الباحث القرآني

أيْ رَغَبًا فِيما عِنْدَنا، ورَهَبًا مِن عَذابِنا. والضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: " إنَّهم " عائِدٌ عَلى الأنْبِياءِ المَذْكُورِينَ في هَذِهِ السُّورَةِ عِنْدَ عامَّةِ المُفَسِّرِينَ. والرَّغَبُ والرَّهَبُ: رَجاءُ الرَّحْمَةِ، والخَوْفُ مِنَ النّارِ عِنْدَهم أجْمَعِينَ. وقال في طريق الهجرتين: وقد أثنى سبحانه على أقرب عباده إليه بالخوف منه، فقال عن أنبيائه بعد أن أثنى عليهم ومدحهم: ﴿إنَّهم كانُوا يُسارِعُونَ فِى الخَيْراتِ ويَدْعُونَنا رَغَبًا ورَهَبًا﴾ فالرغب: الرجاءُ والرغبة، والرهب: الخوف والخشية، وقال عن ملائكته الذين قد أمنهم من عذابه: ﴿يَخافُونَ رَبَّهم مِن فَوْقِهِمْ ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ﴾ [النحل: ٥٠]. وفى الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: "إني أعلمكم بالله وأشدكم له خشية"، وفي لفظ آخر: "إني أخوفكم لله وأعلمكم بما أتقى"، وكان ﷺ يصلى ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاءِ، وقد قال تعالى: ﴿إنَّما يَخْشى اللهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ﴾ [فاطر: ٢٨]، فكلما كان العبد بالله أعلم كان له أخوف. قال ابن مسعود: وكفى بخشية الله علمًا. ونقصان الخوف من الله إنما هو لنقصان معرفة العبد به، فأعرف الناس أخشاهم لله، ومن عرف الله اشتد حياؤه منه وخوفه له وحبه له، وكلما ازداد معرفة ازداد حياءً وخوفًا وحبًا، فالخوف من أجلّ منازل الطريق، وخوف الخاصة أعظم من خوف العامة، وهم إليه أحوج، وهو بهم أليق، ولهم ألزم. فإن العبد إما أن يكون مستقيمًا أو مائلًا عن الاستقامة فإن كان مائلًا عن الاستقامة فخوفه من العقوبة على ميله، ولا يصح الإيمان إلا بهذا الخوف وهو ينشأ من ثلاثة أُمور: أحدها: معرفته بالجناية وقبحها. والثاني: تصديق الوعيد وأن الله رتب على المعصية عقوبتها. والثالث: أنه لا يعلم لعله يمنع من التوبة ويحال بينه وبينها إذا ارتكب الذنب. فبهذه الأمور الثلاثة يتم له الخوف، وبحسب قوتها وضعفها تكون قوة الخوف وضعفه، فإن الحامل على الذنب إما أن يكون عدم علمه بقبحه، وإما عدم علمه بسوءِ عاقبته، وإما أن يجتمع له الأمران لكن يحمله عليه اتكاله على التوبة، وهو الغالب من ذنوب أهل الإيمان، فإذا علم قبح الذنب وعلم سوءَ مغبته وخاف أن لا يفتح له باب التوبة بل يمنعها ويحال بينه وبينها اشتد خوفه. هذا قبل الذنب، فإذا عمله كان خوفه أشد. وبالجملة فمن استقر في قلبه ذكر الدار الآخرة وجزائها، وذكر المعصية والتوعد عليها، وعدم الوثوق بإتيانه بالتوبة النصوح هاج في قلبه من الخوف ما لا يملكه ولا يفارقه حتى ينجو. وإما إن كان مستقيمًا مع الله فخوفه يكون مع جريان الأنفاس، لعلمه بأن الله مقلب القلوب، وما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن عَزَّ وجَلَّ، فإن شاءَ أن يقيمه أقامه، وإن شاءَ أن يزيغه أزاغه، كما ثبت عن النبي ﷺ، وكانت أكثر يمينه: "لا ومقلب القلوب، لا ومقلب القلوب" وقال بعض السلف: القلب أشد تقلبًا من القِدْر إذا استجمعت غليانًا. وقال بعضهم: مثل القلب في سرعة تقلبه كريشة ملقاة بأرض فلاة تقلبها الرياح ظهرًا لبطن. ويكفي في هذا قوله تعالى: ﴿واعْلَمُوا أنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ﴾ [الأنفال: ٢٤]، فأي قرار لمن هذه حاله؟ ومن أحق بالخوف منه؟ بل خوفه لازم له في كل حال وإن توارى عنه بغلبة حالة أُخرى عليه. فالخوف حشو قلبه، لكن توارى عنه بغلبة غيره، فوجود الشيء غير العلم به، فالخوف الأول ثمرة العلم بالوعد والوعيد، وهذا الخوف ثمرة العلم بقدرة الله وعزته وجلاله، وأنه الفعال لما يريد وأنه المحرك للقلب المصرف له المقلب له كيف يشاءُ لا إلَهَ إلا هو. * [فَصْلٌ: مَنزِلَةُ الرَّغْبَةِ] وَمِن مَنازِلِ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] مَنزِلَةُ الرَّغْبَةِ. قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿يَدْعُونَنا رَغَبًا ورَهَبًا﴾ [الأنبياء: ٩٠]. والفَرْقُ بَيْنَ الرَّغْبَةِ والرَّجاءِ أنَّ الرَّجاءَ طَمَعٌ. والرَّغْبَةُ طَلَبٌ. فَهي ثَمَرَةُ الرَّجاءِ. فَإنَّهُ إذا رَجا الشَّيْءَ طَلَبَهُ. والرَّغْبَةُ مِنَ الرَّجاءِ كالهَرَبِ مِنَ الخَوْفِ. فَمَن رَجا شَيْئًا طَلَبَهُ ورَغِبَ فِيهِ. ومَن خافَ شَيْئًا هَرَبَ مِنهُ. والمَقْصُودُ أنَّ الرّاجِيَ طالِبٌ، والخائِفَ هارِبٌ. قالَ صاحِبُ " المَنازِلِ ": الرَّغْبَةُ هي مِنَ الرَّجاءِ بِالحَقِيقَةِ؛ لِأنَّ الرَّجاءَ طَمَعٌ يَحْتاجُ إلى تَحْقِيقٍ والرَّغْبَةُ سُلُوكٌ عَلى التَّحْقِيقِ. أيِ الرَّغْبَةُ تَتَوَلَّدُ مِنَ الرَّجاءِ. لَكِنَّهُ طَمَعٌ. وهي سُلُوكٌ وطَلَبٌ. وَقَوْلُهُ: الرَّجاءُ طَمَعٌ يَحْتاجُ إلى تَحْقِيقِ أيْ طَمَعٌ في مَغِيبٍ عَنْهُ مَشْكُوكٍ في حُصُولِهِ، وإنْ كانَ مُتَحَقِّقًا في نَفْسِهِ، كَرَجاءِ العَبْدِ دُخُولَ الجَنَّةِ. فَإنَّ الجَنَّةَ مُتَحَقِّقَةٌ لا شَكَّ فِيها. وإنَّما الشَّكُّ في دُخُولِهِ إلَيْها. وهَلْ يُوافِي رَبَّهُ بِعَمَلٍ يَمْنَعُهُ مِنها أمْ لا؟ بِخِلافِ الرَّغْبَةِ فَإنَّها لا تَكُونُ إلّا بَعْدَ تَحَقُّقِ ما يَرْغَبُ فِيهِ. فالإيمانُ في الرَّغْبَةِ أقْوى مِنهُ في الرَّجاءِ. فَلِذَلِكَ قالَ: والرَّغْبَةُ سُلُوكٌ عَلى التَّحْقِيقِ. هَذا مَعْنى كَلامِهِ. وفِيهِ نَظَرٌ. فَإنَّ الرَّغْبَةَ أيْضًا طَلَبُ مَغِيبٍ، هو عَلى شَكٍّ مِن حُصُولِهِ. فَإنَّ المُؤْمِنَ يَرْغَبُ في الجَنَّةِ ولَيْسَ بِجازِمٍ بِدُخُولِها. فالفَرْقُ الصَّحِيحُ أنَّ الرَّجاءَ طَمَعٌ والرَّغْبَةُ طَلَبٌ. فَإذا قَوِيَ الطَّمَعُ صارَ طَلَبًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب