الباحث القرآني

* (فصل) اختلف في المستثنى من أي شيء هو مخرج فذهب الكسائي إلى أنه مخرج من المستثنى منه وهو المحكوم عليه فقط فإذا قلت جاء القوم إلا زيدا فزيدا مخرج من القوم فكأنك أخبرت عن القوم الذين ليس فيهم زيد بالمجيء وأما هو فلم تخبر عنه بشيء بل سلبت الإخبار عنه لا أنك أخبرت عنه بسلب المجيء والفرق بين الأمرين واضح وعلى قوله فالإسناد وقع بعد الإخراج وذهب الفراء إلى أنه مخرج من الحكم نفسه وذهب الأكثرون إلى أنه مخرج منهما معا فله اعتباران أحدهما: كونه مستثنى وبهذا الاعتبار هو مخرج من الاسم المستثنى منه، والثاني: كونه محكوما عليه بضد حكم المستثنى منه وبهذا الاعتبار هو مخرج من حكمه والتحقيق في ذلك أنه مخرج من الاسم المقيد بالحكم فهو مخرج من اسم مقيد لا مطلق الاحتجاج لكل مذهب ونذكر هنا ما احتج به لهذه المذاهب وما تعقب به على الاحتجاج احتج الكسائي بقوله تعالى: ﴿وَإذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إبْلِيسَ أبي﴾ ووجه الاستدلال أن الاستثناء لو كان مخرجا من الحكم لكان قوله: (أبى) تكرار لأنه قد علم بالاستثناء؟ وأجيب عن هذا بأنه تأكيد. واعترض على هذا الجواب بأن المعاني المستفادة من الحروف لا تؤكد فلا يقال ما قام زيد نفيا وهل قام عمرو استفهاما ولكن قام زيد استدراكا ونحوه لأن الحرف وضع على الاختصار ولهذا عدل عن الفعل إليه فتأكيده بالفعل ينافي المقصود بوضعه. والتحقيق في الجواب أن (أبى) أفاد معنى زائدا وهو أن عدم سجوده أستند إلى إبائه وهو أمر وجودي اتصف به نشأ عنه الذنب فلم يكن ترك سجوده لعجز ولا لسهو ولا لغفلة بل كان إباء واستكبارا ومعلوم أن هذا لا يفهم من مجرد الاستثناء وإنما المفهوم منه عدم سجوده وأما الحامل على عدم السجود فلا يدل الاستثناء عليه فصرح بذكره. ونظير هذا الاحتجاج والاعتراض والتقدير سواء قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ﴾ فإن نفي كونه من الساجدين أخص من نفي السجود عنه لأن نفي الكون يقتضي نفي الأهلية والاستعداد فهو أبلغ في الذم من أن يقال لم يسجد ثم الذي يدل على بطلان هذا المذهب وجوه منها أنه لو كان ما بعد إلا سكوتا عن حكمه لم يكن قولنا لا إله إلاالله توحيدا واللازم باطل فالملزوم مثله والمقدمتان ظاهرتان. ومنها: أن الاستثناء المنقطع لا يتصور الإخراج فيه من الاسم لعدم دخوله فيه فكذلك المتصل. ومنها: أنه لو كان الإخراج من الاسم وحده لما صح الاستثناء من مضمون الجملة كقولك زيد أخوك إلا أنه ناء عنك وعمرو صديقك إلا أنه يواد عدوك ونحو هذا. ومنها أنه لا يوجد في كلام العرب قام القوم إلا زيدا فإنه قام ولو كان الإخراج من الاسم وحده والمستثنى مسكوت عنه لجاز إثبات القيام له كما جاز نفيه عنه فإن السكوت عن حكمه لا يفيد نفي القيام عنه ولا إثباته فلا يكون واحد منهما مناقضا للاستثناء. وإذا تبين بطلان المذهبين صح مذهب مخرج من الحكم لا من الاسم. وكذلك الباب كله وما أجيب عن ذلك بأن المستثنى داخل مع الاسم المحكوم عليه تقديرا إذ يقدر الأول شاملا بوجه ليصح الاستثناء ولمن نصر قول الكسائي أيضا أن يجيب بهذا الجواب. وإذا تبين بطلان المذهبين صح مذهب الجمهور أن الإخراج من الاسم والحكم معا، فالاسم المستثنى مخرج من المستثنى منه وحكمه مخرج من حكمه، وأن الممتنع إخراج الاسم المستثنى من المستثنى منه مع دخوله تحته في الحكم فإنه لا يعقل الإخراج حينئذ ألبتة فإنه لو شاركه في حكمه لدخل معه في الحكم والاسم جميعا فكان استثناؤه غير معقول. ولا يقال إن معنى الاستثناء أن المتكلم تارك للإخبار عنه بنفي أو إثبات مع احتمال كل واحد منهما، لأنا نقول هذا باطل من وجوه عديدة: منها أنك إذا قلت ما قام إلا زيد وما ضربت إلا عمرا وما مررت إلا بزيد، ونحوه من الاستثناءات المفرغات لم يشك أحد في أنك أثبت هذه الأحكام لما بعد (إلا) كما أنك سلبتها عن غيره، بل إثباتها للمستثني أقوى من سلبها عن غيره. ويلزم من قال إن حكم المستثنى مسكوت عنه أن لا يفهم من هذا إثبات القيام والضرب والمرور لزيد، وهو باطل قطعا. ومنها أنه لو كان مسكوتا عنه لم يدخل الرجل في الإسلام بقوله: (لا إله إلا الله) لأنه على هذا التقدير الباطل لم يثبت الإلهية لله وهذه أعظم كلمة تضمنت بالوضع نفي الإلهية عما سوى الله وإثباتها له بوصف الاختصاص فدلالتها على الإثبات أعظم من دلالة قولنا: (الله إله) ولا يستريب أحد في هذا ألبتة. ومنها أنه لو ادعى عليه بمائة درهم فقال له عندي مائة إلا ثلاثة دراهم، فإنه ناف لثبوت المستثنى في ذمته ولو كان ساكتا عنه لكان قد أقر بالبعض ونكل عن الجواب عن البعض وهذا لم يقله عاقل ولو كان حكم المستثنى السكوت لكان هذا ناكلا. ومنها أن المفهوم من هذا عند أهل التخاطب نفي الحكم عن المستثنى وإثباته للمستثنى منه، ولا فرق عندهم بين فهم هذا النفي وذلك الإثبات ألبتة، وذلك جرى عندهم مجرى فهم الأمر والنهي النفي والاستفهام وسائر معاني الكلام فلا يفهم سامع من قول الله عز وجل: ﴿فَلَبِثَ فِيهِمْ ألْفَ سَنَةٍ إلاّ خَمْسِينَ عامًا﴾ أنه أخبر عن تسعمائة عام وخمسين عاما وسكت عن خمسين فلم يخبر عنها بشيء، ولا يفهم أحد قط إلا أن الخمسين لم يلبثها فيهم وكذلك قوله تعالى: ﴿قالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهم أجْمَعِينَ إلاّ عِبادَكَ مِنهُمُ المُخْلَصِينَ﴾ لا يفهم منها إلا أن المخلصين لا يتمكن من إغوائهم وكذلك سائر الاستثناءات. ومنها أن القائل إذا قال قام القوم إلا زيدا، لم يكن كلامه صدقا إلا بقيامهم وعدم قيام زيد ولهذا من أراد تكذيبه قال له كذبت بل قام زيد ولو كان زيد مسكوتا عنه لم يكن هذا تكذيبا له والعقلاء قاطبة يعدونه تكذيبا ويعدون خبره كاذبا حيث يعدون الإخبار بخلاف ما الشيء عليه كذبا. إذ عرف هذا فبه ينحل الإشكال الذي أورده بعض المتأخرين على الاستثناء وقال: الاستثناء مشكل التعقل قال لأنك إذا قلت جاء القوم إلا زيدا فإما أن يكون زيد داخلا في القوم أم لا فإن كان غير داخل لم يستقم الاستثناء لأنه إخراج وإخراج ما لم يدخل غير معقول وإن كان داخلا فيهم لم يستقم إخراجه للتناقض لأنك تحكم عليه بحكمين متناقضين. ولهذه الشبهة قال القاضي وموافقوه: إن عشرة إلا ثلاثة مرادف لسبعة فهما اسمان ركبا مع الحرف وجعلا بإزاء هذا العدد فإن أراد القاضي أن المفهوم منهما واحد فصحيح وإن أراد التركيب النحوى فباطل. والجواب عن هذا الإشكال أنه لا يحكم بالنسب إلا بعد كمال ذكر المفردات فالإسناد إنما وقع بعد الإخراج فالقائل إذا قال قام القوم إلا زيدا. فهاهنا خمسة أمور: أحدها: القيام بمفردة. الثاني: القوم بمفردهم. الثالث: زيد بمفرده. الرابع: النسبة بين المفردين. الخامس: الأداة الدالة على سلب النسبة عن زيد فزيد دخل في القوم على تقدير عدم الإسناد وخرج منهم على تقدير الإسناد ثم أسند بعد إخراجه فدخوله وخروجه باعتبارين غير متنافيين فإنه دخل باعتبار الإفراد وخرج باعتبار النسبة فهو من القوم غير محكوم عليهم وليس من القوم المقيدين بالحكم عليهم هذا إيضاح هذا الإشكال وحله والله الموفق.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب