الباحث القرآني

* [فَصْلٌ: مَنزِلَةُ الإشْفاقِ] القَلْبُ في سَيْرِهِ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ بِمَنزِلَةِ الطّائِرِ، فالمَحَبَّةُ رَأْسُهُ، والخَوْفُ والرَّجاءُ جَناحاهُ، فَمَتى سَلِمَ الرَّأْسُ والجَناحانِ فالطّائِرُ جَيِّدُ الطَّيَرانِ، ومَتى قُطِعَ الرَّأْسُ ماتَ الطّائِرُ، ومَتى فُقِدَ الجَناحانِ فَهو عُرْضَةٌ لِكُلِّ صائِدٍ وكاسِرٍ، ولَكِنَّ السَّلَفَ اسْتَحَبُّوا أنْ يَقْوى في الصِّحَّةِ جَناحُ الخَوْفِ عَلى جَناحِ الرَّجاءِ، وعِنْدَ الخُرُوجِ مِنَ الدُّنْيا يَقْوى جَناحُ الرَّجاءِ عَلى جَناحِ الخَوْفِ، هَذِهِ طَرِيقَةُ أبِي سُلَيْمانَ وغَيْرِهِ، قالَ: يَنْبَغِي لِلْقَلْبِ أنْ يَكُونَ الغالِبُ عَلَيْهِ الخَوْفَ، فَإنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الرَّجاءُ فَسَدَ. وَقالَ غَيْرُهُ: أكْمَلُ الأحْوالِ: اعْتِدالُ الرَّجاءِ والخَوْفِ، وغَلَبَةُ الحُبِّ، فالمَحَبَّةُ هي المَرْكَبُ. والرَّجاءُ حادٍ، والخَوْفُ سائِقٌ، واللَّهُ المُوَصِّلُ بِمَنِّهِ وكَرَمِهِ. * [فَصْلٌ] وَمِن مَنازِلِ ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ مَنزِلَةُ الإشْفاقِ قالَ اللَّهُ تَعالى ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهم بِالغَيْبِ وهم مِنَ السّاعَةِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء: ٤٩] وقالَ تَعالى ﴿وَأقْبَلَ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ - قالُوا إنّا كُنّا قَبْلُ في أهْلِنا مُشْفِقِينَ - فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا ووَقانا عَذابَ السَّمُومِ﴾ [الطور: ٢٥-٢٧]. الإشْفاقُ رِقَّةُ الخَوْفِ، وهو خَوْفٌ بِرَحْمَةٍ مِنَ الخائِفِ لِمَن يَخافُ عَلَيْهِ، فَنِسْبَتُهُ إلى الخَوْفِ نِسْبَةُ الرَّأْفَةِ إلى الرَّحْمَةِ، فَإنَّها ألْطَفُ الرَّحْمَةِ وأرَقُّها، ولِهَذا قالَ صاحِبُ المَنازِلِ: الإشْفاقُ: دَوامُ الحَذَرِ، مَقْرُونًا بِالتَّرَحُّمِ، وهو عَلى ثَلاثِ دَرَجاتٍ، الأُولى: إشْفاقٌ عَلى النَّفْسِ أنْ تَجْمَحَ إلى العِنادِ. أيْ تُسْرِعَ وتَذْهَبَ إلى طَرِيقِ الهَوى والعِصْيانِ، ومُعانَدَةِ العُبُودِيَّةِ. وَإشْفاقٌ عَلى العَمَلِ: أنْ يَصِيرَ إلى الضَّياعِ. أيْ يَخافُ عَلى عَمَلِهِ أنْ يَكُونَ مِنَ الأعْمالِ الَّتِي قالَ اللَّهُ فِيها ﴿وَقَدِمْنا إلى ما عَمِلُوا مِن عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنثُورًا﴾ [الفرقان: ٢٣] وهي الأعْمالُ الَّتِي كانَتْ لِغَيْرِ اللَّهِ، وعَلى غَيْرِ أمْرِهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ، ويَخافُ أيْضًا أنْ يَضِيعَ عَمَلُهُ في المُسْتَقْبَلِ، إمّا بِتَرْكِهِ، وإمّا بِمَعاصِي تُفَرِّقُهُ وتُحْبِطُهُ، فَيَذْهَبُ ضائِعًا، ويَكُونُ حالُ صاحِبِهِ كالحالِ الَّتِي قالَ اللَّهُ تَعالى عَنْ أصْحابِها ﴿أيَوَدُّ أحَدُكم أنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وأعْنابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ لَهُ فِيها مِن كُلِّ الثَّمَراتِ﴾ [البقرة: ٢٦٦] الآيَةَ. قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: فِيمَن تَرَوْنَ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ؟ فَقالُوا: اللَّهُ أعْلَمُ، فَغَضِبَ عُمَرُ، وقالَ: قُولُوا: نَعْلَمُ، أوْ لا نَعْلَمُ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: في نَفْسِي مِنها شَيْءٌ يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، قالَ: يا ابْنَ أخِي قُلْ، ولا تَحْقِرَنَّ نَفْسَكَ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: ضُرِبَتْ مَثَلًا لِعَمَلٍ، قالَ عُمَرُ: أيُّ عَمَلٍ؟ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لِعَمَلٍ، قالَ عُمَرُ: لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطاعَةِ اللَّهِ، فَبَعَثَ اللَّهُ إلَيْهِ الشَّيْطانَ، فَعَمِلَ بِالمَعاصِي حَتّى أغْرَقَ جَمِيعَ أعْمالِهِ. قالَ: وإشْفاقٌ عَلى الخَلِيقَةِ لِمَعْرِفَةِ مَعاذِيرِها. هَذا قَدْ يُوهِمُ نَوْعَ تَناقُضٍ، فَإنَّهُ كَيْفَ يُشْفِقُ مَعَ مَعْرِفَةِ العُذْرِ؟ ولَيْسَ بِمُتَناقِضٍ، فَإنَّ الإشْفاقَ كَما تَقَدَّمَ خَوْفٌ مَقْرُونٌ بِرَحْمَةٍ، فَيُشْفِقُ عَلَيْهِمْ مِن جِهَةِ مُخالَفَةِ الأمْرِ والنَّهْيِ، مَعَ نَوْعِ رَحْمَةٍ، بِمُلاحَظَةِ جَرَيانِ القَدَرِ عَلَيْهِمْ. قالَ: الدَّرَجَةُ الثّانِيَةُ: إشْفاقٌ عَلى الوَقْتِ أنْ يَشُوبَهُ تَفَرُّقٌ. أيْ يَحْذَرُ عَلى وقْتِهِ أنْ يُخالِطَهُ ما يُفَرِّقُهُ عَنِ الحُضُورِ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. قالَ: وعَلى القَلْبِ أنْ يُزاحِمَهُ عارِضٌ. والعارِضُ المُزاحِمُ إمّا فَتْرَةٌ، وإمّا شُبْهَةٌ، وإمّا شَهْوَةٌ، وكُلُّ سَبَبٍ يَعُوقُ السّالِكَ. قالَ: وعَلى اليَقِينِ أنْ يُداخِلَهُ سَبَبٌ هو الطُّمَأْنِينَةُ إلى مَن بِيَدِهِ الأسْبابُ كُلُّها، فَمَتى داخَلَ يَقِينَهُ رُكُونٌ إلى سَبَبٍ وتَعَلُّقٌ بِهِ، واطْمَأنَّ إلَيْهِ قَدَحَ ذَلِكَ في يَقِينِهِ، ولَيْسَ المُرادُ قَطْعَ الأسْبابِ عَنْ أنْ تَكُونَ أسْبابًا، والإعْراضَ عَنْها فَإنَّ هَذا زَنْدَقَةٌ وكُفْرٌ ومُحالٌ، فَإنَّ الرَّسُولَ سَبَبٌ في حُصُولِ الهِدايَةِ والإيمانِ، والأعْمالَ الصّالِحَةَ سَبَبٌ لِحُصُولِ النَّجاةِ ودُخُولِ الجَنَّةِ، والكُفْرَ سَبَبٌ لِدُخُولِ النّارِ، والأسْبابَ المُشاهَدَةَ أسْبابٌ لِمُسَبَّباتِها ولَكِنَّ الَّذِي يُرِيدُ أنْ يَحَذَرَ مِنهُ إضافَةَ يَقِينِهِ إلى سَبَبٍ غَيْرِ اللَّهِ، ولا يَتَعَلَّقَ بِالأسْبابِ بَلْ يَفْنى بِالمُسَبَّبِ عَنْها. والشَّيْخُ مِمَّنْ يُبالِغُ في إنْكارِ الأسْبابِ، لا يَرى وراءَ الفَناءِ في تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ غايَةً، وكَلامُهُ في الدَّرَجَةِ الثّالِثَةِ في مُعْظَمِ الأبْوابِ يَرْجِعُ إلى هَذَيْنِ الأصْلَيْنِ، وقَدْ عَرَفْتَ ما فِيهِما، وأنَّ الصَّوابَ خِلافُهُما، وهو إثْباتُ الأسْبابِ والقُوى، وأنَّ الفَناءَ في تَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ لَيْسَ هو غايَةَ الطَّرِيقِ، بَلْ فَوْقَهُ ما هو أجَلُّ مِنهُ وأعْلى وأشْرَفُ. وَمِن هاتَيْنِ القاعِدَتَيْنِ عَرَضَ في كِتابِهِ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي أُنْكِرَتْ عَلَيْهِ ما عَرَضَ. قالَ: الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ: إشْفاقٌ يَصُونُ سَعْيَهُ عَنِ العُجْبِ، ويَكُفُّ صاحِبَهُ عَنْ مُخاصَمَةِ الخَلْقِ، ويَحْمِلُ المُرِيدَ عَلى حِفْظِ الجِدِّ. الأوَّلُ يَتَعَلَّقُ بِالعَمَلِ، والثّانِي بِالخُلُقِ، والثّالِثُ بِالإرادَةِ، وكُلٌّ مِنها لَهُ ما يُفْسِدُهُ. فالعُجْبُ: يُفْسِدُ العَمَلَ كَما يُفْسِدُهُ الرِّياءُ، فَيُشْفِقُ عَلى سَعْيِهِ مِن هَذا المُفْسِدِ شَفَقَةً تَصُونُهُ عَنْهُ. والمُخاصَمَةُ لِلْخَلْقِ مُفْسِدَةٌ لِلْخُلُقِ، فَيُشْفِقُ عَلى خُلُقِهِ مِن هَذا المُفْسِدِ شَفَقَةً تَصُونُهُ عَنْهُ. والإرادَةُ يُفْسِدُها عَدَمُ الجِدِّ، وهو الهَزْلُ واللَّعِبُ، فَيُشْفِقُ عَلى إرادَتِهِ مِمّا يُفْسِدُها. فَإذا صَحَّ لَهُ عَمَلُهُ وخُلُقُهُ وإرادَتُهُ اسْتَقامَ سُلُوكُهُ وقَلْبُهُ وحالُهُ، واللَّهُ المُسْتَعانُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب