡكُمۡ وَتَكُونُوا۟ شُهَدَاۤءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ فَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱعۡتَصِمُوا۟ بِٱللَّهِ هُوَ مَوۡلَىٰكُمۡۖ فَنِعۡمَ ٱلۡمَوۡلَىٰ وَنِعۡمَ ٱلنَّصِیرُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق