الباحث القرآني

فَما قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مَن عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ، مِمَّنْ لا يَقْدِرُ عَلى خَلْقِ أضْعَفِ حَيَوانٍ وأصْغَرِهِ، وإنْ سَلَبَهُمُ الذُّبابُ شَيْئًا مِمّا عَلَيْهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلى اسْتِنْقاذِهِ مِنهُ، وقالَ تَعالى: ﴿وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ والأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيامَةِ والسَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر: ٦٧] فَما قَدَرَ مَن هَذا شَأْنُهُ وعَظَمَتُهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَن أشْرَكَ مَعَهُ في عِبادَتِهِ مَن لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ ألْبَتَّةَ، بَلْ هو أعْجَزُ شَيْءٍ وأضْعَفُهُ، فَما قَدَرَ القَوِيَّ العَزِيزَ حَقَّ قَدْرِهِ مَن أشْرَكَ مَعَهُ الضَّعِيفَ الذَّلِيلَ. * (فائدة) تأمل هذا المثل الذي أمر الناس كلهم باستماعه فمن لم يستمعه فقد عصى أمره، كيف تضمن إبطال الشرك وأسبابه بأصح برهان في أوجز عبارة وأحسنها وأحلاها وأسجل على جميع آلهة المشركين أنهم لو اجتمعوا كلهم في صعيد واحد وساعد بعضهم بعضا وعاونه بأبلغ المعاونة لعجزوا عن خلق ذباب واحد ثم بين ضعفهم وعجزهم عن استنقاذ ما يسلبهم الذباب إياه حين يسقط عليهم فأي إله أضعف من هذا الإله المطلوب ومن عابده الطالب نفعه وخيره فهل قدر القوي العزيز حق قدره من أشرك معه آلهة هذا شأنها. فأقام سبحانه حجة التوحيد وبين إفك أهل الشرك والإلحاد بأعذب ألفاظ وأحسنها لم يستكرهها غموض ولم يشنها تطويل ولم يعبها تقصير ولم تزر بها زيادة ولا نقص بل بلغت في الحسن والفصاحة والبيان والإيجاز ما لا يتوهم متوهم ولا يظن ظان أن يكون أبلغ في معناها منها وتحتها من المعنى الجليل القدر العظيم الشرف البالغ في النفع ما هو أجل من الألفاظ. * (فَصْلٌ) حَقِيقٌ عَلى كُلِّ عَبْدٍ أنْ يَسْتَمِعَ قَلْبُهُ لِهَذا المَثَلِ، ويَتَدَبَّرَهُ حَقَّ تَدَبُّرِهِ، فَإنَّهُ يَقْطَعُ مَوادَّ الشِّرْكِ مِن قَلْبِهِ، وذَلِكَ أنَّ المَعْبُودَ أقَلُّ دَرَجاتِهِ أنْ يَقْدِرَ عَلى إيجادِ ما يَنْفَعُ عابِدُهُ وإعْدامِ ما يَضُرُّهُ، والآلِهَةُ الَّتِي يَعْبُدُها المُشْرِكُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَنْ تَقْدِرَ عَلى خَلْقِ الذُّبابِ ولَوْ اجْتَمَعُوا كُلُّهم لِخَلْقِهِ، فَكَيْفَ ما هو أكْبَرُ مِنهُ؟ وَلا يَقْدِرُونَ عَلى الِانْتِصارِ مِن الذُّبابِ إذا سَلَبَهم شَيْئًا مِمّا عَلَيْهِمْ مِن طِيبٍ ونَحْوِهِ فَيَسْتَنْقِذُوهُ مِنهُ، فَلا هم قادِرُونَ عَلى خَلْقِ الذُّبابِ الَّذِي هو مِن أضْعَفِ الحَيَواناتِ ولا عَلى الِانْتِصارِ مِنهُ واسْتِرْجاعِ ما سَلَبَهم إيّاهُ، فَلا أعْجِزَ مِن هَذِهِ الآلِهَةِ، ولا أضْعَفَ مِنها، فَكَيْفَ يَسْتَحْسِنُ عاقِلٌ عِبادَتَها مِن دُونِ اللَّهِ؟ وَهَذا المَثَلُ مِن أبْلَغِ ما أنْزَلَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ في بُطْلانِ الشِّرْكِ، وتَجْهِيلِ أهْلِهِ، وتَقْبِيحِ عُقُولِهِمْ، والشَّهادَةِ عَلى أنَّ الشَّيْطانَ قَدْ تَلاعَبَ بِهِمْ أعْظَمَ مِن تَلاعُبِ الصِّبْيانِ بِالكُرَةِ حَيْثُ أعْطَوْا الإلَهِيَّةَ الَّتِي مِن بَعْضِ لَوازِمِها القُدْرَةُ عَلى جَمِيعِ المَقْدُوراتِ والإحاطَةُ بِجَمِيعِ المَعْلُوماتِ والغِنى عَنْ جَمِيعِ المَخْلُوقاتِ وأنْ يُصْعَدَ إلى الرَّبِّ في جَمِيعِ الحاجاتِ وتَفْرِيجِ الكُرُباتِ وإغاثَةِ اللَّهَفاتِ وإجابَةِ الدَّعَواتِ، فَأعْطَوْها صُوَرًا وتَماثِيلَ يَمْتَنِعُ عَلَيْها القُدْرَةُ عَلى أقَلِّ مَخْلُوقاتٍ لِآلِهَةِ الحَقِّ وأذَلِّها وأصْغَرِها وأحْقَرِها، ولَوْ اجْتَمَعُوا لِذَلِكَ وتَعاوَنُوا عَلَيْهِ. وَأدَلُّ مِن ذَلِكَ عَلى عَجْزِهِمْ وانْتِفاءِ إلَهِيَّتِهِمْ أنَّ هَذا الخَلْقَ الأقَلَّ الأذَلَّ العاجِزَ الضَّعِيفَ لَوْ اخْتَطَفَ مِنهم شَيْئًا واسْتَلَبَهُ فاجْتَمَعُوا عَلى أنْ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنهُ لَعَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ، ولَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ. ثُمَّ سَوّى بَيْنَ العابِدِ والمَعْبُودِ في الضَّعْفِ والعَجْزِ بِقَوْلِهِ: ﴿ضَعُفَ الطّالِبُ والمَطْلُوبُ﴾ قِيلَ: الطّالِبُ العابِدُ والمَطْلُوبُ المَعْبُودُ، فَهو عاجِزٌ مُتَعَلِّقٌ بِعاجِزٍ. وَقِيلَ: هو تَسْوِيَةٌ بَيْنَ السّالِبِ والمَسْلُوبِ، وهو تَسْوِيَةٌ بَيْنَ الإلَهِ والذُّبابِ في الضَّعْفِ والعَجْزِ. وَعَلى هَذا فَقِيلَ: الطّالِبُ الإلَهُ الباطِلُ، والمَطْلُوبُ الذُّبابُ يَطْلُبُ مِنهُ ما اسْتَلَبَهُ مِنهُ. وَقِيلَ: الطّالِبُ الذُّبابُ، والمَطْلُوبُ الإلَهُ، فالذُّبابُ يَطْلُبُ مِنهُ ما يَأْخُذُهُ مِمّا عَلَيْهِ. والصَّحِيحُ أنَّ اللَّفْظَ يَتَناوَلُ الجَمِيعَ، فَضَعْفُ العابِدِ والمَعْبُودِ والمُسْتَلِبِ والمُسْتَلَبِ؛ فَمَن جَعَلَ هَذا إلَهًا مَعَ القَوِيِّ العَزِيزِ فَما قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ، ولا عَرَفَهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، ولا عَظَّمَهُ حَقَّ تَعْظِيمِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب