الباحث القرآني

قال السهيلي: ومن فوائد هذه المسألة أن نسأل كيف وردت الآية الأولى بـ (على) والآية الثانية بالياء؟ الجواب لا بد أن نسأل عن المعنى الذي لأجله قال تعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي﴾ بحرف (على) وقال تعالى: ﴿تَجْرِي بِأعْيُنِنا﴾ و ﴿واصْنَعِ الفُلْكَ بِأعْيُنِنا﴾ بحرف الباء، وما الفرق؟ قيل: الفرق أن الآية الأولى وردت في إظهار أمر كان خفيا وإبداء ما كان مكتوما، فإن الأطفال إذ ذاك كانوا يغذون ويصنعون سرا فلما أراد أن يصنع موسى عليه السلام ويغذى ويربى على حال أمن وظهور لا تحت خوف واستسرار دخلت (على) في اللفظ تنبيها على المعنى لأنها تعطي الاستعلاء والاستعلاء ظهور وإبداء فكأنه يقول سبحانه وتعالى ولتصنع على أمن لا تحت خوف وذكر العين لتضمنها معنى الرعاية والكلاءة. وأما قوله تعالى: ﴿تَجْرِي بِأعْيُنِنا﴾ ﴿واصْنَعِ الفُلْكَ بِأعْيُنِنا﴾ فإنه إنما يريد برعاية منا وحفظ ولا يريد إبداء شيء ولا إظهاره بعد كتم فلم يحتج في الكلام إلى معنى (على) بخلاف ما تقدم هذا كلامه ولم يتعرض رحمه الله تعالى لوجه الإفراد هناك والجمع هنا وهو من ألطف معاني الآية والفرق بينهما يظهر من الاختصاص الذي خص به موسى في قوله تعالى: ﴿واصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ فاقتضى هذا الاختصاص الاختصاص الآخر في قوله: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي﴾ فإن هذه الإضافة إضافة تخصيص وأما قوله تعالى: ﴿تَجْرِي بِأعْيُنِنا﴾ ﴿واصْنَعِ الفُلْكَ بِأعْيُنِنا﴾ فليس فيه من الاختصاص ما في صنع موسى على عينه سبحانه وتعالى واصطناعه إياه لنفسه وما يسنده سبحانه إلى نفسه بصيغة ضمير الجمع قد يريد به ملائكته كقوله تعالى: ﴿فَإذا قَرَأْناهُ فاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ وقوله: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾ ونظائره فتأمله. قال: وأما النفس فعلى أصل موضوعها إنما هي عبارة عن حقيقة الوجود دون معنى زائد وقد استعمل أيضا من لفظها النفاسة والشيء النفيس فصلحت للتعبير عنه سبحانه وتعالى بخلاف ما تقدم من الألفاظ المجازية وأما الذات فقد استهوى أكثر الناس ولا سيما المتكلمين القول فيها أنها في معنى النفس والحقيقة ويقولون ذات الباري هي نفسه ويعبرون بها عن وجوده وحقيقته ويحتجون في إطلاق ذلك بقوله ﷺ: "في قصة إبراهيم ثلاث كذبات كلهن في ذات الله" رواه البخاري ومسلم. وقول خبيب وذلك في ذات الإله قال وليست هذه اللفظة إذا استقريتها في اللغة والشريعة كما زعموا ولو كان كذلك لجاز أن يقال عند ذات الله واحذر ذات الله كما قال تعالى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ وذلك غير مسموع ولا يقال إلا بحرف في الجارة وحرف في للوعاء وهو معنى مستحيل على نفس الباري تعالى إذا قلت جاهدت في الله تعالى وأحببتك في الله تعالى محال أن يكون هذا اللفظ حقيقة لما يدل عليه هذا الحرف من معنى الوعاء وإنما هو على حذف المضاف أي في مرضاة الله وطاعته فيكون الحرف على بابه كأنك قلت هذا محبوب في الأعمال التي فيها مرضاة الله وطاعته وأما أن تدع اللفظ على ظاهرة فمحال وإذا ثبت هذا فقوله في ذات الله أو في ذات الإله إنما يريد في الديانة والشريعة التي هي ذات الإله فذات وصف للديانة وكذلك هي في الأصل موضوعها نعت لمؤنث ألا ترى أن فيها تاء التأنيث وإذا كان الأمر كذلك فقد صارت عبارة عما تشرف بالإضافة إلى الله تعالى عز وجل لا عن نفسه سبحانه وهذا هو المفهوم من كلام العرب ألا ترى قول النابغة الذبياني: بجلتهم ذات الإله ودينهم فقد بانَ غلط من جعل هذه اللفظة عبارة عن نفس ما أضيف إليه وهذا من كلامه من المرقصات فإنه أحسن فيه ما شاء.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب