الباحث القرآني

وَأمّا مُعايَنَةُ القَلْبِ: فَهي انْكِشافُ صُورَةِ المَعْلُومِ لَهُ، بِحَيْثُ تَكُونُ نِسْبَتُهُ إلى القَلْبِ كَنِسْبَةِ المَرْئِيِّ إلى العَيْنِ، وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ القَلْبَ يُبْصِرُ ويَعْمى، كَما تُبْصِرُ العَيْنُ وكَما تَعْمى، قالَ تَعالى: ﴿فَإنَّها لا تَعْمى الأبْصارُ ولَكِنْ تَعْمى القُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ﴾ فالقَلْبُ يَرى ويَسْمَعُ، ويَعْمى ويَصِمُّ، وعَماهُ وصَمَمُهُ أبْلَغُ مِن عَمى البَصَرِ وصَمَمِهِ. وهي المسألة التي اختلف فيها الفقهاء هل العقل في القلب أو في الدماغ على قولين حكيا روايتين عن الإمام أحمد. والتحقيق أن أصله ومادته من القلب وينتهي إلى الدماغ قال تعالى ﴿أفَلَمْ يَسِيرُوا في الأرْضِ فَتَكُونَ لَهم قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها﴾ فجعل العقل في القلب كما جعل السمع بالأذن والبصر بالعين وقال تعالى ﴿إنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرى لِمَن كانَ لَهُ قَلْب﴾ قال غير واحد من السلف لمن كان له عقل. واحتج آخرون بأن الرجل يضرب في رأسه فيزول عقله ولولا أن العقل في الرأس لما زال فإن السمع والبصر لا يزولان بضرب اليد أو الرجل ولا غيرهما من الأعضاء لعدم تعلقهما بهما. وأجاب أرباب القلب عن هذا بأنه لا يمتنع زواله بفساد الدماغ وإن كان في القلب لما بين القلب والرأس من الارتباط وهذا كما لا يمتنع نبات شعر اللحية بقطع الأنثيين وفساد القوة بفساد العضو قد يكون لأنه محلها وارتباطه بها والله أعلم. وعلى كل تقدير فذلك من أعظم آيات الله وأدلته وقدرته وحكمته كيف ترتسم صورة السماوات والأرض والبحار والشمس والقمر والأقاليم والممالك والأمم في هذا المحل الصغير، والإنسان يحفظ كتبًا كثيرة جدًا وعلومًا شتى متعددة وصنائع مختلفة فترتسم كلها في هذا الجزء الصغير من غير أن يختلط بعض هذه الصور ببعض، بل كل صورة منهن بنفسها محصلة في هذا المحل وأنت لو ذهبت تنقش صورًا وأشكالًا كثيرة في محل صغير لاختلط بعضها ببعض وطمس بعضها بعضًا وهذا الجزء الصغير تنقش فيه الصور الكثيرة المختلفة والمتضادة ولا يبطل منها صورة صورة. ومن أعجب الأشياء أن هذه القوة العاقلة تقبل ما تؤديه إليها الحواس فتجتمع فيها ثم تعيد كل حاسة منها فائدة الحاسة الأخرى مثاله أنك ترى الشخص فتعلم أنه فلان وتسمع صوته فتعلم أنه هو وتلمس الشيء فتعرفه وتشمه فتعرف أنه هو ثم تستدل بما تسمعه من صوته على أنه هو الذي رأيته فيغنيك سماع صوته عن رؤيته ويقوم لك مقام مشاهدته، ولهذا جوز أكثر الفقهاء شهادة الأعمى وبيعه وشراءه، وأجمعوا على جواز وطئه امرأته، وهو لم يرها قط اعتمادًا منه على الصوت بل لو كانت خرساء أيضًا وهو أطرش جاز له الوطء. وقد جعل الله سبحانه بين السمع والبصر والفؤاد علاقة وارتباطًا ونفوذًا يقوم به بعضها مقام بعض ولهذا يقرن سبحانه بينهما كثيرًا في كتابه كقوله ﴿إنَّ السَّمْعَ والبَصَرَ والفُؤادَ كُلُّ أُولَئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا﴾ وقوله تعالى ﴿وَجَعَلْنا لَهم سَمْعًا وأبْصارًا وأفْئِدَةً﴾ وقوله ﴿لَهم قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ولَهم أعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ولَهم آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها﴾ وهذا من عناية الخالق سبحانه بكمال هذه الصورة البشرية لتقوم كل حاسة منها مقام الحاسة الأخرى وتفيد فائدتها في الجملة لا في كل شيء ثم أودع سبحانه قوة التفكر وأمره باستعمالها فيما يجدي عليه النفع في الدنيا والآخرة فركب القوة المفكرة من شيئين من الأشياء الحاضرة عند القوة الحافظة تركيبًا خاصًا فيتولد من بين هذين الشيئين شيء ثالث جديد لم يكن للعقل شعور به كانت مواده عنده لكن بسبب التركيب حصل له الأمر الثالث ومن هاهنا حصل استخراج الصنائع والحرف والعلوم وبناء المدن والمساكن وامور الزراعة والفلاحة وغير ذلك فلما استخرجت القوة المفكرة ذلك واستحسنته سلمته إلى القوة الإرادية العلمية فنقلته من ديوان الأذهان إلى ديوان الأعيان فكان أمرًا ذهنيًا ثم صار وجوديًا خارجيًا، ولولا الفكرة لما اهتدى الإنسان إلى تحصيل المصالح ودفع المفاسد، وذلك من أعظم النعم وتمام العناية الإلهية، ولهذا لما فقد البهائم والمجانين ونحوهم هذه القوة لم يتمكنوا مما تمكن منه أرباب الفكر. ولما كان استخراج المطلوب بهذه الطريق يتضمن فكرًا وتقديرًا فيفكر في استخراج المادة أولًا ثم يقدرها ويفصلها ثانيًا كما يصنع الخياط يحصل الثوب ثم يقدره ويفصله ثانيًا قال تعالى عن [الوحيد] ﴿ذَرْنِي ومَن خَلَقْتُ وحِيدًا وجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُودًا وبَنِينَ شُهُودًا ومَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمَّ يَطْمَعُ أنْ أزِيدَ كَلّا إنَّهُ كانَ لآياتنا عَنِيدًا سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إنَّهُ فَكَّرَ وقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ﴾ فكرر سبحانه التقدير دون التفكر وذمه عليه دونه، وهذا منزل على مقتضى حال سواء فإنه بالفكر طالب لاستخراج المجهول وذلك غير مذموم، فلما استخراجه قدر له تقديرين تقديرًا كليًا وتقديرًا جزئيًا. فالتقدير الكلي أن الساحر هو الذي يفرق بين المرء وزوجه. والتقدير الجزئي أن الذي يفرق بين المرء وزوجه مذموم، فهاهنا تقدير بعد تقدير، فلهذا كرره سبحانه وذمه عليه. وأما التفكر فإن الفكر طالب لمعرفة الشيء فلا يذم، بخلاف من قدر بعد تفكيره ما يوصله إلى تحقيق الباطل وإبطال الحق فتأمله. * [فَصْلٌ: المَعاصِي تُعْمِي البَصِيرَةَ] وَمِن عُقُوباتِها: أنَّها تُعْمِي بَصِيرَةَ القَلْبِ، وتَطْمِسُ نُورَهُ، وتَسُدُّ طُرُقَ العِلْمِ، وتَحْجُبُ مَوادَّ الهِدايَةِ. وَقَدْ قالَ مالِكٌ لِلشّافِعِيِّ لَمّا اجْتَمَعَ بِهِ ورَأى تِلْكَ المَخايِلَ: إنِّي أرى اللَّهَ تَعالى قَدْ ألْقى عَلى قَلْبِكَ نُورًا، فَلا تُطْفِئْهُ بِظُلْمَةِ المَعْصِيَةِ. وَلا يَزالُ هَذا النُّورُ يَضْعُفُ ويَضْمَحِلُّ، وظَلامُ المَعْصِيَةِ يَقْوى حَتّى يَصِيرَ القَلْبُ في مِثْلِ اللَّيْلِ البَهِيمِ، فَكَمْ مِن مُهْلَكٍ يَسْقُطُ فِيهِ ولا يُبْصِرُ، كَأعْمى خَرَجَ بِاللَّيْلِ في طَرِيقٍ ذاتِ مَهالِكَ ومَعاطِبَ، فَيا عِزَّةَ السَّلامَةِ ويا سُرْعَةَ العَطَبِ، ثُمَّ تَقْوى تِلْكَ الظُّلُماتُ، وتَفِيضُ مِنَ القَلْبِ إلى الجَوارِحِ، فَيَغْشى الوَجْهَ مِنها سَوادٌ، بِحَسَبِ قُوَّتِها وتَزايُدِها، فَإذا كانَ عِنْدَ المَوْتِ ظَهَرَتْ في البَرْزَخِ، فامْتَلَأ القَبْرُ ظُلْمَةً، كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إنَّ هَذِهِ القُبُورَ مُمْتَلِئَةٌ عَلى أهْلِها ظُلْمَةً، وإنَّ اللَّهَ يُنَوِّرُها بِصَلاتِي عَلَيْهِمْ». فَإذا كانَ يَوْمُ المَعادِ، وحُشِرَ العِبادُ، عَلَتِ الظُّلْمَةُ الوُجُوهَ عُلُوًّا ظاهِرًا يَراهُ كُلُّ أحَدٍ، حَتّى يَصِيرَ الوَجْهُ أسْوَدَ مِثْلَ الحُمَمَةِ، فَيالَها مِن عُقُوبَةٍ لا تُوازَنُ لَذّاتِ الدُّنْيا بِأجْمَعِها مِن أوَّلِها إلى آخِرِها، فَكَيْفَ بِقِسْطِ العَبْدِ المُنَغَّصِ المُنَكَّدِ المُتْعَبِ في زَمَنٍ إنَّما هو ساعَةٌ مِن حُلْمٍ؟ واللَّهُ المُسْتَعانُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب