الباحث القرآني
فائِدَة جليلة قَوْله تَعالى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ وهو كُرْهٌ لَكم وعَسى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وهو خَيْرٌ لَكم وعَسى أنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وهو شَرٌّ لَكم واللَّهُ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا تعلمُونَ﴾ وقَوله عزّ وجلّ ﴿وَإن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا ويَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كثيرا﴾
فالآية الأولى في الجِهاد الَّذِي هو كَمال القُوَّة الغضبية والثّانية في النِّكاح الَّذِي هو كَمال القُوَّة الشهوانية فالعَبْد يكره مُواجهَة عدوه بقوته الغضبية خشيَة على نَفسه مِنهُ وهَذا المَكْرُوه خير لَهُ في معاشه ومعاده ويُحب المُوادَعَة والمتاركة وهَذا المحبوب شَرّ لَهُ في معاشه ومعاده وكَذَلِكَ يكره المَرْأة لوصف من أوصافها وله في إمْساكها خير كثير لا يعرفهُ ويُحب المَرْأة لوصف من أصافها وله في إمْساكها شَرّ كثير لا يعرفهُ لانسان كَما وصفه وصفه بِهِ خالقه ظلوم جهول فَلا يَنْبَغِي أن يَجْعَل المعيار على ما يضره وينفعه ميله وحبه ونفرته وبغضه بل المعيار على ذَلِك ما اخْتارَهُ الله لَهُ بأمْره ونَهْيه فأنفع الأشْياء لَهُ على الإطْلاق طاعَة ربه بِظاهِرِهِ وباطنه وأضر الأشْياء عَلَيْهِ على الإطْلاق مَعْصِيَته بِظاهِرِهِ وباطنه فَإذا قامَ بِطاعَتِهِ وعبوديته مخلصا لَهُ فَكل ما يجْرِي عَلَيْهِ مِمّا يكرههُ يكون خيرا لَهُ وذا تخلى عَن طاعَته وعبوديته فَكل ما هو فِيهِ من مَحْبُوب هو شَرّ لَهُ فَمن صحت لَهُ معرفَة ربه والفِقْه في أسْمائِهِ وصِفاته علم يَقِينا أن المكروهات الَّتِي تصيبه والمحن التي تنزل بِهِ فِيها ضروب من المصالح والمَنافِع لتي لا يحصيها علمه ولا فكرته بل مصلحَة العَبْد فِيما يكره أعظم مِنها فِيما يحب
فعامة مصالح النُّفُوس في مكروهاتها كَما أن عامَّة مضارها وأسْباب هلكتها في محبوباتها فانْظُر إلى غارس جنَّة من الجنات خَبِير بالفلاحة غرس جنَّة وتعاهدها بالسقي والإصلاح حَتّى أثمرت أشجارها فَأقبل عَلَيْها يفصل أوصالها ويقطع أغْصانها لعلمه أنَّها لَو خليّت على حالها لم تطب ثَمَرَتها فيطعمها من شَجَرَة طيبَة الثَّمَرَة حَتّى إذا التحمت بها واتحدت وأعطت ثَمَرَتها اقبل بقلمها ويقطع أغْصانها الضعيفة الَّتِي تذْهب قوتها ويذيقها ألم القطع والحَدِيد لمصلحتها وكمالها لتصلح ثَمَرَتها أن تكون بِحَضْرَة المُلُوك ثمَّ لا يَدعها ودواعي طبعها من الشّرْب كل وقت بل يعطشها وقتا ويسقيها وقتا ولا يتْرك الماء عَلَيْها دائِما وإن كانَ ذَلِك أنْضَرُ لورقها وأسرع لنباتها ثمَّ يعمد إلى تِلْكَ الزِّينَة الَّتِي زينت بها من الأوراق فيلقي عَنْها كثيرا مِنها لِأن تِلْكَ الزِّينَة تحول بَين ثَمَرَتها وبَين كَمال نضجها واستوائها كَما في شجر العِنَب ونَحْوه فَهو يقطع أعضاءها بالحديد ويلقي عَنْها كثيرا من زينتها وذَلِكَ عين مصلحتها فَلَو أنَّها ذات تَمْيِيز وإدْراك كالحيوان لتوهمت أن ذَلِك إفْساد لَها وإضرار بها وإنَّما هو عين مصلحتها.
وَكَذَلِكَ الأب الشفيق على ولَده العالم بمصلحته إذا رأى مصْلحَته في إخْراج الدَّم الفاسِد عَنهُ بضع جلده وقطع عروقه وأذاقه الألَم الشَّديد وإن رأى شفاة في قطع عُضْو من أعْضائِهِ أبانه عَنهُ كانَ ذَلِك رَحْمَة بِهِ وشفقة عَلَيْهِ وإن رأى مصْلحَته في أن يمسك عَنهُ العَطاء لم يُعْطه ولم يُوسع عَلَيْهِ لعلمه أن ذَلِك أكبر الأسْباب إلى فَساده وهلاكه وكَذَلِكَ يمنعهُ كثيرا من شهواته حمية لَهُ ومصلحة لا بخلا عَلَيْهِ فأحكم الحاكِمين وأرحم الرّاحِمِينَ وأعلم العالمين الَّذِي هو أرْحم بعباده مِنهُم بِأنْفسِهِم ومن آبائِهِم وأمهاتهم إذا أنزل بهم ما يكْرهُونَ كانَ خيرا لَهُم من أن لا ينزله بهم نظرا مِنهُ لَهُم وإحسانا إلَيْهِم ولطفا بهم ولَو مكنوا من الاحتيار لأنْفُسِهِمْ لعجزوا عَن القيام بمصالحهم علما وإرادَة وعَملا لكنه سُبْحانَهُ تولى تَدْبِير أُمُورهم بِمُوجب علمه وحكمته ورَحمته أحبُّوا أم كَرهُوا فَعرف ذَلِك الموقنون بأسمائه وصِفاته فَلم يتهموه في شَيْء من أحْكامه وخفي ذَلِك على الجَهْل بِهِ وبأسمائه وصِفاته فنازعوه تَدْبيره وقدحوا في حكمته ولم ينقادوا لحكمه وعارضوا حكمه بعقولهم الفاسِدَة وآرائهم الباطِلَة وسياساتهم الجائرة فَلا لرَبهم عرفُوا ولا لمصالحهم حصلوا والله المُوفق.
وَمَتى ظفر العَبْد بِهَذِهِ المعرفَة سكن في الدُّنْيا قبل الآخِرَة في جنَّة لا يشبه فِيها إلّا نعيم الآخِرَة فَإنَّهُ لا يزال راضِيا عَن ربه والرِّضا جنَّة الدُّنْيا ومستراح العارفين فَإنَّهُ طيب النَّفس بِما يجْرِي عَلَيْهِ من المَقادِير الَّتِي هي عين اخْتِيار الله لَهُ وطمأنينتها إلى أحْكامه الدِّينِيَّة وهَذا هو الرِّضا بِالله رَبًّا وبِالإسْلامِ دينا وبِمُحَمَّدٍ رَسُولا وما ذاق طعم الإيمان من لم يحصل لَهُ ذَلِك وهَذا الرِّضا هو بِحَسب مَعْرفَته بِعدْل الله وحكمته ورَحمته وحسن اخْتِياره فَكلما كانَ بذلك أعرف كانَ بِهِ أرْضى فقضاء الرب سُبْحانَهُ في عَبده دائر بَين العدْل والمصلحة والحكمَة والرَّحْمَة لا يخرج عَن ذَلِك ألْبَتَّةَ كَما قالَ في الدُّعاء المَشْهُور اللَّهُمَّ إنِّي عَبدك ابْن عَبدك ابْن أمتك ناصيتي بِيَدِك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بِكُل اسْم هـ لَك سميت بِهِ نَفسك أو أنزلته في كتابك أو علّمته أحدا من خلقك أو استأثرت بِهِ في علم الغَيْب عنْدك أن تجْعَل القُرْآن ربيع قلبِي ونور صَدْرِي وجلاء حزني وذَهاب همي وغمي ما قالَها أحد قطّ إلّا أذهب الله همه وغمه وأبدله مَكانَهُ فرجا قالُوا أفلا نتعلمهن يا رَسُول الله قالَ بِلا يَنْبَغِي لمن يسمعهن أن يتعلمهن
والمَقْصُود قَوْله عدل فيّ قضاؤك وهَذا يتَناوَل كل قَضاء يَقْضِيه على عَبده من عُقُوبَة أو ألم وسبب ذَلِك فَهو الَّذِي قضى بِالسَّبَبِ وقضى بالمسبب وهو عدل في هَذا القَضاء وهَذا القَضاء خير لِلْمُؤمنِ كَما قالَ والَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لا يقْضِي الله لِلْمُؤمنِ قَضاء إلّا كانَ خيرا لَهُ ولَيْسَ ذَلِك إلّا لِلْمُؤمنِ قالَ العَلامَة ابْن القيم فَسَألت شَيخنا هَل يدْخل في ذَلِك قَضاء الذَّنب فَقالَ نعم بِشَرْطِهِ
فأجمل في لَفْظَة بِشَرْطِهِ ما يَتَرَتَّب على الذَّنب من الآثار المحبوبة لله من التَّوْبَة والانكسار والندم والخضوع والذل والبكاء وغير ذَلِك.
* (فصل)
في هذه الآية عدة حكم وأسرار، ومصالح للعبد. فإن العبد إذا علم أن المكروه قد يأتي بالمحبوب، والمحبوب قد يأتي بالمكروه. لم يأمن أن توافيه المضرة من جانب المسرّة، ولم ييأس أن تأتيه المسرة من جانب المضرة، لعدم علمه بالعواقب. فإن الله يعلم منها ما لا يعلمه العبد - أوجب ذلك للعبد أمورا -.
منها: أنه لا أنفع له من امتثال أمر ربه، وإن شق عليه في الابتداء.
لأن عواقبه كلها خيرات ومسرات. ولذات وأفراح، وإن كرهته نفسه، فهو خير لها وأنفع. وكذلك لا شيء أضر عليه من ارتكاب المنهي، وإن هويته نفسه، ومالت إليه. وأن عواقبه كلها آلام وأحزان، وشرور ومصائب.
وخاصة العاقل تحمّل الألم اليسير لما يعقبه من اللذة العظيمة، والخير الكثير، واجتناب اللذة اليسيرة لما يعقبها من الألم العظيم والشر الطويل.
فنظر الجاهل لا يجاوز المبادئ إلى غاياتها، والعاقل الكيّس دائما ينظر إلى الغايات من وراء ستور مباديها. فيرى ما وراء تلك الستور من الغايات المحمودة والمذمومة. فيرى المناهي كطعام لذيذ قد خلط فيه سم قاتل. فكلما دعته لذته إلى تناوله نهاه عنه ما فيه من السم. ويرى الأوامر كدواء مرّ المذاق، مفض إلى العافية والشفاء، وكلما نهاه مرارة مذاقه عن تناوله أمره نفعه بالتناول، ولكن هذا يحتاج إلى فضل علم، تدرك به الغايات من مبادئها وقوة صبر يوطن به نفسه على تحمل مشقة الطريق، لما يؤمل عند الغاية من حسن العاقبة. فإذا فقد اليقين والصبر تعذر عليه ذلك. وإذا قوى يقينه هان عليه كل مشقة يتحملها في طلب الخير الدائم واللذة الدائمة -.
ومن أسرار هذه الآية: أنها تقتضي من العبد التفويض إلى من يعلم عواقب الأمور، والرضا بما يختاره له ويقتضيه له، لما يرجو من حسن العاقبة.
ومنها: أنه لا يقترح على ربه، ولا يختار عليه، ولا يسأله ما ليس له به علم. فلعل مضرته وهلاكه فيه. وهو لا يعلم. فلا يختار على ربه شيئا، بل يسأله حسن الإختيار له، وأن يرضيه بما يختاره. فلا أنفع له من ذلك.
ومنها: أنه إذا فوض إلى ربه ورضي بما يختاره له أمده فيما يختاره له
بالقوة عليه والعزيمة والصبر، وصرف عنه الآفات التي هي عرضة اختيار العبد لنفسه. وأراه من حسن عواقب اختياره ما لم يكن ليصل إلى بعضه بما يختاره هو لنفسه.
ومنها: أنه يريحه من الأفكار المتعبة في أنواع الإختيارات، ويفرغ قلبه من التقديرات والتدبيرات، التي يصعد منها في عقبة، وينزل في أخرى.
ومع هذا فلا خروج له عما قدر عليه، فلو رضي باختيار الله أصابه القدر وهو محمود مشكور ملطوف به فيه، وإلا جرى عليه القدر وهو مذموم عنده غير ملطوف به فيه، مع اختياره لنفسه.
ومتى صح تفويضه ورضاه اكتنفه في المقدور العطف عليه واللطف به. فيصير بين عطفه ولطفه. فعطفه يقيه ما يحذره. ولطفه يهون عليه ما قدره.
إذا نفذ القدر في العبد كان من أعظم أسباب نفوذه: تحيله في رده.
فلا أنفع له من الاستسلام وإلقاء نفسه بين يدي القدر طريحا كالميت. فإن السبع لا يرضى أن يأكل الجيف.
* (فصل)
إنّ الرّاضِيَ واقِفٌ مَعَ اخْتِيارِ اللَّهِ لَهُ. مُعْرِضٌ عَنِ اخْتِيارِهِ لِنَفْسِهِ. وهَذا مِن قُوَّةِ مَعْرِفَتِهِ بِرَبِّهِ تَعالى، ومَعْرِفَتِهِ بِنَفْسِهِ.
وَقَدِ اجْتَمَعَ وُهَيْبُ بْنُ الوَرْدِ، وسُفْيانُ الثَّوْرِيُّ، ويُوسُفُ بْنُ أسْباطٍ.
فَقالَ الثَّوْرِيُّ: قَدْ كُنْتُ أكْرَهُ مَوْتَ الفُجاءَةِ قَبْلَ اليَوْمِ. وأمّا اليَوْمَ: فَوَدِدْتُ أنِّي مَيِّتٌ.
فَقالَ لَهُ يُوسُفُ بْنُ أسْباطٍ: ولِمَ؟ فَقالَ: لِما أتَخَوَّفُ مِنَ الفِتْنَةِ.
فَقالَ يُوسُفُ: لَكِنِّي لا أكْرَهُ طُولَ البَقاءِ.
فَقالَ الثَّوْرِيُّ: ولِمَ تَكْرَهُ المَوْتَ؟
قالَ: لَعَلِّي أُصادِفُ يَوْمًا أتُوبُ فِيهِ وأعْمَلُ صالِحًا.
فَقِيلَ لِوُهَيْبٍ: أيُّ شَيْءٍ تَقُولُ أنْتَ؟
فَقالَ: أنا لا أخْتارُ شَيْئًا، أحَبُّ ذَلِكَ إلَيَّ أحَبُّهُ إلى اللَّهِ.
فَقَبَّلَ الثَّوْرِيُّ بَيْنَ عَيْنَيْهِ. وقالَ: رُوحانِيَّةٌ ورَبِّ الكَعْبَةِ.
فَهَذا حالُ عَبْدٍ قَدِ اسْتَوَتْ عِنْدَهُ حالَةُ الحَياةِ والمَوْتِ. وقَفَ مَعَ اخْتِيارِ اللَّهِ لَهُ مِنها. وقَدْ كانَ وُهَيْبٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ المَقامُ العالِي مِنَ الرِّضا وغَيْرِهِ.
الثّانِي والأرْبَعُونَ: أنْ يَعْلَمَ أنَّ مَنعَ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى لِعَبْدِهِ المُؤْمِنَ المُحِبِّ عَطاءٌ، وابْتِلاءَهُ إيّاهُ عافِيَةٌ. قالَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ: مَنعُهُ عَطاءٌ. وذَلِكَ: أنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ عَنْ بُخْلٍ ولا عَدَمٍ. وإنَّما نَظَرَ في خَيْرِ عَبْدِهِ المُؤْمِنِ فَمَنَعَهُ اخْتِيارًا وحُسَنَ نَظَرٍ.
وَهَذا كَما قالَ. فَإنَّهُ سُبْحانَهُ لا يَقْضِي لِعَبْدِهِ المُؤْمِنِ قَضاءً إلّا كانَ خَيْرًا لَهُ، ساءَهُ ذَلِكَ القَضاءُ أوْ سَرَّهُ. فَقَضاؤُهُ لِعَبْدِهِ المُؤْمِنَ المَنعَ عَطاءٌ. وإنْ كانَ في صُورَةِ المَنعِ. ونِعْمَةٌ. وإنْ كانَتْ في صُورَةِ مِحْنَةٍ. وبَلاؤُهُ عافِيَةٌ. وإنْ كانَ في صُورَةِ بَلِيَّةٍ. ولَكِنْ لِجَهْلِ العَبْدِ وظُلْمِهِ لا يَعُدُّ العَطاءَ والنِّعْمَةَ والعافِيَةَ إلّا ما التَذَّ بِهِ في العاجِلِ. وكانَ مُلائِمًا لِطَبْعِهِ. ولَوْ رُزِقَ مِنَ المَعْرِفَةِ حَظًّا وافِرًا لَعَدَّ المَنعَ نِعْمَةً، والبَلاءَ رَحْمَةً. وتَلَذَّذَ بِالبَلاءِ أكْثَرَ مِن لَذَّتِهِ بِالعافِيَةِ. وتَلَذَّذَ بِالفَقْرِ أكْثَرَ مِن لَذَّتِهِ بِالغِنى. وكانَ في حالِ القِلَّةِ أعْظَمَ شُكْرًا مِن حالِ الكَثْرَةِ.
وَهَذِهِ كانَتْ حالَ السَّلَفِ.
فالعاقِلُ الرّاضِي: مَن يَعُدُّ البَلاءَ عافِيَةً، والمَنعَ نِعْمَةً، والفَقْرَ غِنًى.
وَأوْحى اللَّهُ إلى بَعْضِ أنْبِيائِهِ إذا رَأيْتَ الفَقْرَ مُقْبِلًا، فَقُلْ: مَرْحَبًا بِشِعارِ الصّالِحِينَ. وإذا رَأيْتَ الغِنى مُقْبِلًا. فَقُلْ: ذَنْبٌ عُجِّلَتْ عُقُوبَتُهُ.
فالرّاضِي: هو الَّذِي يَعُدُّ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فِيما يَكْرَهُهُ، أكْثَرَ وأعْظَمَ مِن نِعَمِهِ عَلَيْهِ فِيما يُحِبُّهُ، كَما قالَ بَعْضُ العارِفِينَ: يا ابْنَ آدَمَ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ فِيما تَكْرَهُ أعْظَمُ مِن نِعْمَتِهِ عَلَيْكَ فِيما تُحِبُّ. وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿وَعَسى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وهو خَيْرٌ لَكُمْ﴾
وَقَدْ قالَ بَعْضُ العارِفِينَ: ارْضَ عَنِ اللَّهِ في جَمِيعِ ما يَفْعَلُهُ بِكَ. فَإنَّهُ ما مَنَعَكَ إلّا لِيُعْطِيَكَ. ولا ابْتَلاكَ إلّا لِيُعافِيَكَ. ولا أمْرَضَكَ إلّا لِيَشْفِيَكَ. ولا أماتَكَ إلّا لِيُحْيِيَكَ. فَإيّاكَ أنْ تُفارِقَ الرِّضا عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ. فَتَسْقُطَ مِن عَيْنِهِ.
* (فائدة)
أخْبَرَ سُبْحانَهُ أنَّ القِتالَ مَكْرُوهٌ لَهم مَعَ أنَّهُ خَيْرٌ لَهم لِإفْضائِهِ إلى أعْظَمِ مَحْبُوبٍ وأنْفَعِهِ، والنُّفُوسُ تَحْتَ الرّاحَةِ والدَّعَةِ والرَّفاهِيَةِ، ذَلِكَ شَرٌّ لَها لِإفْضائِهِ إلى فَواتِ المَحْبُوبِ، فالعاقِلُ لا يَنْظُرُ إلى لَذَّةِ المَحْبُوبِ العاجِلِ فَيُؤْثِرُها، وألَمِ المَكْرُوهِ العاجِلِ فَيَرْغَبُ عَنْهُ، فَإنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ شَرًّا لَهُ، بَلْ قَدْ يَجْلِبُ عَلَيْهِ غايَةَ الألَمِ ويُفَوِّتُهُ أعْظَمَ اللَّذَّةِ، بَلْ عُقَلاءُ الدُّنْيا يَتَحَمَّلُونَ المَشاقَّ المَكْرُوهَةَ لِما يُعْقِبُهم مِنَ اللَّذَّةِ بَعْدَها، وإنْ كانَتْ مُنْقَطِعَةً.
فالأُمُورُ أرْبَعَةٌ: مَكْرُوهٌ يُوَصِّلُ إلى مَكْرُوهٍ، ومَكْرُوهٌ يُوَصِّلُ إلى مَحْبُوبٍ، ومَحْبُوبٌ يُوَصِّلُ إلى مَحْبُوبٍ، ومَحْبُوبٌ يُوَصِّلُ إلى مَكْرُوهٍ، فالمَحْبُوبُ المُوَصِّلُ إلى المَحْبُوبِ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ داعِيَ الفِعْلِ مِن وجْهَيْنِ، والمَكْرُوهُ المُوَصِّلُ إلى مَكْرُوهٍ، قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ داعِي التَّرْكِ مِن وجْهَيْنِ.
بَقِيَ القِسْمانِ الآخَرانِ يَتَجاذَبُهُما الدّاعِيانِ - وهُما مُعْتَرَكُ الِابْتِلاءِ والِامْتِحانِ - فالنَّفْسُ تُؤْثِرُ أقْرَبَهُما جِوارًا مِنها، وهو العاجِلُ، والعَقْلُ والإيمانُ يُؤْثِرُ أنْفَعَهُما وأبْقاهُما، والقَلْبُ بَيْنَ الدّاعِيَيْنِ، وهو إلى هَذا مَرَّةً، وإلى هَذا مَرَّةً، وهاهُنا مَحَلُّ الِابْتِلاءِ شَرْعًا وقَدَرًا، فَداعِي العَقْلِ والإيمانِ يُنادِي كُلَّ وقْتٍ: حَيَّ عَلى الفَلاحِ، عِنْدَ الصَّباحِ يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرى، وفي المَماتِ يَحْمَدُ العَبْدُ التُّقى، فَإنِ اشْتَدَّ ظَلامُ لَيْلِ المَحَبَّةِ، وتَحَكَّمَ سُلْطانُ الشَّهْوَةِ والإرادَةِ، يَقُولُ: يا نَفْسُ اصْبِرِي فَما هي إلّا ساعَةٌ ثُمَّ تَنْقَضِي ويَذْهَبُ هَذا كُلُّهُ ويَزُولُ.
(قاعدة)
إذا ابتلى الله عبده بشيء من أنواع البلايا والمحن فإن رده ذلك الابتلاء والمحن إلى ربه وجمعه عليه وطرحه ببابه فهو علامة سعادته وإرادة الخير به. والشدة بتراء لا دوام لها وإن طالت، فتقلع عنه حين تقلع وقد عوض منها أجلّ عوض وأفضله، وهو رجوعه إلى الله بعد أن كان شاردًا عنه، وإقباله عليه بعد أن كان نائبًا عنه وانطراحه على بابه بعد أن كان معرضًا، وللوقوف على أبواب غيره متعرضًا.
وكانت البلية في حق هذا عين النعمة، وإن ساءَته وكرهها طبعه ونفرت منها نفسه فربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببًا ما مثله سبب وقوله تعالى في ذلك هو الشفاءُ والعصمة: ﴿وَعَسى أنْ تَكْرَهُوا شَيئًا وهو خَيْرٌ لَكُمْ، وعَسى أنْ تُحِبُّوا شَيئًا وهو شَر لَكُمْ، واللهُ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾، وإن لم يرده ذلك البلاءُ إليه بل شرد قلبه عنه ورده إلى الخلق وأنساه ذكر ربه والضراعة إليه والتذلل بين يديه والتوبة والرجوع إليه فهو علامة شقاوته وإرادة الشر به، فهذا إذا أقلع عنه البلاء رده إلى حكم طبيعته وسلطان شهوته ومرحه وفرحه، فجاءت طبيعته القدرة بأنواع الأشر والبطر والإعراض عن شكر المنعم عليه بالسراء كما أعرض عن ذكره والتضرع إليه في الضراء فبلية هذا وبال عليه وعقوبة ونقص في حقه، وبلية الأول تطهير له ورحمة وتكميل. وبالله التوفيق.
{"ayah":"كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلۡقِتَالُ وَهُوَ كُرۡهࣱ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰۤ أَن تَكۡرَهُوا۟ شَیۡـࣰٔا وَهُوَ خَیۡرࣱ لَّكُمۡۖ وَعَسَىٰۤ أَن تُحِبُّوا۟ شَیۡـࣰٔا وَهُوَ شَرࣱّ لَّكُمۡۚ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق