الباحث القرآني
ذكر النَّبِيين الكريمين وأثْنى عَلَيْهِما بالحكم والعلم وخص بفهم القَضِيَّة أحدهما.
* (فائدة)
القاضي والمفتي مشتركان في أن كلا منهما يجب عليه إظهار حكم الشرع في الواقعة، ويتميز الحاكم بالإلزام به وإمضائه فشروط الحاكم ترجع إلى شروط الشاهد والمفتي والوالي، فهو مخبر عن حكم الشارع بعلمه مقبول بعدالته منفذ بقدرته.
* [فَصْلٌ: حُكُومَةُ النَّبِيَّيْنِ الكَرِيمَيْنِ داوُد وسُلَيْمانَ]
الحَرْثُ: هو البُسْتانُ، وقَدْ رُوِيَ أنَّهُ كانَ بُسْتانَ عِنَبٍ، وهو المُسَمّى بِالكَرْمِ، والنَّفْشُ: رَعْيُ الغَنَمِ لَيْلًا، فَحَكَمَ داوُد بِقِيمَةِ المُتْلَفِ، فاعْتَبَرَ الغَنَمَ فَوَجَدَها بِقَدْرِ القِيمَةِ، فَدَفَعَها إلى أصْحابِ الحَرْثِ، إمّا لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهم دَراهِمُ، أوْ تَعَذَّرَ بَيْعُها ورَضُوا بِدَفْعِها ورَضِيَ أُولَئِكَ بِأخْذِها بَدَلًا عَنْ القِيمَةِ، وأمّا سُلَيْمانُ فَقَضى بِالضَّمانِ عَلى أصْحابِ الغَنَمِ، وأنْ يَضْمَنُوا ذَلِكَ بِالمِثْلِ بِأنْ يَعْمُرُوا البُسْتانَ حَتّى يَعُودَ كَما كانَ، ولَمْ يُضَيِّعْ عَلَيْهِمْ مُغَلَّةً مِن الإتْلافِ إلى حِينِ العَوْدِ، بَلْ أعْطى أصْحابَ البُسْتانِ ماشِيَةَ أُولَئِكَ لِيَأْخُذُوا مِن نَمائِها بِقَدْرِ نَماءِ البُسْتانِ فَيَسْتَوْفُوا مِن نَماءِ غَنَمِهِمْ نَظِيرَ ما فاتَهم مِن نَماءِ حَرْثِهِمْ، وقَدْ اعْتَبَرَ النماءين فَوَجَدَهُما سَواءً وهَذا هو العِلْمُ الَّذِي خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ وأثْنى عَلَيْهِ بِإدْراكِهِ.
وَقَدْ تَنازَعَ عُلَماءُ المُسْلِمِينَ في مِثْلِ هَذِهِ القَضِيَّةِ عَلى أرْبَعَةِ أقْوالٍ:
أحَدُها: مُوافَقَةُ الحُكْمِ السُّلَيْمانِيِّ في ضَمانِ النَّفْشِ وفي المِثْلِ، وهو الحَقُّ، وهو أحَدُ القَوْلَيْنِ في مَذْهَبِ أحْمَدَ، ووَجْهٌ لِلشّافِعِيَّةِ والمالِكِيَّةِ، والمَشْهُورُ عِنْدَهم خِلافُهُ.
والقَوْلُ الثّانِي: مُوافَقَتُهُ في ضَمانِ النَّفْشِ دُونَ التَّضْمِينِ بِالمِثْلِ، وهَذا هو المَشْهُورُ مِن مَذْهَبِ مالِكٍ والشّافِعِيِّ وأحْمَدَ.
والثّالِثُ: مُوافَقَتُهُ في التَّضْمِينِ بِالمِثْلِ دُونَ النَّفْشِ كَما إذا رَعاها صاحِبُها بِاخْتِيارِهِ دُونَ ما إذا تَفَلَّتَتْ ولَمْ يَشْعُرْ بِها، وهو قَوْلُ داوُد ومَن وافَقَهُ.
والقَوْلُ الرّابِعُ: أنَّ النَّفْشَ لا يُوجِبُ الضَّمانَ بِحالٍ، وما وجَبَ مِن ضَمانِ الرّاعِي بِغَيْرِ النَّفْشِ فَإنَّهُ يُضْمَنُ بِالقِيمَةِ لا بِالمِثْلِ، وهَذا مَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ.
وَما حَكَمَ بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ سُلَيْمانُ هو الأقْرَبُ إلى العَدْلِ والقِياسِ، وقَدْ حَكَمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أنَّ عَلى أهْلِ الحَوائِطِ حِفْظَها بِالنَّهارِ وأنَّ ما أفْسَدَتْ المَواشِي بِاللَّيْلِ ضَمانٌ عَلى أهْلِها، فَصَحَّ بِحُكْمِهِ ضَمانُ النَّفْشِ، وصَحَّ بِالنُّصُوصِ السّابِقَةِ والقِياسُ الصَّحِيحُ وُجُوبُ الضَّمانِ بِالمِثْلِ، وصَحَّ بِنَصِّ الكِتابِ الثَّناءُ عَلى سُلَيْمانَ بِتَفْهِيمِ هَذا الحُكْمِ، فَصَحَّ أنَّهُ الصَّوابُ، وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
* [فَصْلٌ: مَرْتَبَةُ الإفْهامِ]
قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿وَداوُدَ وسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ في الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ وكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وكُلًّا آتَيْنا حُكْمًا وعِلْمًا﴾ [الأنبياء: ٧٨]
فَذَكَرَ هَذَيْنِ النَّبِيَّيْنِ الكَرِيمَيْنِ، وأثْنى عَلَيْهِما بِالعِلْمِ والحُكْمِ، وخَصَّ سُلَيْمانَ بِالفَهْمِ في هَذِهِ الواقِعَةِ المُعَيَّنَةِ، وقالَ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ وقَدْ سُئِلَ " هَلْ خَصَّكم رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِشَيْءٍ دُونَ النّاسِ؟ " فَقالَ: لا والَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وبَرَأ النَّسَمَةَ، إلّا فَهْمًا يُؤْتِيهِ اللَّهُ عَبْدًا في كِتابِهِ، وما في هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، وكانَ فِيها العَقْلُ، وهو الدِّياتُ، وفِكاكُ الأسِيرِ، وأنْ لا يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِكافِرٍ "، وفي كِتابِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ لِ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: والفَهْمَ الفَهْمَ فِيما أُدْلِيَ إلَيْكَ، فالفَهْمُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلى عَبْدِهِ، ونُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ في قَلْبِهِ، يَعْرِفُ بِهِ، ويُدْرِكُ ما لا يُدْرِكُهُ غَيْرُهُ ولا يَعْرِفُهُ، فَيَفْهَمُ مِنَ النَّصِّ ما لا يَفْهَمُهُ غَيْرُهُ، مَعَ اسْتِوائِهِما في حِفْظِهِ، وفَهْمِ أصْلِ مَعْناهُ.
فالفَهْمُ عَنِ اللَّهِ ورَسُولِهِ عُنْوانُ الصِّدِّيِقِيَّةِ، ومَنشُورُ الوِلايَةِ النَّبَوِيَّةِ، وفِيهِ تَفاوَتَتْ مَراتِبُ العُلَماءِ، حَتّى عُدَّ ألْفٌ بِواحِدٍ، فانْظُرْ إلى فَهْمِ ابْنِ عَبّاسٍ وقَدْ سَألَهُ عُمَرُ، ومَن حَضَرَ مِن أهْلِ بَدْرٍ وغَيْرِهِمْ عَنْ سُورَةِ ﴿إذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ والفَتْحُ﴾ [النصر: ١] وما خُصَّ بِهِ ابْنُ عَبّاسٍ مِن فَهْمِهِ مِنها أنَّها نَعْيُ اللَّهِ سُبْحانَهُ نَبِيَّهُ إلى نَفْسِهِ وإعْلامُهُ بِحُضُورِ أجَلِهِ، ومُوافَقَةِ عُمَرَ لَهُ عَلى ذَلِكَ، وخَفائِهِ عَنْ غَيْرِهِما مِنَ الصَّحابَةِ وابْنُ عَبّاسٍ إذْ ذاكَ أحْدَثُهم سِنًّا، وأيْنَ تَجِدُ في هَذِهِ السُّورَةِ الإعْلامَ بِأجَلِهِ، لَوْلا الفَهْمُ الخاصُّ؟ ويَدِقُّ هَذا حَتّى يَصِلَ إلى مَراتِبَ تَتَقاصَرُ عَنْها أفْهامُ أكْثَرِ النّاسِ، فَيُحْتاجُ مَعَ النَّصِّ إلى غَيْرِهِ، ولا يَقَعُ الِاسْتِغْناءُ بِالنُّصُوصِ في حَقِّهِ، وأمّا في حَقِّ صاحِبِ الفَهْمِ فَلا يُحْتاجُ مَعَ النُّصُوصِ إلى غَيْرِها.
* [فَصْلٌ: في صُوَر للحكم بِالفِراسَةِ]
وَمِن الحُكْمِ بِالفِراسَةِ والأماراتِ: ما رَواهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنُ أبِي رافِعٍ عَنْ أبِيهِ، قالَ: خاصَمَ غُلامٌ مِن الأنْصارِ أُمَّهُ إلى عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَجَحَدَتْهُ، فَسَألَهُ البَيِّنَةَ، فَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ، وجاءَتْ المَرْأةُ بِنَفَرٍ، فَشَهِدُوا أنَّها لَمْ تَتَزَوَّجْ وأنَّ الغُلامَ كاذِبٌ عَلَيْها، وقَدْ قَذَفَها.
فَأمَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِضَرْبِهِ، فَلَقِيَهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَسَألَ عَنْ أمْرِهِمْ، فَأُخْبِرَ فَدَعاهُمْ، ثُمَّ قَعَدَ في مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ وسَألَ المَرْأةَ فَجَحَدَتْ، فَقالَ لِلْغُلامِ: اجْحَدْها كَما جَحَدَتْك، فَقالَ: يا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إنّها أُمِّي، قالَ: اجْحَدْها، وأنا أبُوك والحَسَنُ والحُسَيْنُ أخَواك، قالَ: قَدْ جَحَدْتها، وأنْكَرْتها.
فَقالَ عَلِيٌّ لِأوْلِياءِ المَرْأةِ: أمْرِي في هَذِهِ المَرْأةِ جائِزٌ؟ قالُوا: نَعَمْ، وفِينا أيْضًا، فَقالَ عَلِيٌّ: أُشْهِدُ مَن حَضَرَ أنِّي قَدْ زَوَّجْت هَذا الغُلامَ مِن هَذِهِ المَرْأةِ الغَرِيبَةِ مِنهُ، يا قَنْبَرُ ائْتِنِي بِطِينَةٍ فِيها دِرْهَمٌ، فَأتاهُ بِها، فَعَدَّ أرْبَعَمِائَةٍ وثَمانِينَ دِرْهَمًا، فَدَفَعَها مَهْرًا لَها.
وَقالَ لِلْغُلامِ: خُذْ بِيَدِ امْرَأتِك، ولا تَأْتِنا إلّا وعَلَيْك أثَرُ العُرْسِ، فَلَمّا ولّى، قالَتْ المَرْأةُ: يا أبا الحَسَنِ، اللَّهَ اللَّهَ هو النّارُ، هو واللَّهِ ابْنِي.
قالَ: وكَيْفَ ذَلِكَ؟ قالَتْ: إنّ أباهُ كانَ زِنْجِيًّا، وإنَّ إخْوَتِي زَوَّجُونِي مِنهُ، فَحَمَلْت بِهَذا الغُلامِ. وخَرَجَ الرَّجُلُ غازِيًا فَقُتِلَ، وبَعَثْت بِهَذا إلى حَيِّ بَنِي فُلانٍ. فَنَشَأ فِيهِمْ، وأنِفْت أنْ يَكُونَ ابْنِي، فَقالَ عَلِيٌّ: أنا أبُو الحَسَنِ، وألْحَقَهُ بِها، وثَبَتَ نَسَبَهُ.
وَمِن ذَلِكَ: أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ سَألَ رَجُلًا: كَيْفَ أنْتَ؟ فَقالَ: مِمَّنْ يُحِبُّ الفِتْنَةَ، ويَكْرَهُ الحَقَّ، ويَشْهَدُ عَلى ما لَمْ يَرَهُ، فَأمَرَ بِهِ إلى السِّجْنِ. فَأمَرَ عَلِيٌّ بِرَدِّهِ، وقالَ: صَدَقَ، قالَ: كَيْفَ صَدَّقْته؟ قالَ: يُحِبُّ المالَ والوَلَدَ.
وَقَدْ قالَ تَعالى: ﴿إنَّما أمْوالُكم وأوْلادُكم فِتْنَةٌ﴾ [التغابن: ١٥] ويَكْرَهُ المَوْتَ، وهو حَقٌّ، ويَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، ولَمْ يَرَهُ، فَأمَرَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِإطْلاقِهِ، قالَ: ﴿اللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾ [الأنعام: ١٢٤].
وَقالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِامْرَأةٍ قَدْ تَعَلَّقَتْ بِشابٍّ مِن الأنْصارِ، وكانَتْ تَهْواهُ، فَلَمّا لَمْ يُساعِدْها احْتالَتْ عَلَيْهِ، فَأخَذَتْ بَيْضَةً فَألْقَتْ صُفارَها، وصَبَّتْ البَياضَ عَلى ثَوْبِها وبَيْنَ فَخْذَيْها، ثُمَّ جاءَتْ إلى عُمَرَ صارِخَةً، فَقالَتْ: هَذا الرَّجُلُ غَلَبَنِي عَلى نَفْسِي، وفَضَحَنِي في أهْلِي، وهَذا أثَرُ فِعالِهِ. فَسَألَ عُمَرُ النِّساءَ فَقُلْنَ لَهُ: إنّ بِبَدَنِها وثَوْبِها أثَرَ المَنِيِّ. فَهَمَّ بِعُقُوبَةِ الشّابِّ فَجَعَلَ يَسْتَغِيثُ، ويَقُولُ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، تَثَبَّتْ في أمْرِي، فَواللَّهِ ما أتَيْت فاحِشَةً وما هَمَمْت بِها، فَلَقَدْ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي فاعْتَصَمْت، فَقالَ عُمَرُ: يا أبا الحَسَنِ ما تَرى في أمْرِهِما، فَنَظَرَ عَلِيٌّ إلى ما عَلى الثَّوْبِ. ثُمَّ دَعا بِماءٍ حارٍّ شَدِيدِ الغَلَيانِ، فَصَبَّ عَلى الثَّوْبِ فَجَمَدَ ذَلِكَ البَياضُ، ثُمَّ أخَذَهُ واشْتَمَّهُ وذاقَهُ، فَعَرَفَ طَعْمَ البَيْضِ وزَجَرَ المَرْأةَ، فاعْتَرَفَتْ.
قُلْت: ويُشْبِهُ هَذا ما ذَكَرَهُ الخِرَقِيُّ وغَيْرُهُ عَنْ أحْمَدَ: أنَّ المَرْأةَ إذا ادَّعَتْ أنَّ زَوْجَها عِنِّينٌ، وأنْكَرَ ذَلِكَ وهي ثَيِّبٌ، فَإنَّهُ يُخْلى مَعَها في بَيْتٍ، ويُقالُ لَهُ: أخْرِجْ ماءَك عَلى شَيْءٍ، فَإنْ ادَّعَتْ أنَّهُ لَيْسَ بِمَنِيٍّ جُعِلَ عَلى النّارِ، فَإنْ ذابَ فَهو مَنِيٌّ، وبَطَلَ قَوْلُها، وهَذا مَذْهَبُ عَطاءِ بْنِ أبِي رَباحٍ. وهَذا حُكْمٌ بِالأماراتِ الظّاهِرَةِ، فَإنَّ المَنِيَّ إذا جُعِلَ عَلى النّارِ ذابَ واضْمَحَلَّ، وإنْ كانَ بَياضَ بَيْضٍ تَجَمَّعَ ويَبِسَ، فَإنْ قالَ: أنا أعْجِزُ عَنْ إخْراجِ مائِي صَحَّ قَوْلُها.
وَقالَ الأصْبَغُ بْنُ نَباتَةَ: إنّ شابًّا شَكا إلى عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَفَرًا، فَقالَ: إنّ هَؤُلاءِ خَرَجُوا مَعَ أبِي في سَفَرٍ. فَعادُوا ولَمْ يَعُدْ أبِي، فَسَألْتهمْ عَنْهُ، فَقالُوا: ماتَ، فَسَألْتهمْ عَنْ مالِهِ؟ فَقالُوا: ما تَرَكَ شَيْئًا، وكانَ مَعَهُ مالٌ كَثِيرٌ، وتَرافَعْنا إلى شُرَيْحٍ، فاسْتَحْلَفَهم وخَلّى سَبِيلَهُمْ، فَدَعا عَلِيٌّ بِالشُّرَطِ، فَوَكَّلَ بِكُلِّ رَجُلٍ رَجُلَيْنِ، وأوْصاهم ألّا يُمَكِّنُوا بَعْضَهم أنْ يَدْنُوَ مِن بَعْضٍ، ولا يَدَعُوا أحَدًا يُكَلِّمُهُمْ، ودَعا كاتِبَهُ، ودَعا أحَدَهم.
فَقالَ: أخْبِرْنِي عَنْ أبِي هَذا الفَتى: في أيِّ يَوْمٍ خَرَجَ مَعَكُمْ؟ وفي أيِّ مَنزِلٍ نَزَلْتُمْ؟ وكَيْفَ كانَ سَيْرُكُمْ؟ وبِأيِّ عِلَّةٍ ماتَ؟ وكَيْفَ أُصِيبَ بِمالِهِ؟ وسَألَهُ عَمَّنْ غَسَّلَهُ ودَفَنَهُ؟ ومَن تَوَلّى الصَّلاةَ عَلَيْهِ؟ وأيْنَ دُفِنَ؟ ونَحْوِ ذَلِكَ، والكاتِبُ يَكْتُبُ، ثُمَّ كَبَّرَ عَلِيٌّ فَكَبَّرَ الحاضِرُونَ، والمُتَّهَمُونَ لا عِلْمَ لَهم إلّا أنَّهم ظَنُّوا أنَّ صاحِبَهم قَدْ أقَرَّ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ دَعا آخَرَ بَعْدَ أنْ غَيَّبَ الأوَّلَ عَنْ مَجْلِسِهِ، فَسَألَهُ كَما سَألَ صاحِبَهُ، ثُمَّ الآخَرَ كَذَلِكَ، حَتّى عَرَفَ ما عِنْدَ الجَمِيعِ، فَوَجَدَ كُلَّ واحِدٍ مِنهم يُخْبِرُ بِضِدِّ ما أخْبَرَ بِهِ صاحِبُهُ، ثُمَّ أمَرَ بِرَدِّ الأوَّلِ، فَقالَ: يا عَدُوَّ اللَّهِ، قَدْ عَرَفْت غَدْرَك وكَذِبَك بِما سَمِعْت مِن أصْحابِك، وما يُنْجِيك مِن العُقُوبَةِ إلّا الصِّدْقُ، ثُمَّ أمَرَ بِهِ إلى السِّجْنِ، وكَبَّرَ، وكَبَّرَ مَعَهُ الحاضِرُونَ، فَلَمّا أبْصَرَ القَوْمُ الحالَ لَمْ يَشُكُّوا أنَّ صاحِبَهم أقَرَّ عَلَيْهِمْ، فَدَعا آخَرَ مِنهُمْ، فَهَدَّدَهُ، فَقالَ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، واللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ كارِهًا لِما صَنَعُوا، ثُمَّ دَعا الجَمِيعَ فَأقَرُّوا بِالقِصَّةِ، واسْتُدْعِيَ الَّذِي في السِّجْنِ، وقِيلَ لَهُ: قَدْ أقَرَّ أصْحابُك ولا يُنْجِيك سِوى الصِّدْقِ، فَأقَرَّ بِمِثْلِ ما أقَرَّ بِهِ القَوْمُ، فَأغْرَمَهم المالَ، وأقادَ مِنهم بِالقَتِيلِ.
وَرُفِعَ إلى بَعْضِ القُضاةِ رَجُلٌ ضَرَبَ رَجُلًا عَلى هامَتِهِ، فادَّعى المَضْرُوبُ: أنَّهُ أزالَ بَصَرَهُ وشَمَّهُ، فَقالَ: يُمْتَحَنُ، بِأنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ إلى قُرْصِ الشَّمْسِ، فَإنْ كانَ صَحِيحًا لَمْ تَثْبُتْ عَيْناهُ لَها، ويَنْحَدِرُ مِنهُما الدَّمْعُ. وتُحْرَقُ خِرْقَةٌ وتُقَدَّمُ إلى أنْفِهِ. فَإنْ كانَ صَحِيحَ الشَّمِّ: بَلَغَتْ الرّائِحَةُ خَيْشُومَهُ ودَمَعَتْ عَيْناهُ.
وَرَأيْت في " أقْضِيَةِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - " نَظِيرَ هَذِهِ القَضِيَّةِ، وأنَّ المَضْرُوبَ ادَّعى أنَّهُ أخْرَسُ. وأمَرَ أنْ يُخْرِجَ لِسانَهُ ويُنْخَسَ بِإبْرَةٍ، فَإنْ خَرَجَ الدَّمُ أحْمَرَ فَهو صَحِيحُ اللِّسانِ، وإنْ خَرَجَ أسْوَدَ فَهو أخْرَسُ.
وَقالَ أصْبَغُ بْنُ نَباتَةَ: قِيلَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في فِداءِ أسْرى المُسْلِمِينَ مِن أيْدِي المُشْرِكِينَ، فَقالَ: نادُوا مِنهم مَن كانَتْ جِراحاتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، دُونَ مَن كانَتْ مِن ورائِهِ. فَإنَّهُ فارٌّ.
وَقَضى عَلِيٌّ أيْضًا في امْرَأةٍ تَزَوَّجَتْ، فَلَمّا كانَ لَيْلَةُ زِفافِها أدْخَلَتْ صَدِيقَها الحَجَلَةَ سِرًّا، وجاءَ الزَّوْجُ فَدَخَلَ الحَجَلَةَ، فَوَثَبَ إلَيْهِ الصَّدِيقُ فاقْتَتَلا، فَقَتَلَ الزَّوْجُ الصَّدِيقَ. فَقامَتْ إلَيْهِ المَرْأةُ فَقَتَلَتْهُ، فَقَضى بِدِيَةِ الصَّدِيقِ عَلى المَرْأةِ، ثُمَّ قَتَلَها بِالزَّوْجِ، وإنَّما قَضى بِدِيَةِ الصَّدِيقِ عَلَيْها: لِأنَّها هي الَّتِي عَرَّضَتْهُ لِقَتْلِ الزَّوْجِ لَهُ؛ فَكانَتْ هي المُتَسَبِّبَةُ في قَتْلِهِ، وكانَتْ أوْلى بِالضَّمانِ مِن الزَّوْجِ المُباشِرِ؛ لِأنَّ المُباشِرَ قَتَلَهُ قَتْلًا مَأْذُونًا فِيهِ، دَفْعًا عَنْ حُرْمَتِهِ. فَهَذا مِن أحْسَنِ القَضاءِ الَّذِي لا يَهْتَدِي إلَيْهِ كَثِيرٌ مِن الفُقَهاءِ، وهو الصَّوابُ.
وَقَضى في رَجُلٍ فَرَّ مِن رَجُلٍ يُرِيدُ قَتْلَهُ، فَأمْسَكَهُ لَهُ آخَرُ، حَتّى أدْرَكَهُ فَقَتَلَهُ؛ وبِقُرْبِهِ رَجُلٌ يَنْظُرُ إلَيْهِما، وهو يَقْدِرُ عَلى تَخْلِيصِهِ، فَوَقَفَ يَنْظُرُ إلَيْهِ حَتّى قَتَلَهُ. فَقَضى أنْ يُقْتَلَ القاتِلُ، ويُحْبَسَ المُمْسِكُ حَتّى يَمُوتَ، وتُفْقَأ عَيْنُ النّاظِرِ الَّذِي وقَفَ يَنْظُرُ ولَمْ يُنْكِرْ.
وَقَضى أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رَجُلٍ قَطَعَ فَرْجَ امْرَأتِهِ: أنْ تُؤْخَذَ مِنهُ دِيَةُ الفَرْجِ، ويُجْبَرُ عَلى إمْساكِها، حَتّى تَمُوتَ، وإنْ طَلَّقَها أنْفَقَ عَلَيْها.
فَلِلَّهِ ما أحْسَنَ هَذا القَضاءَ، وأقْرَبَهُ مِن الصَّوابِ. فَأمّا الفَرْجُ: فَفِيهِ الدِّيَةُ كامِلَةً اتِّفاقًا، وأمّا إنْفاقُهُ عَلَيْها إنْ طَلَّقَها، فَلِأنَّهُ أفْسَدَها عَلى الأزْواجِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِنَفَقَتِها ومَصالِحِها فَسادًا لا يَعُودُ، وأمّا إجْبارُهُ عَلى إمْساكِها: فَمُعاقَبَةٌ لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، فَإنَّهُ قَصَدَ التَّخَلُّصَ مِنها بِأمْرٍ مُحَرَّمٍ، وقَدْ كانَ يُمْكِنُهُ التَّخَلُّصُ مِنها بِالطَّلاقِ، أوْ الخُلْعِ، فَعَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إلى هَذِهِ المُثْلَةِ القَبِيحَةِ، فَكانَ جَزاؤُهُ أنْ يُلْزَمَ بِإمْساكِها إلى المَوْتِ. وقَضى في مَوْلُودٍ وُلِدَ لَهُ رَأْسانِ وصَدْرانِ في حِقْوٍ واحِدٍ، فَقالُوا لَهُ: أيُوَرَّثُ مِيراثَ اثْنَيْنِ، أمْ مِيراثَ واحِدٍ؟ فَقالَ: يُتْرَكُ حَتّى يَنامَ، ثُمَّ يُصاحُ بِهِ، فَإنْ انْتَبَها جَمِيعًا، كانَ لَهُ مِيراثُ واحِدٍ، وإنْ انْتَبَهَ واحِدٌ وبَقِيَ الآخَرُ، كانَ لَهُ مِيراثُ اثْنَيْنِ.
وَمِن ذَلِكَ: أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُتِيَ بِامْرَأةٍ زَنَتْ، فَسَألَها فَأقَرَّتْ فَأمَرَ بِرَجْمِها. فَقالَ عَلِيٌّ: لَعَلَّ لَها عُذْرًا، ثُمَّ قالَ لَها: ما حَمَلَك عَلى الزِّنا؟ قالَتْ: كانَ لِي خَلِيطٌ، وفي إبِلِهِ ماءٌ ولَبَنٌ، ولَمْ يَكُنْ في إبِلِي ماءٌ ولا لَبَنٌ فَظَمِئْت فاسْتَسْقَيْته، فَأبى أنْ يَسْقِيَنِي حَتّى أُعْطِيَهُ نَفْسِي. فَأبَيْت عَلَيْهِ ثَلاثًا. فَلَمّا ظَمِئْت وظَنَنْت أنَّ نَفْسِي سَتَخْرُجُ أعْطَيْته الَّذِي أرادَ، فَسَقانِي، فَقالَ عَلِيٌّ: اللَّهُ أكْبَرُ ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: ١٧٣].
وَمِن قَضايا عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أنَّهُ أُتِيَ بِرَجُلٍ وُجِدَ في خَرِبَةٍ بِيَدِهِ سِكِّينٌ مُتَلَطِّخَةٌ بِدَمٍ، وبَيْنَ يَدَيْهِ قَتِيلٌ يَتَشَحَّطُ في دَمِهِ. فَسَألَهُ؟ فَقالَ: أنا قَتَلْته، قالَ: اذْهَبُوا بِهِ فاقْتُلُوهُ. فَلَمّا ذُهِبَ بِهِ أقْبَلَ رَجُلٌ مُسْرِعًا، فَقالَ: يا قَوْمُ، لا تَعْجَلُوا. رُدُّوهُ إلى عَلِيٍّ، فَرَدُّوهُ، فَقالَ الرَّجُلُ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، ما هَذا صاحِبُهُ، أنا قَتَلْته. فَقالَ عَلِيٌّ لِلْأوَّلِ: ما حَمَلَك عَلى أنْ قُلْت: أنا قاتِلُهُ، ولَمْ تَقْتُلْهُ؟ قالَ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، وما أسْتَطِيعُ أنْ أصْنَعَ؟ وقَدْ وقَفَ العَسَسُ عَلى الرَّجُلِ يَتَشَحَّطُ في دَمِهِ، وأنا واقِفٌ، وفي يَدِي سِكِّينٌ، وفِيها أثَرُ الدَّمِ، وقَدْ أُخِذْت في خَرِبَةٍ؟ فَخِفْت ألّا يُقْبَلَ مِنِّي، وأنْ يَكُونَ قَسامَةٌ، فاعْتَرَفْت بِما لَمْ أصْنَعْ، واحْتَسَبْت نَفْسِي عِنْدَ اللَّهِ.
فَقالَ عَلِيٌّ: بِئْسَما صَنَعْت. فَكَيْفَ كانَ حَدِيثُك؟ قالَ: إنِّي رَجُلٌ قَصّابٌ، خَرَجْت إلى حانُوتِي في الغَلَسِ، فَذَبَحْت بَقَرَةً وسَلَخْتها. فَبَيْنَما أنا أسْلُخُها والسِّكِّينُ في يَدِي أخَذَنِي البَوْلُ. فَأتَيْت خَرِبَةً كانَتْ بِقُرْبِي فَدَخَلْتها، فَقَضَيْت حاجَتِي، وعُدْت أُرِيدُ حانُوتِي، فَإذا أنا بِهَذا المَقْتُولِ يَتَشَحَّطُ في دَمِهِ فَراعَنِي أمْرُهُ، فَوَقَفْت أنْظُرُ إلَيْهِ والسِّكِّينُ في يَدِي، فَلَمْ أشْعُرْ إلّا بِأصْحابِك قَدْ وقَفُوا عَلَيَّ فَأخَذُونِي، فَقالَ النّاسُ: هَذا قَتَلَ هَذا، ما لَهُ قاتِلٌ سِواهُ. فَأيْقَنْت أنَّك لا تَتْرُكُ قَوْلَهم لِقَوْلِي، فاعْتَرَفْت بِما لَمْ أجْنِهِ، فَقالَ عَلِيٌّ لِلْمُقِرِّ الثّانِي: فَأنْتَ كَيْفَ كانَتْ قِصَّتُك؟ فَقالَ أغْوانِي إبْلِيسٌ، فَقَتَلْت الرَّجُلَ طَمَعًا في مالِهِ، ثُمَّ سَمِعْت حِسَّ العَسَسِ، فَخَرَجْت مِن الخَرِبَةِ، واسْتَقْبَلْت هَذا القَصّابَ عَلى الحالِ الَّتِي وصَفَ، فاسْتَتَرْت مِنهُ بِبَعْضِ الخَرِبَةِ حَتّى أتى العَسَسُ، فَأخَذُوهُ وأتَوْك بِهِ. فَلَمّا أمَرْتَ بِقَتْلِهِ عَلِمْت أنِّي سَأبُوءُ بِدَمِهِ أيْضًا، فاعْتَرَفْت بِالحَقِّ. فَقالَ لِلْحَسَنِ: ما الحُكْمُ فِي، هَذا؟ قالَ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إنْ كانَ قَدْ قَتَلَ نَفْسًا فَقَدْ أحْيا نَفْسًا، وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وَمَن أحْياها فَكَأنَّما أحْيا النّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: ٣٢]، فَخَلّى عَلِيٌّ عَنْهُما، وأخْرَجَ دِيَةَ القَتِيلِ مِن بَيْتِ المالِ.
وَتَقَدَّمَ إلى إياسِ بْنِ مُعاوِيَةَ أرْبَعُ نِسْوَةٍ، فَقالَ إياسٌ: أمّا إحْداهُنَّ فَحامِلٌ، والأُخْرى مُرْضِعٌ، والأُخْرى ثَيِّبٌ، والأُخْرى بِكْرٌ. فَنَظَرُوا فَوَجَدُوا الأمْرَ كَما قالَ. قالُوا: وكَيْف عَرَفْتَ؟ فَقالَ: أمّا الحامِلُ: فَكانَتْ تُكَلِّمُنِي وتَرْفَعُ ثَوْبَها عَنْ بَطْنِها. فَعَرَفْت أنَّها حامِلٌ، وأمّا المُرْضِعُ: فَكانَتْ تَضْرِبُ ثَدْيَها. فَعَرَفْتُ أنَّها مُرْضِعٌ، وأمّا الثَّيِّبُ: فَكانَتْ تُكَلِّمُنِي وعَيْنُها في عَيْنِي فَعَرَفْتُ أنَّها ثَيِّبٌ، وأمّا البِكْرُ: فَكانَتْ تُكَلِّمُنِي وعَيْنُها في الأرْضِ، فَعَرَفْت أنَّها بِكْرٌ.
وَقالَ المَدائِنِيُّ عَنْ رَوْحٍ: اسْتَوْدَعَ رَجُلًا مِن أُمَناءِ النّاسِ مالًا. ثُمَّ رَجَعَ فَطَلَبَهُ فَجَحَدَهُ، فَأتى إياسًا فَأخْبَرَهُ. فَقالَ لَهُ إياسٌ: انْصَرِفْ واكْتُمْ أمْرَك، ولا تُعْلِمْهُ أنَّك أتَيْتَنِي. ثُمَّ عُدْ إلَيَّ بَعْدَ يَوْمَيْنِ. فَدَعا إياسٌ المُودَعَ، فَقالَ: قَدْ حَضَرَ مالٌ كَثِيرٌ، وأُرِيدُ أنْ أُسَلِّمَهُ إلَيْك، أفَحَصِينٌ مَنزِلُك؟ قالَ: نَعَمْ. قالَ: فَأعِدَّ لَهُ مَوْضِعًا وحَمّالِينَ. وعادَ الرَّجُلُ إلى إياسٍ، فَقالَ: انْطَلِقْ إلى صاحِبِك فاطْلُبْ المالَ. فَإنْ أعْطاك فَذاكَ، وإنْ جَحَدَك فَقُلْ لَهُ: إنِّي أُخْبِرُ القاضِيَ. فَأتى الرَّجُلُ صاحِبَهُ فَقالَ: مالِي، وإلّا أتَيْت القاضِيَ، وشَكَوْت إلَيْهِ، وأخْبَرْته بِأمْرِي، فَدَفَعَ إلَيْهِ مالَهُ، فَرَجَعَ الرَّجُلُ إلى إياسٍ، فَقالَ: قَدْ أعْطانِي المالَ وجاءَ الأمِينُ إلى إياسٍ لِمَوْعِدِهِ، فَزَجَرَهُ وانْتَهَرَهُ، وقالَ لا تَقْرَبْنِي يا خائِنُ.
وَقالَ يَزِيدُ بْنُ هارُونَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَقَلَّدَ بِواسِطٍ رَجُلٌ ثِقَةٌ، فَأوْدَعَ رَجُلٌ بَعْضَ شُهُودِهِ كِيسًا مَخْتُومًا، وذَكَرَ أنَّ فِيهِ ألْفَ دِينارٍ.
فَلَمّا طالَتْ غَيْبَةُ الرَّجُلِ فَتَقَ الشّاهِدُ الكِيسَ مِن أسْفَلِهِ وأخَذَ الدَّنانِيرَ، وجَعَلَ مَكانَها دَراهِمَ، وأعادَ الخِياطَةَ كَما كانَتْ.
وَجاءَ صاحِبُهُ، فَطَلَبَ ودِيعَتَهُ، فَدَفَعَ إلَيْهِ الكِيسَ بِخَتْمِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ، فَلَمّا فَتَحَهُ وشاهَدَ الحالَ رَجَعَ إلَيْهِ، فَقالَ: إنِّي أوْدَعْتُك دَنانِيرَ، واَلَّذِي دَفَعْت إلَيَّ دَراهِمُ، فَقالَ: هو كِيسُك بِخاتَمِك فاسْتَعْدى عَلَيْهِ القاضِيَ، فَأمَرَ بِإحْضارِ المُودَعَ، فَلَمّا صارا بَيْنَ يَدَيْهِ قالَ لَهُ القاضِي مُنْذُ كَمْ أوْدَعَك هَذا الكِيسَ؟ فَقالَ: مُنْذُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَأخَذَ القاضِي تِلْكَ الدَّراهِمَ وقَرَأ سِكَّتَها، فَإذا فِيها ما قَدْ ضُرِبَ مِن سَنَتَيْنِ أوْ ثَلاثٍ، فَأمَرَهُ بِدَفْعِ الدَّنانِيرِ إلَيْهِ، وأسْقَطَهُ ونادى عَلَيْهِ.
واسْتَوْدَعَ رَجُلٌ لِغَيْرِهِ مالًا، فَجَحَدَهُ، فَرَفَعَهُ إلى إياسٍ، فَسَألَهُ فَأنْكَرَ؟ فَقالَ لِلْمُدَّعِي: أيْنَ دَفَعْت إلَيْهِ؟ فَقالَ: في مَكان في البَرِيَّةِ، فَقالَ: وما كانَ هُناكَ، قالَ: شَجَرَةٌ، قالَ: اذْهَبْ إلَيْها فَلَعَلَّك دَفَنْت المالَ عِنْدَها ونَسِيت، فَتَذْكُرَ إذا رَأيْت الشَّجَرَةَ؛ فَمَضى، وقالَ لِلْخَصْمِ: اجْلِسْ حَتّى يَرْجِعَ صاحِبُك، وإياسٌ يَقْضِي ويَنْظُرُ إلَيْهِ ساعَةً بَعْدَ ساعَةٍ. ثُمَّ قالَ لَهُ: يا هَذا، أتَرى صاحِبَك قَدْ بَلَغَ مَكانَ الشَّجَرَةِ؟ قالَ: لا، قالَ: يا عَدُوَّ اللَّهِ، إنّك خائِنٌ، قالَ: أقِلْنِي، قالَ: لا أقالَك اللَّهُ. وأمَرَ أنْ يُحْتَفَظَ بِهِ حَتّى جاءَ الرَّجُلُ، فَقالَ لَهُ إياسٌ: اذْهَبْ مَعَهُ فَخُذْ حَقَّك.
وَجَرى نَظِيرُ هَذِهِ القَضِيَّةِ لِغَيْرِهِ مِن القُضاةِ: ادَّعى عِنْدَهُ رَجُلٌ أنَّهُ سَلَّمَ غَرِيمًا لَهُ مالًا ودِيعَةً فَأنْكَرَهُ، فَقالَ لَهُ القاضِي: أيْنَ سَلَّمْته إيّاهُ؟ قالَ: بِمَسْجِدٍ ناءٍ عَنْ البَلَدِ.
قالَ: اذْهَبْ فَجِئْنِي مِنهُ بِمُصْحَفٍ أُحَلِّفُهُ عَلَيْهِ، فَمَضى، واعْتَقَلَ القاضِي الغَرِيمَ، ثُمَّ قالَ لَهُ: أتُراهُ بَلَغَ المَسْجِدَ؟ قالَ: لا فَألْزَمَهُ بِالمالِ.
وَكانَ القاضِي أبُو حازِمٍ لَهُ في ذَلِكَ العَجَبُ العُجابُ، وكانُوا يُنْكِرُونَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَظْهَرُ الحَقُّ فِيما يَفْعَلُهُ.
قالَ مُكْرَمُ بْنُ أحْمَدَ: كُنْت في مَجْلِسِ القاضِي أبِي حازِمٍ فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ شَيْخٌ ومَعَهُ غُلامٌ حَدَثٌ، فادَّعى الشَّيْخُ عَلَيْهِ ألْفَ دِينارٍ دَيْنًا، فَقالَ: ما تَقُولُ؟ قالَ: نَعَمْ. فَقالَ القاضِي لِلشَّيْخِ ما تُرِيدُ؟ قالَ: حَبْسَهُ؟ قالَ: لا، فَقالَ الشَّيْخُ: إنْ رَأى القاضِي أنْ يَحْبِسَهُ فَهو أرْجى لِحُصُولِ مالِي. فَتَفَرَّسَ أبُو حازِمٍ فِيهِما ساعَةً. ثُمَّ قالَ: تَلازَما حَتّى أنْظُرَ في أمْرِكُما في مَجْلِسٍ آخَرَ، فَقُلْت لَهُ: لِمَ أخَّرْت حَبْسَهُ؟ فَقالَ: ويْحَك، إنِّي أعْرِفُ في أكْثَرِ الأحْوالِ في وُجُوهِ الخُصُومِ وجْهَ المُحِقِّ مِن المُبْطِلِ، وقَدْ صارَتْ لِي بِذَلِكَ دِرايَةٌ لا تَكادُ تُخْطِئُ، وقَدْ وقَعَ إلَيَّ أنَّ سَماحَةَ هَذا بِالإقْرارِ عَيْنُ كَذِبِهِ ولَعَلَّهُ يَنْكَشِفُ لِي مِن أمْرِهِما ما أكُونُ مَعَهُ عَلى بَصِيرَةٍ، أما رَأيْت قِلَّةَ تَقَصِّيهِما في النّاكِرَةِ، وقِلَّةَ اخْتِلافِهِما، وسُكُونَ طِباعِهِما مَعَ عِظَمِ المالِ؟ وما جَرَتْ عادَةُ الأحْداثِ بِفَرْطِ التَّوَرُّعِ حَتّى يُقِرَّ مِثْلُ هَذا طَوْعًا عَجِلًا، مُنْشَرِحَ. الصَّدْرِ عَلى هَذا المالِ، قالَ: فَنَحْنُ كَذَلِكَ نَتَحَدَّثُ إذْ أتى الآذِنُ يَسْتَأْذِنُ عَلى القاضِي لِبَعْضِ التُّجّارِ، فَأذِنَ لَهُ، فَلَمّا دَخَلَ قالَ: أصْلَحَ اللَّهُ القاضِيَ، إنِّي بُلِيت بِوَلَدٍ لِي حَدَثٍ يُتْلِفُ كُلَّ مالٍ يَظْفَرُ بِهِ مِن مالِي في القِيانِ عِنْدَ فُلانٍ فَإذا مَنَعْته احْتالَ بِحِيَلٍ تَضْطَرُّنِي إلى التِزامِ الغُرْمِ عَنْهُ. وقَدْ نَصَبَ اليَوْمَ صاحِبُ القِيانِ يُطالِبُ بِألْفِ دِينارٍ حالًّا، وبَلَغَنِي أنَّهُ تَقَدَّمَ إلى القاضِي لِيُقِرَّ لَهُ فَيَحْبِسَهُ. وأقَعَ مَعَ أُمِّهِ فِيما يُنَكِّدُ عَيْشَنا إلى أنْ أقْضِيَ عَنْهُ. فَلَمّا سَمِعْت بِذَلِكَ بادَرْت إلى القاضِي لِأشْرَحَ لَهُ أمْرَهُ، فَتَبَسَّمَ القاضِي، وقالَ لِي: كَيْفَ رَأيْت؟ فَقُلْت: هَذا مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلى القاضِي، فَقالَ: عَلَيَّ بِالغُلامِ والشَّيْخِ. فَأرْهَبَ أبُو حازِمٍ الشَّيْخَ، ووَعَظَ الغُلامَ. فَأقَرّا، فَأخَذَ الرَّجُلُ ابْنَهُ وانْصَرَفا.
وَقالَ أبُو السّائِبِ: كانَ بِبَلَدِنا رَجُلٌ مَسْتُورُ الحالِ، فَأحَبَّ القاضِي قَبُولَ قَوْلِهِ، فَسَألَ عَنْهُ فَزُكِّيَ عِنْدَهُ سِرًّا وجَهْرًا، فَراسَلَهُ في حُضُورِ مَجْلِسِهِ لِإقامَةِ شَهادَةٍ وجَلَسَ القاضِي وحَضَرَ الرَّجُلُ، فَلَمّا أرادَ إقامَةَ الشَّهادَةِ لَمْ يَقْبَلْهُ القاضِي فَسُئِلَ عَنْ السَّبَبِ؟ فَقالَ: انْكَشَفَ لِي أنَّهُ مُراءٍ، فَلَمْ يَسَعْنِي قَبُولُ قَوْلِهِ، فَقِيلَ لَهُ: ومِن أيْنَ عَلِمْت ذَلِكَ؟ قالَ: كانَ يَدْخُلُ إلَيَّ في كُلِّ يَوْمٍ فَأعُدُّ خُطاهُ مِن حَيْثُ تَقَعُ عَيْنِي عَلَيْهِ مِن البابِ إلى مَجْلِسِي، فَلَمّا دَعَوْته اليَوْمَ جاءَ، فَعَدَدْت خُطاهُ مِن ذَلِكَ المَكانِ فَإذا هي قَدْ زادَتْ ثَلاثًا أوْ نَحْوَها، فَعَلِمْت أنَّهُ مُتَصَنِّعٌ فَلَمْ أقْبَلْهُ.
وَقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: شَهِدَ الفَرَزْدَقُ عِنْدَ بَعْضِ القُضاةِ، فَقالَ: قَدْ أجَزْنا شَهادَةَ أبِي فِراسٍ وزَيْدُونًا، فَقِيلَ لَهُ حِينَ انْصَرَفَ: إنّهُ واللَّهِ ما أجازَ شَهادَتَك.
وَلِلَّهِ فِراسَةُ مَن هو إمامُ المُتَفَرِّسِينَ، وشَيْخُ المُتَوَسِّمِينَ: عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّذِي لَمْ تَكُنْ تُخْطِئُ لَهُ فِراسَةٌ، وكانَ يَحْكُمُ بَيْنَ الأُمَّةِ بِالفِراسَةِ المُؤَيَّدَةِ بِالوَحْيِ.
قالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: أُتِيَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ يَوْمًا بِفَتًى أمْرَدَ، وقَدْ وُجِدَ قَتِيلًا مُلْقًى عَلى وجْهِ الطَّرِيقِ، فَسَألَ عُمَرُ عَنْ أمْرِهِ واجْتَهَدَ فَلَمْ يَقِفْ لَهُ عَلى خَبَرٍ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ؛ فَقالَ: اللَّهُمَّ أظْفِرْنِي بِقاتِلِهِ، حَتّى إذا كانَ عَلى رَأْسِ الحَوْلِ وُجِدَ صَبِيٌّ مَوْلُودٌ مُلْقًى بِمَوْضِعِ القَتِيلِ، فَأُتِيَ بِهِ عُمَرَ؛ فَقالَ: ظَفِرْت بِدَمِ القَتِيلِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى؛ فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إلى امْرَأةٍ، وقالَ لَها: قُومِي بِشَأْنِهِ، وخُذِي مِنّا نَفَقَتَهُ، وانْظُرِي مَن يَأْخُذُهُ مِنك؛ فَإذا وجَدْت امْرَأةً تُقَبِّلُهُ وتَضُمُّهُ إلى صَدْرِها فَأعْلِمِينِي بِمَكانِها. فَلَمّا شَبَّ الصَّبِيُّ جاءَتْ جارِيَةٌ، فَقالَتْ لِلْمَرْأةِ: إنّ سَيِّدَتِي بَعَثَتْنِي إلَيْك لِتَبْعَثِي بِالصَّبِيِّ لِتَراهُ وتَرُدَّهُ إلَيْك، قالَتْ: نَعَمْ، اذْهَبِي بِهِ إلَيْها، وأنا مَعَك. فَذَهَبَتْ بِالصَّبِيِّ والمَرْأةُ مَعَها، حَتّى دَخَلَتْ عَلى سَيِّدَتِها، فَلَمّا رَأتْهُ أخَذْته فَقَبَّلَتْهُ وضَمَّتْهُ إلَيْها؛ فَإذا هي ابْنَةُ شَيْخٍ مِن الأنْصارِ مِن أصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأتَتْ عُمَرَ فَأخْبَرَتْهُ، فاشْتَمَلَ عَلى سَيْفِهِ، ثُمَّ أقْبَلَ إلى مَنزِل المَرْأةِ. فَوَجَدَ أباها مُتَّكِئًا عَلى بابِ دارِهِ، فَقالَ لَهُ: يا فُلانُ، ما فَعَلَتْ ابْنَتُك فُلانَةُ؟
قالَ: جَزاها اللَّهُ خَيْرًا يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، هي مِن أعْرَفِ النّاسِ بِحَقِّ اللَّهِ وحَقِّ أبِيها، مَعَ حُسْنِ صَلاتِها وصِيامِها، والقِيامِ بِدِينِها. فَقالَ عُمَرُ: قَدْ أحْبَبْت أنْ أدْخُلَ إلَيْها، فَأزِيدَها رَغْبَةً في الخَيْرِ، وأحُثَّها عَلَيْهِ؛ فَدَخَلَ أبُوها، ودَخَلَ عُمَرُ مَعَهُ. فَأمَرَ عُمَرُ مَن عِنْدَها فَخَرَجَ، وبَقِيَ هو والمَرْأةُ في البَيْتِ، فَكَشَفَ عُمَرُ عَنْ السَّيْفِ، وقالَ: أصْدِقِينِي، وإلّا ضَرَبْت عُنُقَك، وكانَ لا يَكْذِبُ. فَقالَتْ: عَلى رِسْلِك، فَواللَّهِ لَأصْدُقَنَّ: إنّ عَجُوزًا كانَتْ تَدْخُلُ عَلَيَّ فَأتَّخِذُها أُمًّا، وكانَتْ تَقُومُ مِن أمْرِي بِما تَقُومُ بِهِ الوالِدَةُ. وكُنْت لَها بِمَنزِلَةِ البِنْتِ، حَتّى مَضى لِذَلِكَ حِينٌ، ثُمَّ إنّها قالَتْ: يا بُنَيَّةُ، إنّهُ قَدْ عَرَضَ لِي سَفَرٌ، ولِي ابْنَةٌ في مَوْضِعِ أتَخَوَّفُ عَلَيْها فِيهِ أنْ تَضِيعَ، وقَدْ أحْبَبْت أنْ أضُمَّها إلَيْك حَتّى أرْجِعَ مِن سَفَرِي، فَعَمَدَتْ إلى ابْنٍ لَها شابٍّ أمْرَدَ، فَهَيَّأْته كَهَيْئَةِ الجارِيَةِ، وأتَتْنِي بِهِ، لا أشُكُّ أنَّهُ جارِيَةٌ؛ فَكانَ يَرى مِنِّي ما تَرى الجارِيَةُ مِن الجارِيَةِ، حَتّى اغْتَفَلَنِي يَوْمًا وأنا نائِمَةٌ، فَما شَعَرْت حَتّى عَلانِي وخالَطَنِي، فَمَدَدْت يَدِي إلى شَفْرَةٍ كانَتْ إلى جانِبِي فَقَتَلْته.
ثُمَّ أمَرْت بِهِ فَأُلْقِيَ حَيْثُ رَأيْت، فاشْتَمَلْت مِنهُ عَلى هَذا الصَّبِيِّ، فَلَمّا وضَعْته ألْقَيْته في مَوْضِعِ أبِيهِ. فَهَذا واللَّهِ خَبَرُهُما عَلى ما أعْلَمْتُك. فَقالَ: صَدَقْت، ثُمَّ أوْصاها، ودَعا لَها وخَرَجَ. وقالَ لِأبِيها: نِعْمَتْ الِابْنَةُ ابْنَتُك؛ ثُمَّ انْصَرَفَ.
وَمِن ذَلِكَ: فِراسَةُ ابْنِ عُمَرَ في الحُسَيْنِ لَمّا ودَّعَهُ، وقالَ: " أسْتَوْدِعُك اللَّهَ مِن قَتِيلٍ "، ومَعَهُ كُتُبُ أهْلِ العِراقِ، فَكانَتْ فِراسَةُ ابْنِ عُمَرَ أصْدَقُ مِن كُتُبِهِمْ.
وَمِن ذَلِكَ: أنَّ رَجُلَيْنِ مِن قُرَيْشٍ دَفَعا إلى امْرَأةٍ مِائَةَ دِينارٍ ودِيعَةً، وقالا: لا تَدْفَعِيها إلى واحِدٍ مِنّا دُونَ صاحِبِهِ. فَلَبِثا حَوْلًا، فَجاءَ أحَدُهُما، فَقالَ: إنّ صاحِبِي قَدْ ماتَ فادْفَعِي إلَيَّ الدَّنانِيرَ. فَأبَتْ، وقالَتْ: إنّكُما قُلْتُما لِي لا تَدْفَعِيها إلى واحِدٍ مِنّا دُونَ صاحِبِهِ، فَلَسْت بِدافِعَتِها إلَيْك؛ فَثَقُلَ عَلَيْها بِأهْلِها وجِيرانِها حَتّى دَفَعَتْها إلَيْهِ، ثُمَّ لَبِثَتْ حَوْلًا آخَرَ؛ فَجاءَ الآخَرُ. فَقالَ: ادْفَعِي إلَيَّ الدَّنانِيرَ. فَقالَتْ: إنّ صاحِبَك جاءَنِي فَزَعَمَ أنَّك قَدْ مِتّ، فَدَفَعْتُها إلَيْهِ. فاخْتَصَما إلى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَأرادَ أنْ يَقْضِيَ عَلَيْها. فَقالَتْ: ادْفَعْنا إلى عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ، فَعَرَفَ عَلِيٌّ أنَّهُما قَدْ مَكَرا بِها؛ فَقالَ: ألَيْسَ قَدْ قُلْتُما: لا تَدْفَعِيها إلى واحِدٍ مِنّا دُونَ صاحِبِهِ؟ قالا: بَلى؛ قالَ: فَإنَّ مالَك عِنْدَها، فاذْهَبْ فَجِئْ بِصاحِبِك حَتّى تَدْفَعَهُ إلَيْكُما.
* [فصل: في فِراسَةِ الحاكِمِ]
وَمِن فِراسَةِ الحاكِمِ: ما ذَكَرَهُ حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ: أنَّ إياسَ بْنَ مُعاوِيَةَ اخْتَصَمَ إلَيْهِ رَجُلانِ، اسْتَوْدَعَ أحَدُهُما صاحِبَهُ ودِيعَةً؛ فَقالَ: صاحِبُ الوَدِيعَةِ: اسْتَحْلِفْهُ بِاللَّهِ ما لِي عِنْدَهُ ودِيعَةٌ فَقالَ إياسٌ: بَلْ أسْتَحْلِفُهُ بِاللَّهِ مالَك عِنْدَهُ ودِيعَةٌ ولا غَيْرُها.
وَهَذا مِن أحْسَنِ الفِراسَةِ؛ فَإنَّهُ إذا قالَ: " ما لَهُ عِنْدِي ودِيعَةٌ " احْتَمَلَ النَّفْيَ؛ واحْتَمَلَ الإقْرارَ فَيَنْصِبُ " مالَهُ " بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُقَدَّرٍ؛ أيْ دَفَعَ مالَهُ إلَيَّ، أوْ أعْطانِي مالَهُ؛ أوْ يَجْعَلُ " ما " مَوْصُولَةً والجارَّ والمَجْرُورَ صِلَتَها ووَدِيعَةٌ خَبَرٌ عَنْ " ما " فَإذا قالَ: " ولا غَيْرُها " تَعَيَّنَ النَّفْيُ.
وَقالَ حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ: شَهِدْت إياسَ بْنَ مُعاوِيَةَ يَقُولُ في رَجُلٍ ارْتَهَنَ رَهْنًا؛ فَقالَ المُرْتَهِنُ: رَهَنْته بِعَشَرَةٍ وقالَ الرّاهِنُ: رَهَنْته بِخَمْسَةٍ؛ فَقالَ: إنْ كانَ لِلرّاهِنِ بَيِّنَةٌ أنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ الرَّهْنَ فالقَوْلُ، ما قالَ الرّاهِنُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِدَفْعِ الرَّهْنِ إلَيْهِ؛ والرَّهْنُ بِيَدِ المُرْتَهِنِ. فالقَوْلُ ما قالَ المُرْتَهِنُ؛ لِأنَّهُ لَوْ شاءَ لَجَحَدَهُ الرَّهْنَ.
قُلْت: وهَذا قَوْلٌ ثالِثٌ في المَسْألَةِ؛ وهو مِن أحْسَنِ الأقْوالِ، فَإنَّ إقْرارَهُ بِالرَّهْنِ - وهو في يَدِهِ ولا بَيِّنَةَ لِلرّاهِنِ - دَلِيلٌ عَلى صِدْقِهِ؛ وأنَّهُ مُحِقٌّ، ولَوْ كانَ مُبْطِلًا لَجَحَدَهُ الرَّهْنَ رَأْسًا. ومالِكٌ وشَيْخُنا رَحِمَهُما اللَّهُ، يَجْعَلانِ القَوْلَ قَوْلَ المُرْتَهِنِ، ما لَمْ يَزِدْ عَلى قِيمَةِ الرَّهْنِ والشّافِعِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ، وأحْمَدُ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ -، يَجْعَلُونَ القَوْلَ قَوْلَ الرّاهِنِ مُطْلَقًا.
وَقالَ إياسٌ أيْضًا: مَن أقَرَّ بِشَيْءٍ، ولَيْسَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فالقَوْلُ ما قالَ.
وَهَذا أيْضًا مِن أحْسَنِ القَضاءِ، لِأنَّ إقْرارَهُ عَلَمٌ عَلى صِدْقِهِ، فَإذا ادَّعى عَلَيْهِ ألْفًا، ولا بَيِّنَةَ لَهُ، فَقالَ: صَدَقَ، إلّا أنِّي قَضَيْته إيّاها، فالقَوْلُ لَهُ، وكَذَلِكَ إذا أقَرَّ بِأنَّهُ قَبَضَ مِن مُوَرِّثِهِ ودِيعَةً، ولا بَيِّنَةَ لَهُ، وادَّعى رَدَّها إلَيْهِ.
وَقالَ إبْراهِيمُ بْنُ مَرْزُوقٍ البَصْرِيُّ: جاءَ رَجُلانِ إلى إياسَ بْنِ مُعاوِيَةَ؛ يَخْتَصِمانِ في قَطِيفَتَيْنِ: إحْداهُما حَمْراءُ؛ والأُخْرى خَضْراءُ؛ فَقالَ أحَدُهُما: دَخَلْت الحَوْضَ لِأغْتَسِلَ، ووَضَعْت قَطِيفَتِي، ثُمَّ جاءَ هَذا، فَوَضَعَ قَطِيفَتَهُ تَحْتَ قَطِيفَتِي، ثُمَّ دَخَلَ فاغْتَسَلَ، فَخَرَجَ قَبْلِي، وأخَذَ قَطِيفَتِي فَمَضى بِها؛ ثُمَّ خَرَجْت فَتَبِعْته، فَزَعَمَ أنَّها قَطِيفَتُهُ؛ فَقالَ: ألَك بَيِّنَةٌ؟
قالَ: لا. قالَ: ائْتُونِي بِمُشْطٍ؛ فَأُتِيَ بِمُشْطٍ، فَسَرَّحَ رَأْسَ هَذا، ورَأْسَ هَذا. فَخَرَجَ مِن رَأْسِ أحَدِهِما صُوفٌ أحْمَرُ، ومِن رَأْسِ الآخَرِ صُوفٌ أخْضَرُ؛ فَقَضى بِالحَمْراءِ لِلَّذِي خَرَجَ مِن رَأْسِهِ الصُّوفُ الأحْمَرُ، وبِالخَضْراءِ لِلَّذِي خَرَجَ مِن رَأْسِهِ الصُّوفُ الأخْضَرُ.
وَقالَ مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمانَ، عَنْ زَيْدٍ أبِي عَلاءٍ: شَهِدْت إياسَ بْنَ مُعاوِيَةَ اخْتَصَمَ إلَيْهِ رَجُلانِ، فَقالَ أحَدُهُما: إنّهُ باعَنِي جارِيَةً رَعْناءَ؛ فَقالَ إياسٌ: وما عَسى أنْ تَكُونَ هَذِهِ الرُّعُونَةُ؟ قالَ: شِبْهُ الجُنُونِ. فَقالَ إياسٌ: يا جارِيَةُ، أتَذْكُرِينَ مَتى وُلِدْت؟ قالَتْ: نَعَمْ، قالَ: فَأيُّ رِجْلَيْك أطْوَلُ؟ قالَتْ: هَذِهِ؛ فَقالَ إياسٌ: رُدَّها؛ فَإنَّها مَجْنُونَةٌ.
وَقالَ أبُو الحَسَنِ المَدائِنِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُصْعَبٍ: أنَّ مُعاوِيَةَ بْنَ قُرَّةَ شَهِدَ عِنْدَ ابْنِهِ إياسِ بْنِ مُعاوِيَةَ - مَعَ رِجالٍ عَدَّلَهم - عَلى رَجُلٍ بِأرْبَعَةِ آلافِ دِرْهَمٍ، فَقالَ المَشْهُودُ عَلَيْهِ: يا أبا وائِلَةَ، تَثَبَّتْ في أمْرِي، فَواللَّهِ ما أشْهَدْتُهم إلّا عَلى ألْفَيْنِ. فَسَألَ إياسٌ أباهُ والشُّهُودَ: أكانَ في الصَّحِيفَةِ الَّتِي شَهِدُوا عَلَيْها فَضْلٌ؟ قالُوا: نَعَمْ، كانَ الكِتابُ في أوَّلِها والطَّيَّةُ في وسْطِها، وباقِي الصَّحِيفَةِ أبْيَضُ. قالَ: أفَكانَ المَشْهُودُ لَهُ يَلْقاكم أحْيانا، فَيُذَكِّرُكم شَهادَتَكم بِأرْبَعَةِ آلافِ دِرْهَمٍ؟ قالُوا: نَعَمْ، كانَ لا يَزالُ يَلْقانا، فَيَقُولُ: اذْكُرُوا شَهادَتَكم عَلى فُلانٍ بِأرْبَعَةِ آلافِ دِرْهَمٍ، فَصَرَفَهُمْ، ودَعا المَشْهُودَ لَهُ. فَقالَ: يا عَدُوَّ اللَّهِ، تَغَفَّلْت قَوْمًا صالِحِينَ مُغَفَّلِينَ، فَأشْهَدْتهمْ عَلى صَحِيفَةٍ جَعَلْت طَيَّتَها في وسَطِها، وتَرَكْت فِيها بَياضًا في أسْفَلِها، فَلَمّا خَتَمُوا الطَّيَّةَ قَطَعْت الكِتابَ الَّذِي فِيهِ حَقُّك ألْفا دِرْهَمٍ، وكَتَبْت في البَياضِ أرْبَعَةَ آلافٍ فَصارَتْ الطَّيَّةُ في آخِرِ الكِتابِ، ثُمَّ كُنْت تَلْقاهم فَتُلَقِّنُهُمْ، وتُذَكِّرُهم أنَّها أرْبَعَةُ آلافٍ، فَأقَرَّ بِذَلِكَ، وسَألَهُ السَّتْرَ عَلَيْهِ، فَحَكَمَ لَهُ بِألْفَيْنِ وسَتَرَ عَلَيْهِ.
وَقالَ نُعَيْمُ بْنُ حَمّادٍ عَنْ إبْراهِيمَ بْنِ مَرْزُوقٍ البَصْرِيِّ: كُنّا عِنْدَ إياسِ بْنِ مُعاوِيَةَ، قَبْلَ أنْ يُسْتَقْضى، وكُنّا نَكْتُبُ عَنْهُ الفِراسَةَ، كَما نَكْتُبُ عَنْ المُحَدِّثِ الحَدِيثَ، إذْ جاءَ رَجُلٌ، فَجَلَسَ عَلى دُكّانٍ مُرْتَفِعٍ بِالمِرْبَدِ. فَجَعَلَ يَتَرَصَّدُ الطَّرِيقَ. فَبَيْنَما هو كَذَلِكَ إذْ نَزَلَ فاسْتَقْبَلَ رَجُلًا، فَنَظَرَ في وجْهِهِ، ثُمَّ رَجَعَ إلى مَوْضِعِهِ، فَقالَ إياسٌ: قُولُوا في هَذا الرَّجُلِ، قالُوا: ما نَقُولُ؟ رَجُلٌ طالِبُ حاجَةٍ. فَقالَ: هو مُعَلِّمُ صِبْيانٍ، قَدْ أبَقَ لَهُ غُلامٌ أعْوَرُ، فَقامَ إلَيْهِ بَعْضُنا فَسَألَهُ عَنْ حاجَتِهِ؟ فَقالَ: هو غُلامٌ لِي آبِقٌ. قالُوا: وما صِفَتُهُ؟ قالَ: كَذا وكَذا، وإحْدى عَيْنَيْهِ ذاهِبَةٌ، قُلْنا: وما صَنْعَتُك؟ قالَ: أُعَلِّمُ الصِّبْيانَ. قُلْنا لِإياسٍ: كَيْفَ عَلِمْت ذَلِكَ؟ قالَ: رَأيْته جاءَ، فَجَعَلَ يَطْلُبُ مَوْضِعًا يَجْلِسُ فِيهِ، فَنَظَرَ إلى، أرْفَعِ شَيْءٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَجَلَسَ عَلَيْهِ، فَنَظَرْت في قَدْرِهِ فَإذا لَيْسَ قَدْرُهُ قَدْرَ المُلُوكِ، فَنَظَرْت فِيمَن اعْتادَ في جُلُوسِهِ جُلُوسَ المُلُوكِ، فَلَمْ أجِدْهم إلّا المُعَلِّمِينَ، فَعَلِمْت أنَّهُ مُعَلِّمُ صِبْيانٍ، فَقُلْنا: كَيْفَ عَلِمْت أنَّهُ أبَقَ لَهُ غُلامٌ؟ قالَ: إنِّي رَأيْته يَتَرَصَّدُ الطَّرِيقَ، يَنْظُرُ في وُجُوهِ النّاسِ. قُلْنا: كَيْفَ عَلِمْت أنَّهُ أعْوَرُ؟
قالَ: بَيْنَما هو كَذَلِكَ إذْ نَزَلَ فاسْتَقْبَلَ رَجُلًا قَدْ ذَهَبَتْ إحْدى عَيْنَيْهِ، فَعَلِمْت أنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ بِغُلامِهِ.
وَقالَ الحارِثُ بْنُ مُرَّةَ نَظَرَ إياسُ بْنُ مُعاوِيَةَ إلى رَجُلٍ، فَقالَ: هَذا غَرِيبٌ، وهو مِن أهْلِ واسِطَ. وهو مُعَلِّمٌ، وهو يَطْلُبُ عَبْدًا لَهُ أبَقَ. فَوَجَدُوا الأمْرَ كَما قالَ. فَسَألُوهُ؟ فَقالَ: رَأيْته يَمْشِي ويَلْتَفِت، فَعَلِمْت أنَّهُ غَرِيبٌ، ورَأيْته وعَلى ثَوْبِهِ حُمْرَةُ تُرْبَة واسِطَ فَعَلِمْت أنَّهُ مِن أهْلِها، ورَأيْته يَمُرُّ بِالصِّبْيانِ فَيُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ ولا يُسَلِّمُ عَلى الرِّجالِ، فَعَلِمْت أنَّهُ مُعَلِّمٌ. ورَأيْته إذا مَرَّ بِذِي هَيْئَةٍ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ، وإذا مَرَّ بِذِي أسْمالٍ تَأمَّلَهُ، فَعَلِمْت أنَّهُ يَطْلُبُ آبِقًا.
وَقالَ هِلالُ بْنُ العَلاءِ الرَّقِّيُّ عَنْ القاسِمِ بْنِ مَنصُورٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ بُكَيْرٍ: مَرَّ إياسُ بْنُ مُعاوِيَةَ، فَسَمِعَ قِراءَةً مِن عِلِّيَّةٍ، فَقالَ: هَذِهِ قِراءَةُ امْرَأةٍ حامِلٍ بِغُلامٍ، فَسُئِلَ، كَيْفَ عَرَفْت ذَلِكَ؟ فَقالَ سَمِعْت بِصَوْتِها ونَفَسِها مُخالِطَةً. فَعَلِمْت أنَّها حامِلٌ وسَمِعْت صَحَلًا، فَعَلِمْت أنَّ الحَمْلَ غُلامٌ، ومَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِكُتّابٍ فِيهِ صِبْيانٌ. فَنَظَرَ إلى، صَبِيٍّ مِنهُمْ، فَقالَ: هَذا ابْنُ تِلْكَ المَرْأةِ فَكانَ كَما قالَ.
وَقالَ رَجُلٌ لِإياسِ بْنِ مُعاوِيَةَ: عَلِّمْنِي القَضاءَ فَقالَ: إنّ القَضاءَ لا يُعَلَّمُ، إنّما القَضاءُ فَهْمٌ، ولَكِنْ قُلْ: عَلِّمْنِي مِن العِلْمِ، وهَذا هو سِرُّ المَسْألَةِ، فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى يَقُولُ: ﴿وَداوُدَ وسُلَيْمانَ إذْ يَحْكُمانِ في الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ وكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٨] ﴿فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وكُلا آتَيْنا حُكْمًا وعِلْمًا﴾ [الأنبياء: ٧٩] فَخَصَّ سُلَيْمانَ بِفَهْمِ القَضِيَّةِ، وعَمَّهُما بِالعِلْمِ. وكَذَلِكَ كَتَبَ عُمَرُ إلى قاضِيهِ أبِي مُوسى في كِتابِهِ المَشْهُورِ: " والفَهْمَ الفَهْمَ فِيما أُدْلِيَ إلَيْك.
واَلَّذِي اخْتَصَّ بِهِ إياسٌ وشُرَيْحٌ مَعَ مُشارَكَتِهِما لِأهْلِ عَصْرِهِما في العِلْمِ هُوَ: الفَهْمُ في الواقِعِ، والِاسْتِدْلالُ بِالأماراتِ وشَواهِدِ الحالِ.
وَهَذا الَّذِي فاتَ كَثِيرًا مِن الحُكّامِ، فَأضاعُوا كَثِيرًا مِن الحُقُوقِ.
{"ayahs_start":78,"ayahs":["وَدَاوُۥدَ وَسُلَیۡمَـٰنَ إِذۡ یَحۡكُمَانِ فِی ٱلۡحَرۡثِ إِذۡ نَفَشَتۡ فِیهِ غَنَمُ ٱلۡقَوۡمِ وَكُنَّا لِحُكۡمِهِمۡ شَـٰهِدِینَ","فَفَهَّمۡنَـٰهَا سُلَیۡمَـٰنَۚ وَكُلًّا ءَاتَیۡنَا حُكۡمࣰا وَعِلۡمࣰاۚ وَسَخَّرۡنَا مَعَ دَاوُۥدَ ٱلۡجِبَالَ یُسَبِّحۡنَ وَٱلطَّیۡرَۚ وَكُنَّا فَـٰعِلِینَ"],"ayah":"وَدَاوُۥدَ وَسُلَیۡمَـٰنَ إِذۡ یَحۡكُمَانِ فِی ٱلۡحَرۡثِ إِذۡ نَفَشَتۡ فِیهِ غَنَمُ ٱلۡقَوۡمِ وَكُنَّا لِحُكۡمِهِمۡ شَـٰهِدِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق