الباحث القرآني

عاقب الله من احتال على أكل أموال الناس بالربا بأن يمحق ماله. كما قال تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا ويُرْبى الصَّدَقاتِ﴾. فلا بد أن يمحق مال المرابي ولو بلغ ما بلغ. وأصل هذا: أن الله سبحانه جعل عقوبات أصحاب الجرائم بضد ما قصدوا له بتلك الجرائم، فجعل عقوبة الكاذب إهدار كلامه ورده عليه. وجعل عقوبة الغال من الغنيمة لما قصد تكثير ماله بالغلول: حرمانه سهمه، وإحراق متاعه. وجعل عقوبة من اصطاد في الحرم أو الإحرام: تحريم أكل ما صاده، وتغريمه نظيره. وجعل عقوبة من تكبر عن قبول الحق والانقياد له: أن ألزمه من الذل والصغار بحسب ما تكبر عنه من الحق. وجعل عقوبة من استكبر عن عبوديته وطاعته: أن صيره عبدا لأهل عبوديته وطاعته. وجعل عقوبة من أخاف السبيل وقطع الطريق: أن تقطع أطرافه، وتقطع عليه الطرق كلها بالنفى من الأرض، فلا يسير فيها إلا خائفًا. وجعل عقوبة من التذ بدنه كله وروحه بالوطء الحرام: إيلام بدنه وروحه بالجلد والرجم فيصل الألم إلى حيث وصلت اللذة. وشرع النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عقوبة من اطلع في بيت غيره: أن تقلع عينه بعود ونحوه، إفسادًا للعضو الذي خانه، وأولجه بيته بغير إذنه، واطلع به على حرمته. وعاقب كل خائن بأنه يضل كيده ويبطله ولا يهديه المقصوده وإن نال بعضه، فالذي ناله سبب لزيادة عقوبته وخيبته: ﴿وَأنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الخائِنِينَ﴾ [يوسف: ٥٢]. وعاقب من حرص على الولاية، والإمارة والقضاء، بأن شرع منعه وحرمانه ما حرص عليه كما قال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: " إنّا لا نُوَلّى عَمَلَنا هذا مَن سَألهُ". ولهذا عاقب أبا البشر آدم عليه السلام: بأن أخرجه من الجنة لما عصاه بالأكل من الشجرة ليخلد فيها، فكانت عقوبته إخراجه منها، ضد ما أمله. وعاقب من اتخذ معه إلها آخر، ينتصر به، ويتعزز به: بأن جعله عليه ضدا يذل به، ويخذل به. كما قال تعالى: ﴿واتّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهم عِزا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ ويَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدا﴾ [مريم: ٨١-٨٢] وقال تعالى ﴿واتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلّهم يُنْصَرُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهم وهم لَهم جُنْدٌ مْحُضَرُونَ﴾ [يس: ٧٤-٧٥] وقال تعالى ﴿لا تَجْعَل مَعَ اللهِ إلها آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوما مَخْذُولا﴾ [الإسراء: ٢٢]. ضد ما أمله المشرك من اتخاذ الإله من النصر والمدح. وعاقب الناس إذا بخسوا الكيل والميزان بجور السلطان عليهم، يأخذ من أموالهم أضعاف ما يبخس به بعضهم بعضا. وعاقبهم إذا منعوا الزكاة والصدقة ترفيها لأموالهم بحبس الغيث عنهم، فيمحق بذلك أموالهم، ويستوى غنيهم وفقيرهم في الحاجة. وعاقبهم إذا أعرضوا عن كتابه وسنة نبيه صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وطلبوا الهدى من غيره: بأن يضلهم، ويسد عليهم أبواب الهدى كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في حديث على رضي الله عنه الذي رواه الترمذى وغيره، وذكر القرآن: "مَن تَرَكَهُ مِن جَبّارٍ قَصَمَهُ اللهُ، ومَنِ ابْتَغى الُهْدى في غَيْرِهِ أضَلَّهُ اللهُ". فإن المعرض عن القرآن إما أن يعرض عنه كبرا، فجزاؤه أن يقصمه الله، أو طلبا للهدى من غيره فجزاؤه أن يضله الله. وهذا باب واسع جدا عظيم النفع. لمن تدبره يجده متضمنا لمعاقبة الرب سبحانه من خرج عن طاعته، بأن يعكس عليه مقصوده شرعًا وقدرًا، دنيا وآخره. وقد اطردت سنته الكونية سبحانه في عباده، بأن من مكر بالباطل مكر به، ومن احتال احتيل عليه، ومن خادع غيره خدع. قال الله تعالى: ﴿إنّ المُنافِقينَ يُخادِعُونَ اللهَ وهو خادِعُهُمْ﴾ [النساء: ١٤٢] وقال تعالى ﴿وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السَّيِّئُ إلا بِأهْلِه﴾ [فاطر: ٤٣]. فلا تجد ماكرًا إلا وهو ممكور به، ولا مخادعا إلا وهو مخدوع، ولا محتالا إلا وهو محتال عليه. * (فائدة) إنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ قَسَّمَ خَلْقَهُ إلى غَنِيٍّ وفَقِيرٍ، ولا تَتِمُّ مَصالِحُهم إلّا بِسَدِّ خَلَّةِ الفَقِيرِ، فَأوْجَبَ سُبْحانَهُ في فُضُولِ أمْوالِ الأغْنِياءِ ما يَسُدُّ بِهِ خَلَّةَ الفُقَراءِ، وحَرَّمَ الرِّبا الَّذِي يَضُرُّ بِالمُحْتاجِ، فَكانَ أمْرُهُ بِالصَّدَقَةِ ونَهْيُهُ عَنْ الرِّبا أخَوَيْنِ شَقِيقَيْنِ؛ ولِهَذا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُما في قَوْلِهِ: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا ويُرْبِي الصَّدَقاتِ﴾، وقَوْلُهُ: ﴿وَما آتَيْتُمْ مِن رِبًا لِيَرْبُوَ في أمْوالِ النّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وما آتَيْتُمْ مِن زَكاةٍ تُرِيدُونَ وجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ﴾ [الروم: ٣٩] وذَكَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ أحْكامَ النّاسِ في الأمْوالِ في آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ، وهي ثَلاثَةٌ: عَدْلٌ، وظُلْمٌ، وفَضْلٌ؛ فالعَدْلُ البَيْعُ، والظُّلْمُ الرِّبا، والفَضْلُ الصَّدَقَةُ؛ فَمَدَحَ المُتَصَدِّقِينَ وذَكَرَ ثَوابَهُمْ، وذَمَّ المُرابِينَ وذَكَرَ عِقابَهُمْ، وأباحَ البَيْعَ والتَّدايُنَ إلى أجْلٍ مُسَمًّى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب