الباحث القرآني

فَنَبَّهَ سُبْحانَهُ العُقُولَ عَلى ما فِيها مِن قُبْحِ الأعْمالِ السَّيِّئَةِ الَّتِي تُحْبِطُ ثَوابَ الحَسَناتِ، وشَبَّهَها بِحالِ شَيْخٍ كَبِيرٍ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ، بِحَيْثُ يَخْشى عَلَيْهِمُ الضَّيْعَةَ وعَلى نَفْسِهِ، ولَهُ بُسْتانٌ هو مادَّةُ عَيْشِهِ وعَيْشِ ذُرِّيَّتِهِ، فِيهِ النَّخِيلُ والأعْنابُ ومِن كُلِّ الثَّمَراتِ، فَأرْجى وأفْقَرَ ما هو لَهُ وأسَرَّ ما كانَ بِهِ إذْ أصابَهُ نارٌ شَدِيدَةٌ فَأحْرَقَتْهُ، فَنَبَّهَ العُقُولَ عَلى أنَّ قُبْحَ المَعاصِي الَّتِي تُغْرِقُ الطّاعاتِ كَقُبْحِ هَذِهِ الحالِ، وبِهَذا فَسَّرَها عُمَرُ، وابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم لِرَجُلٍ غَنِيٍّ عَمِلَ بِطاعَةِ اللَّهِ زَمانًا، فَبَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطانَ، فَعَمِلَ بِالمَعاصِي حَتّى أغْرَقَ أعْمالَهُ، ذَكَرَهُ البُخارِيُّ في صَحِيحِهِ. أفَلا تَراهُ نَبَّهَ العُقُولَ عَلى قُبْحِ المَعْصِيَةِ بَعْدَ الطّاعَةِ، وضَرَبَ لِقُبْحِها هَذا المَثَلَ؟ * (فصل) قال الحسن: هذا مثل، قلّ والله من يعقله من الناس: شيخ كبير ضعف جسمه وكثر صبيانه أفقر ما كان إلى جنته. وإن أحدكم والله أفقر ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا. وفي صحيح البخاري عن عبيد بن عمير قال: قال عمر يوما لأصحاب النبي ﷺ فيم هم يرون هذه الآية نزلت: ﴿أيَوَدُّ أحَدُكم أنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ﴾ الآية؟ قالوا: الله أعلم. فغضب عمر وقال: قولوا نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي شيء يا أمير المؤمنين. فقال عمر: قل يا ابن أخي، ولا تحقر بنفسك. قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل. قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل رجل عمل بطاعة الله ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أحرق أعماله. فقوله تعالى: {أيَوَدُّ أحَدُكم أخرجه مخرج الاستفهام الانكاري، وهو أبلغ من النفي والنهي وألطف موقعا، كما ترى غيرك يفعل فعلا قبيحا، فتقول له: لا يفعل هذا عاقل، أيفعل هذا من يخاف الله والدار الآخرة؟ وقال تعالى: أيَوَدُّ أحَدُكم بلفظ الواحد لتضمنه معنى الإنكار العام، كما تقول أيفعل هذا أحد فيه خير؟ وهو أبلغ في الإنكار من أن يقول: أيودون. وقوله: ﴿أيَوَدُّ﴾ أبلغ في الإنكار مما لو قيل: أيريد، لأن محبة هذا الحال المذكورة وتمنيها أقبح وأنكر من مجرد إرادتها. وقوله تعالى: ﴿أنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وأعْنابٍ﴾ خص هذين النوعين من الثمار بالذكر لأنهما أشرف أنواع الثمار، وأكثرها نفعا فإن منهما القوت والغذاء. والدواء والشراب والفاكهة. والحلو والحامض، ويؤكلان رطبا، ويابسا، ومنافعهما كثيرة جدا. وقد اختلف في الأنفع والأفضل منهما. فرجحت طائفة النخيل، ورجحت طائفة العنب، وذكرت كل طائفة حججا لقولها، فذكرناها في غير هذا الموضع. وفصل الخطاب: أن هذا يختلف باختلاف البلاد. فإن الله سبحانه وتعالى أجرى العادة بأن سلطان أحدهما لا يحل حيث يحل سلطان الآخر. فالأرض التي يكون فيها سلطان النخيل لا يكون فيها العنب بها طائلا ولا كثيرا. لأنه إنما يخرج في الأرض الرخوة اللينة المعتدلة غير السخية، فينمو فيها ويكثر، وأما النخيل فنموه وكثرته في الأرض الحارة السبخة، وهي لا تناسب العنب. فالنخل في أرضه وموضعه أنفع وأفضل من العنب فيها. والعنب في أرضه ومعدنه أفضل من النخل فيها. والله أعلم. والمقصود: أن هذين النوعين هما أفضل أنواع الثمار وأكرمها. فالجنة المشتملة عليهما أفضل الجنان، ومع هذا فالأنهار تجري تحت هذه الجنة. وذلك أكمل لها وأعظم في قدرها، ومع ذلك فلم يعدم شيئا من أنواع الثمار المشتهاة، بل فيها من كل الثمرات، ولكن معظمها ومقصودها النخيل والأعناب. فلا تنافي بين كونها من نخيل وأعناب، وفِيها مِن كُلِّ الثَّمَراتِ. ونظير هذا قوله تعالى: ﴿واضْرِبْ لَهم مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِن أعْنابٍ وحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعًا (٣٢) كِلْتا الجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها ولَمْ تَظْلِمْ مِنهُ شَيْئًا وفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَرًا (٣٣) وكانَ لَهُ ثَمَرٌ﴾. وقد قيل: إن الثمار في آية الكهف وفي آية البقرة المراد بها المنافع والأموال والسياق يدل على أنها الثمار المعروفة لا غيرها. لقوله في البقرة: لَهُ فِيها مِن كُلِّ الثَّمَراتِ ثم قال تعالى: ﴿فَأصابَها﴾ أي الجنة ﴿إعْصارٌ فِيهِ نارٌ فاحْتَرَقَتْ﴾ وفي الكهف: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أنْفَقَ فِيها وهي خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها﴾ وما ذلك إلا ثمار الجنة. ثم قال تعالى: ﴿وَأصابَهُ الكِبَرُ﴾ هذا إشارة إلى شدة حاجته إلى جنته، وتعلق قلبه بها من وجوه. أحدها: أنه قد كبر سنه عن الكسب والتجارة ونحوها. الثاني: أن ابن آدم عند كبر سنه يشتد حرصه. الثالث: أن له ذرية، فهو حريص على بقاء جنته لحاجته وحاجة ذريته. الرابع: أنهم ضعفاء، فهم كلّ عليه، لا ينفعونه بقوتهم وتصرفهم الخامس: أن نفقتهم عليه، لضعفهم وعجزهم. وهذا نهاية ما يكون من تعلق القلب بهذه الجنة، لخطرها في نفسها، وشدة حاجته وذريته إليها. فإذا تصورت هذا الحال وهذه الحاجة، فكيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصاب جنته إعصار، وهو الريح التي تستدير في الأرض ثم ترتفع في طبقات الجو كالعمود وفيها نار، مرت بتلك الجنة فأحرقتها، وصيرتها رمادا، فصدق والله الحسن - هذا مثل قل من يعقله من الناس - ولهذا نبه الله سبحانه وتعالى على عظم هذا المثل، وحدا القلوب إلى التفكر فيه لشدة حاجتها إليه فقال تعالى: ﴿كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكم تَتَفَكَّرُونَ﴾. فلو فكر العاقل في هذا المثل وجعله قبلة قلبه لكفاه وشفاه فكذلك العبد إذا عمل بطاعة الله ثم أتبعها بما يبطلها ويحرقها من معاصي الله كانت كالإعصار ذي النار المحرق للجنة التي غرسها بطاعته وعمله الصالح. فلو تصور العامل بمعصية الله بعد طاعته هذا المعنى حق تصوره وتأمله كما ينبغي لما سولت له نفسه والله إحراق أعماله الصالحة وإضاعتها، ولكن لا بد أن يغيب عنه علمه عند المعصية. ولهذا استحق اسم الجهل. فكل من عصى الله فهو جاهل. فإن قيل: الواو في قوله تعالى: {وَأصابَهُ الكِبَرُ واو الحال أم واو العطف؟ وإذا كانت للعطف فعلام عطفت ما بعدها؟ قلت: فيه وجهان. أحدهما: أنها واو الحال، اختاره الزمخشري، والمعنى: أيود أحدكم أن تكون له جنة شأنها كذا وكذا في حال كبره وضعف ذريته. والثاني: أن تكون للعطف على المعنى. فإن فعل التمني وهو قوله: أيَوَدُّ أحَدُكم لطلب الماضي كثيرا. فكان المعنى: أيود لو كانت له جنة من نخيل وأعناب وأصابه الكبر فجرى عليها ما ذكر. وتأمل كيف ضرب سبحانه المثل للمنفق المرائي الذي لم يصدر إنفاقه عن الإيمان: بالصفوان الذي عليه التراب، فإنه لم ينبت شيئا أصلا، بل ذهب بذره ضائعا لعدم إيمانه وإخلاصه. ثم ضرب المثل لمن عمل بطاعة الله مخلصا بنيته لله، ثم عرض له ما أبطل ثوابه: بالجنة التي هي من أحسن الجنان وأطيبها وأزهرها. ثم سلط عليها الأعصار الناري فأحرقها. فإن هذا نبت له شيء وأثمر له عمله، ثم أحرقه، والأول لم يحصل له شيء يدركه الحريق. فتبارك من جعل كلامه حياة للقلوب وشفاء للصدور وهدى ورحمة للمؤمنين.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب