الباحث القرآني

* [فَصْلٌ: الحِكْمَةُ في الفَرْقِ بَيْنَ اتِّحادِ الجِنْسِ واخْتِلافِهِ في تَحْرِيمِ الرِّبا] وَأمّا قَوْلُهُ: " وحَرَّمَ بَيْعَ مُدَّ حِنْطَةٍ بِمُدٍّ وحَفْنَةٍ، وجَوَّزَ بَيْعَهُ بِقَفِيزِ شَعِيرٍ " فَهَذا مِن مَحاسِنِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي لا يَهْتَدِي إلَيْها إلّا أُولُو العُقُولِ الوافِرَةِ، ونَحْنُ نُشِيرُ إلى حِكْمَةِ ذَلِكَ إشارَةً بِحَسَبِ عُقُولِنا الضَّعِيفَةِ وعِباراتِنا القاصِرَةِ، وشَرْعُ الرَّبِّ تَعالى وحِكْمَتُهُ فَوْقَ عُقُولِنا وعِباراتِنا، فَنَقُولُ: الرِّبا نَوْعانِ: جَلِيٌّ وخَفِيٌّ، فالجَلِيُّ حُرِّمَ لِما فِيهِ مِن الضَّرَرِ العَظِيمِ، والخَفِيُّ حُرِّمَ؛ لِأنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلى الجَلِيِّ؛ فَتَحْرِيمُ الأوَّلِ قَصْدًا، وتَحْرِيمُ الثّانِي وسِيلَةً: فَأمّا الجَلِيُّ فَرِبا النَّسِيئَةِ، وهو الَّذِي كانُوا يَفْعَلُونَهُ في الجاهِلِيَّةِ، مِثْلُ أنْ يُؤَخِّرَ دَيْنَهُ ويَزِيدَهُ في المالِ، وكُلَّما أخَّرَهُ زادَ في المالِ، حَتّى تَصِيرَ المِائَةُ عِنْدَهُ آلافًا مُؤَلَّفَةً؛ وفي الغالِبِ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلّا مُعْدَمٌ مُحْتاجٌ؛ فَإذا رَأى أنَّ المُسْتَحِقَّ يُؤَخِّرُ مُطالَبَتَهُ ويَصْبِرُ عَلَيْهِ بِزِيادَةٍ يَبْذُلُها لَهُ تَكَلَّفَ بَذْلَها لِيَفْتَدِيَ مِن أسْرِ المُطالَبَةِ والحَبْسِ، ويُدافِعَ مِن وقْتٍ إلى وقْتٍ، فَيَشْتَدُّ ضَرَرُهُ، وتَعْظُمُ مُصِيبَتُهُ، ويَعْلُوهُ الدَّيْنُ حَتّى يَسْتَغْرِقَ جَمِيعَ مَوْجُودِهِ، فَيَرْبُو المالُ عَلى المُحْتاجِ مِن غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُلُ لَهُ، ويَزِيدُ مالُ المُرابِي مِن غَيْرِ نَفْعٍ يَحْصُلُ مِنهُ لِأخِيهِ، فَيَأْكُلُ مالَ أخِيهِ بِالباطِلِ، ويَحْصُلُ أخُوهُ عَلى غايَةِ الضَّرَرِ، فَمِن رَحْمَةِ أرْحَمِ الرّاحِمِينَ وحِكْمَتِهِ وإحْسانِهِ إلى خَلْقِهِ أنْ حَرَّمَ الرِّبا، ولَعَنَ آكِلَهُ ومُؤَكِّلَهُ وكاتِبَهُ وشاهِدَيْهِ، وآذَنَ مَن لَمْ يَدَعْهُ بِحَرْبِهِ وحَرْبِ رَسُولِهِ، ولَمْ يَجِئْ مِثْلُ هَذا الوَعِيدِ في كَبِيرَةٍ غَيْرَهُ، ولِهَذا كانَ مِن أكْبَرِ الكَبائِرِ، وسُئِلَ الإمامُ أحْمَدُ عَنْ الرِّبا الَّذِي لا شَكَّ فِيهِ فَقالَ: هو أنْ يَكُونَ لَهُ دَيْنٌ فَيَقُولُ لَهُ: أتَقْضِي أمْ تُرْبِي؟ فَإنْ لَمْ يَقْضِهِ زادَهُ في المالِ وزادَهُ هَذا في الأجَلِ؛ وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ الرِّبا ضِدَّ الصَّدَقَةِ، فالمُرابِي ضِدُّ المُتَصَدِّقِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا ويُرْبِي الصَّدَقاتِ﴾ [البقرة: ٢٧٦] وقالَ: ﴿وَما آتَيْتُمْ مِن رِبًا لِيَرْبُوَ في أمْوالِ النّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وما آتَيْتُمْ مِن زَكاةٍ تُرِيدُونَ وجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ﴾ [الروم: ٣٩] وقالَ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أضْعافًا مُضاعَفَةً واتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكم تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: ١٣٠] ﴿واتَّقُوا النّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ﴾ [آل عمران: ١٣١] ثُمَّ ذَكَرَ الجَنَّةَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ في السَّرّاءِ والضَّرّاءِ، وهَؤُلاءِ ضِدُّ المُرابِينَ، فَنَهى سُبْحانَهُ عَنْ الرِّبا الَّذِي هو ظُلْمٌ لِلنّاسِ، وأمَرَ بِالصَّدَقَةِ الَّتِي هي إحْسانٌ إلَيْهِمْ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «إنّما الرِّبا في النَّسِيئَةِ» ومِثْلُ هَذا يُرادُ بِهِ حَصْرُ الكَمالِ وأنَّ الرِّبا الكامِلَ إنّما هو في النَّسِيئَةِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وجِلَتْ قُلُوبُهم وإذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهم إيمانًا وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: ٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال: ٤] وكَقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ: " إنّما العالِمُ الَّذِي يَخْشى اللَّهَ ". * [فَصْلٌ: رِبا الفَضْلِ] وَأمّا رِبا الفَضْلِ فَتَحْرِيمُهُ مِن بابِ سَدِّ الذَّرائِعِ، كَما صَرَّحَ بِهِ في حَدِيثِ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ ﷺ: «لا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ؛ فَإنِّي أخافُ عَلَيْكم الرِّمّا» والرِّمّا هو الرِّبا، فَمَنَعَهم مِن رِبا الفَضْلِ لِما يَخافُهُ عَلَيْهِمْ مِن رِبا النَّسِيئَةِ، وذَلِكَ أنَّهم إذا باعُوا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ، ولا يُفْعَلُ هَذا إلّا لِلتَّفاوُتِ الَّذِي بَيْنَ النَّوْعَيْنِ - إمّا في الجَوْدَةِ، وإمّا في السِّكَّةِ، وإمّا في الثِّقَلِ والخِفَّةِ، وغَيْرِ ذَلِكَ - تَدَرَّجُوا بِالرِّبْحِ المُعَجَّلِ فِيها إلى الرِّبْحِ المُؤَخَّرِ، وهو عَيْنُ رِبا النَّسِيئَةِ، وهَذِهِ ذَرِيعَةٌ قَرِيبَةٌ جِدًّا؛ فَمِن حِكْمَةِ الشّارِعِ أنْ سَدَّ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الذَّرِيعَةَ، ومَنَعَهم مِن بَيْعِ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ نَقْدًا ونَسِيئَةً؛ فَهَذِهِ حِكْمَةٌ مَعْقُولَةٌ مُطابِقَةٌ لِلْعُقُولِ، وهي تَسُدُّ عَلَيْهِمْ بابَ المَفْسَدَةِ. فَإذا تَبَيَّنَ هَذا فَنَقُولُ: الشّارِعُ نَصَّ عَلى تَحْرِيمِ رِبا الفَضْلِ في سِتَّةِ أعْيانٍ، وهي الذَّهَبُ، والفِضَّةُ، والبُرُّ، والشَّعِيرُ، والتَّمْرُ، والمِلْحُ، فاتَّفَقَ النّاسُ عَلى تَحْرِيمِ التَّفاضُلِ فِيها مَعَ اتِّحادِ الجِنْسِ، وتَنازَعُوا فِيما عَداها؛ فَطائِفَةٌ قَصَرَتْ التَّحْرِيمَ عَلَيْها، وأقْدَمُ مَن يُرْوى هَذا عَنْهُ قَتادَةُ، وهو مَذْهَبُ أهْلِ الظّاهِرِ، واخْتِيارُ ابْنِ عَقِيلٍ في آخِرِ مُصَنَّفاتِهِ مَعَ قَوْلِهِ بِالقِياسِ، قالَ: لِأنَّ عِلَلَ القِياسِيَّيْنِ في مَسْألَةِ الرِّبا عِلَلٌ ضَعِيفَةٌ، وإذا لَمْ تَظْهَرْ في عِلَّةٍ امْتَنَعَ القِياسُ. وَطائِفَةٌ حَرَّمَتْهُ في كُلِّ مَكِيلٍ ومَوْزُونٍ بِجِنْسِهِ، وهَذا مَذْهَبُ عَمّارٍ وأحْمَدَ في ظاهِرِ مَذْهَبِهِ وأبِي حَنِيفَةَ، وطائِفَةٌ خَصَّتْهُ بِالطَّعامِ وإنْ لَمْ يَكُنْ مَكِيلًا ولا مَوْزُونًا، وهو قَوْلُ الشّافِعِيِّ ورِوايَةٌ عَنْ الإمامِ أحْمَدَ، وطائِفَةٌ خَصَّتْهُ بِالطَّعامِ إذا كانَ مَكِيلًا أوْ مَوْزُونًا، وهو قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ ورِوايَةٌ عَنْ أحْمَدَ وقَوْلٌ لِلشّافِعِيِّ، وطائِفَةٌ خَصَّتْهُ بِالقُوتِ وما يُصْلِحُهُ، وهو قَوْلُ مالِكٍ، وهو أرْجَحُ هَذِهِ الأقْوالِ كَما سَتَراهُ. وَأمّا الدَّراهِمُ والدَّنانِيرُ، فَقالَتْ طائِفَةٌ: العِلَّةُ فِيهِما كَوْنُهُما مَوْزُونَيْنِ، وهَذا مَذْهَبُ أحْمَدَ في إحْدى الرِّوايَتَيْنِ عَنْهُ ومَذْهَبُ أبِي حَنِيفَةَ، وطائِفَةٌ قالَتْ: العِلَّةُ فِيهِما الثَّمَنِيَّةُ، وهَذا قَوْلُ الشّافِعِيِّ ومالِكٍ وأحْمَدَ في الرِّوايَةِ الأُخْرى، وهَذا هو الصَّحِيحُ بَلْ الصَّوابُ، فَإنَّهم أجْمَعُوا عَلى جَوازِ إسْلامِهِما في المَوْزُوناتِ مِن النُّحاسِ والحَدِيدِ وغَيْرِهِما؛ فَلَوْ كانَ النُّحاسُ والحَدِيدُ رِبَوِيَّيْنِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُما إلى أجَلٍ بِدَراهِمَ نَقْدًا؛ فَإنَّ ما يَجْرِي فِيهِ الرَّدُّ إذا اخْتَلَفَ جِنْسُهُ جازَ التَّفاضُلُ فِيهِ دُونَ النِّساءِ، والعِلَّةُ إذا انْتَقَضَتْ مِن غَيْرِ فَرْقٍ مُؤَثِّرٍ دَلَّ عَلى بُطْلانِها. وَأيْضًا فالتَّعْلِيلُ بِالوَزْنِ لَيْسَ فِيهِ مُناسَبَةٌ، فَهو طَرْدٌ مَحْضٌ، بِخِلافِ التَّعْلِيلِ بِالثَّمَنِيَّةِ، فَإنَّ الدَّراهِمَ والدَّنانِيرَ أثْمانُ المَبِيعاتِ، والثَّمَنُ هو المِعْيارُ الَّذِي بِهِ يُعْرَفُ تَقْوِيمُ الأمْوالِ، فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ مَحْدُودًا مَضْبُوطًا لا يَرْتَفِعُ ولا يَنْخَفِضُ؛ إذْ لَوْ كانَ الثَّمَنُ يَرْتَفِعُ ويَنْخَفِضُ كالسِّلَعِ لَمْ يَكُنْ لَنا ثَمَنٌ نَعْتَبِرُ بِهِ المَبِيعاتِ، بَلْ الجَمِيعُ سِلَعٌ، وحاجَةُ النّاسِ إلى ثَمَنٍ يَعْتَبِرُونَ بِهِ المَبِيعاتِ حاجَةٌ ضَرُورِيَّةٌ عامَّةٌ، وذَلِكَ لا يُمْكِنُ إلّا بِسِعْرٍ تُعْرَفُ بِهِ القِيمَةُ، وذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا بِثَمَنٍ تُقَوَّمُ بِهِ الأشْياءُ، ويَسْتَمِرُّ عَلى حالَةٍ واحِدَةٍ، ولا يَقُومُ هو بِغَيْرِهِ؛ إذْ يَصِيرُ سِلْعَةً يَرْتَفِعُ ويَنْخَفِضُ، فَتَفْسُدُ مُعامَلاتُ النّاسِ، ويَقَعُ الخُلْفُ، ويَشْتَدُّ الضَّرَرُ، كَما رَأيْت مِن فَسادِ مُعامَلاتِهِمْ والضَّرَرُ اللّاحِقُ بِهِمْ حِينَ اتُّخِذَتْ الفُلُوسُ سِلْعَةً تُعَدُّ لِلرِّبْحِ فَعَمَّ الضَّرَرُ وحَصَلَ الظُّلْمُ، ولَوْ جَعَلْت ثَمَنًا واحِدًا لا يَزْدادُ ولا يَنْقُصُ بَلْ تَقُومُ بِهِ الأشْياءُ ولا تَقُومُ هي بِغَيْرِها لِصُلْحِ أمْرِ النّاسِ، فَلَوْ أُبِيحَ رِبا الفَضْلِ في الدَّراهِمِ والدَّنانِيرِ - مِثْلُ أنْ يُعْطِيَ صِحاحًا ويَأْخُذَ مُكَسَّرَةً أوْ خِفافًا ويَأْخُذَ ثِقالًا أكْثَرَ مِنها - لَصارَتْ مَتْجَرًا، أوْ جَرَّ ذَلِكَ إلى رِبا النَّسِيئَةِ فِيها ولا بُدَّ؛ فالأثْمانُ لا تُقْصَدُ لِأعْيانِها، بَلْ يُقْصَدُ التَّوَصُّلُ بِها إلى السِّلَعِ، فَإذا صارَتْ في أنْفُسِها سِلَعًا تُقْصَدُ لِأعْيانِها فَسَدَ أمْرُ النّاسِ، وهَذا مَعْنًى مَعْقُولٌ يَخْتَصُّ بِالنُّقُودِ لا يَتَعَدّى إلى سائِرِ المَوْزُوناتِ. * [فَصْلٌ: حِكْمَةُ تَحْرِيمِ رِبا النَّساءِ في المَطْعُومِ] وَأمّا الأصْنافُ الأرْبَعَةُ المَطْعُومَةُ فَحاجَةُ النّاسِ إلَيْها أعْظَمُ مِن حاجَتِهِمْ إلى غَيْرِها؛ لِأنَّها أقْواتُ العالَمِ، وما يُصْلِحُها؛ فَمِن رِعايَةِ مَصالِحِ العِبادِ أنْ مُنِعُوا مِن بَيْعِ بَعْضِها بِبَعْضٍ إلى أجَلٍ، سَواءٌ اتَّحَدَ الجِنْسُ أوْ اخْتَلَفَ، ومُنِعُوا مِن بَيْعِ بَعْضِها بِبَعْضٍ حالًّا مُتَفاضِلًا وإنْ اخْتَلَفَتْ صِفاتُها؛ وجُوِّزَ لَهم التَّفاضُلُ فِيها مَعَ اخْتِلافِ أجْناسِها. وَسِرُّ ذَلِكَ - واللَّهُ أعْلَمُ - أنَّهُ لَوْ جُوِّزَ بَيْعُ بَعْضِها بِبَعْضٍ نَساءً لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أحَدٌ إلّا إذا رَبِحَ، وحِينَئِذٍ تَسْمَحُ نَفْسُهُ بِبَيْعِها حالَّةً لِطَمَعِهِ في الرِّبْحِ، فَيَعِزُّ الطَّعامُ عَلى المُحْتاجِ، ويَشْتَدُّ ضَرَرُهُ، وعامَّةُ أهْلِ الأرْضِ لَيْسَ عِنْدَهم دَراهِمُ ولا دَنانِيرُ، لا سِيَّما أهْلُ العَمُودِ والبَوادِي، وإنَّما يَتَناقَلُونَ الطَّعامَ بِالطَّعامِ؛ فَكانَ مِن رَحْمَةِ الشّارِعِ بِهِمْ وحِكْمَتِهِ أنْ مَنَعَهم مِن رِبا النَّساءِ فِيها كَما مَنَعَهم مِن رِبا النَّساءِ في الأثْمانِ؛ إذْ لَوْ جَوَّزَ لَهم النَّساءَ فِيها لَدَخَلَها: " إمّا أنْ تَقْضِيَ وإمّا أنْ تُرْبِيَ " فَيَصِيرُ الصّاعُ الواحِدُ لَوْ أخَذَ قُفْزانًا كَثِيرَةً، فَفُطِمُوا عَنْ النَّساءِ، ثُمَّ فَطَمُوا عَنْ بَيْعِها مُتَفاضِلًا يَدًا بِيَدٍ، إذْ تَجُرُّهم حَلاوَةُ الرِّبْحِ وظُفْرُ الكَسْبِ إلى التِّجارَةِ فِيها نَساءً وهو عَيْنُ المَفْسَدَةِ، وهَذا بِخِلافِ الجِنْسَيْنِ المُتَبايِنَيْنِ؛ فَإنَّ حَقائِقَهُما وصِفاتِهِما ومَقاصِدَهُما مُخْتَلِفَةٌ؛ فَفي إلْزامِهِمْ المُساواةَ في بَيْعِها إضْرارٌ بِهِمْ، ولا يَفْعَلُونَهُ، وفي تَجْوِيزِ النَّساءِ بَيْنَها ذَرِيعَةٌ إلى: " إمّا أنْ تَقْضِيَ وإمّا أنْ تُرْبِيَ " فَكانَ مِن تَمامِ رِعايَةِ مَصالِحِهِمْ أنْ قَصَرَهم عَلى بَيْعِها يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شاءُوا، فَحَصَلَتْ لَهم مَصْلَحَةُ المُبادَلَةِ، وانْدَفَعَتْ عَنْهم مَفْسَدَةُ: " إمّا أنْ تَقْضِيَ وإمّا أنْ تُرْبِيَ ". وهَذا بِخِلافِ ما إذا بِيعَتْ بِالدَّراهِمِ أوْ غَيْرِها مِن المَوْزُوناتِ نَساءً فَإنَّ الحاجَةَ داعِيَةٌ إلى ذَلِكَ، فَلَوْ مَنَعُوا مِنهُ لَأضَرَّ بِهِمْ، ولامْتَنَعَ السَّلَمُ الَّذِي هو مِن مَصالِحِهِمْ فِيما هم مُحْتاجُونَ إلَيْهِ أكْثَرَ مِن غَيْرِهِمْ، والشَّرِيعَةُ لا تَأْتِي بِهَذا، ولَيْسَ بِهِمْ حاجَةً في بَيْعِ هَذِهِ الأصْنافِ بَعْضُها بِبَعْضٍ نَساءً وهو ذَرِيعَةٌ قَرِيبَةٌ إلى مَفْسَدَةِ الرِّبا، فَأُبِيحَ لَهم في جَمِيعِ ذَلِكَ ما تَدْعُو إلَيْهِ حاجَتُهم ولَيْسَ بِذَرِيعَةٍ إلى مَفْسَدَةٍ راجِحَةٍ، ومُنِعُوا مِمّا لا تَدْعُو الحاجَةُ إلَيْهِ ويُتَذَرَّعُ بِهِ غالِبًا إلى مَفْسَدَةٍ راجِحَةٍ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ أنَّ مَن عِنْدَهُ صِنْفٌ مِن هَذِهِ الأصْنافِ وهو مُحْتاجٌ إلى الصِّنْفِ الآخَرِ فَإنَّهُ يَحْتاجُ إلى بَيْعِهِ بِالدَّراهِمِ لِيَشْتَرِيَ الصِّنْفَ الآخَرَ، كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «بِعْ الجَمْعَ بِالدَّراهِمِ ثُمَّ اشْتَرِ بِالدَّراهِمِ جَنِيبًا» أوْ تَبِيعَهُ بِذَلِكَ الصِّنْفِ نَفْسِهِ بِما يُساوِي، وعَلى كِلا التَّقْدِيرَيْنِ يَحْتاجُ إلى بَيْعِهِ حالًّا، بِخِلافِ ما إذا مُكِّنَ مِن النَّساءِ، فَإنَّهُ حِينَئِذٍ يَبِيعُهُ بِفَضْلٍ، ويَحْتاجُ أنْ يَشْتَرِيَ الصِّنْفَ الآخَرَ بِفَضْلٍ؛ لِأنَّ صاحِبَ ذَلِكَ الصِّنْفِ يُرْبِي عَلَيْهِ كَما أرْبى هو عَلى غَيْرِهِ، فَيَنْشَأُ مِن النَّساءِ تَضَرُّرٌ بِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما، والنَّساءُ هاهُنا في صِنْفَيْنِ، وفي النَّوْعِ الأوَّلِ في صِنْفٍ واحِدٍ، وكِلاهُما مَنشَأُ الضَّرَرِ والفَسادِ. وَإذا تَأمَّلْت ما حُرِّمَ فِيهِ النَّساءُ رَأيْته إمّا صِنْفًا واحِدًا أوْ صِنْفَيْنِ مَقْصُودُهُما واحِدٌ أوْ مُتَقارِبٌ، كالدَّراهِمِ والدَّنانِيرِ، والبُرِّ والشَّعِيرِ، والتَّمْرِ والزَّبِيبِ، فَإذا تَباعَدَتْ المَقاصِدُ لَمْ يَحْرُمْ النَّساءُ كالبُرِّ والثِّيابِ والحَدِيدِ والزَّيْتِ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ أنَّهُ لَوْ مُكِّنَ مِن بَيْعِ مُدِّ حِنْطَةٍ بِمَدَّيْنِ كانَ ذَلِكَ تِجارَةً حاضِرَةً، فَتَطْلُبُ النُّفُوسُ التِّجارَةَ المُؤَخَّرَةَ لِلَذَّةِ الكَسْبِ وحَلاوَتِهِ؛ فَمُنِعُوا مِن ذَلِكَ حَتّى مُنِعُوا مِن التَّفَرُّقِ قَبْلَ القَبْضِ إتْمامًا لِهَذِهِ الحِكْمَةِ، ورِعايَةً لِهَذِهِ المَصْلَحَةِ؛ فَإنَّ المُتَعاقِدَيْنِ قَدْ يَتَعاقَدانِ عَلى الحُلُولِ، والعادَةُ جارِيَةٌ بِصَبْرِ أحَدِهِما عَلى الآخَرِ، وكَما يَفْعَلُ أرْبابُ الحِيَلِ: يُطْلِقُونَ العَقْدَ وقَدْ تَواطَئُوا عَلى أمْرٍ آخَرَ، كَما يُطْلِقُونَ عَقْدَ النِّكاحِ وقَدْ اتَّفَقُوا عَلى التَّحْلِيلِ، ويُطْلِقُونَ بَيْعَ السِّلْعَةِ إلى أجَلٍ وقَدْ اتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ يُعِيدُها إلَيْهِ بِدُونِ ذَلِكَ الثَّمَنِ؛ فَلَوْ جُوِّزَ لَهم التَّفَرُّقُ قَبْلَ القَبْضِ لَأطْلَقُوا البَيْعَ حالًّا وأخَّرُوا الطَّلَبَ لِأجْلِ الرِّبْحِ، فَيَقَعُوا في نَفْسِ المَحْذُورِ. وَسِرُّ المَسْألَةِ أنَّهم مُنِعُوا مِن التِّجارَةِ في الأثْمانِ بِجِنْسِها؛ لِأنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ مَقْصُودَ الأثْمانِ، ومُنِعُوا مِن التِّجارَةِ في الأقْواتِ بِجِنْسِها؛ لِأنَّ ذَلِكَ يُفْسِدُ عَلَيْهِمْ مَقْصُودَ الأقْواتِ، وهَذا المَعْنى بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ في بَيْعِ التِّبْرِ والعَيْنِ؛ لِأنَّ التِّبْرَ لَيْسَ فِيهِ صَنْعَةٌ يُقْصَدُ لِأجْلِها؛ فَهو بِمَنزِلَةِ الدَّراهِمِ الَّتِي قَصَدَ الشّارِعُ ألّا يُفاضِلَ بَيْنَها، ولِهَذا قالَ: " تِبْرُها وعَيْنُها سَواءٌ " فَظَهَرَتْ حِكْمَةُ تَحْرِيمِ رِبا النَّساءِ في الجِنْسِ والجِنْسَيْنِ، ورِبا الفَضْلِ في الجِنْسِ الواحِدِ، وأنَّ تَحْرِيمَ هَذا تَحْرِيمُ المَقاصِدِ وتَحْرِيمَ الآخَرِ تَحْرِيمُ الوَسائِلِ وسَدُّ الذَّرائِعِ، ولِهَذا لَمْ يُبَحْ شَيْءٌ مِن رِبا النَّسِيئَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب