الباحث القرآني

تَأمَّلْ هَذا المَثَلَ ومُطابَقَتَهُ لِحالِ مَن أشْرَكَ بِاللَّهِ وتَعَلَّقَ بِغَيْرِهِ، ويَجُوزُ لَك في هَذا التَّشْبِيهِ أمْرانِ: أحَدُهُما: أنْ تَجْعَلَهُ تَشْبِيهًا مُرَكَّبًا، ويَكُونُ قَدْ شَبَّهَ مَن أشْرَكَ بِاللَّهِ وعَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ بِرَجُلٍ قَدْ تَسَبَّبَ إلى هَلاكِ نَفْسِهِ هَلاكًا لا يُرْجى مَعَهُ نَجاةٌ، فَصَوَّرَ بِصُورَةِ حالِ مَن خَرَّ مِن السَّماءِ فاخْتَطَفَتْهُ الطَّيْرُ في الهُوِيِّ فَتَمَزَّقَ مِزَقًا في حَواصِلِها، أوْ عَصَفَتْ بِهِ الرِّيحُ حَتّى هَوَتْ بِهِ في بَعْضِ المَطارِحِ البَعِيدَةِ، وعَلى هَذا لا تَنْظُرُ إلى كُلِّ فَرْدٍ مِن أفْرادِ المُشَبَّهِ ومُقابِلِهِ مِن المُشَبَّهِ بِهِ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ مِن التَّشْبِيهِ المُفَرَّقِ، فَيُقابِلُ كُلَّ واحِدٍ مِن أجْزاءِ المُمَثَّلِ بِالمُمَثَّلِ بِهِ، وعَلى هَذا فَيَكُونُ قَدْ شَبَّهَ الإيمانَ والتَّوْحِيدَ في عُلُوِّهِ وسَعَتِهِ وشَرَفِهِ بِالسَّماءِ الَّتِي هي مِصْعَدَهُ ومَهْبِطَهُ، فَمِنها هَبَطَ إلى الأرْضِ، وإلَيْها يَصْعَدُ مِنها، وشَبَّهَ تارِكَ الإيمانِ والتَّوْحِيدِ بِالسّاقِطِ مِن السَّماءِ إلى أسْفَلِ سافِلِينَ مِن حَيْثُ التَّضْيِيقِ الشَّدِيدِ والآلامِ المُتَراكِمَةِ والطَّيْرِ الَّذِي تَخْطَفُ أعْضاءَهُ وتُمَزِّقُهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ بِالشَّياطِينِ الَّتِي يُرْسِلُها اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى عَلَيْهِ وتَؤُزُّهُ أزًّا وتُزْعِجُهُ وتُقْلِقُهُ إلى مَظانِّ هَلاكِهِ؛ فَكُلُّ شَيْطانٍ لَهُ مُزْعَةٌ مِن دِينِهِ وقَلْبِهِ، كَما أنَّ لِكُلِّ طَيْرٍ مُزْعَةً مِن لَحْمِهِ وأعْضائِهِ، والرِّيحُ الَّتِي تَهْوِي بِهِ في مَكان سَحِيقٍ هو هَواهُ الَّذِي حَمَلَهُ عَلى إلْقاءِ نَفْسِهِ في أسْفَلِ مَكان وأبْعَدِهِ مِن السَّماءِ. * [فَصْلٌ: مَنزِلَةُ تَعْظِيمِ حُرُماتِ اللَّهِ] وَمِن مَنازِلِ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مَنزِلَةُ تَعْظِيمِ حُرُماتِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وَمَن يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهو خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [الحج: ٣٠] قالَ جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ: حُرُماتُ اللَّهِ هاهُنا مَغاضِبُهُ، وما نَهى عَنْهُ، وتَعْظِيمُها تَرْكُ مُلابَسَتِها. قالَ اللَّيْثُ: حُرُماتُ اللَّهِ: ما لا يَحِلُّ انْتِهاكُها. وقالَ قَوْمٌ: الحُرُماتُ: هي الأمْرُ والنَّهْيُ. وقالَ الزَّجّاجُ: الحُرْمَةُ ما وجَبَ القِيامُ بِهِ، وحَرُمَ التَّفْرِيطُ فِيهِ. وقالَ قَوْمٌ: الحُرُماتُ هاهُنا المَناسِكُ، ومَشاعِرُ الحَجِّ زَمانًا ومَكانًا. والصَّوابُ: أنَّ الحُرُماتِ تَعُمُّ هَذا كُلَّهُ. وهي جَمْعُ حُرْمَةٍ وهي ما يَجِبُ احْتِرامُهُ، وحِفْظُهُ مِنَ الحُقُوقِ، والأشْخاصِ، والأزْمِنَةِ، والأماكِنِ، فَتَعْظِيمُها تَوْفِيَتُها حَقَّها، وحِفْظُها مِنَ الإضاعَةِ. قالَ صاحِبُ " المَنازِلِ ": الحُرْمَةُ: هي التَّحَرُّجُ عَنِ المُخالَفاتِ والمُجاسَراتِ. التَّحَرُّجُ: الخُرُوجُ مِن حَرَجِ المُخالَفَةِ. وبِناءُ " تَفَعَّلَ " يَكُونُ لِلدُّخُولِ في الشَّيْءِ. كَتَمَنّى إذا دَخَلَ في الأُمْنِيَّةِ، وتَوَلَّجَ في الأمْرِ دَخَلَ فِيهِ، ونَحْوِهِ. ولِلْخُرُوجِ مِنهُ، كَتَخَرَّجَ وتَحَوَّبَ وتَأثَّمَ، إذا أرادَ الخُرُوجَ مِنَ الحَرَجِ. والحُوبُ هو الإثْمُ. أرادَ أنَّ الحُرْمَةَ هي الخُرُوجُ مِن حَرَجِ المُخالَفَةِ، وجَسارَةِ الإقْدامِ عَلَيْها. ولَمّا كانَ المُخالِفُ قِسْمَيْنِ جاسِرًا وهائِبًا. قالَ: عَنِ المُخالَفاتِ والمُجاسَراتِ. * [فَصْلٌ: شاهِدُ الزُّورِ] وَقَوْلُهُ: " إلّا مُجَرَّبًا عَلَيْهِ شَهادَةُ زُورٍ " يَدُلُّ عَلى أنَّ المَرَّةَ الواحِدَةَ مِن شَهادَةِ الزُّورِ تَسْتَقِلُّ بِرَدِّ الشَّهادَةِ، وقَدْ قَرَنَ اللَّهُ سُبْحانَهُ في كِتابِهِ بَيْنَ الإشْراكِ وقَوْلِ الزُّورِ، وقالَ تَعالى: ﴿واجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أيْضًا عَنْ النَّبِيِّ ﷺ: «ألا أُنَبِّئُكم بِأكْبَرِ الكَبائِرِ؟ قُلْنا: بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ، قالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، ثُمَّ عُقُوقُ الوالِدَيْنِ وكانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، ثُمَّ قالَ: ألا وقَوْلُ الزُّورِ، ألا وقَوْلُ الزُّورِ، فَما زالَ يُكَرِّرُها حَتّى قُلْنا: لَيْتَهُ سَكَتَ» وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ: «أكْبَرُ الكَبائِرِ الإشْراكُ بِاللَّهِ، وقَتْلُ النَّفْسِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ، وقَوْلُ الزُّورِ». وَلا خِلافَ بَيْنَ المُسْلِمِينَ أنَّ شَهادَةَ الزُّورِ مِن الكَبائِرِ، واخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في الكَذِبِ في غَيْرِ الشَّهادَةِ: هَلْ هو مِن الصَّغائِرِ أوْ مِن الكَبائِرِ؟ عَلى قَوْلَيْنِ هُما رِوايَتانِ عَنْ الإمامِ أحْمَدَ حَكاهُما أبُو الحُسَيْنِ في تَمامِهِ، واحْتَجَّ مَن جَعَلَهُ مِن الكَبائِرِ بِأنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ جَعَلَهُ في كِتابِهِ مِن صِفاتِ شَرِّ البَرِّيَّةِ، وهم الكُفّارُ والمُنافِقُونَ، فَلَمْ يَصِفْ بِهِ إلّا كافِرًا أوْ مُنافِقًا، وجَعَلَهُ عَلَمَ أهْلِ النّارِ وشِعارَهم وجَعَلَ الصِّدْقَ عَلَمَ أهْلِ الجَنَّةِ وشِعارَهم. وَفِي الصَّحِيحِ مِن حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «عَلَيْكم بِالصِّدْقِ؛ فَإنَّهُ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرِّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لِيَصْدُقَ حَتّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وإيّاكم والكَذِبَ؛ فَإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لِيَكْذِبَ حَتّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذّابًا» وفي الصَّحِيحَيْنِ مَرْفُوعًا: «آيَةُ المُنافِقِ ثَلاثٌ: إذا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذا وعَدَ أخْلَفَ، وإذا اؤْتُمِنَ خانَ». وَقالَ مَعْمَرٌ عَنْ أيُّوبَ عَنْ ابْنِ أبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قالَتْ: «ما كانَ خُلُقٌ أبْغَضُ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن الكَذِبِ، ولَقَدْ كانَ الرَّجُلُ يَكْذِبُ عِنْدَهُ الكَذْبَةَ فَما تَزالُ في نَفْسِهِ حَتّى يَعْلَمَ أنَّهُ قَدْ أحْدَثَ مِنها تَوْبَةً». وَقالَ مَرْوانُ الطّاطَرِيُّ: ثنا مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ ثنا أيُّوبُ عَنْ ابْنِ أبِي مُلَيْكَةَ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: «ما كانَ شَيْءٌ أبْغَضَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن الكَذِبِ، وما جَرَّبَ عَلى أحَدٍ كَذِبًا فَرَجَعَ إلَيْهِ ما كانَ حَتّى يَعْرِفَ مِنهُ تَوْبَةً» حَدِيثٌ حَسَنٌ رَواهُ الحاكِمُ في المُسْتَدْرَكِ مِن طَرِيق ابْنِ وهْبٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أيُّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -، ورَوى عَبْدُ الرَّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ مُوسى بْنِ أبِي شَيْبَةَ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أبْطَلَ شَهادَةَ رَجُلٍ في كَذْبَةٍ كَذَبَها» وهو مُرْسَلٌ، وقَدْ احْتَجَّ بِهِ أحْمَدُ في إحْدى الرِّوايَتَيْنِ عَنْهُ. وَقالَ قَيْسُ بْنُ أبِي حازِمٍ: سَمِعْت أبا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: " إيّاكم والكَذِبَ، فَإنَّ الكَذِبَ مُجانِبُ الإيمانَ " يُرْوى مَوْقُوفًا ومَرْفُوعًا؛ ورَوى شُعْبَةُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أبِيهِ قالَ: " المُسْلِمُ يُطْبَعُ عَلى كُلِّ طَبِيعَةٍ غَيْرَ الخِيانَةِ والكَذِبِ "، ويُرْوى مَرْفُوعًا أيْضًا. وَفِي المُسْنَدِ والتِّرْمِذِيِّ مِن حَدِيثِ خُرَيْمِ بْنِ فاتِكٍ الأسَدِيِّ، «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ صَلّى صَلاةَ الصُّبْحِ، فَلَمّا انْصَرَفَ قامَ قائِمًا قالَ: عَدَلَتْ شَهادَةُ الزُّورِ الشِّرْكَ بِاللَّهِ ثَلاثَ مِرارٍ، ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: ﴿فاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثانِ واجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ [الحج: ٣٠] ﴿حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ [الحج: ٣١]». وَفِي المُسْنَدِ مِن حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «بَيْنَ يَدَيْ السّاعَةِ تَسْلِيمُ الخاصَّةِ وفُشُوُّ التِّجارَةِ حَتّى تُعِينَ المَرْأةُ زَوْجَها عَلى التِّجارَةِ، وقَطْعُ الأرْحامِ، وشَهادَةُ الزُّورِ، وكِتْمانُ شَهادَةِ الحَقِّ». وَقالَ الحَسَنُ بْنُ زِيادٍ اللُّؤْلُؤِيُّ: ثنا أبُو حَنِيفَةَ قالَ: «كُنّا عِنْدَ مُحارِبِ بْنِ دِثارٍ، فَتَقَدَّمَ إلَيْهِ رَجُلانِ، فادَّعى أحَدُهُما عَلى الآخَرِ مالًا، فَجَحَدَهُ المُدَّعى عَلَيْهِ، فَسَألَهُ البَيِّنَةَ، فَجاءَ رَجُلٌ فَشَهِدَ عَلَيْهِ، فَقالَ المَشْهُودُ عَلَيْهِ: لا واللَّهِ الَّذِي لا إلَهَ إلّا هو ما شَهِدَ عَلَيَّ بِحَقٍّ، وما عَلِمْتُهُ إلّا رَجُلًا صالِحًا، غَيْرَ هَذِهِ الزَّلَّةِ فَإنَّهُ فَعَلَ هَذا لِحِقْدٍ كانَ في قَلْبِهِ عَلَيَّ، وكانَ مُحارِبٌ مُتَّكِئًا فاسْتَوى جالِسًا ثُمَّ قالَ: يا ذا الرَّجُلِ سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: لَيَأْتِيَنَّ عَلى النّاسِ يَوْمٌ تَشِيبُ فِيهِ الوَلَدانِ، وتَضَعُ الحَوامِلُ ما في بُطُونِها، وتَضْرِبُ الطَّيْرُ بِأذْنابِها وتَضَعُ ما في بُطُونِها مِن شِدَّةِ ذَلِكَ اليَوْمِ، ولا ذَنْبَ عَلَيْها وإنَّ شاهِدَ الزُّورِ لا يُقارُّ قَدَماهُ عَلى الأرْضِ حَتّى يُقْذَفَ بِهِ في النّارِ فَإنْ كُنْت شَهِدْت بِحَقٍّ فاتَّقِ اللَّهَ وأقِمْ عَلى شَهادَتِك، وإنْ كُنْت شَهِدْت بِباطِلٍ فاتَّقِ اللَّهَ وغَطَّ رَأْسَك واخْرُجْ مِن ذَلِكَ البابِ». وَقالَ عَبْدُ المَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ: «كُنْت في مَجْلِسِ مُحارِبِ بْنِ دِثارٍ وهو في قَضائِهِ، حَتّى تَقَدَّمَ إلَيْهِ رَجُلانِ، فادَّعى أحَدُهُما عَلى الآخَرِ حَقًّا، فَأنْكَرَهُ، فَقالَ: ألَك بَيِّنَةٌ؟ فَقالَ: نَعَمْ، ادْعُ فُلانًا، فَقالَ المُدَّعى عَلَيْهِ: إنّا لِلَّهِ وإنّا إلَيْهِ راجِعُونَ، واللَّهِ إنْ شَهِدَ عَلَيَّ لَيَشْهَدَنَّ بِزُورٍ، ولَئِنْ سَألْتَنِي عَنْهُ لَأُزَكِّيَنَّهُ؛ فَلَمّا جاءَ الشّاهِدُ قالَ مُحارِبُ بْنُ دِثارٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: إنّ الطَّيْرَ لِتَضْرِبَ بِمَناقِيرِها، وتَقْذِفَ ما في حَواصِلِها، وتُحَرِّكَ أذْنابَها مِن هَوْلِ يَوْمِ القِيامَةِ، وإنَّ شاهِدَ الزُّورِ لا تُقارُّ قَدَماهُ عَلى الأرْضِ حَتّى يُقْذَفَ بِهِ في النّارِ ثُمَّ قالَ لِلرَّجُلِ: بِمَ تَشْهَدُ؟ قالَ: كُنْت أُشْهِدْت عَلى شَهادَةٍ وقَدْ نَسِيتُها، أرْجِعُ فَأتَذَكَّرُها، فانْصَرَفَ ولَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ»، ورَواهُ أبُو يَعْلى المَوْصِلِيُّ في مُسْنَدِهِ فَقالَ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ بَكّارَ ثنا زافِرٌ عَنْ أبِي عَلِيٍّ قالَ: «كُنْت عِنْدَ مُحارِبِ بْنِ دِثارٍ، فاخْتَصَمَ إلَيْهِ رَجُلانِ، فَشَهِدَ عَلى أحَدِهِما شاهِدٌ، فَقالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ شَهِدَ عَلَيَّ بِزُورٍ، ولَئِنْ سُئِلَتْ عَنْهُ لَيُزَكَّيَنَّ، وكانَ مُحارِبٌ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ ثُمَّ قالَ: سَمِعْت عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لا تَزُولُ قَدَما شاهِدِ الزُّورِ مِن مَكانِهِما حَتّى يُوجِبَ اللَّهُ لَهُ النّارَ» ولِلْحَدِيثِ طُرُقٌ إلى مُحارِبٍ. * [فَصْلٌ: الحِكْمَةُ في رَدِّ شَهادَةِ الكَذّابِ] وَأقْوى الأسْبابِ في رَدِّ الشَّهادَةِ والفُتْيا والرِّوايَةِ الكَذِبُ؛ لِأنَّهُ فَسادٌ في نَفْسِ آلَةِ الشَّهادَةِ والفُتْيا والرِّوايَةِ، فَهو بِمَثابَةِ شَهادَةِ الأعْمى عَلى رُؤْيَةِ الهِلالِ، وشَهادَةِ الأصَمِّ الَّذِي لا يَسْمَعُ عَلى إقْرارِ المُقِرِّ؛ فَإنَّ اللِّسانَ الكَذُوبَ بِمَنزِلَةِ العُضْوِ الَّذِي قَدْ تَعَطَّلَ نَفْعُهُ، بَلْ هو شَرٌّ مِنهُ، فَشَرُّ ما في المَرْءِ لِسانٌ كَذُوبٌ؛ ولِهَذا يَجْعَلُ اللَّهُ سُبْحانَهُ شِعارَ الكاذِبِ عَلَيْهِ يَوْمَ القِيامَةِ وشِعارَ الكاذِبِ عَلى رَسُولِهِ سَوادَ وُجُوهِهِمْ، والكَذِبُ لَهُ تَأْثِيرٌ عَظِيمٌ في سَوادِ الوَجْهِ، ويَكْسُوهُ بُرْقُعًا مِن المَقْتِ يَراهُ كُلُّ صادِقٍ؛ فَسِيَّما الكاذِبُ في وجْهِهِ يُنادى عَلَيْهِ لِمَن لَهُ عَيْنانِ، والصّادِقُ يَرْزُقُهُ اللَّهُ مَهابَةً وجَلالَةً، فَمَن رَآهُ هابَهُ وأحَبَّهُ، والكاذِبُ يَرْزُقُهُ إهانَةً ومَقْتًا، فَمَن رَآهُ مَقَتَهُ واحْتَقَرَهُ، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب