الباحث القرآني
وهذه الآية كالتفسير والبيان لمقدار الأضعاف التى يضاعفها للمقرض، ومثل سبحانه بهذا المثل إحضارًا لصورة التضعيف في الأذهان بهذه الحبة التى غيبت في الأرض فأنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، حتى كأن القلب ينظر إلى هذا التضعيف ببصيرته كما تنظر العين إلى هذه السنابل التى من الحبة الواحدة فينضاف الشاهد العيانى الشاهد الإيمانى القرآنى فيقوى إيمان المنفق وتسخو نفسه بالإنفاق.
وتأمل كيف جمع السنبلة في هذه الآية على سنابل وهى من مجموع الكثرة، إذ المقام مقام تكثير وتضعيف، وجمعها على سنبلات في قوله تعالى: ﴿وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وأُخَرَ يابِساتٍ﴾ [يوسف: ٤٣]، فجاءَ بها على جمع القلة لأن السبعة قليلة ولا مقتضى للتكثير. وقوله تعالى: ﴿واللهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشاءُ﴾، قيل: المعنى والله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاءُ لا لكل منفق بل يختص برحمته من يشاءُ، وذلك لتفاوت أحوال الإنفاق في نفسه، وفي صفات المنفق وأحواله وفي شدة الحاجة وعظيم النفع وحسن الموقع.
وقيل: والله يضاعف لمن يشاءُ فوق ذلك فلا يقتصر به على السبعمائة، بل يجاوز في المضاعفة هذا المقدار إلى أضعاف كثيرة.
واختلف في تفسير الآية فقيل: مثل نفقة الذين ينفقون في سبيل الله كمثل حبة.
وقيل: مثل الذين ينفقون في سبيل الله كمثل باذر حبة، ليطابق الممثل للممثل به.
فهاهنا أربعة أُمور: منفق، ونفقة، وباذر، وبذر. فذكر سبحانه من كل شق أهم قسميه، فذكر من شق الممثل المنفق إذ المقصود ذكر حاله وشأْنه، وسكت عن ذكر النفقة لدلالة اللفظ عليها.
وذكر من شق الممثل به البذر إذ هو المحل الذي حصلت فيه المضاعفة، وترك ذكر الباذر لأن القرض لا يتعلق بذكره.
فتأمل هذه البلاغة والفصاحة والإيجاز المتضمن لغاية البيان.
وهذا كثير في أمثال القرآن، بل عامتها ترد على هذا النمط، ثم ختم الآية باسمين من أسمائه الحسنى مطابقين لسياقها، وهما الواسع والعليم، فلا يستبعد العبد هذه المضاعفة ولا يضيق عنها عطنه، فإن المضاعف سبحانه واسع العطاء واسع الغنى واسع الفضل، ومع ذلك فلا يظن أن سعة عطائه تقتضى حصولها لكل منفق فإنه عليم بمن تصلح له هذه المضاعفة وهو أهل لها، ومن لا يستحقها ولا هو أهل لها، فإن كرمه سبحانه وفضله تعالى لا يناقض حكمته، بل يضع فضله مواضعه لسعته ورحمته، ويمنعه من ليس من أهل بحكمته وعلمه.
* (فصل)
شَبَّهَ سُبْحانَهُ نَفَقَةَ المُنْفِقِ في سَبِيلِهِ، سَواءٌ كانَ المُرادُ بِهِ الجِهادُ أوْ جَمِيعُ سُبُلِ الخَيْرِ مِن كُلِّ بِرٍّ، بِمَن بَذَرَ بَذْرًا فَأنْبَتَتْ كُلُّ حَبَّةٍ مِنهُ سَبْعَ سَنابِلَ اشْتَمَلَتْ كُلُّ سُنْبُلَةٍ عَلى مِائَةِ حَبَّةٍ، واللَّهُ يُضاعِفُ لِمَن يَشاءُ فَوْقَ ذَلِكَ بِحَسْبِ حالِ المُنْفِقِ وإيمانِهِ وإخْلاصِهِ وإحْسانِهِ ونَفْعِ نَفَقَتِهِ وقَدْرِها ووُقُوعِها مَوْقِعَها؛ فَإنَّ ثَوابَ الإنْفاقِ يَتَفاوَتُ بِحَسَبِ ما يَقُومُ بِالقَلْبِ مِن الإيمانِ والإخْلاصِ والتَّثْبِيتِ عِنْدَ النَّفَقَةِ، وهو إخْراجُ المالِ بِقَلْبٍ ثابِتٍ قَدْ انْشَرَحَ صَدْرُهُ بِإخْراجِهِ، وسَمَحَتْ بِهِ نَفْسُهُ، وخَرَجَ مِن قَلْبِهِ خُرُوجَهُ مِن يَدِهِ، فَهو ثابِتُ القَلْبِ عِنْدَ إخْراجِهِ، غَيْرُ جَزِعٍ ولا هَلِعٍ ولا مُتْبِعِهِ نَفْسَهُ تَرْجُفُ يَدُهُ وفُؤادُهُ، ويَتَفاوَتُ بِحَسْبِ نَفْعِ الإنْفاقِ ومَصارِفِهِ بِمَواقِعِهِ، وبِحَسْبِ طِيبِ المُنْفِقِ وزَكاتِهِ وتَحْتَ هَذا المَثَلِ مِن الفِقْهِ أنَّهُ سُبْحانَهُ شَبَّهَ الإنْفاقَ بِالبَذْرِ.
فالمُنْفِقُ مالَهُ الطَّيِّبَ لِلَّهِ لا لِغَيْرِهِ باذِرٌ مالَهُ في أرْضٍ زَكِيَّةِ، فَمُغِلُّهُ بِحَسْبِ بَذْرِهِ وطِيبِ أرْضِهِ وتَعاهُدِ البَذْرِ بِالسَّقْيِ ونَفْيِ الدَّغَلِ والنَّباتِ الغَرِيبِ عَنْهُ، فَإذا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الأُمُورُ ولَمْ تُحْرِقْ الزَّرْعَ نارٌ ولا لَحِقَتْهُ جائِحَةٌ جاءَ أمْثالَ الجِبالِ، وكانَ مَثَلُهُ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ وهي المَكانُ المُرْتَفِعُ الَّذِي تَكُونُ الجَنَّةُ فِيهِ نُصْبَ الشَّمْسِ والرِّياحِ فَتَتَرَبّى الأشْجارُ هُناكَ أتَمَّ تَرْبِيَةٍ فَنَزَلَ عَلَيْها مِن السَّماءِ مَطَرٌ عَظِيمُ القَطْرِ مُتَتابِعٌ فَرَواها ونَمّاها فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْ ما يُؤْتِيهِ غَيْرُها بِسَبَبِ ذَلِكَ الوابِلِ، فَإنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ: مَطَرٌ صَغِيرُ القَطْرِ، يَكْفِيها لِكَرَمِ مَنبَتِها؛ يَزْكُو عَلى الظِّلِّ ويَنْمِي عَلَيْهِ، مَعَ أنَّ في ذِكْرِ نَوْعَيْ الوابِلِ والطَّلِّ إشارَةً إلى نَوْعَيْ الإنْفاقِ الكَثِيرِ والقَلِيلِ.
فَمِن النّاسِ مَن يَكُونُ إنْفاقُهُ وابِلًا ومِنهم مَن يَكُونُ إنْفاقُهُ طَلًّا، واللَّهُ لا يُضِيعُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ، فَإنْ عَرَضَ لِهَذا العامِلِ ما يُغْرِقُ أعْمالَهُ ويُبْطِلُ حَسَناتِهِ كانَ بِمَنزِلَةِ رَجُلٍ ﴿لَهُ جَنَّةٌ مِن نَخِيلٍ وأعْنابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ لَهُ فِيها مِن كُلِّ الثَّمَراتِ وأصابَهُ الكِبَرُ ولَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأصابَها إعْصارٌ فِيهِ نارٌ فاحْتَرَقَتْ﴾ فَإذا كانَ يَوْمُ اسْتِيفاءِ الأعْمالِ وإحْرازِ الأُجُورِ وجَدَ هَذا العامِلُ عَمَلَهُ قَدْ أصابَهُ ما أصابَ صاحِبَ هَذِهِ الجَنَّةِ، فَحَسْرَتُهُ حِينَئِذٍ أشَدُّ مِن حَسْرَةِ هَذا عَلى جَنَّتِهِ.
فَهَذا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ في الحَسْرَةِ لِسَلْبِ النِّعْمَةِ عِنْدَ شِدَّةِ الحاجَةِ إلَيْها مَعَ عِظَمِ قَدْرِها ومَنفَعَتِها، واَلَّذِي ذَهَبَتْ عَنْهُ قَدْ أصابَهُ الكِبَرُ والضَّعْفُ فَهو أحْوَجُ ما كانَ إلى نِعْمَتِهِ، ومَعَ هَذا فَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ لا يَقْدِرُونَ عَلى نَفْعِهِ والقِيامِ بِمَصالِحِهِ، بَلْ هم في عِيالِهِ فَحاجَتُهُ إلى نِعْمَتِهِ حِينَئِذٍ أشَدُّ ما كانَتْ لِضَعْفِهِ وضَعْفِ ذُرِّيَّتِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ حالُ هَذا إذا كانَ لَهُ بُسْتانٌ عَظِيمٌ فِيهِ مِن جَمِيعِ الفَواكِهِ والثَّمَرِ، وسُلْطانُ ثَمَرِهِ أجَلُّ الفَواكِهِ وأنْفَعُها، وهو ثَمَرُ النَّخِيلِ والأعْنابِ، فَمُغَلَّهُ يَقُومُ بِكِفايَتِهِ وكِفايَةِ ذُرِّيَّتِهِ، فَأصْبَحَ يَوْمًا وقَدْ وجَدَهُ مُحْتَرِقًا كُلَّهُ كالصَّرِيمِ، فَأيُّ حَسْرَةٍ أعْظَمُ مِن حَسْرَتِهِ؟ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هَذا مَثَلُ الَّذِي يُخْتَمُ لَهُ بِالفَسادِ في آخَرِ عُمْرِهِ.
وَقالَ مُجاهِدٌ: هَذا مَثَلُ المُفَرِّطِ في طاعَةِ اللَّهِ حَتّى يَمُوتَ، وقالَ السُّدِّيَّ: هَذا مَثَلُ المُرائِي في نَفَقَتِهِ الَّذِي يُنْفِقُ لِغَيْرِ اللَّهِ، يَنْقَطِعُ عَنْهُ نَفْعُها أحْوَجُ ما يَكُونُ إلَيْهِ، وسَألَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ الصَّحابَةَ يَوْمًا عَنْ هَذِهِ الآيَةِ، فَقالُوا: اللَّهُ أعْلَمُ، فَغَضِبَ عُمَرُ، وقالَ: قُولُوا نَعْلَمُ أوْ لا نَعْلَمُ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: في نَفْسِي مِنها شَيْءٌ يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ، قالَ: قُلْ يا ابْنَ أخِي ولا تُحَقِّرْ نَفْسَك، قالَ: ضَرَبَ مَثَلًا لِعَمَلٍ، قالَ: لِأيِّ عَمَلٍ؟ لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِالحَسَناتِ ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ لَهُ الشَّيْطانَ فَعَمِلَ بِالمَعاصِي حَتّى أغْرَقَ أعْمالَهُ كُلَّها؛ قالَ الحَسَنُ: هَذا مَثَلٌ قَلَّ واللَّهِ مَن يَعْقِلُهُ مِن النّاسِ، شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَعُفَ جِسْمُهُ وكَثُرَ صِبْيانُهُ أفْقَرُ ما كانَ إلى جَنَّتِهِ، وإنَّ أحَدَكم واللَّهِ أفْقَرُ ما يَكُونُ إلى عَمَلِهِ إذا انْقَطَعَتْ عَنْهُ الدُّنْيا.
{"ayah":"مَّثَلُ ٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ أَمۡوَ ٰلَهُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنۢبَتَتۡ سَبۡعَ سَنَابِلَ فِی كُلِّ سُنۢبُلَةࣲ مِّا۟ئَةُ حَبَّةࣲۗ وَٱللَّهُ یُضَـٰعِفُ لِمَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ وَ ٰسِعٌ عَلِیمٌ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق